السعودية: طاعة ولي الامر مسابقة
د : مضاوي الرشيد



مقال نشر في القدس العربي بتاريخ 29-01-2007

[align=justify]بعد عقود طويلة من ترويج فكر ديني يدعو الي ان طاعة ولي الامر عبادة دخلت السعودية بجامعاتها وجمعياتها مرحلة جديدة اذ اصبحت طاعة ولي الامر مسابقة بعد الاعلان عن مسابقة تستهدف مليون طالب وطالبة ليتعرف هؤلاء علي الاحاديث النبوية الشريفة الواردة في طاعة ولي الامر وبالاضافة الي الجامعة، تنظم المسابقة بيروقراطيات دينية كثيرة هدفها حفظ الامن الفكري وتثبيت طاعة ولي الامر في قلوب الجيل الشاب.

لم يخرج استنكار واحد لمثل هذا المشروع سوي من صوت جريء هو صوت الدكتور محمد الاحمري المعروف بثقافته الدينية وسعة اطلاعه وتجاربه في مجال العلم ليس فقط بالسعودية، بل خارجها ايضا. اعترض الدكتور الاحمري علي هذه المسابقة وجاء اعتراضه علي صفحات مجلة العصر الالكترونية وليس علي صفحات المطبوعات السعودية المعروفة. كان اعتراض هذا المفكر واضحا وصريحا وقد عبر عنه في جملة جريئة حين قال: نحن الامة التي انهكتها الطاعة مما افقدها احترام العالم.. مجتمعاتنا اصبحت تقطر وتفيض بثقافة السمع والطاعة بل وتزيد علي الجميع عربا وعجما بثقافة الشيوخ انجص يبدو ان صبر الدكتور قد نفد ولاسباب وجيهة بفقه الاستبداد الذي مارس الانتقائية في تفسير النصوص والمراجع وطمس كل ما يحرك الضمير ويدعو الي التمرد علي الظلم والجور. يعترض الدكتور الأحمري علي الفكر الديني السياسي الذي هيمن في السعودية وارتبطت هيمنته مع مشروع تقنين الدين واستقطاب طلبة العلم وحصر الافتاء في فاتيكان يعين اعضاؤه بسرية تامة واوامر تأتي من فوق يراعي في انتقاء هؤلاء ليس العلم الشرعي والتمرس به بشكل عام بل بالتوازنات والاصول والانساب واهم المعايير هو مدي استعداد هذه البيروقراطية الجديدة لترويج ثقافة الطاعة لولي الامر.

وبعد ان اتهمت جامعات السعودية وخاصة جامعة الامام بتصدير فكر التكفير وما يسمي الخروج علي الحاكم ها هي اليوم تساند مسابقة العصر لتنشر فكر الطاعة علها بذلك تبرئ نفسها من التهمة والتي كادت ان تودي بطاقمها الأكاديمي فتداركت الامر وانخرطت في مسابقة لنشر الامن الفكري والذي يدعو اولا واخيرا الي القبول بمبدأ الموالاة والسمع والطاعة لولي الامر.

لو جاء انتقاد المسابقة من خارج السعودية لكان اتهم المنتقد بالخروج علي الحاكم وبث الفتنة وتجييش الشباب لكنه جاء من قلب السعودية ومن ابنائها الذين درسوا في مدارسها ويتدربون علي ايدي ائمتها. ولو جاء هذا النقد من الغرب لكان الجواب سهلا وبسيطا اذ لا خير يرجي من اعداء الامة كالكفار او من ابناء جلدتنا المستغربين كخوارج الخارج او التكفيريين المعروفين والذين استوطنوا بلاد الكفر.

مقال الدكتور الاحمري مقـــال جـــــريء يضع النقاط علي الحروف بدون مراوغة او تمويه.

كثيرة هي انتقادات الغرب للفكر الديني السعودي ونشدد علي لفظ السعودي حتي نعزل هذا الفكر وننأي به عن مقولة تمثيله للاسلام السني وان مثل تيارا ما فهو يمثل تيار الاسلام المستقطب الذي يخدم السلطة وسنجد ان له صدي في عواصم عربية كثيرة اذ ان هذا الفكر يقبع في الوزارات الجديدة والمؤسسات الدينية التي استحدثتها الانظمة العربية المتعطشة لفكر يشرعن للاستبداد والاقصائية ويحرم نقد السلطة او حتي ذكرها دون عبارات الاطراء والثناء والمديح. نقد الغرب لهذا الفكر لا يتجاوز مفهوم الحرب علي الارهاب ونشر الراديكالية وآخرها كان برنامج مراسلات علي القناة الرابعة البريطانية حيث، تم التركيز علي ما تصدره السعودية لبريطانيا في مجال شرعية زواج القاصرات وانتهاك حقوق الشواذ جنسيا ورفض الديمقراطية بعد وصفها بكفرقراطية من قبل الدعاة البريطانيين الذين تلقوا علمهم الشرعي في السعودية ليعودوا وينشروا هذا العلم في المساجد وحلقات العلم في مدينة برمنغهام. لا يهم الناقد الغربي مدي تأثير فقه طاعة ولي الامر علي المجتمع، بل هو يشجع مثل هذا الفكر من جهة ولكنه لا يقبل بالفكر الذي يرفض الشذوذ ويشرعن لزواج البنات القاصرات علي اساس انه سنة نبوية. كما يتم حاليا في بعض المساجد البريطانية والتي استعرضها الفيلم الوثائقي.

لا نرجو من افلام الغرب ان تسلط الضوء علي ثقافة السمع والطاعة وعملية غسل الادمغة التي تروج لها مسابقات كهذه المذكورة لان الغرب نفسه يظل جزءا من عملية الترويج هذه اذ ان هيمنته خلال القرون السابقة علي المنطقة والتفكيك لموروث هذه الامة ومن ثم تقليد زمام الامور الي نخب حاكمة ادي الي مأسسة هذه الثقافة وتقيدها ببيروقراطيات كبيرة وجامعات شامخة هدفها الاول والاخير صبغ الطاعة بصبغة مقدسة حتي يصعب تفكيكها والخروج من دائرتها الضيقة.

ما يشير اليه انتقاد الدكتور الاحمري هو اوسع واشمل من مسابقة طلابية اذ انه يمس التراث الديني بتعددية مصادره وشرحه والائمة الذين يزعمون انهم يحفظونه من الاندثار والعبثية. تعاني السعودية من مرض عضال هو مرض مأسسة الدين اذ يصبح الموروث الثقافي مرتبطا ببيروقراطية سلطوية تستمد شرعيتها من اليد التي تمولها وليس من استقلاليتها وقدرتها علي تحرير العباد من العبودية وتفجير القدرات النقدية وتثبيت منهجية جديدة تساعد الطالب علي تبوؤ حيز حر بين فتاوي السمع والطاعة وفتاوي التكفير والخروج علي الحاكم. انعدم هذا الحيز الوسط وتقلص، فلم يبق للمرء سوي التمركز اما علي ضفة ثقافة السمع وما يأتي معها من نصوص مقدسة او علي ضفة ثقافة التكفير والعنف.
الحجر علي الفكر الديني في مؤسسات رسمية وجامعات معروفة لم يؤد الي تفشي ثقافة السمع والطاعة، بل أدي الي تشظي الدين والهيبة للناطقين باسمه وكذلك ساهم في هروب الفكر الآخر الي اماكن اخري اخذت من الثورة الالكترونية والشبكة العنكبوتية ملاذا لها بعيدا عن السلطة والرقيب. ما فعلته السلطة السعودية بالدين ومأسسته جريمة بحق الامة التي فقدت احترام العالم لها كما ذكر الدكتور الاحمري. ولم يكتف هؤلاء بالمأسسة بل هم اليوم يطمحون لتقنين الفتاوي وحصرها بأئمة متخرجين من مدرسة السمع والطاعة ولكنهم هنا يخوضون حربا خاسرة جاءت خسارتها مع انفتاح وسائل الاعلام وتعددها وتشعبها.

حاولوا قتل التعددية بحصر النصوص والغاء الفصول وكل ما هو متعلق بالموروث الثقافي الداعي لنفض الغبار عن التفسيرات التي تهز الشعوب وتدعوها الي رفض الغبن. ولا يجد الشباب اليوم مثل هذا التراث الا علي صفحات الانترنيت وفي المكتبات الخفية ورفوفها المظلمة.
بدلا من مسابقات طاعة ولي الامر تحتاج الجزيرة العربية الي عودة هذه الثقافة الي الحيز العام وبشكل علني لان العلنية وحدها كفيلة بتنقيح هذا الموروث وتطويره ليصبح ذخيرة يقاوم بها الاستبداد دون اللجوء الي التكفير والتفجير. وطالما غيب هذا الموروث وحل محله فكر السمع والطاعة لن نستطيع ان نخرج من دوامة العنف الذي هو افراز لعملية غسل الادمغة من قبل الجهات الرسمية ومؤسساتها الدينية. العنف الفكري والاقصائية اللذان تمارسهما هذه السلطة ومؤسساتها هما اللذان افرزا العنف المضاد والذي يشرعن لنفسه بالاستناد الي نصوص اخري طمستها المدرسة والجامعة والهيئات الكبيرة والصغيرة. بعد ان خذلته المؤسسات سيظل شبابنا يبحث عن فتاوي أبوات العصر عله يجد ما يتسلح به في مواجهة فقه السمع والطاعة. وان لم يأخذ الموروث الاسلامي التاريخي بوجوهه المتعددة مكانه الذي يستحقه في المناهج الدراسية ويناقش بحرية ومنهجية كجزء من الثقافة العامة سيظل الشاب المحتار والمتمرد يبحث جاهدا عن فكر آخر وتفسيرات جديدة لنصوص قديمة.
وان اعترض احدهم وقال ان المؤسسات ضرورة مهمة لنشر الدعوة وتثبيت الدين سنرد عليهم ونقول ان مسلمي الاتحاد السوفييتي قاوموا الغاء الدين من المنزل ومن الحيز العائلي وليس بمؤسسات وجمعيات وجامعات فبقي الدين واندثر الاتحاد السوفييتي. وتتكرر الامثلة في الصين وغيرها من المناطق التي تعرضت لمثل هذا الالغاء والمحو.

ويبدو لنا ان خطر المؤسسات الدينية الحكومية علي الدين اكبر بكثير من خطر العدو المجاهر بعدائه للدين واهله. اذ ان هذه المؤسسات مفوضة بمهمة معينة ولها اجندة مرتبطة بالسلطة وليست مفوضة من الشعب وارادته وبانعدام المؤسسات الدينية المستقلة في بلد كالسعودية تنعدم الثقافة المتنوعة التي تنبش الموروث القديم لتقدم حلولا للحاضر والمستقبل. تحرير الدين من هيمنة السلطة يجب ان يكون مشروعا دينيا يسبق المشاريع الاخري المطالبة بالمشاركة السياسية والعدالة وتوزيع الثروة لان هذا التحرير سيعجل المسيرة التي تطالب بمثل هذه الاصلاحات.
اكثر من اي وقت مضي نجد انفسنا رهينة لفقه السمع والطاعة الذي اختلس تاريخنا وسرق فكرنا وسلب قدرتنا علي تخيل حقبة تاريخية لا نكون فيها مستعبدين اما من الخارج او من الداخل وهل يكون مقال الدكتور الاحمري الناقد لمسابقة طاعة ولي الامر بداية للتفكير في مشروع اقامة مؤسسة دينية مستقلة للفقه السياسي بتعدديته التي تراكمت خلال اربعة عشر قرنا وهو ذو باع طويل في العمل المؤسساتي، حيث نتعلم لماذا خرج الحسين علي والي دمشق.
[/align]