الى سيار الجميل : الفيدرالية والسؤال الديمقراطي الاول



كتابات - عبداللطيف الحرز



في مقدمة كتابه وعاظ السلاطين , يقول علي الوردي عن العراق : {إن شر الذنوب هو أن يكون الانسان في هذا البلد ضعيفاً فقيرا}



من هنا كانت المعركة هي في الاساس من اجل القوة والغنى , فلم يكن ثمة حاجة للشرعية والدستور الا بمنزلة تعليلات مابعد الوقوع لا ماقبل الشروع في التطبيق والفعل ففي عالمنا العربي والعراقي ليس ((العدل اساس الُملك)) , كمايقول الحديث , وانما ((الُملك اساس العدل )) . فكان كل من يستولي على سدة السلطة يكون هو القانون ولم يكن قول طاغية العرب صدام حسين بانه القانون ثم ادعائه حمل شهادات تخصصية في القانون , بغريبة عن سياق الغطرسة هذه .



لقد عاش الجنوب العراقي بؤساً متتابعاً واقصاءا مستمرا , سواء على صعيد الاستفادة من الخيرات التي تحت اقدام اطفاله الحفاة , او سواء على صعيد التمثيل بالحكومة والثقافة . فالجنوب العراقي حاضر فقط في درس الجغرافيا بكونه المصدر الاضخم للاقتصاد العراقي والعلاقات التجارية .

اما ما عدى ذلك فهو مسكوت عنه ومخفي , وكأن الجنوب ارض غابات من الاسماك والتمور والنفط , لكن بلا سكان لهم تاريخهم وثقافتهم وعقيدتهم وتركيبتهم السكانية . وقد كان هذا الشطب له تمحلات متنوعه وتخريجات متفننه : مرة باسم العقيدة الغالبة , ومرة باسم الوطنية المُعممه . رغم ان العقيدة الغالبة لم تتعاكس مع عقائد اخرى بعضها يشكل فئة قليلة كحال اليزيدة مثلا , وكأن الوطنية هي الغاء للخصوصيات الثقافية والدينية والتقليدة لكل منطقة , وليس هي الامر المشترك والنابع من عناصر الاختلاف بالتحديد !!



ثم لمَ لم يكن ذكر العقيدة الغالبة بدءا من مناهج التدريس الابتدائي وحتى الانتماء للصفوف الاولى العسكرية , امر مناقض للوطنية , بينما كان ذكر مذهب الاكثرية السكانية يشكل خرقاً واختراماً ؟!



بالفعل هي مسئلة شائكة : كيف يمكن الدفاع عن الديمقراطية في العراق , لكن بدون يكون التمثيل شيعياً ؟!

فالديمقراطية هي في نهاية اي تحليل ارتضيناه , تبقى عبارة عن تطبيق رأي اكثرية الاصوات , ولا معنى لشطب رأي الاكثرية والقول بالديمقراطية الا بالوقوع في التناقض الفج .



من هنا كان السؤال الاساسي محموماً : هل لدينا مجتمع يعي الديمقراطية في الاساس كي نسمح بها , ام ان لدينا مجتمعات متخلفة منغلقة دينياً وقومياً ومناطقياً , وبالتالي فلا تثمر الديمقراطية الا بالفوضى والصراعات الاهلية؟!



المعضلة التي يواجهها المثقف هنا انه ان رفض الديمقراطية لم يتبقى لديه سوى تشريع الاستبداد والقول بالهيمنة الشمولية . بل ان هذا التحليل لم يزل هو اقدم ذريعة استخدمها الطغاة لتبرير عمليات القمع والابادة واسكات الاطراف الاخرى .



لكن اليس عجيباً ان نتخيل مجتمع نبوي ملائكي ثم ننزل مائدة الديمقراطية عليهم بالمن والسلوى ؟!



ان تحليل كهذا سبق ان ناقشه البعض مع مدرسة هيجل الالمانية . حيث ان هذا الفيلسوف , كان مقتنع بهذا الرأي ذاته , وبه برر لطاغية عصره الاستبداد , فكان جواب المناقشين بان رأي كهذا يشبه منع الطفل من الذهاب الى المدرسة لكونه جاهل فلا نعلمه حتى يكبر ويتعلم !



حقيقة ماحصل , على بشاعته , كان يجب له ان يحصل ويتم , فالناس لاتعي همومها المشتركة الا بعد اليأس من انها لاتستطيع احتكار الخير لانانياتها الفردية والجماعية .

رغم اننا في العراق باحجة الى تعميق النظر لتحديد درجة التخلف والوعي السياسي وهل هو فعلا بهذا المستوى المدقع بحيث لايستحق الناس ان يقولوا كلمة بعد كل هذه التجارب المريرة , الا يمكن ان يكون هذا الرأي عن الشارع العراقي , هو صورة نمطية كرسها منهج تعبوي ؟!



لقد عاش الشمال شبه مبتور عن العراق , فلم يجرِ ان اعتمدنا عليه في الاقتصاد والتجارة والعلاقات المعيشية , بخلاف الجنوب , لذا لم يكن الامر يعني الكثير بالنسبة لفدرالية الاول , بينما فدرالية الثاني دق لها ناقوس الخطر , وكان اول الامور هو توزيع الموارد الاقتصادية . نحن هنا مرة اخرى امام جدلية القوة والغنى والضعف والفقر .



ففي الحروب التي خاضتها الحكومات العراقية كان الجنوب هو الاكثر تمثيلا في عدد القتلى والمفقودين , هذه الاكثرية لايتم تسجلها ولا الاعتناء بها , بل ولم تكن دليل ذات على وطنية هولاء الذين نسميهم شيعة او رافضة , بيد ان هولاء يجب ان يكونوا القلة دائما في احقية الاستفادة من هذه الارض التي اتخمت بجثثهم حروباً ومقابر جماعيه .



فدرالية الجنوب ورطة حقيقية للذهنية السائدة في الاعلام العربي . حيث لاول مرة سوف نسمي الامور باسمائها : هذه البقعة مأهولة بالسكان وهي اكثر المناطق تكاثراً من ناحية الانجاب , وهولاء لايوجد اي مبرر منطقي وانساني واقتصادي , يجعلهم فقراء وبؤساء الى هذا الحد , وانهم فوق هذا وذاك كتلة من البشر لها عادتها وتقاليدها ومعتقداتها التي يوجب حق الاختلاف والاحترام المدني , ان نعترف بها ونثقف انفسنا ونهذبها بان نتعامل معها كحق من حقوق الحياة .



كان يمكن لهذه الفيدرالية ان تمرر بطريقة اسهل , لكن النخبة العراقية , ابت الا ان يجري الامر بصورة دستورية ديمقراطية , فكيف يحق لامثال الاستاذ سيار الجميل وغيره ان يقول بان الفيدرالية لاتمثل الناس ,وهي قرار تعرض للاعتراض والتعديل عدة مرات ولم يتم اقراره الا بعد اجتماع نِصاب الاصوات ؟!



السيد سيار الجميل يخرج عن الاتزان الاكاديمي حين يتلفظ في مقاله المعنون (( الفيدرالية العراقية , سكة سلامة ام عربة ندامه)) بكلمات سقيمه كالقول عن النخبة العراقية في نظام الحكم الجديد بان الصدفة هي التي اوصلتهم لسدة الحكم , لاغياً بذلك اجيالا متتابعة من الكفاح السياسي وارتالا من الشهداء والمقاومين للكابوس العفلقي , وانه لامر غريب لاستاذ التاريخ ان يتحدث عن الصدفه وليس عن البحث عن العلل المكونة للظاهرة والمحركة لطبيعة المرحلة !

يقول سيار الجميل عن الفيدرالية في مقاله هنا :



((لابد ان يدرك كل العراقيين بأن هذا " المشروع " لا يدخل ضمن أي عملية سياسية ولا يعالج في ظل أي اوضاع استثنائية ولا يمر عبر اية قنوات فئوية.. انها مسألة وطنية لا تخص مصالحنا نحن اليوم، وانما تخص مصالح الاجيال قاطبة. وعليه، فمن الجنون والتعاسة تمرير أي مشروع يخص الوطن بكل اجزائه على ايدي مشّرعّين وساسة لا يعرفون من امر العراق شيئا))



لا اريد الوقوف على خطاب سيار الجميل المكثر من ((لابد على العراقيين)) .. ((يجب عليهم )) واقارنها بكلمات اخرى (( دروسي .. تحليلاتي .. تنبؤاتي .. نظرياتي )) , وغيرها مما يدل على تضخم انوي للذات . ما يهمنا هنا هو هذا الشطب والاقصاء الذي لايرفده استاذ التاريخ الاكاديمي , باي دليل مكتفي بالانشاء التعبيري فقط , لذا كانت النخبة العراقية لاتعرف من امر العراق شيئاً , وهي كلمة لو قارنها بكلمات سيار الجميل عن نظرياته ودورسه , وقوله في بداية المقال :

((اسجل هنا بعض افكاري وما لدي من معرفة متواضعة اكتسبتها حول تاريخ هذا الموضوع من خلال محاضراتي في عدد من الجامعات التي دّرست فيها التاريخ الدستوري للعالم الحديث وتاريخ اوروبا الحديث))



لبدى واضحاً انه يقصد انه من الضروري ان نستبدل هولاء به هو بالذات , فالمقال الذي يدافع عن امر عام ينتهي الى تمرير مقصد شخصي مع الاسف.



من قال ان هولاء لايعرفون عن العراق شيئاً ؟!.. هل امور العراق من امور الباطن والسحر والتعاويذ , ام الامر خبرات تاريخية , يمكن اليوم ان يطلع عليها الكثير بواسطة وسائل الاتصال والمعلوماتية الجديدة , وكثير منها معايشة ذاتية فهولاء هم من اهل البلد ايضاً ام نقوم باسقاط جنسيتهم العراقية كما فعل نظام العفالقة ؟!

.......................................



((بأنني كنت سأقبل نتائج اية انتخابات دستورية لو انها مورست مناطقيا وعلى اساس جعل العراق دوائر انتخابية في كل محافظة ادارية من دون اللعب على ارادة العراقيين وجعلها انتخابات على اساس انتخاب ممثلي احزاب وتكتلات ربما لا أؤمن بأي واحد منها!))



هكذا يكون سيار الجميل قد عارض العمل السياسي العراقي برمته . وحقيقة اغلبيتنا يعارض جميع هذه الاحزاب ولايريد انتخاب اي منها , بيد ان هذا هو الحلم , اما الواقع فليس لدينا حتى الان غير هولاء , فما العمل نترك الامور للارهاب وعودة العفالقة والاحلام , ام نتعاون مع ماهو متاح الان ونجتهد لبناء احزاب مدنية تكون ذات كفائة حضارية ؟!



اذن ليس الامر هو ((لعب على ارادة العراقيين)) بقدر ماهو محدودية هذه القدرة الان بكونها تتمثل بهذه الاحزاب والتي اصبح لها هذا الدور نتيجة تاريخ طويل ومعقد من العوامل الايجابية والسلبية , وليس صدفة .



السيد سيار الجميل يقيس اشكالية الفيدرالية العراقية , على تاريخ الفيدرالية في الغرب , فلم يستطع ان يخرج بفهم يستوعب مايجري من حدث عراقي. وقد كان حري بالاستاذ ان يتفطن لخصوصيات اشتباكية في السياق العراقي, تجعل الفيدرالية ليست مشكلة دستورية ومعضلة حدودها السياسة, بقدر ماهي اشكالية اجتماعية ودينية وحرمان اقتصادي , وذهنية نمطية رسخها صراع مابين السلطة وحاشيتها الدينية والاجتماعية , والمعارضة وتكويناتها العقيدية والمناطقية .

الاكثر من ذلك يمضي سيار الجميل في خطاب هجائي بعيد الشطط حيث يقلب القاتل قتيلا :

((.. واذا اراد البعض ان يتشدّق باسم الارادة الوطنية ومشروعية الانتخابات والاستفتاء على الدستور وقبول الناس به.. فهل بمقدور كل المشرعين الجدد الذين يمثّلون الشعب ان يمشوا بين ابناء الشعب بامان وبمنتهى الحرية.. هل حققوا مستلزمات اساسية يحتاجها الناس في معيشتهم وحياتهم كي ينشغل كل الناس بالفيدرالية!؟؟ هل حققوا ما وعدوا الناس به من ابسط المستلزمات والضرورات؟))



هل المشي بامان يحقق العكس ويعطي صفة المشروعية المفتقدة بنظر سيار الجميل ؟!

وهل الانسان العادي بقادر ان يمشي بامان اليوم في العراق فضلا عن النخبه , بل الم يكتب السيد سيار الجميل بانه تلقى تهديدا يمنعه من مواصلة الكتابة حتى وهو خارج العراق , فهل تهديده هذا يصلح ان يكون دليل ضده تماما , كاعتباره دليل ضد النخبة الذين يتحدث عنهم ؟!



من العسف تخطي او تأويل كمية السرقات والنهب العام والفساد الاداري المريع الذي حصل , لكن علينا الا ننسى ارتفاع الدخل اليومي والرواتب والمنح , واتساع رقعة المؤسسة المدنية الراعية للايتام والارامل ومساعادات السفر والزواج , وهئيات معالجة الفساد , هل الدولة الجديدة هي المسؤولة عن بؤوس الحياة ام الكتل الواقفة ضدها والتي تعمل على اضعاف الحكومة الجديدة

ان منطق كهذا يحيل الى منطق الراضين بالعفالقة , والسيد سيار الجميل براء منهم , حيث يقيسون كمية القتلى في زمن النظام السابق والان , في حين ان قتلى الامس هم بايادي الحكومة نفسها , ام القتل اليوم فهو بسبب التضاد مع هذه الادارة الحكومية الجديدة . الحكومة السابقة كانت هي التي تقتل وتروع , اما هذه الحكومة فازمتها تتمثل في سبل ايقاف هذا القتل.

........................................



احد المشاكل الكبرى التي تواجه النخبة العراقية الجديدة تتمثل بعدم اعطائهم الفرصة في كل شيء , فكل قرار منهم يقوم الكثيريون بمعارضته والحيلولة ضد والتطبيل بانه فاشل سلفاً .

لماذا لانبدي بعض المرونة والتخفيف من تشدقنا بمعرفة الاشياء , لنجعل التجربة اكبر برهان ولو في بعض الامور , فحتى الان لم يصدر اي قرار الا وخضنا حرباً ضروس ضده كي يخضع للالغاء او التعديل .



فقد تكون الفيدرالية مرحلة صوب التنافس على الامن والبناء , وهذا لايعني ان في الامر خطورة كبيرة اذ محتمل ان تكون الفيدرالية مجتمع البؤساء الذين سوف تتاكتل عليهم جميع ضباع الارض للتخلص منهم , حيث نفوس الاباطرة لاتتحمل شبعة جائع ولا فرحة محزون . وقد تكون الفيدرالية باب يسهل للدول الجوار املاء شروطها وتمرير مصالحها , لفقدان العراق كبلد كبير . وقد تكون بداية لانهاير ثقافة نمطية انبت احقاب طويلة على ثقافة الغلبة والغاء الاخرين , فيتم تدريجيا ظهور موقف مرن اجتماعي وثقافي وسياسي لتكوين معلم للفرد المواطن بشكل حقيقي لا دعائي مزيف .



بيد ان هذه كلها اراء خاضعة للمناقشة الهادئة الخالية من اساليب الهجاء والغطرسة التعليمية المتعالية , فلا احد حتى الان يقول بالتقسيم او الغاء الرجوع الى المركز , فهذه تهويلات اعلامية الاجدر بالمتخصص ان لايغتر بها وينظر الى ما هو ابعد .. الابعد الذي يتمثل في احتمالية ان تكون الفيدرالية باب سقوط الايدلويجا الدينية السياسية بالكامل والشروع بثقافة مدنية تكون بانية للمارسة ديمقراطية جديرة .

او ان تكون الفيدرالية مشروع توسعي للدولة الدينية , او غير ذلك من الاحتمالات التي تحتاج الى المناقشة بروية وهوادة .



اما الحديث عن الفيدرالية وكونها مشروع احتلال فهو زيف اعلامي حيث يكفي ان اول المعارضين هو بوش الابن نفسه , والذي يعني انتهاء الدعوة الامريكية في الحرب من اجل الديمقراطية الى الوقوف ضد الديمقراطية نفسها . الامر الذي يعدينا الى تقصي المعنى المحدد الذي يراد صياغته لنوعية المجتمع المدني والديمقراطي مابين قوات الاحتلال والارادة العراقية , وعن السياقات الحتمية والمحتملة , للتصادمات القادمة بينهما وماينعكس اثر ذلك على الشارع العراقي وتكتلاته القديمة والجديدة منها .



وهي مطبات تحتاج من المثقف الاسراع في تقصي طبيعة تكوناتها وسبل الخروج منها , والاستفادة مما هو متاح الان , حيث قد تكون في العجلة الندامة , كما حبذ السيد سيار الجميل افتتاح مقالته بهذا المثل, لكن من الامثال ايضا : الفرص تمر مر السحاب , والوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك .



فقد ينظر البعض برؤية قبلية الى تقسيم العراق , لكنه لاينظر تقسمنا نحن. وهو جدل آخر مابين وحدة العراق وانقسام الانسان العراقي , وانسجام الانسان وفيدرالية العراق



جدلية نختلف عليها كثيرا لكنها تستحق منا التأمل الكثير ومراجعة اكبر .

...........................................

سدني - استراليا