حديقة الإنسان ... أيّها المارّون من هنا
أحمد مطر
التوقيت الذي تمّ فيه إعدام صدّام كان مؤشّراً علي غباوة سياسية منقطعة النظير تنبئ أنّ صاحبها مازال يعيش، حتي الآن، في زمن ما قبل الساعات الرملية.
والطريقة التي نُفّذ فيها الإعدام كانت حماقة خالصة تستجير منها الحماقة.
إنّ المهووس الخارق الذي اختار الوقت والطريقة، قد أحسن أيّما إحسان إلي أكبر مجرم عرفه التاريخ المعاصر، فيما أساء أبلغ الإساءة إلي قضايا جميع ضحاياه.
والأسوأ من هذا أنّ الصفيق التافه الذي تطوّع لتصوير الواقعة وتوزيعها، لم يُصوّر، في الواقع، لحظة إعدام المجرم، بل هو قد صوّر لحظة إعدام آمالنا في المستقبل الآمن السعيد، وأفهمنا، بوقاحة صارخة، أننا لم نغادر علي الإطلاق أسوار دولة (المنظّمة السريّة).
ففي لحظات الاستعراض المجنون التي سبقت الإعدام، غابت الدولة بكلّ وقارها، وحضر المهرّجون بكلّ أصباغهم، وانتبذ منطق العدالة جانباً، ليخليَ مكانه لمنطق العصابة، وإذا بقضيتنا، نحن العراقيين المظلومين، تُختزل، وياللهوان، في كوننا مجرّد خندق للنفايات ما بين طائفيّ زاعق وطائفيّ زاهق.
فأية نكبة أعظم من هذه يمكن أن تنزل بالحليم الحيران؟!
ومع ذلك، فإنّ هذا الصنيع القبيح الأخرق الذي تتحمل تبعاته السلطة الجديدة وحدها، ينبغي ألا يطمس الأبصار عن حقيقة أنّ صدّام مجرم أشِِر كان لابدّ، في جميع الأحوال، أن تطوي صفحته بالإعدام. وهو نفسه لم يكن ليتوقّع مصيراً أقلّ من هذا.
وإذا كان من حق كلّ مناوئي السلطة الجديدة أن يقولوا فيها ما قاله مالك في الخمر، وأن يلعنوا سنسفيل من خلّفوها أو من جاؤوا بها، وأن يطرقوا أبواب أيّة محكمة علي وجه الأرض من أجل مطاردة مجرميها ولصوصها وجلبهم إلي ساحة العدالة، فإنّ ذلك لا يعني أبداً أنّ لهم أدني حقّ في أن يتّخذوا من الأمر ذريعة لشطب جرائم صدّام.
إنّ صدّام لم يكن ولداً متّهماً بكسر نافذة الجيران، ولم يكن تلميذاً شقيّاً وجّه لكمة إلي زميله في الصفّ. إنه كان وباء حقيقياً ماحقاً يمشي علي قدمين. ولو كان في الأرض ثمّة عدل حقيقيّ، لوجب أن يُعدم قبل خمسة وأربعين عاماً بالتمام، منذ جرائمه المبكّرة، لكي لا يُدخل العراق والأمّة العربية خلال عقود متطاولة وحتّي الآن، في معترك الخراب والفتن حياً وميتاً.
إنّ هذا المخلوق الشوارعي بامتياز قد اقترف القتل وهو طفل، وارتكبه وهو صبيّ، ومارسه وهو شاب لم يملك بعد السلطة المطلقة ولا الأسلحة المطلقة، ثمّ أنّه ما إن تمكّن من ذلك حتي أمسي رعباً شاملاً وفناء مطبقاً.
لا نريد أن نعيد ونصقل، فقد سلف تقليب سجلّ جرائمه ورقة ورقة، وليس للمتباكين عليه إلاّ أن يُعيدوا مطالعة صفحة واحدة منها فقط، تلك التي تتضمّن شريط محاكمته ومعاقبته لرفاقه الكبار في حزب البعث نفسه، بعدما خطا نحو العرش علي جثّة صانعه الرئيس البكر، حيث كان في تلك المحكمة العجيبة هو نفسه القاضي والمدّعي والشاهد والجلاّد، وحيث لم يكن رفاقه حينذاك خلوا من المحامين فقط، بل لم يكن بإمكانهم حتّي أن يتظلّموا. وما كان لأيّ منهم إلاّ أن يقرأ شعار الحزب ويخرج، طبقاً لنَصّ شريعته المقدّس الذي يقول: (اقرأ الشعار واطلع).. وهم قد طلعوا فوراً من قيد الأحياء!
إنّ المنصف الذي يتذكّر صورته في ذلك اليوم، يجب أن يراجع ضميره ألف مرّة قبل أن تأخذه الشفقة علي صورته الأخيرة وهو مجرّد من مخالبه وأنيابه.
كررّوا أيّها الطيبون تشغيل ذلك الشريط وحده، وحده فقط، ولا نريد منكم بعد ذلك أن تتعبوا أنفسكم في تقليب أوراق مقابرنا الجماعية، ولا أن تهدروا وقتكم الثمين في إحصاء عدد أرواحنا الرخيصة المهدورة، فنحن جميعاً (فدوة) لعيونكم المستريحة، ولأوقاتكم السعيدة!
يُقال إنّ العبارة التالية وجدت مكتوبة، ذات يوم، علي قبر (روبسبير) سفّاح الثورة الفرنسيّة المشهور: (أيّها المارّ من هنا لا تحزن علي موتي، لأنني لو كنتُ حياً.. لكنتَ أنت الميت)!
وهذه العبارة بالضبط هي ما ينبغي أن تُكتب علي قبر صدّام، لأنّها أليق به من روبسبير الذي لم تتلطّخ يداه بدماء الملايين من البشر. وهي ما ينبغي أن تكون في ذاكرة جميع السفلة اللاحقين، لكي لا يخلو العراق من أهله، فيصعب العثور فيه علي أحد يكتب العبارة نفسها علي قبورهم.
وهي، بالطبع، عبارة قمينة بأن يقرأها الشعب العراقي ويفهمها، لأنّه علي ما يبدو، بفعل تجربته الدامية، هو وحده القادر علي قراءتها واستيعابها، حيث لايزال محيطه العربيّ، برغم ابتلائه بطغاته الأصغر، بعيداً جداً عن تهجئة حروفها أو استيعاب معناها.
أكتب هذا ويدي علي قلبي ممّا أراه قادماً من كوارث يدفع بعضها بعضاً، جزاءً وفاقاً، نحو أوطان منذورة لسطوة الطغاة، وشعوب مفطورة علي تمجيد القتلة!
في مُنتهي أحزانِها..
تَصعدُ للأرضِ لِكيْ
تُشاهِدَ العُربانْ.
تضحكُ..
ثمّ أنَّها
تضحكُ..
ثمّ أنَّها.. تشعرُ بالسُّلوانْ.
***
لو لَم يَكُ العُربانُ في الأرضِ
فأيُّ نُكتةٍ
يُمكنُ أنْ تُبدِّدَ الحُزنَ
وأن تُخفِّفَ الشّعورَ بالهَوانْ
عن أُمّةِ الديدانْ؟!
و مراد النفوس أصغر من أن تتعـــــادى فيه و أن تتفــــانى