د .صالح الظالمي
المقدمة
سيدي يا ابا رضا انك تبتعد عن الاضواء مهما كلف الأمر، لا تدخل حجرتك المتواضعة آلة تصوير، وتستنكر رفع صورتك في أي مكان، واذا قرأ الخطيب في بيتك لمناسبة تتعلق بآل البيت عليهم السلام فلا يحق له ان يدعو لك، بل يكون الدعاء لجميع الحاضرين من دون ان يذكر اسمك، وأعرف تماماً انك منعت توزيع ما كتب عنك (نبذه مختصرة عن سماحة السيد علي السيستاني)، كل ذلك قد تراه (ترويجاً) لمرجعية والمرجعية لا تحتاج له.
ما بين يدي هذه الصفحات المعدودة لو قرأتها لو فضت ما فيها من مديح، على ان الواقع الذي لمسناه وبلا مبالغة فيه، ولعلي سأتركه إلى الوقت المناسب حين تباغتنا الاقلام المشبوهة لكتابة التاريخ، أيدك الله تعالى وسدد خطواتك انه سميع مجيب.
تعال معي لتقف بخشوع امام بيت متواضع، ليس فيه يثير انتباهك غير الالتواء المعرف في مدخله، وغير جدرانه المتآكلة التي تكاد تتساقط لولا العناية المتأخرة بترقيعها، واخفاء اضالعها المهشمة بطلاء كان له الفضل بإخفاء كل عيب مسته أصابع القدم.
في الجانب الايمن غرفة لم تعرف ما مساحتها، وما فيها،وما هي قطع الاثاث التي تحتويها؟ ثم سرعان ما تغيب عن عينيك، أو قل ستنسى كل ما رأيته في البيت حين يقع بصرك على رجل وقور يتكئ في إحدى زواياها،
وانت تقترب منها تحس بأن شيئاً ما يقيّد خطواتك، وحين تتماسك لتقول ما تريده، أو لتسمع منه فستشعربأنك أسير هيبة لم يكن بمقداروك الافلات منها، فمن سبقه من المراجع كنت تنحني أمامه لما يتمتع به من قدرة هائلة بكل ما تتطلبه منه المرجعية في حياته من علم ومعرفة،... أمام هذه الشخصية، ففي هذه اللحظة الاولى ستملأ كل جوانبك بشئ يقال له (الروحانية) وقد تفصلك عن حياتك، وربما تصنع حاجزاً ثقيلاً أمام كل تصوراتك، وما تحمله من كثافة المادة التي تثقل حركتك حين تعتزم المسير، وأنت أمامه كذلك تحس بأنك في عالم آخر، أو أنك تعبر إلى مرفأ آخر لم تمره من قبل، انك الآن تتحظى مسلكاً يأخذك نحو العالم العلوي، تم تطرق خجلاً وأنت بين الانتشاء والذهول.
السيد السيستاني بكل ما فيه معجب، ويزذاذ عجبك منه كلما التصقت به، ففي كل يوم يطلع عليك بما يبهر، ولنبدأ بما يدور حواليه.
مقام المرجعية:
هذا المنزلق الخطير الذي يتهيبه كل من يريد الولوج فيه، فقد يبتعد عنه من لا قدرة له على ثقل الامانة، وقد يتقبله من يفرضه عليه الواقع المرير، لكي لا تخلو الساحة من القائد الذي يحمل بين كفيه ما يبدد تحشد الظلام ، ليقف بعدها مرشداً أمام الجماهير المؤمنة بثقة عالية أزاء الشعور بالمسؤولية.
أعاود انه منزلق خطير، فالقائد هنا لا شك بأنه يدرك تماماً ان جميع تصرفاته ستوقفه للحساب أمام من بيده الحساب، اذاً لا بد له من ان يكون (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما نطقت بذلك أقوال آل البيت عليهم السلام، فهو سيقول وسيتبع اقواله من يهتدي برأيه، ولا بد له بذلك من ان يتخطى مرحلة الاجتهاد ليصل الى اختيار الرأي باطمئنان، كما عليه ان يتابع اثناء مسيرته الحياتية شتى العلوم التي تقوم عليها حياتنا المعاصرة، ومن خلالها يستطيع التعامل مع العالم الذي يرتبط بنا في مجال الاقتصاد وتبادل الثروات والخيرات، ثم التطورات السريعة في العلوم الطبية التى تكون لها صلة بالشريعة، وحتى الافكار والمبادئ المستوردة التي يتلقفها الشباب المسلم في هذه المرحلة الراهنة، كل ذلك يدركه بوعي وبصيرة ثاقبة، ولا فرق عنده في الموضوعات التي يعرضها اثناء الدرس بين موضوع العبادات وبين مقاومة المحتل الذي يحاول تدنيس البلد المسلم في موضوع (الجهاد) كل ذلك يكون من بعض اهتماماته.
السيد السيستاني بعد ان واصل مسيرته العلمية منذ البداية وحتى الآن كان على ما اعلم محل اعجاب لمن استمع اليه ودوّن آراءه المشبعة بالدقّة والاستيعاب، فهو يعنى بعلم الفلك كما يعنى بالفقه والاصول وعلم الرجال، ويتابع التاريخ ليتعرف على ما يصدره من ائمة اهل البيت عليهم السلام وما تحيط بهم من ظروف آنذاك، فكل قول يصدر منهم يكون رهين لحظة معينة لا يمكن تحديدها الا بالمتابعة الفاحصة لتلك اللحظة،... وهو يقرأ التاريخ كذلك يتلقى الدروس ثم يقارنها بالحاضر.
وقد تعجب حين تسمع منه أنه قرأ أكثر من مائة كتاب عن الماركسية المادية، ويزداد عجبك حين يباغت (الاخضر الابراهيمي) بما كتب عنه (هيكل) في بعض اللقاءات معه، فتتحول نظرة الابراهيمي إلى الاستجابة الفورية لما يعرضه عليه، وقد يشترك مع رجل السياسة، واستاذ القانون وكأنه رجل سياسة واستاذ قانون.
عرفنا عنه منذ البداية انه رجل أجمل ما يرتديه هو (لباس التقوى) وقد تأثر بآبائه أهل البيت عليهم السلام في نظرتهم للحياة، وانها الطريق الموصلة الى العالم الآخر{وان الدار الاخرة لهي الحيوان}.
في بيته الصغير المتواضع (المستأجر) كان فيه رغد العيش، تقدم له الكثير ليستبدلوا هذا البيت بآخر يتناسب ومقام المرجعية ولكنه رفض وأغلق الابواب، وسمعت منه وسمع منه الكثير قولته (أنا واولادي لا نضع حجراً على حجر في هذه الدنيا، وسوف نعافها ولا نملك فيها شيئاً )(1).
هذا الموقف الذي اتخذه سماحة السيد قد لا ينسجم مع واقعنا الذي نعيش فيه، ولكنه لا يعبأ بكل مغريات العصر، ما دام يسترجع الماضي البعيد لدى جده الامام علي عليه السلام بعد ان اضطر الى قيادة الامة حين اتعبها المسير في دروب تضيع فيها مواقع الاقدام،... في الكوفة عاصمة الدولة الاسلامية الجديدة، كان بيته الذي يقترب من بوابة المسجد عائداً لابن اخته، وهو لا يختلف عن بيوت الفقراء بقليل أو كثير، اهم ما يعتمد عليه غطاؤه الطيني المتماسك، لا أشك بأنه كان يحاذر من قطرات المطر المتساقطة عليه في اول فصل الشتاء، أو قل ان تلك القطرات هي التي كانت تحاذر منه لهيبة من يقبع فيه.
لو قدر لك ان ترى بيت سيدنا السيستاني قبل عام، وكيف تزدحم في داخله مناكب الوافدين لما امكنك البقاء فيه اكثر من دقائق معدودة، ثم تنطلق الى خارجه لتعيد انفاسك، وتحمده تعالى على عودة العافية، كان خلف هذا البيت بيتان صغيران تحولا الى قاعتين تلتصقان به، ثم اعمارهما بطريقة (المساطحة ) على ان يعودا بعد عشر سنوات الى اصحابهما، لقد باركت هذا الحدث الجديد، وبارك غيري أمام (أبي حسن ) ولكنه لم يظهر عليه دلائل الرضا،قلت له وماذا حدث؟ أجاب: إن السيد الوالد بعد ان القى عليه نظرة قال لي : ( هذا لمن يريد البقاء في هذه الدنيا) وسكت.
كان على علم بسلوك الشيخ الانصاري - رحمه الله تعالى - مؤسس مدرسة النجف الحديثة، حيث تقدم اليه من يحمل المال الكثير ليبدل المتداعي بآخر يكون صالحاً لمقام المرجعية، وعاد صاحب المال بعد حين، ويأخذه شيخنا الانصاري لمسجده المعروف، قال له: هذا خير لي ولك عند الله، ويموت الشيخ ويعقبه صاحب المال، ويبقى المسجد عامراً بمثل ما فيه وما زالت حلقات الدرس تعمره حتى يومنا هذا.
ويتذكر سيدنا السيستاني - حفظه الله -، ما قام به آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وتحت وسادته الف واربعماية دينار، وبالسرعة يطلب احضار السيد محمد تقي بحر العلوم والحاج حميد منى، ليحملا المبلغ الذي طلبه السيد الخوئي، ويسأله السيد بحر العلوم عن سبب العجالة، ويجيبه الشيخ: أريد ان أموت وما في حقيبتي درهم يعود لغيري، والأعجب ان القدر لم يمهله اكثر من يوم واحد أو يومين ويموت وليس في بيته بريق لدرهم.
كل ذلك كان يستوعبه سيدنا السيستاني، ويتعامل معه معاناة وتطبيقاً،... مرّ على العراق حصار مقيت، كانت نظراته لا تفارق الضعفاء من الناس، فهو يأكل كما يأكلون ويلبس ما لا تقع عليه العين.
كان يقرأ:¬¬¬¬( كلو من طيبات ما رزقناكم)، وربما أعاد قراءتها مراراً ولكن سلوكه الخاص ونظراته لآبائه اهل البيت عليهم السلام، كان يبعده طواعية عن كل ما تحفل به مائدة الاثرياء.
لك ان تدخل ولو فضولاً لترى الطعام بين يديه على غرار ما قام به جماعة من تجار بغداد في احدى ليالي شهر رمضان، وأكلو معه، وكان على بساطته اشهى طعام يجتمع عليه ارباب النعمة وأصحاب السلوك.
قال لولديه، وكرر القول: لا يتجاوز مأكلكما ما في (الوجبة)، الوجبة التي تعدّها وزارة التجارة للمواطنين لتخفف بعض معاناتهم من قسوة الحصار، وقد التزم الولدان – على ما أعلم – بما يريده منهما الأب السالك العطوف.
في احدى ليلي القدر أصر صديقي على دعوة ولده فضيلة السيد محمد رضا، وقد اجاب على مضض شريطه ان تقترب الدعوة من السرية لئلا تتكرر من قبل الآخرين.
وكانت الدعوة، وكنت على مقربة منه، فلم يأكل الى ما اعتاد عليه، وترك ما يستطاب. ولم تنته الورطة، جاء صاحبنا بعد يومين واقترب من سماحة السيد، وعلى غير المعتاد اجلسه إلى جنبه بامتعاض، وسأله:هل قرأت ما كتبه امير المؤمنين عليه السلام لعامله عثمان بن حنيف حين دعي إلى مأدبة؟ أجابه صاحبنا – وقد عرفت مراده – الم تكن فسحة للعنوان الثانوي؟ ورد عليه بشيء من الانفعال، لا مجال للعنوان الثانوي، فكل الذي حوليك ليس لديهم غير الوجبة وسكت، وسكت صاحبنا على ان لا يعود لمثلها، وتبين له ان ولده عليه ان يخبره بكل ما يمر به.
دخلت عليه وكان معي من يهتم كثيراً بالفقراء، وعند الوداع طلب منه صاحبنا ان يدعو له، قال له بصراحته المعروفة: ادعو لك ما دمت تساعد الفقراء، وكان على صاحبي ان لا يترك مهمته، والا فلن تكون له حصة من الدعاء.
قلت له مرة: سيدي ما كنا نتصوره حلماً فمن الصعوبة ان يتحقق الا باحلام اليقظة، ما تقوم به يذكرنا بآل البيت عليهم السلام، فبيت المال بجانبك شبيه لما كان بيد جدك امير المؤمنين عليه السلام لولا فقدان (الشمعة)... الحقوق كلها بيد أصحابها ولا يحق ان تمر ببابك، وسألت الله تعالى ان يمد بعمره وسكت، ثم نظر اليّ وقال، وسمع صاحبي معي قولته: (لقد شتمنا من قبل حتى أبناؤنا، فلا ندعهم يواصلون شتائمهم، أبعدنا الله تعالى عما لا يرضيه) وكان يشر بكلمة (أبناؤنا) إلى قصيدة الجواهري (الرجعيون).
ونعود الى الفقراء، فهم اول من يشغل باله، وأكاد أجزم ان انشغاله بهم كان هما لا يبارحه حتى في لحظات النوم، .... طلب منا ان نعد قائمة باسماء المتقاعدين، ومثلها لكل الموظفين الصغار في البلدية والبريد والصحة وغيرها، وكان له ما اراد على ان لا يعلم من هو صاحب القرار.
من يدري بان أكثر من الف بيت تم بناؤه بشكل تام، أو اضافة جديدة له، أو ترميمه ليكون صالحاً للسكن، كل ذلك كان على يد (أبي بان)(1) ومعها متابعة المرضى داخل النجف وفي جميع المستشفيات، اما في خارجها، ولا سيما ما يتعلق بزرع (الكلى) فلها المرتبة الاولى عنده، فقد قال لي يوماً هذا الأمين(2) الذي يقع عليه هذا العبء، بأن عدد الذين لديه هم ثمانية، ولم اعرف عدد الذين تّمت لهم هذه العملية المعقدة.
بدأ المرحوم الحجة الشيخ محمد أمين زين الدين بدفع رواتب قد تكون مجزية الى العوائل المتعففة حسب تعداد أفرادها، وكانت البادرة هذه مبعث اطمئنان لاولئك الذين كان جل تفكيرهم ان يبيعوا من الأثاث ما هو ضروري ليسدوا بعض حاجاتهم، وجاء دور سيدنا السيستاني، وكان ما كان ولحد الان، ... وما يقوم به (السيد حسين الصدر) في بغداد وضواحيها من رواتب للمتعففين وما يحتاجه المرضى من عمليات ومراجعة الاطباء فقد تزايد وتزايد حتى بلغ الآلاف، وسنجد مثل هذا في اكثر مدن العراق.
لك ان ترصده من قريب او بعيد حين يمر بجانبه شبح لدرهم فسترى كيف يتم اعراضه عنه، فلا يفكر اطلاقا بما يأتي، بل يؤكد على ازاحته إلى مستحقيه باقصى سرعة ممكنة،.... المستحقون اولئك الذين يعيشون معه في كل لحظاته المتعاقبة.
سمعته وسمعه مثلي مراراً في تلك الفترة الخائفة يقول: انا مستعد ان أدفع الأموال على ان توزع على الفقراء باسم رئيس الدولة شريطة ان تصل لأصحابها، ولكن ذلك لا يمكن تحقيقه ابداً في ذلك الوقت. ولم يقف عند هذا الحد، فهو يطلب صرف الحقوق الشرعية على النازحين في افغانستان إلى ايران، ولا فرق بين هذه الطائفة أو تلك، وربما اجاز – كما سمعت – صرف تلك الحقوق لمقاومة المحتل الظالم للبلد المسلم.
لقد قدم الكثير من الاموال لترميم المدارس والمستشفيات واعادة هيكليتها، وكذلك كانت يده الشريفة تمتد للجامعات والمعاهد بعد ان تعرضت للنهب والتدمير لتعيد لها ما فقدته من أجهزة وأثاث.
واذا كان سماحة الحجة الشيخ محمد رضا آل ياسين قد أجاز صرف حق الامام لشراء كتب الادب واقتنائها عند رجل الدين، فقد اضاف سيدنا السيستاني صرف هذا الحق على طلبة الدراسات العليا في الجامعات شريطة ان يقوم الطالب بخدمة البلد فيما بعد.
وقد تريك مرونته في فهم الاسلام وتعاليمه ما يبعث على تسامي الخلق الاسلامي حين يجيز لك الصرف على (الكتابي) المضطر الى المال (المسيحي واليهودي).
وقد انفرد في هذه الفترة الاخيرة ازاء صرف الحقوق من قبل اصحابها ومن دون الرجوع اليه، وقد رأيت أحد الاطباء وهو يعود بحقيبته المثقلة على ان تصرف من قبله على المرضى، وما زاذ على الحق فسماحته – حفظه الله – هو الكفيل بدفعه له مهما كان مقداره، وهكذا الامر مع بقية الاطباء.
هذا هو سماحة السيد السيستاني، ولو سمح لي ان اذكر الآخرين ما قد نسيه وهو فتى يدخل عش الزوجية، وكل ما في ذلك العش لا تلاحقه النظرات لبساطته، ومن أظهر ما فيه تلك السجادة الوحيدة التي أكملت بقية الاثاث، وبعد اسبوع أو اكثر تركها لصديق كان الاحوج اليها في يوم زفافه، وتحولت السجادة لبيت العريس الجديد وعياله تبارك له هذه الخطوة.
سيدي دعني ادعوك وما يحيط بك، وانا اشكره تعالى شكراً لأحد له لعنايته تعالى بهذه الطائفة الحقة ونحن بحاجة في هذه الفترة إلى من ينهض بثقل الامانة ويقف بعدها شامخاً تعلوه كلمة (لا اله إلا الله)، فلك الحمد يارب ولك المنة.