المدن الآمنة تبني نفسها.. السليمانية انموذجاً
محمد درويش علي
حينما تأخذك السيارة من المطار الى وسط المدينة، لا تستطيع ان تتابع عملية التغيير التي حصلت في هذه المدينة، ولا سيما البناء المتواصل عبر جانبي الطريق. هنا حفر في الارض، بانتظار ان يدق الاساس فيها لبناء عمارة سكنية، او فندق او دائرة ما.. هنا اكتمل البناء على احدث الطرز في البناء. هنا بناء جديد مكتمل كان مكانه سابقا ساحة فارغة.. لا تدري الى اين تلتفت، لئلا تفوت عليك فرصة مشاهدة شيء من هذا او ذاك.
احدى محطات التزود بالوقود، كانت مبنية كما في الافلام الاجنبية.. المهم من كل هذا لم يبق شيء على حاله القديم حتى منطقة رزكاري التي بنيت فيها دور عمال السكائر، اولئك العمال الذين هجروا من منطقة نفط خانة الحدودية في منتصف السبعينيات وكانوا يعملون في شركة النفط، ونقلوا خدماتهم الى هذا المعمل، أقول حتى هذه الدور، احيطت بدور اخرى مبنية وفق احدث الطرز، تشعر وكـأنها غير تلك المنطقة، لجمال ونظافة بيوتها وشوارعها. استوقفت فتاة اقتربت من الثلاثين، وهي بكامل اناقتها وسألتها عن بيت صديقي الذي لم أزره منذ عشرين عاما، أجابتني بكل ثقة بسؤال: ما اسماء اطفاله؟ اجبتها: شاروخ لديه ولد بهذا الاسم، واضافت لديه ولد آخر اسمه كاروخ، قلت لها: لا اعرف ان كان لديه ولد آخر بهذا الاسم. قالت: هما من طلابي، والدار التي بجانب تلك الدار المصبوغة منذ اسابيع هي دارهم، كانت اكثر من واثقة، واكثر من رقيقة، سألتها عن احوال المدينة، اجابت: كما ترى فمدينتنا تغيرت بشكل كامل، وحصل كل هذا التطور، بفضل جهود ابنائها.
في طريق عودتي من بيت صديقي الى وسط المدينة، كانت سيارة الكوستر لا تقف الا في الاماكن المخصصة لها، اذ تنحرف نحو اليمين في فسحة من الشارع خصصت للوقوف.
شعرت حينها بأن وجود رجل المرور فائض عن الحاجة، طالما الكل يطبق القانون، في السوق استوقفني احد المارة، وعرفني بنفسه، وهو احد اصدقائي القدامى وقال لي: اعمل هنا منذ عام، لان فسحة الحياة ضاقت بي في بغداد.
سألت شابا يبيع الشلغم في دكان صغير وهو يترنم باغنية كردية راقصة: هل يكفي واردك من بيع الشلغم لسد مصاريفك؟ نعم يكفيني وانا سعيد بعملي.
باعة الصحف يملأون الارصفة والكتب متوفرة هي الاخرى على الارصفة والمكتبات، وشاهدت اكثر من كتاب مترجم الى اللغة الكردية، ربما من العربية او من لغته الام.
منها دواوين لاكتافيو بات ودوستويفسكي واخرين، أما الكتب العربية الموجودة، فمعظمها دراسات نقدية. الجانب الآخر من السوق فيه من يبيع الملابس الكردية الفلكلورية او يخيطها وفق القياس المطلوب، وكذلك بائع الحذاء المعروف بـ(الكلاش) الذي يصل سعره الى سبعين الف دينار.
وباعة الكماليات والزجاجيات والملابس والتسجيلات والعسل والكرزات ومختبرات التصوير، السوق لكثرة ازدحامه تشعر وكأنك في عيد، فتيات بعمر الزهور، شباب، أناس جاءوا من محافظات اخرى لينعموا بالسلام، بعد ان اعيتهم المفخخات هناك.
مقتربات ثقافية وفنية
استمعت الى الفرقة السمفونية، في السليمانية وهي تقدم مقطوعات موسقية لبيتهوفن، تمثلت في هذه الفرقة الروح المتألقة والمتجددة، وكانت عبارة عن خلية نحل تعمل بحس الانسان الواحد، العازفون يمتلكون ادواتهم الفنية، قائد الفرقة نجاد أمين، يشعرك بالكبار الذين يقودون الفرق الموسيقية العالمية.
لم يشعر احد من الحضور، وهم كثر ومن الطبقة المثقفة بأن هناك نشازاً في عزف احد اعضاء الفرقة.
اما الفرقة الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة هناك، فشاهدت تمرينا لها، لتقديم اغنيات للمطرب كريم كابان الذي قالوا عنه انه يعاني الآن من امراض الشيخوخة، كانت الفرقة هي الاخرى بمستوى المسؤولية، عازفون شباب ومنشدات شابات، ومطرب شاب يطربك بصوته الحنون، واصرار من الجميع على تقديم ما هو جيد ومبتكر.
وكان هذا واضحا في الفرقة القومية للرقص الشعبي بأدائها الراقص المتناغم، وحرصها على تقديم الفلكلور الكردي بشكله المعروف.
جامعة السليمانية، لم تختلف عن باقي الجامعات في أي مكان، بأقسامها وطلابها وتواصلهم الدؤوب. احد الطلاب قال: لا يوجد عندنا نقص في أي شيء، ويكفي مديتنا بعد خراب الوضع السابق، فيها جامعة بهذا المستوى وفيها ثقافة وعلم وكل شيء.
آراء من الشارع
سائق التاكسي كان هادئا في سياقته وكلامه.. شاهدت مساحة فارغة من الارض قلت له: ماذا كانت في السابق؟ أجاب: انها حامية عسكرية اما الآن فإن حكومة الاقليم ستجعل منها حديقة تنبت زهورا بدلا من الرصاص والخوف والقتل، صدق هذا المواطن الكردي، فالحدائق كثيرة في السليمانية، وكأنها لوحات فنية تطرز المدينة.
في مدينة الالعاب الاطفال كانوا يمرحون، ليس هذا حسب، وانما الصبايا كن يمرحن وكأنهن فراشات يلتقطن الصور التذكارية، ويصعدن في دولاب الهواء والعاب الصغار الاخرى، بفرح ومحبة.
سوبرماركت
(السوبرماركتات) تملأ المدينة، وبامكانك ان تأخذ ما تحتاج اليه، بدءا من الفواكه والخضراوات وانتهاء بما لا يخطر في البال، مواد غذائية مرتبة ومنظمة وفق جمالية واضحة، هذا ما شاهدته في اكثر من سوق، وفي اكثر من مكان في المدينة.
تجولت هنا وهناك، والتقيت بشرائح متباينة تعيش بألفة وسلام في المدينة، شعرت بأن هذه المدينة يختبئ فيها الف معنى ومعنى، اهمها حرية غير مشروطة، كما في عنوان لمجموعة باث الشاعر المكسيكي المعروف، الا بالانتماء اليها.
كلُّ من تراه وتحدق فيه، يشعرك بانتمائه الى المدينة.. انها مدينة آمنة، تبني نفسها.