عندما يعلو المذهب على الدين !

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا يحدث عندما يعلو المذهب على الدين ؟

عندئذ يحكم المذهبي قانون غُزية التي يقول شاعرها:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويتُ ، وإن ترشد غزية أرشدِ !


ونخرج بقبلية جديدة تحت غطاء الدين تسمى : المذهب !

ولا نقصد بالمذهبي ذلك المسلم الذي يعود في ما يعتقده ويدين به من منظومة العقائد والأفكار والعبادات إلى رؤية محددة بأطر أحد المذاهب السائدة ، فقد تكون هذه عند الكثير المخلص "ضرورة" لا بد منها بعد هذا الإنشقاق والإختلاف ، وهي ضرورة ظرفية نقبلها على مضض ، بل نقصد بالمذهبي ذلك الذي يعلو مذهبه على دينه !

كيف ينظر الإسلام لهذه القبلية الجديدة ؟

لقد بعث الله نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – للعالمين كافة برسالة تقول : إن معتنقيها هم أمة واحدة كما أن ربـهم واحد (( وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم )) ، ونهاهم عن الفرقة وحذرهم منها اشد تحذير، وبتأمل بسيط لبعض آيات الكتاب نرى شدة هذا التحذير ، منها قوله تعالى (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون )) و قوله تعالى : (( من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )) و قوله ((أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) و قوله (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) و قوله ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )).

فنزلت الرسالة على العرب و القبيلة عندهم أعلى ما يقدسون ، فجاء القرآن و رتب سلم الأولويات ليحل الفكر و العقيدة مكان القبيلة و ليحارب القدسية التي اختلقوها للقبلية (( أكرمكم عند الله أتقاكم )) و وبخهم على تجميد عقولهم أمام ما ألفوه في بيئتهم وما ورثوه من آباءهم (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) فقال فيهم (( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون )) ، عندها لم تجد القبلية مكاناً لها في دين الله ، َفعَلَت حجة الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، ثم فرض الله ولاية المؤمنين بعضهم على بعض (( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) فلا ولاية بين المؤمنين والكفار والمنافقين ..

لكن القبلية عادت إلينا بشكل أشد بشاعة لتعشعش على الدين بصورة "المذهب" الذي يأخذ من الدين بعض المسميات والشعائر ليطور نسخته الخاصة منها ، فيصبح حديث المذهبي وهمه منصب على إعلاء مذهبه ، والدفاع عن مذهبه ، والحرص على مذهبه لأجل المذهب وليس لأجل الدين ! لهواه .. وليس لله ! وهذا ما نسمعه عندما يتحدث عن (( ضروريات المذهب ومسلماته )) و (( سمعة المذهب )) و (( بقاء المذهب واستمراره )) و لا يلتفت ليقول ضروريات الإسلام وسمعة الإسلام واستمرار الإسلام ! لأن همه ليس لله و لا لدينه ، وإنما للوجه الجديد للقبيلة التي وجد نفسه بقدرة قادر ينتمي .. إليها !

فعندما تصطدم تعاليم مذهبه مع الدين ومسلماته تجده يلتف عليها متهرباً و مؤولاً .. ويصبح الدين ذا طبيعة مطاطية يسهل تشكيلها حسب الرغبة لتناسب رؤية المذهب ! .. فالدين تبع لمذهبه وليس العكس !

و أول علامات هذه القبلية الجديدة أن تنقلب عنده عقيدة الولاء والبراء رأساً على عقب ، فتجده يعادي المخالفين لمذهبه أشد من عداءه لأعداء دينه أنفسهم ! لعل من أبرزها ما نراه من إتهام بعضهم للآخر بأنه أشد خطراً من اليهود ، ومن محاباة البعض الآخر للملحدين المستهزئين بالدين لأنهم يشاركونهم الإعجاب برموز المذهب مثلاً! بل قد يتودد إلى أعداء دينه لأنهم يشاركونه العداء لأتباع المذهب الآخر !! متجاهلاً بل غافلاً عن قوله تعالى (( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق )). فالمذهبي عنده أعداء لمذهبه .. وليس عنده أعداء لدينه !

و يكفي لخداعه أن تدخل عليه ببعض الشعارات الفارغة المعظمة لأصول و رموز المذهب لتكسبه إلى صفك ! ولا يضيرك أن تهزأ بدينه ما دمت معجباً بمذهبه !

و المذهبي يفهم الإسلام بأنه مذاهب لا غير ! فيبدأ باحتكار أساسيات الدين ويجيرها لصالح مذهبه ويمنعها الآخرين وفق رؤية مذهبه المزاجية ، فهو وأتباع نحلته المؤمنون وفرقة الله المختارة ، على غرار شعب الله المختار ، ومن سواهم فهم أسارى حظهم العاثر أن وجدوا أنفسهم في مذهب آخر! هي هي القبلية التي وصفها النبي – صلى الله عليه وآله – بأنها منتنة ، أهلكت الأولين و ألحقت ولا زالت تلحق بهم الآخرين !

و المذهبي بعد ليس بالضرورة أن يكون متديناً ! فكم رأينا من الفسقة الذين يحملون نفس معالم المذهب والتي في جملتها لا تتعدى مرحلة الإعجاب دون مرحلة التطبيق ! وقد ينتصر المذهبي لقضية هي من الحق ، لكن انتصاره لها يكون مبنياً على الأساس المذهبي لا على أساس أنها الحق !


وحقيقة لا أدري لماذا يصر المذهبي على أن ينسب منظومة العقائد والأفكار وباقي أصول الدين وفروعه التي يؤمن بها ، إلى اسم يطلق عليه مذهبه ؟
لماذا لا يسميها الإسلام ؟!
عن من يريد أن يميز نفسه ؟! عن المذاهب الأخرى ؟
لماذا لا يتسمر مكانه داخل الإسلام ويحافظ على هويته التي أسماه الله بها ورسولهُ كمسلم ، ويعري الذين آثروا مسميات أخرى ؟ ما الذي يضيره إن فعل ؟ حقيقة لا أدري …!

إن كان مذهبه بعضاً من الإسلام ، فقد أقر بالنقص !
وإن كان مذهبه هو الإسلام وأشياء أخرى! فقد طعن في الدين - لأنه كان ناقصاً فأتمه – أو أقر على نفسه بالبدع بما ظن أنه تماماً له !
وإن كان مذهبه هو هو الإسلام بعينه ولا شيء سواه ، فما حاجته لهذا الإسم الجديد ؟

قد يقول قائل : لكن هذا واقع و موروث يصعب التخلص منه ولابد من معايشته .. وهي بعدُ للتمييز عندما تتعدد المشارب والمناهل ونريد أن نُعرَف بِمَشربنا وبمنهلنا !

فإذا قبلنا بأن المذهبية واقع مؤلم لا محيص عنه ، فليس أقل من أن توظف المذهبية للدفاع عن هذا الدين ، فيعلو سقف الدين على سقف المذهب ، وتعلو مصلحة الدين على مصلحة المذهب (( لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين )) ، و تكون الموالاة ، كما أرادها الله ، على أساس الأخوة في الدين ليقفوا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص ، وأن تكون الرؤية الكبرى للمذهب هي الرؤية الإسلامية التي تسع جميع الأخوة المؤمنين ولا تقف عند حدود المذهب .. أو مضارب بني غزية !