د. عبد الرحمن العيسوي

في كل عام يبدأ الملايين من أطفالنا في الالتحاق بالمدارس لأول مرة في حياتهم، وكذلك يعود أعداد كبيرة من أبنائنا إلى استئناف الحياة الدراسية بعد غيبة الإجازة الصيفية التي تمتد عدة شهور. وبالنسبة للطفل الصغير سواء كان ذهابه للمدرسة لأول مرة في حياته أم أنه عائد من الإجازة الطويلة فإن الذهاب للمدرسة وخاصة في اليوم الأول يمثّل خبرة نفسية غاية في الحساسية والأهمية وجديرة باهتمام الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات.

إن ذهاب الطفل للمدرسة لأول مرة في حياته يمثل انتقالاً كبيراً من الحياة الأسرية إلى نوع آخر من الحياة، والمعروف أن مراحل الانتقال في حياة الفرد يتعرض فيها الفرد للأزمات والتوترات والانفعالات الحادّة. ولذلك لم يكن غريباً أن ينتحر طفل في سنّ السادسة، بأن قفز من شرفة المدرسة بالقاهرة في أول يوم يذهب فيه إلى المدرسة فلم يحتمل فراق أمه وقفز وراءها.


إن الذهاب للمدرسة بالنسبة للطفل يمثل حدثاً وتغيراً كبيراً في نمط الحياة التي اعتادها لمدة ست سنوات. فالطفل في المنـزل يتمتع بنوع من الحياة الأسرية التي تختلف عن الحياة في داخل المدرسة.

فالطفل في الأسرة يتمتع بحنان الأبوين ورعايتهما وتقتصر علاقته الاجتماعية على عدد محدود من الأخوة والأخوات، أما في المدرسة فإن نمط العلاقات الاجتماعية يتغير، حيث تتّسع دائرة معارفه وأصدقائه وزملائه الذين عليه أن يتعامل معهم.

إن ذهاب الطفل للمدرسة يمثل تغيراً كبيراً في بيئة الطفل الاجتماعية وهذا التغير في الجو المحيط بالطفل الذي ألفه لمدة طويلة يحتاج إلى كثير من الرعاية والحماية حتى يتكيّف لنوع الحياة الجديدة، فهو يحتاج إلى كثير من الرعاية والحماية حتى يتكيف لنوع الحياة الجديدة وللخبرات الجديدة في المدرسة.

والطفل في يومه الأول يجد نفسه وسط أعداد غفيرة من الغرباء من الأطفال ومن الكبار، ومن شأن مثل هذه الخبرة أن تبعث في نفسه الخوف والقلق والرهبة...

أما بالنسبة للعلاقات العاطفية، فإن المدرِّس مهما بلغ من العطف، فلا يستطيع إلا أن يوزع عطفه واهتمامه ورعايته على عدد كبير من التلاميذ، أما في المنـزل فإن الطفل كان يلقى اهتمام الأبوين كله، وكان يمثّل مركز الاهتمام وتلتف حوله الأنظار والقلوب.

كذلك، فإن العلاقة العاطفية بين الطفل وبين أفراد أسرته تختلف عن العلاقة بين الطفل وبين غيره من الزملاء في المدرسة. في هذا النوع الأخير من العلاقات لا بد أن يخضع الطفل لنوع من العلاقات الاجتماعية قوامه الأخذ والعطاء، واحترام حقوق الغير.

ويحتاج الطفل لكي يتكيّف انفعالياً للحياة المدرسية التي تبعده عن الأسرة جزءاً كبيراً من اليوم، يحتاج إلى أن يتعود على الفطام الانفعالي أو العاطفي. هذا الفطام ينبغي أن تبدأ فيه الأسرة قبل ذهاب الطفل للمدرسة، ولا بد من أن يتدرب الطفل على هذا الفطام النفسي أي البعد عن الآباء انفعالياً وتكوين الشخصية المستقلة عن الآباء حتى يستطيع أن يتكيّف مع جو المدرسة الجديد.

وفي المجتمعات الأوروبية حيث تتوفّر دور رياض الأطفال يتدرب الطفل على الحياة المدرسية المنظمة، وعلى الأخذ والعطاء واحترام النظام المدرسي، وتمثّل خبرة الطفل بهذا النوع من المدارس تقديم الطفل للمدرسة الابتدائية بعد ذلك. ولذلك لا يتعرض الطفل لخبرات انفعالية حادة ومفاجئة عندما يذهب للمدرسة الابتدائية.

وفي داخل الأسرة يجب أن يتدرب الطفل قبل الذهاب إلى المدرسة على الأخذ والعطاء والتعاون واحترام النظام والطاعة، وفوق كل ذلك احترام حقوق الغير. ذلك لأن الطفل في المدرسة لا يمكن أن تلبى جميع مطالبه كيفما يشاء ومتى يشاء بصرف النظر عن حقوق غيره من التلاميذ. كذلك من الممكن أن تقدم الأسرة المدرسة للطفل على أنها شيء جميل ومفيد، حيث العلم والإعداد للحياة وحيث الأصدقاء والزملاء والصحبة الطيبة.

ومن شأن تداول مثل هذا الحديث أن يهيىء الطفل ذهنياً لتقبل الحياة الجديدة التي يمكن أن يحياها.

إن بداية حياة الطفل المدرسية معناها بداية حياته الاجتماعية خارج دائرة الأسرة.

حيث ينبغي أن يشعر أنه أصبح بين زملاء متساويين معه في كل شيء، كذلك ينبغي أن يتعلم كيف ينتـزع نفسه من أحضان أمه، ومن دائرة الأسرة الضيقة.

وعملية الانفصال عن الأم ليست بالأمر الهيّن، ولكن ذهاب الطفل إلى المدرسة الحضانة يمهد لهذا النوع من الاستقلال، كذلك ذهاب الطفل لإحدى مدارس الحضانة تساعده في التعود على الحياة المدرسية الجديدة.

إن المنظر الانفعالي لوداعة الأم لطفلها على باب حجرة للدراسة يعرض لنا صعوبة سيكولوجية لا لدى الطفل وحسب ولكن لدى الأم كذلك. وكلما شعرت الأم بالحزن أو التوتر أو الخوف كلما أثر ذلك على نفسية الطفل. ولذلك من الواجب أن تقبل الأم هذا الموقف قبولاً طبيعياً كشيء حتمي وضروري.

كيف نعد أطفالنا لاستئناف الحياة الدراسية؟

نستطيع أن نوجز الخطوات التي تساعد أطفالنا على التكيف مع الحياة المدرسية فيما يلي:

1 - ينبغي أن يذهب الطفل إلى إحدى مدارس الحضانة ولو لفترة محدودة، حتى يتعود على البقاء بعيداً عن المنـزل ويتعود على الخبرات المتضمنة في الذهاب والعودة من المدرسة، وعلى النظام المتبع في المدرسة، وعلى مخالطة غيره من الغرباء عن الأسرة.

2 - إذا كان للطفل الصغير أخ أكبر يذهب إلى نفس المدرسة، فإن الأم قد تشجع الطفل الصغير بالذهاب معه، وتستطيع أن تشجعه على ذلك بإعطائه بعض الهدايا أو المنح. كذلك تستطيع الأم أن تذهب مع طفلها في اليوم الأول على شرط أن تبقى بعيداً عنه.

3 - إذا لم يكن للطفل الصغير أخ تستطيع الأسرة أن تبحث له عن جار أو صديق أكبر منه قليلاً حتى يصحبه معه وحتى يقدم له المدرسة ويقوم بحمايته داخلها حتى يشعر الطفل بالأمان في هذا المكان الغريب بالنسبة له.

4 - يجب أن تغرس الأم في ذهن طفلها قبل الذهاب للمدرسة أن المدرسة شيء جميل، وأنها مكان للمكافأة وللنجاح والفلاح وللأطفال الشطار، وليس للحمقى، كذلك فإنها ليست مكاناً للضعاف وإنما هي مكان مفيد وجميل.

5 - وهناك قاعدة تقول إن الطفل إذا كان متكيفاً في الأسرة يعكس ذلك على تكيفه في المدرسة، و امتد تكيّفه هذا للحياة المدرسية، والمعروف أن النمو النفسي والخلقي والاجتماعي للطفل عبارة عن سلسلة متلاحقة ومتداخلة ومتدرجة ومتصلة، بحيث تعتمد مظاهر النمو في المراحل اللاحقة على تلك المظاهر من المراحل السابقة، فالطفل الذي تمتع بطفولة سعيدة يحتمل أن يحيا أيضاً مراهقة سعيدة، والمراهق الذي يحيا مراهقة موفقة يشب شاباً سعيداً. وسعادة الفرد في شبابه تنعكس على سعادته في مرحلة الكبر، فحياة الفرد ليست مراحل منفصلة ومستقلة عن بعضها، وإنما هي سلسلة متصلة من التغيرات التي تعتمد على بعضها البعض.

فصل من كتاب مشكلات الطفولة والمراهقة .