مقتدى الصدر: بورتريه - زهير المخ
(صوت العراق) - 23-04-2007
ارسل هذا الموضوع لصديق
منذ الأيام الأولى لعراق ما بعد صدام، اقتحم مقتدى الصدر المسرح العراقي بعنف باحثاً عن دور في الخريطة السياسية الجديدة، ومطالباً القوى الأخرى بالاعتراف به، متكئاً في سعيه هذا على رصيد عائلي وإرث شيعي غني بالشهداء المثير للعواطف والحماسة، فهو سليل أسرة مليء تاريخها بالأمجاد والمآسي معاً.
لقد ترك أسلافه بصماتهم على صفحات الزمن الشيعي العراقي لكنهم انتهوا مقتولين، ومن بينهم والده المرجع الأعلى السيد محمد صادق الصدر أو زاهدين متعبدين أو علماء منهم شقيقه مصطفى الذي نآى بنفسه بعيداً عن دائرة الضوء وأصبح ناسكاً دافناً نفسه في التحصيل الديني. أما مقتدى الذي ولد في العام 1974، فقد عانى طفولة صعبة، من أب لا يهتم به لأنه غارق في إدارة المرجعية، وأخوة كبار كانوا يبدون الكثير من الامتعاض لتصرفات الصبي المتهورة. وفعلت هذه المعاناة في نفسه فازداد ميله الطبيعي إلى تعميق حضوره العام بموازاة الحذر من الآخرين، وهما سمتان بارزتان في شخصيته.
ينظر مقتدى إلى العالم بعينين هاربتين، نظرة خوف وكأنه رجل مطارد يتربص به الشر وهو يفتش عن سبيل للبقاء في صورة الأحداث. وبالنسبة للذين يعرفونه عن قرب لا يتوانون عن وصفه بأنه عصبي المزاج، يفضل الأفكار البسيطة والأجوبة الجاهزة، ويضايقه الكلام المفخم والثقيل على مسامع الناس، وهو في نظره ينطوي على الكثير من العجز. ورأى آخرون فيه "رجل غموض وألغاز"، يتصرف سراً ويحيط نفسه بالأحاجي.
وسيم الطلعة يعنى بقيافته وهندامه، ليس من باب الوجاهة، كما قد يظن البعض للوهلة الأولى، بل من أجل صناعة "رمز"، حيث باتت صوره تزين المحلات والمخازن والحسينيات وحتى الحافلات العامة. وبما أن الصور لوحدها لا تكفي لانتزاع الأدوار، فقد اندفع بقوة لحجز مقعد في مكان فارغ ليتسابق مع قوى سياسية أخرى لاقتسامه، وبدا باكراً أنه يطبق "إستراتيجية" اختطاف المواقع عوضاً عن التنافس مع الآخرين للفوز بها.
وبالفعل، فقد أوحت ممارسات مقتدى الأولى بأنه قادر أن يخيف أكثر مما هو قادر أن يقنع، لكنه مع ذلك أظهر قدرة على الاستقطاب، ليس من خلال إتقانه استعمال سلاح الدين في السياسة أو لغة اللاهوت في الإيديولوجيا، بل لأنه بعث في الطائفة الشيعية شعوراً برفض الاستكانة الواقعية التي ميّزت بالإجمال التراث التاريخي لعلماء الشيعة التي أعادتهم إلى موقع شبه هامشي على الخريطة السياسية العراقية.
لقد بدا هذا الشاب المتعجّل وكأنه يندفع لتنفيذ انقلاب واسع داخل طائفته، بل ربما على المسرح العراقي برمته، حينما سعى إلى تمييز حوزته "الناطقة" عن مثيلتها "الصامتة"، وبدور الأولى الفاعل في السعي إلى إقامة صرح "الجمهورية الإسلامية" في العراق، وهو تمييز يضرب بجذوره عميقاً في المؤسسة الدينية الشيعية، ويتجسد في الخلاف التقليدي الذي شهدته الساحة الشيعية العراقية في مطلع القرن الماضي بين علماء الدين ذوي الأصول العربية ونظرائهم ذوي الأصول الفارسية، في تلميح صريح إلى دور المرجعية العليا لآية الله علي السيستاني، إلا أن هذه الاستعارة التاريخية بدت وكأنها أشبه بتحدي طالب في مقاعد الدراسة الأولية لأستاذه. ففي مراحل نشأته الأولى، تلقى مقتدى معارفه الأولية على يد "كتاتيب" النجف بالرغم من وجود نظام تربوي حكومي عصري، لكنه سرعان ما التحق بالدراسة في "الحوزة العلمية"، إلا أنه لم يظهر أي مقدرة في استيعاب علوم اللغة والفقه الإسلامي، وبالتالي لم يصل إلى مرتبة المجتهد، ويعرف في الحوزة العلمية في النجف بأنه ليس أكثر من "طالب بحث خارجي"، وهو أمر لا ينفيه مقتدى نفسه الذي ظل يردد دائماً أنه "ليس مرجعية مقلدة"، بل وكيل المرجع آية الله كاظم الحائري المقيم في مدينة قم الإيرانية، "تطبيقاً لوصية الوالد". بعبارة أخرى، يطمح مقتدى إلى القيام بدور شبه بدور أبيه، مع علمه اليقين أنه لا يستطيع اختراق التراتبية الشيعية في النجف.
إلا أن مقتدى لم يكن يعوزه الطموح ولا العناد كي يفرض نفسه لاعباً بعد أن أنشأ مليشيا مسلحة أطلق على تسميتها "جيش المهدي"، هذه المنظمة الشيعية ذات الطابع الاجتماعي- السياسي احتفلت بتخريج أول "كتيبة" في مدينة البصرة الجنوبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2003 ، وأظهر، في المقابل، قدرة على استقطاب ليس الناقمين والمهمشين فحسب، بل تسلل إلى تياره الباحثون عن فرصة حماية أو فرصة استقواء من بينهم عناصر من نظام منقرض ومن ضباط أمنيين سابقين وأعضاء في حزب البعث المنحل لفوا رؤوسهم بأقمشة بيضاء وسوداء في مزيج فريد ومثير بين طلب الجنة ورقصة الأبالسة في الجحيم.
كما أدرك مقتدى، ربما بغريزته، أن الفعالية السياسية لحركة ما تستند، من حيث الجوهر، على قدرتها في تحريك الحواس الشعبية والعصبية الطائفية أكثر مما تقوم على منطقها السياسي الداخلي. وعلى الرغم من أنه لم يستوعب توظيف المؤشرات والروحانيات الشيعية إلا لماماً، إلا أنه مع ذلك لا يترك فرصة من غير أن يشير إلى آيات من التراث الشيعي المليء برائحة الدم وقوافل الشهداء، فهو يجيد لعبة الرموز في السياسة.
دأب مقتدى على إلقاء خطب نارية في صلاة الجمعة في مسجد الكوفة الشهير شخصياً حيناً وبالوكالة حيناً آخر، تتأرجح بين الديني والسياسي، كي يستمر جزءاً من المشكلة بدلاً من القدرة على ابتكار الحلول. فقد تميزت مواقفه السياسية بـ "الحرد" الدائم، الذي يتخفى بين ثنايا عموميات لا يصح أبداً وصفها بالبرنامج، حتى أصبح، وبحق، "رمزاً" للرفض العدمي.
متصلب ومكابر، يبدأ خطاباته النارية دائماً بالرفض، ويلعب قصداً دور "الملهم" لمقاومة الاحتلال. وبما أن شخصيته تربك الجميع، فقد تحول مقتدى الصدر مشكلة للحكومة العراقية، فهي لا تستطيع تلبية مطالبه، ولا تستطيع احتواءه ويصعب عليه إقناعه أو على الأقل تنظيم الرقصة معه، فقد بات نفوذه المتصاعد تهديداً جدياً لهيبتها، بل تحول تهديداً يومياً كان لا بد من الاصطدام به.
من جانبه، لم يفوت مقتدى الصدر أي فرصة لإضاعة الفرصة، ويبدو أنه بات يستمتع بدور المتمرد على السلطة، الدور الذي برغم ما ينطوي على مضامين سلبية، إلا أنه يجلب له استقطاباً شعبياً باستمرار، وهو في أغلب الظن زاده الوحيد.
كاتب وأكاديمي عراقي