[align=center][frame="7 80"][align=center]
[/align]
[align=center][overline]
محاضرات في التاسيس للمنطق الذاتي[/overline]
تأليف : محمد باقر الصدر
بقلم:السيد عبد الغني الاردبيلي
تنظيم : الشيخ احمد ابو زيد
ينشر لأول مرة بترتيب مع مجلة المنهاج
القسم الاول
[/align][/frame][/align]
[align=justify]
البحث الحالي عبارة عن ست عشرة محاضرة شرع في القائها المفكر الاسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره على طلابه في النجف الاشرف في 5 / رمضان / 1384ه، وفرغ من القائها في 29 منه. وكانت فكرة هذه المحاضرات قد بدات بالظهور لديه عند بلوغه بحث (القطع) في دروسه الاصولية في العام 1383ه، قبل ان ينشر عام 1965م مقالا حول (اليقين الرياضي والمنطق الوضعي) ضمنه لاحقا في كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) الصادر عام 1972م، والذي تعبر هذه المحاضرات عن نواة كثير من افكاره الرئيسية، حيث قام هناك بعرضها والبرهنة عليها بشكل اعمق ومنظم.وعلى من يرغب في الوقوف على آرائه النهائية حول الموضوع ان يراجع الكتاب المذكور، واهمية هذه المحاضرات تكمن في الزاوية التاريخية لدراسة تطور نظرية المذهب الذاتي عند السيد الصدر.
يشار الى ان (المنهاج) تنشر هذه المحاضرات للمرة الاولى، بعد ان بقيت لسنوات مديدة محفوظة في تراث المرحوم السيدعبد الغني الاردبيلي رحمه اللّه احد خلص طلابه الذي كان قد دونها دون ادنى تصرف، الى ان تفضل (مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر قدس سره) في مدينة قم والذي يعنى بتحقيق ونشر تراث السيد الصدر بوضعها في متناول يد المجلة، والتي كلفت الشيخ احمد ابو زيد بتهذيبها وتنظيمها وتصحيحها، دون المساس بافكارها وبترتيبها.
تمهيد :
نهدف من وراء هذا البحث الى التاسيس لمنطق جديد نطلق عليه حاليا اسم (المنطق الذاتي)، وذلك تمييزا له عن المنطق العقلي الارسطي وعن المنطق التجريبي. وما دفع بنا الى هذا البحث هو ان المقدار التي تحقق وبين من هذين المنطقين لايكفي لاداء الرسالة الكاملة الشاملة، فلا بد من اجل تكميلها من اضافة المنطق الذاتي ليكون مكملا للمنطق الارسط ي من ناحية، ومفلسفاللمنطق التجريبي من ناحية اخرى.
ومن هنا، فان وظيفة المنطق الذاتي بالنسبة الى المنطق الارسطي هي وظيفة التكميل، وبالنسبة الى المنطق التجريبي هي التاسيس العقلي والفلسفي.
كيفية توالد المعرفة في المنطق الارسط ي يؤمن المنطق العقلي الارسط ي بوجود تصورات وتصديقات اولية ضرورية، وهو يبحث في هذه التصورات والتصديقات المعلومة من حيث ايصالها الى تصورات وتصديقات مجهولة. ولهذا قيل في الكتب المعروفة الموضوعة في علم المنطق: ان موضوع هذا العلم هو التصور والتصديق من حيث ايصالهما الى مطالب اخرى تصورية وتصديقية.
ومن خلال موضوع علم المنطق، يمكن اقتباس وظيفة هذا العلم، وهي بناء على تحديد الموضوع التوصل من تصوروتصديق معلومين الى تصور وتصديق مجهولين. ويبين لنا علم المنطق كيفية الانتقال من معرفة الى معرفة اخرى، او كيفية تولد معرفة من معرفة اخرى، وكيف يتسلسل التفكير لدى الانسان وينتهي من مقدمات معينة الى نتائج، ثم يجعل هذه النتائج مقدمات لينتقل منها الى نتائج اخرى، وهكذا...
وعندما كان المنطق العقلي بصدد البحث في كيفية تولد الفكر من الفكر وتولد المجهول من المعلوم، آمن بطريقة واحدة في توالد المعرفة، وهي التي يمكننا ان نسميها «الطريقة الموضوعية في التوالد»، وذلك في قبال الطريقة الذاتية التي سنتحدث عنها. والطريقة الموضوعية للتوالد هي الطريقة التي لاحظها المنطق القديم في كل بحوثه، فانه بحث في التصورات والتصديقات من حيث ايصالها الى تصورات وتصديقات اخرى وتوليدها لها على اساس هذه الطريقة.
ونقصد بالطريقة الموضوعية في تولد معرفة من معرفة اخرى التولد الناتج عن الارتباط بين متعلق الفكرة الام وبين متعلق الفكرة البنت، اي بين متعلق الفكرة (السبب) وبين متعلق الفكرة (المسبب). وهذان المتعلقان نصطلح على كل منهمابموضوع المعرفة. فالمقصود اذن ان بين موضوعي المعرفتين ارتباطا ولزوما، وهذا الارتباط واللزوم ينعكس على المعرفتين نفسيهما، فيتولد من المعرفة الاولى معرفة ثانية.
في الشكل الاول من القياس هناك لزوم حتمي واقعي بين صدق الكبرى والصغرى وبين صدق النتيجة، وهذا اللزوم والربط الواقعي بين الامرين ثابت على كل حال، مع قطع النظر عن اى مفكر او عاقل، فحتى لو لم يكن هناك مفكر لكان هذا اللزوم الواقعي المنطقي ثابتا في نفس الامر والواقع.
وهذا الربط الواقعي الذاتي واللزومي بين الامرين انعكس على الفكر، فاصبحت معرفتنا بالصغرى ومعرفتنا بالكبرى سببا في اقتضائها لمعرفة اخرى، وهي النتيجة، فيكون تولد النتيجة من الكبرى والصغرى ناشئا من التوالد والارتباط بين الامور الواقعية بما هي واقعية، ومع قطع النظر عن الفكر والتصور كماقلنا. وحيث ان الارتباط قائم بين موضوعات الافكار والامور الواقعية التي نفكر بها، اسمينا طريقة التفكير هذه بالموضوعية.
وبهذا البيان يظهر ان علم المنطق العقلي بحسب الحقيقة لا يبحث عن التصور والتصديق من حيث ايصالهما الى مجهول تصوري او تصديقي كما هو المتعارف ان يعبر عنه، وانما يبحث في الامور الواقعية نفس الامرية التي هي في ثبوتها في الواقع غير محتاجة الى المفكر والعاقل والمدرك.
لكن السؤال المطروح هو ان علم المنطق حول اى من هذه الامور الواقعية يبحث؟! والجواب: انه يبحث حول الامورالواقعية التي هي قوانين عامة لها دخل في توليد الافكار من الافكار.
ومن هنا نخلص الى ان علم المنطق يبحث حول امور واقعية هي عبارة عن موضوعات المعرفة، من حيث دورها في توليد الافكار من الافكار، او قل المعرفة من المعرفة.
ففي قولنا: «الشي الشامل لشي يشمل كل ما يشمله ذلك الشي»، نحن نعرف ان الحد الاوسط ثابت للحد الاصغر في المقدمة الصغرى، كما نعرف ان الحد الاكبر ثابت للاوسط في المقدمة الكبرى، فنعرف ان الاكبر ثابت للاصغر في النتيجة.ومرد ذلك الى هذه الحقيقة الثابتة الازلية، وهي ان الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الاخر، وهذا امر واقعي ثابت بقطع النظر عن وجدان اى عاقل او مفكر او متصور، وهو يلعب دور توليد الافكار غير الموجودة من خلال الافكارالموجودة. فعلم المنطق اذن يمارس هذه الامور الواقعية.
اشكال المحدثين على علم المنطق وهناك اشكال يثيره العلماء المحدثون حول علم المنطق، وهو يرد على منطقنا الذاتي ايضا، الاان الجواب عنه على ضوء منطقنا يختلف عن طبيعة الجواب على ضوء المنطق العقلي.
ولكن هذا الاشكال يندفع بالبيان الذي قد مناه.
وحاصل الاشكال: ان علم المنطق يمارس الموضوع الذي يمارسه علم النفس، فهو ليس علما مستقلا، بل هو فرع وشعبة من شعب علم النفس، لان علم النفس يبحث عن النفس البشرية وظواهرها وخصوصياتها، وذلك: اما بالطريقة القديمة، واما بالطريقة الحديثة القائمة على اساس التجربة والملاحظة.
فعلم المنطق اذن يتطفل على علم النفس، لانه يبحث عن قوانين الفكر البشري وكيفية تسلسلها ونشوئها من الافكار الاخرى عند الانسان، والفكر ظاهرة من ظواهر النفس البشرية، ولهذا لا ينبغي ان يكون علم المنطق علما قائمابراسه، بل حقه ان يكون فرعا من فروع علم النفس، لانه يتناول ظاهرة من ظواهر هذه النفس وهي التفكير ويجعلها موضوعا لدراسته.
وهذا الاشكال الموجه الى علم المنطق معروف في اوساط الاتجاهات الحديثة.
الجواب عن اشكال المحدثين على ضوء المنطق العقلي لقد اجيب عن الاشكال المتقدم بان علم المنطق موضوعه هو التفكير الصحيح، وان هذا العلم انما يسعى لتنظيم التفكير لدى الانسان ليجعله صحيحا.
ولكن الصحيح في مقام الجواب عن هذا الاشكال يظهر مما بيناه: فان علم المنطق العقلي لا يبحث عن الفكر وخواصه،وانما يبحث عن امور واقعية ذاتية ازلية ابدية، تدخل في عملية توليد الفكر للفكر. فهو يبحث عن تلك الامور الواقعية الاجنبية عن الفكر وخواصه، والثابتة على اى حال، سواء وجد انسان ام لم يوجد. وليس موضوع علم المنطق هو الفكرحتى يقال: ان موضوعه مت حد مع موضوع علم النفس، فينبغي للمناطقة ان يوكلوه الى علماء النفس ليقرروا مشاكله،باعتبار انهم اي المناطقة غير اخصائيين في هذا العلم.. فان المنطق العقلي كما قلنا لا يبحث اصلا عن الفكر، وانمايبحث عن تلك الامور الواقعية من حيث دخالتها في عملية توليد الفكر للفكر، فاى ربط لعلم المنطق بعلم النفس؟! طريقتان لتوالد المعرفة البشرية.. موضوعية وذاتية كنا بصدد الحديث عن المنطق العقلي الذي يتناول الامور الواقعية الازلية التي يكون لها دخل في عملية توالد الافكار من الافكار، وطريقة التوالد الملحوظة في هذا المنطق هي طريقة التوالد الموضوعي، اي التوالد الناشئ من الارتباط بين المتعلقات. وهذه الطريقة هي التي كانت معتمدة عند المنطق العقلي القديم، ولكنها لا تفي باداء رسالة علم المنطق بشكل كامل وتفسير المعرفة البشرية.
وما نريد بيانه في الابحاث الاتية هو ان هناك طريقتين لتوالد المعرفة:
احداهما: الطريقة الموضوعية.
والثانية: الطريقة الذاتية.
وبيان ذلك: ان الفكرة تارة تتولد من فكرة اخرى على اساس الارتباط اللزومي بين موضوعي الفكرتين، واخرى على اساس التلازم والعلية والسببية بين نفس الفكرتين.((1)) ووظيفتنا المنطقية تختلف بين هاتين الحالتين: ففي باب التوالد الموضوعي حيث تتولد الفكرة من فكرة اخرى باعتبارالربط بين موضوعيهما واللزوم بينهما يجب البحث حول تلك الامور الواقعية الازلية التي هي ملاك الربط بين نفس الافكار الثابتة، سواء وجد مفكر ام لم يوجد، فنبحث عنها على غرار بحث المتقدمين الذين اسسوا لهذا الغرض علم المنطق.
واما في طريقة التوالد الذاتي فيجب ان لا نبحث عن شي خارج عن نطاق فكر الانسان، فان موضوع بحثنا هو نفس فكرالانسان، وليس من وظيفتنا ان نتساءل عن السبب الخارجي الذي اد ى بهذه الفكرة الى ان ولدت تلك الفكرة، بل وظيفتناان نتساءل عن السبب الداخلي لذلك، فنبحث عن العلية في الداخل لا في الخارج.
في المنطق العقلي كنا نبحث عن الصغرى وعن الكبرى في الخارج، وكنا نبحث عن سبب تولد العلم بالنتيجة من خلال الصغرى والكبرى. وفي هذه الاجواء يكون تولد العلم بالنتيجة على اساس بديهي من البديهيات، والامر البديهي امر واقعي ثابت في نفس الامر والواقع، مع قطع النظر عن وجود اي فكر انساني، وهذا البديهي مفاده هو ان «الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الشي الاخر».
ام ا في المنطق الذاتي، فعندما تتولد فكرة من فكرة اخرى بلا ربط لزومي بين موضوعيهما، لا نبحث عن سر هذه السببية خارج نطاق الفكر البشري، وانما نبحث عنها داخل هذا النطاق، اي اننا نبحث عن امتياز هذه الفكرة التي ولدت تلك، وعن السبب الذي يقف وراء توليدها هي بالذات لها دون غيرها من الافكار، فنقف على الخصوصيات الذاتية لنفس الفكرة، لا الامور الواقعية خارج نطاق الفكر والمفكر. ومن هنا نسمي هذا المنطق بالمنطق الذاتي، لانه المنطق الذي يكشف قوانين علية الافكار بعضها لبعض.
ومن هنا يظهر بان المنطق الذاتي يختلف موضوعا عن المنطق العقلي: فان موضوع الاخير هو نفس الامر والواقع كماذكرنا، بينما موضوع الذاتي بحسب الحقيقة هو الفكر البشري بما هو هو، فنبحث عن العلية والسببية بوصفها عرضاذاتيالنفس الفكر، حيث تكون الفكرة بما هي فكرة علة لفكرة اخرى.
اذن: موضوع علم المنطق الذاتي هو الفكر البشري، وغرض هذا المنطق بيان قوانين التوالد الذاتي لفكرة من فكرة اخرى.
عودة الى اشكال المحدثين والجواب عنه على ضوء المنطق الذاتي ولو ان المحدثين وجهوا الاشكال السابق الى منطقنا الذاتي لكان اولى من توجيهه الى المنطق العقلي، فان باستطاعتهم ان يقولوا لنا: ان المنطق الذاتي بحسب الحقيقة هو فرع من فروع علم النفس، لانه يبحث في الفكر، والفكر هو احد الظواهرالتي يدرسها علم النفس، ومن هنا كان من الافضل ان تسموا هذا البحث «بحث علم النفس» لا «علم المنطق».
وجوابنا عن هذا الاشكال يتضح من خلال التمييز بين المنطق الذاتي وبين الدراسات المتعارفة في علم النفس والتي تتناول الفكر البشري، وان كان من الممكن اعتبار المنطق الذاتي فرعا من فروع علم النفس باعتبار آخر كما سوف نوضح الان. وفي مقام التمييز بينهما نقول:
ان الانسان في تفكيره يتاثر بعدة عوامل ومؤثرات، احدها العقل.
وهناك مؤثرات اخرى تساهم مع العقل في تحديد سيرالتفكير وخطواته، من قبيل العاطفة بمختلف اقسامها، فان العواطف لها تاثير ولو غير مباشر في تحديد سير التفكيربحسب الخارج.
ومن هذه العوامل والمؤثرات التبليغات [او الدعايات]الاجتماعية في عالم الخارج، فانها تنعكس على مستوى العواطف وتؤثر فيها. وكذلك الامر بالنسبة الى العقائد الدينية التي تنعكس على شكل عواطف وتؤثر بشكل غير مباشر.
وما نريد ان نقوله هو ان هناك مؤثرات كثيرة غير العقل تؤثر في سير تفكير الانسان، وهذا امر واضح.
وهنا حالتان تختلف احداهما عن الاخرى، والاولى يتكفل بها علم النفس، اما الثانية فيتكفل بها المنطق الذاتي:
فنحن تارة ندرس التفكير الخارجي للانسان الذي يعيش محكوما لكل هذه العوامل والمؤثرات المتقدمة، والذي قد تؤثرفيه عواطفه، فيشكك في كثير من الامور المعلومة وبالعكس، فنقيس افكاره واعتقاداته من خلال الملاحظة والتجربة التي يعتمد عليها العلم الحديث، وهذه وظيفة علم النفس بمعناه الحديث. والانسان الذي يخضع الى دراسة من هذا القبيل مع تمام هذه العوامل والمؤثرات التي لا يتحرر من جملة منها في حياته الفكرية، يكون موضوعا لعلم النفس.
وتارة اخرى نجرد هذا الانسان عن كل المؤثرات في التفكير باستثناء العقل، ونفرضه بذلك كالمعصوم الذي لا يخضع تفكيره لاي مؤثر ما عدا عقله، ثم نرى كيف يتسلسل تفكيره. او نفرضه كالرياضي في تفكيره، فان الرياضي لا يتاثربعامل آخر غير عامل العقل في بيانه للعمليات الرياضية.
اذن، نحن نتحدث عن مثل هذا الشخص الذي يجرد ذهنه عن كل المؤثرات ما عدا العقل، وهذا الشخص عندما يرى بعقله ان النار متى ما وجدت في الغرفة اصبحت الغرفة حارة، فهل يحصل له القطع بان النار علة لذلك ام لا؟ واذا حصل له القطع بذلك، فما هي النكتة في حصول هذا القطع؟ وكيف حصل له ذلك بمجرد رؤيته الحرارة مع النار عدة مرات؟! هذا مانجيب عنه.
اذن فالفرق بين المنطق الذاتي وبين علم النفس يكمن في ان علم النفس يتناول في بحوثه العادية الفكر محكوما لتمام العوامل والمؤثرات، لان عملية التجريد لا تنطبق على الواقع الخارجي، وعلم النفس يلجا الى التجربة وملاحظة الافراد في عالم الخارج، شانه في ذلك شان سائر العلوم التجريبية. ام ا المنطق الذاتي فيتناول الفكر مجرداعن كل العوامل والمؤثرات عدا العقل، ثم يبحث في كيفية تولد الفكر من الفكر.
التمييز بين مادة الفكر وصورته((2)) كنا بصدد الحديث عن المنطق الذاتي وتمييزه عن سائر فروع المعرفة، وقد شرعنا في بيان ما يختلف فيه مع المنطق العقلي الارسط ي، الذي عنينا به المنطق البرهاني.
وقلنا في هذا الصدد:
ان كلا من هذين المنطقين يبحث عن طريقة فيالتفكير تختلف عن الطريقة التي يبحث عنها المنطق الاخر ، فالمنطق الذاتي يبحث عن قوانين الطريقة الذاتية في تولد المعرفة، بينما يبحث المنطق العقلي عن قوانين الطريقة الموضوعية في ذلك.
وتوضيح الفكرة: ان الفكر من وجهة نظر المنطق العقلي تارة يلحظ من حيث مواده، واخرى من حيث صورته:
ففي قولنا: «العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث»:
(تغير العالم) و(حدوث المتغير) مادتان من مواد الفكر البشري،فيلحظ صدقهما او كذبهما في مقام حكايتهما عن الخارج.
وتارة اخرى لا يلحظ صدق المواد او كذبها، وانما تلحظ صورة الفكر، ويتم ذلك من خلال تبديل جميع المفصلات بالمبهمات. وبعبارة اخرى: تبديل جميع المواد بالرموز، وذلك عبر قطع النظر عن خصوصية المادة. وافضل طريقة لتحقيق ذلك تتاتى عبر اهمال ذكر «العالم» و«التغير» و«الحدوث»، وناتي في مقابل ذلك بالرموز التي تتناسب مع كل مادة من الموادالتي يتصورها العقل، فنقول: «ا» هو «ب»، و«ب» هو «ج»، اذن: «ا» هو «ج». وفي هذه الحالة نكون قد طبقنا القياس نفسه، الا انناقطعنا النظر عن مواده وصيرناه رموزا صرفة.
ونلاحظ في هذه الحالة انه لم يبق من الفكر الاصورته وشكله، ام ا مضمونه: فلم يعد موجودا، لانه لا مطابق له في عالم الخارج، ولكنه في الوقت نفسه احتفظ بالصورة نفسها التي كانت موجودة في قولنا: «العالم متغير، وكل متغير حادث،فالعالم حادث». فهاتان الصورتان متطابقتان من حيث الايجاب والسلب، ومن حيث الكلية والجزئية، ومن حيث الشرطية والحملية، الى غير ذلك من الجهات والمقولات المنطقية.. غاية الامر ان احداهما صيغت على اساس الرموز، والاخرى على اساس المواد الخارجية.
وظيفة علم المنطق بعد التمييز بين صورة الفكر وبين مادته، قالوا بان مواد الفكر على قسمين: فمنها الاولي، ومنها الثانوي، والاولي لايحتاج الى تاسيس علم لمعرفته، لانه اولي.
واما الثانوي فتتكفل بتمييز صوابه عن خطئه هذه العلوم التي اسست في الدنيا، فان كل علم ينال حظا ونصيبا من هذه العلوم الثانوية، ويحقق فيها ويدرسها ويستكشف ما هو الحق فيها وما هو الخطا.
وعليه، فالمواد لا تقع ضمن وظيفة علم المنطق، لان بعض المواد لا حاجة الى البحث فيها باعتبارها اولية كما قلنا،والمواد الاخرى الثانوية تتوزع على فروع المعرفة البشرية، والتي تنقسم بحسب ترتيب القدماء لها الى علوم عالية ومتوسطة وسافلة.
اذن، فما يتبقى للمنطق هو صورة الفكر، فيبحث في ان الصيغة الفكرية للفكر متى تصدق نتيجتها عندما تكون موادهاومقدماتها صادقة؟! وهنا نلاحظ ان صدق المواد قد اخذ امرا مسلماومفروغا عنه، لانه خارج عن مهمة المنطقي ولا يعنيه بحال من الاحوال. ولذلك عندما يقولون: ان موضوع علم المنطق ولا اقل منطق البرهان هو التصديق من حيث ايصاله الى تصديق مجهول والى معرفة مجهولة، فان هم ناظرون الى هذه الجهة، اعني صورة الفكر، والى ان مواد الفكر اذا ركبت مثلا بنحو الحد الاصغر والاوسط والاكبر فان النتيجة ستكون ضرورية وصادقة لصدق المقدمات، ولا ينظرون الى موادالفكر.
وبهذا يظهر ان المنطق العقلي وهو الذي يعبر عنه اليوم بالمنطق الصوري عندما يبحث عن صورة الفكر، فهو في الحقيقة يبحث عن الملازمة بين الصورة وبين النتيجة، ايجابا وسلبا، فيميز بين الصورة التي تلزم منها النتيجة وبين التي لاتلزم منها.
اذا اتضح هذا، يتضح ان ما يعالجه المنطق العقلي او الصوري عندما يتناول الملازمة بين صدق الصغرى والكبرى وبين صدق النتيجة، هو بحسب الحقيقة امر واقعي محفوظ في لوح الواقع، مع قطع النظر عن الفكر وعن اى مفكر في عالم الخارج. وهو يبحث في هذه الامور الواقعية التي يكون لها دخل في تنظيم صورة الفكر بهدف ان يكون تولد المعرفة تولداصحيحا مطابقا لنفس الامر الواقع.
ونخلص من هذه المقدمات الى تحديد موضوع علم المنطق العقلي بتعبير آخر، فنقول: ان اي امر واقعي يكون له دخل وتاثير في تنظيم صورة الفكر، ويوجب صحة تولد فكر من فكر، ومطابقة الفكر المتولد مع ما هو عليه الواقع، يكون موضوعا لعلم المنطق.
وهنا ناتي الى تحديد اعمق لموضوع علم المنطق العقلي: فقد اتضح لنا ان لكل فكر متعلقامحفوظا في عالم الواقع، وهوالمعبر عنه بموضوع الفكر او موضوع المعرفة، وان تولد فكر من فكر آخر والربط الموجود بينهما ناشى بحسب الحقيقة من الربط المحفوظ في عالم الواقع بين متعلقيهما. والمنطق العقلي لا يتناول بالبحث تولد فكر من آخر، وانما يتناول التولدالاعمق الحاصل في رتبة سابقة، فلا يكون موضوع علم المنطق العقلي هو تولد الفكر من الفكر، وانما التولد الحاصل بين متعلقيهما، وهو الذي نعبر عنه بالتوالد الموضوعي في مقابل التوالد الذاتي.
موضوع المنطق الذاتي وطريقة توالد المعرفة يتناول المنطق الذاتي الطريقة الذاتية في تولد المعرفة، فهو يتناول بالبحث الفكر نفسه ولا علاقة له بمتعلق هذا الفكر.
اوبتعبير آخر: هو يبحث عن اللزوم الحاصل بين معرفة واخرى، وكيف ان احداهما تستلزم الاخرى، دون ان يكون بين موضوعي هاتين المعرفتين لزوم في نفس الامر والواقع.
ولنضرب على ذلك مثالا: فان الانسان يرى انه كلما قرب الورقة الى النار احترقت، وانه كلما تناول الدواء الفلاني آالاسبرين مثلا حصلت لديه حالة معينة، كزوال الصداع. وما يراه الانسان في هذه الحالة يولد لديه اعتقادا بان حبة الاسبرين مثلا علة لرفع الصداع.
دعونا الان ننظر الى المسالة من وجهة نظر المنطق العقلي:
فالمنطق العقلي لا يرى علة او لزوما بين تناول الاسبرين وبين ارتفاع الصداع، اذ لعل اقتران هاتين الظاهرتين كان صدفة، فيكون اللازم (وهو ارتفاع الصداع) اعم من الملزوم (وهو تناول حبة الاسبرين)، بمعنى انه قد يكون ناتجا عن كون التناول علة لزوال الصداع، وقد يكون الزوال قد وقع صدفة.ومع كون اللازم اعم من الملزوم فلا مجال للاعتقاد باللازم الخاص، وهو العلى ة بين الامرين، فيكون الاعتقاد المتولد لدينااعتقادا باطلا.
هذا كما قلنا من وجهة نظر المنطق العقلي. ولكننا مع ذلك نجد من انفسنا هذا الاستنتاج على الرغم مما يقوله المنطق العقلي.
وهذا الاستنتاج في الحقيقة عبارة عن طريقة اخرى في التفكير والتوالد تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي التي سبق ان تحدثنا عنها، ونطلق عليها اسم طريقة (التوالد الذاتي)، وذلك باعتبار انه لا ربط ولا لزوم بين متعلقي الفكرين وموضوعيهما، بل ان الفكرة بما هي فكرة استدعت فكرة اخرى.
ومن هنا كان موضوع المنطق الذاتي هو الافكار نفسها بما هي هي، بخلاف المنطق العقلي البرهاني القائم على التوالدبين الافكار لا بما هي هي، بل بما هي انعكاس لموضوعاتها ومتعلقاتها في عالم الواقع.
تمييز المنطق الذاتي عن علم النفس بناء على بياننا للمنطق الذاتي وموضوعه، نصل الى الاعتراض الذي قد يسجل عليه، وذلك من جهة انتمائه الى علم النفس.
وهذا الاشكال سبق ان ذكرنا انه وجه ايضا الى المنطق العقلي، وذكرنا هناك ان اثارته حول المنطق الذاتي اقوى واكثر استحكاما من اثارته على المنطق الصوري، لان موضوع المنطق الصوري على ضوء ما بيناه ليس الفكر، وانما الامورالواقعية التي يكون لها دخل في تنظيم صورة هذا الفكر.
وحيث اننا اعترفنا بان موضوع المنطق الذاتي هو الفكر، فاننا مطالبون بالتمييز بينه وبين علم النفس، لكي يكون علماقائما براسه في مقابل علم النفس.
وحاصل التمييز بين العلمين هو ان علم النفس يتناول الفكر بوصفه جزءا من مجموع العوامل والمؤثرات النفسية الدخيلة في توليد الافكار. اما المنطق الذاتي فيتناول الفكر معزولا عن سائر هذه العوامل المذكورة ما عدا العقل. فعندمايتحدث المنطق الذاتي عن علية تناول حبة الاسبرين لارتفاع الصداع، فانه يقصر النظر على عامل العقل، بينما يتناول علم النفس الموضوع دون تهميش العوامل النفسية الاخرى التي تتداخل مع بعضها البعض، فياخذ بعين الاعتبار مثلا الرغبة النفسية تجاه حبة الاسبرين الموجودة عند مكتشف هذا الدواء، بينما يخرج ذلك عن مد نظر المنطق الذاتي.
تمييز المنطق الذاتي عن المنطق التجريبي المنطق التجريبي هو المنطق الذي تميز به المناطقة الجدد، من قبيل فرانسيس بيكون وجون لوك وغيرهما من المناطقة،فقد اسسوا لمنطق اطلقوا عليه اسم (المنطق التجريبي).
والحقيقة ان النسبة بين المنطق الذاتي وبين المنطق التجريبي هي النسبة بين البناء والاساس وبين المصداق، لان المنطق الذاتي يتناول بالبحث الاساس الذي يقوم عليه المنطق التجريبي، ويستبعد عن بحثه المصاديق التي يتناولها المنطق المذكور.
ولناخذ على ذلك مثالا مما يتعرض له المنطق التجريبي:
ففي هذا المنطق يتحدثون عن طريقة (التكرار)، فيقولون: ان «ا» لو اقترنت ب«ب» مائة مرة لكانت «ا» علة ل«ب».
ولديهم طريقة اخرى يسمونها طريقة (النفي والاثبات)، فلو لاحظنا في مائة مرة انه عند وجود «ا» توجد «ب»، ولاحظناه كذلك مائة مرة انه عند انعدام «ا» تنعدم «ب»، لكانت «ا» في هذه الحالة علة ل«ب». وهناك طريقة ثالثة يطلقون عليها اسم «الترابط النسبي»، حيث يلاحظون انه عندما توجد «ا» توجد «ب»، وعندما تشتد «ا» تشتد معها «ب»، وعندما تضعف «ا» تضعف «ب».
وهذه الامور في الحقيقة امور صحيحة ولطيفة، الا انها مصاديق للطريقة الذاتية في التفكير وتوالد المعرفة، ولا تتعدى ذلك، لان المنطق التجريبي لم يشرح من خلالها سبب كون هذا علة لذاك، وان حاول بعض الفلاسفة الاوروبيين القيام بذلك على نحو الاستقلال، الا ان المنطق التجريبي بما هو منطق تجريبي لم يعالج هذه الناحية. ومن هنا اعتبرنا ان المنطق الذاتي بمثابة الاساس لذلك المنطق.
طبيعة المعرفة المتولدة في المنطق العقلي((3)) بعد ان اتضح الفارق بين المنطق الذاتي الذي نحن بصدد الحديث عنه وبين المنطق البرهاني، وذلك على اساس الفارق بين الطريقة المعتمدة لكل منهما، لا بد من اجل تكميل البحث من الاشارة الى الفارق بين المعرفتين الناتجتين عن كل من هاتين الطريقتين:
فالمعرفة الناتجة عن الطريقة الموضوعية في توالد الفكر والتي يدرسها المنطق العقلي هي في الحقيقة تفصيل للمجملات، بينما تعتبر المعرفة الناتجة عن الطريقة الذاتية في التفكير والتي يدرسها المنطق الذاتي معرفة جديدة غيرمستبطنة ومحفوظة ولو على نحو الاجمال في المعلومات السابقة.
وتوضيح ذلك: ان المنطق الصوري الارسط ي بعد ان عدد انواع الحجج، ذكر انها يجب ان ترجع جميعا الى القياس، ولولم ترجع اليه فهي لا تولد فكرا جديدا. وفي خطوة اخرى منه في هذا الاتجاه، قام بارجاع اشكال القياس المتعددة الى الشكل الاول منه. وبذلك يكون الشكل الاول من القياس هو القانون الذي تعتمد عليه عمليات التوالد الموضوعي في الفكر.
والشكل الاول كما هو معلوم يشتمل على ثلاثة حدود: اكبر واوسط واصغر، ويكون الاكبر معلوم الثبوت للاوسط في الكبرى، والاوسط بدوره معلوم الثبوت للاصغر في الصغرى، وعندما نضع هذه الحدود في قياس، ينتج ثبوت الاكبرللاصغر، من قبيل ان الشي الشامل لشي شامل لما يشمله ذلك الشي لامحالة.
وقد اشرنا في بحث اصول الفقه الى عملية الاحصاء والاستيعاب التي نقوم بها للحدود الصاعدة والنازلة والسافلة والعالية. فبعد ان نحصي هذه الحدود، نضع كل حد اصغر تحت الحد الاكبر منه. وفي هذه القائمة لدينا نوعان من الثبوت بين الحدود:
احدهما هو ثبوت كل حد للحد الذي يليه مباشرة، وهذا الثبوت اولي غير برهاني، لانه يثبت بواسطة حدا وسط يتوسط بينهما، والا لكان خلف كونهما متصلين بلا واسطة كما هو الفرض.
والثبوت الاخر هو ثبوت الحد للحد الذي يليه عبر الواسطة، وهذا الثبوت برهاني، لما قدمناه من توسط حد بينهما.
هذه هي تمام المعرفة البشرية التي يبحث عنها المنطق العقلي.
ومن الواضح ان هذه المعرفة لا تتعدى كونها تفصيلا للمجملات وابرازا للمستبطنات، فان الحدالاصغر مثلا مشمول للاكبر في عالم الواقع، غاية الامر ان نا لم نلتفت الى كونه كذلك حتى وسطنا الحد الاوسط، فكشف لنا عن ذلك، وفصل لناالاجمال، وازال عنا الابهام.
ولناخذ مثالا على ذلك القياس التالي: «العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث»: فالقانون الموجود في الكبرى «كل متغير حادث» هو في الواقع يشمل العالم، لان العالم متغير، فيكون العالم بالتالي مشمولا لقانون الحدوث المذكور. ومع اننا نعلم ان العالم متغير، الا اننا لم نلتفت الى كونه حادثا حتى وسطنا الحد الاوسط بين المقدمة الاولى (الصغرى) وبين المقدمة الثانية (الكبرى)، حيث وقع محمولا في الاولى وموضوعا في الثانية.
اذن، فالحد الاوسط وهو التغير هو الذي جعلنا نعرف ان الحد الاكبر وهو الحدوث شامل للعالم، ولكن هذه المعرفة كانت مستبطنة في معرفتنا الاولى وموجودة فيها على نحو الاجمال، غاية الامر ان المجمل قد تم تفصيله وتبيينه وتوضيحه.
وعلى هذا الاساس يمكننا ان نقول: ان ممارسة القياس في المنطق العقلي عبارة عن تطبيق للمبادئ الكلى ة، وكلماتمت ممارسة المعرفة وفق الطريقة الموضوعية التي شرحناها حصلنا على توسع في التطبيق، وعلى مزيد من اكتشاف للمصاديق عن طريق عملية القياس.
شبهة عقم المنطق العقلي ما تقدم كان على نحو الاجمال واقع المعرفة التي تحصل عن طريق التوالد الموضوعي، والتي يقنن قوانينها المنطق العقلي.وهنا ياتي دور الحديث عن وجهتي النظر المتنازعتين حول جدوى المنطق العقلي، حيث تذهب احداهما الى ان المنطق العقلي منطق خصب ومنتج، وان ه يحقق معرفة جديدة، بينما تسير وجهة النظر الاخرى في اتجاه معاكس تماما، مدعية عقم هذا المنطق وعجزه عن توليد معرفة جديدة، واذا كان ثمة ما ينتجه فان انتاجه لا يعدو كونه دوريا، اي مبنياعلى الدورالمبحوث عنه في المنطق، لان المعرفة في هذا المنطق ان كانت مبنى ة كما ذكرنا على الشكل الاول من اشكال القياس،وكان الشكل الاول في نفسه مبنيا على الدور، كانت المعرفة العقلية برمتها مبنية على هذا الدور، فينهار كل ما يصدر عبرالتوالد الموضوعي.
وتوضيح هذا الدور: اننا عندما نقرر القضية الكبرى المحفوظة في القياس التالي: «زيد انسان، وكل انسان فان، فان زيدافان»، فلا يخلو الامر من احدى حالتين:
1- اما ان نكون قد تتبعنا كافة افراد الانسان ومنهم زيد وعلمنا انهم فانون، وبالتالي نحصل على الكبرى التالية:
«كل انسان فان»، ثم نضعها في القياس لتنتج لنا نتيجة، وهي ان زيدا فان. وفي هذه الحالة يقال للمنطق العقلي: ان العلم بفناء زيدقد حصل ونحن بصدد تشكيل الكبرى، اي قبل ان نضع هذه الكبرى في القياس المذكور، حيث الفرض اننا تتبعنا كافة افراد الانسان ومنهم زيد.
وهذا هو معنى ان القياس عقيم لا يولد علماومعرفة جديدة، وانما يستبطن دورا منطقيا، لان العلم بالامر الجزئي (وهوفناء زيد المطلوب اثباته في النتيجة) كان متوقفا على تحقيق الكبرى (وهي ان كل انسان فان)، وفي الوقت نفسه كانت الكبرى المذكورة متوقفة فيما تتوقف عليه على تحقيق الجزئي نفسه (وهو فناء زيد)، وهذا دور واضح.
2- اما اذا فرضنا ان التتبع لم يكن شاملا لكل افراد الانسان، فحينئذ لا يبقى معنى للكبرى المذكورة في قولنا: «كل انسان فان»، اذ لعل بعض هذه الافراد لا يفنى، فتكون الكبرى جزافية.
الا ان هذا الاعتراض على اطلاقه غير وجيه، لانه مبنى على ان العلم بالكلي لا بد وان ينشا دائما من استقراء تمام الجزئيات، وقد تعرضنا في كتاب (فلسفتنا) لهذه المقولة، وبينا هناك اننا لو اردنا اثبات الكبرى بالتجربة ولم يكن لنا((4))مقياس غيرها، لكان علينا ان نفحص جميع الاقسام والانواع لنتاكد من صحة الحكم، وتكون النتيجة حينئذ قد درست في الكبرى بذاتها ايضا.
وفي هذه الحالة يستقر الاعتراض السابق، ويكون ثابتا بلا اشكال.
واما اذا كانت الكبرى من المعارف العقلية التي ندركها بلا حاجة الى التجربة، كالاوليات البديهية والنظريات العقلية المستنبطة منها، من قبيل ان الاثنين نصف الاربعة، فلا يحتاج المستدل في مقام اثبات الكبرى الى فحص الجزئيات حتى يلزم من ذلك ان تتخذ النتيجة صفة التكرار والاجترار، وانما العلم في هذه الحالة انصب على القاعدة ابتداء، وهذا معنى عدها من الاوليات.
والحاصل مما قدمناه انه عندما تكون المعرفة الكلية ماخوذة عن طريق البداهة الاولية، لا عن طريق استقراء جزئيات ذلك الكلي، فلا مجال حينئذ لتوجيه اشكال الدور وان القياس المنطقي لم يثمر معرفة جديدة.
ولكن قبل ان ننهي كلامنا حول طبيعة المعرفة المتولدة بالتوالد الموضوعي، لا باس بتوضيح مرادنا من كون المعرفة الحاصلة من الاوليات معرفة جديدة، فهل المراد ان هذه المعرفة الجديدة المولدة موضوعيا معرفة مباينة للمعرفة القديمة التي تولدت منها؟! وفي مقام الجواب نقول: لا، ان نسبة المعرفة الجديدة الى المعرفة الام نسبة المبين والمفصل الى المجمل، فالجدة هناجدة التفصيل بعد الاجمال، وليست الجدة الحاصلة بين متباينين.
والنتيجة النهائية هي اننا نقول بالوسطية في هذا الموضوع، فلسنا نقول بعقم المنطق العقلي الكامل، وفي الوقت نفسه لانقول باخصابه الكامل، وانما بالامر بين الامرين.
حقيقة المعرفة المتولدة في المنطق الذاتي ما تقدم الى الان كان مرتبطا بالمنطق العقلي وطبيعة المعرفة المتولدة موضوعيا. اما المعرفة المتولدة على اساس التوالدالذاتي فهي معرفة جديدة غير مستبطنة في المقدمات، فنحن عندما نمارس الاستقراء ونجد انه متى تناولنا حبة الاسبرين زال الصداع، نخرج بنتيجة: وهي ان تناول الاسبرين عل ة لارتفاع الصداع وزواله. وفكرة العلية هذه التي خرجنا بها ليس مستبطنة في فكرة الاقتران، ففكرة العلية شي، وفكرة الاقتران شي آخر. وعندما خرجنا بهذه النتيجة، فان معلوماتنا زادت حقيقة، لا انها فصلت بعد ان كانت مجملة.
وسيزداد هذا الامر وضوحا في الابحاث القادمة عندما نبرهن على ان المنطق الذاتي في التفكير يخضع للعقل الاول ولايمكن استنباطه من البديهيات. ونكتفي الان بالتمييز بين الامرين على مستوى التصور، ريثما ياتي تحقيق الموضوع على مستوى التصديق، اذ علينا ان نبرهن على ان الطريقة الذاتية لا يمكن ارجاعها الى البديهيات الاولية.
ومهما يكن من امر، فان المنطق الذاتي يقدم طرحا جديدا في نظرية [/align]