|
-
[align=justify][align=center]الشهيد الصدر (رض) المنهج السياسي والجهادي
استراتيجيّة السيد الشهيد السياسيّة والجهاديّة[/align]
السيد الشهيد رؤيته الخاصّة، أو استراتيجيّة عن العمل السياسي والجهادي، ويمكن استكشاف بعض جوانب هذه الرؤية مما كتبه في اطروحة (المرجعيّة الصالحة) أو من بياناته الموجهّة إلى الشعب العراقي أو بياناته بمناسبة انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
ومن الواضح أن للظروف والأوضاع دخلا في بناء هيكليّة الرؤى والتصوّرات، ولا اريد هنا أن أتحدث عن الجوانب المتحرّكة في استراتيجيّته السياسيّة والجهاديّة التي تتدخل فيها اعتبارات زمانيّة أو ظروف طارئة، وإنّما اقتصر فقط على الثوابت منها:
أولا : كان السيد الشهيد يعتقد بأهميته وضرورة إقامة حكومة إسلاميّة رشيدة، تحكم بما أنزل الله عز وجل ، تعكس كل جوانب الإسلام المشرقة، وتبرهن على قدرة الإسلام على بناء الحياة الإنسانيّة النموذجية، بل و تثبت أن الإسلام هو النظام الوحيد القادر على ذلك.
ومن المؤكّد أنّ كتب السيد الشهيد (اقتصادنا وفلسفتنا والبنك اللاربوي وغيرها) استهدفت إثبات ذلك على الصعيد النظري.
ثانيا: قيادة العمل الإسلامي.
وكان السيد الشهيد يعتقد أن قيادة العمل الإسلامي يجب أن تكون للمرجعيّة الرشيدة الواعية العارفة بالظروف والأوضاع، المتحسسة لهموم الأمة وآمالها وطموحاتها.
ولو تركنا جانبا ما كنا نسمعه من السيد الشهيد حول هذا الموضوع فأن ما كتبه بقلمه الشريف في مشروع (المرجعيّة الصالحة)، وكذلك ما صد رمنه من بيانات بمناسبة انتصار الثورة الإسلامية في إيران يكفي لإثبات هذه الرؤية، ففي بحث (المرجعيّة الصالحة) كتب تحت عنوان ـ أهداف المرجعيّة الصالحةـ أن من أهداف المرجعيّة الصالحة (القيمومة على العمل الإسلامي، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حق منها وإسناده، وتصحيح ما هو خطأ). وكتب أيضا (إعطاء مراكز العالميّة من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للامّة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها،واحتضان العاملين في سبيل الإسلام...)
وفي البيان الذي وجّهه إلى الشعب الإيراني أكد على هذا الحقيقة مرات عديدة فكتب:
(ومن تلك الحقائق الثابتة: أن الشعب الإيراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحيّة ومرجعيّته الدينيّة الرشيدة التحاما كاملا.. وما من مرة غفل فيها هذا الشعب المجاهد عن هذه الحقيقة، أو استغفل بشأنها، إلا وواجه الضياع والتآمر، فالمرجعيّة الدينيّة الرشيدة، والقيادة الروحيّة هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف..).
وقد فصل طريقة عمله، وبين أفكاره وتصوّراته عن كيفية علم المرجعيّة وقيادتها للعمل الإسلامي في اطروحة المرجعيّة الصالحة
ثالثا: العمل الحزبي المنظم.
مما لا شك يه أن الظروف والأوضاع السياسية وخاصة في العراق تفرض انبثاق عمل سياسي وجهادي منظم يعمل على أساس متطلّبات العصر وما تفرضه ضرورات الحياة، والعمل الحزبي ـ بمفهومه الإسلامي ـ من الأساليب الفعّالة التي تضمن اختزال الزمن باتجاه الوصول إلى الهدف المتمثّل بإقامة الحكومة الإسلامية الرشيدة، وعلى هذا الأساس كان السيد الشهيد لا يرى بأسا بنهج هذا الأسلوب على أن يكون الحزب، أو الأحزاب ـ في فرض تعدّدها ـ أذرعا للمرجعيّة لا كيانا قياديّا مستقلا، وهذه الفكرة تبدو واضحة من خلال التدقيق في اطروحة ( المرجعية الصالحة).
رابعا : تأسيسه لحزب الدعوة.
للأمانة أقول : إنني لم أسمع من السيد الشهيد شيئا يتعلّق بهذا الموضوع، و لعل السبب أن الفترة التي عشتها معه ـ وهي مرحلة المرجعية الفعليّة ـ قد تجاوزت تلك النشاطات، أو ان الضرورة لم تكن تتطلّب ذكر تلك النشاطات ، خاصة أن السلطة كانت تحاول اجتثاث المرجعيّة الدينيّة من خلال توجيه الاتّهامات الحزبية إليها، فكان من الطبيعي أن يتجنّب طرق هذا الموضوع بجذوره التاريخية وتفاصيله الدقيقة.
ولكن مع ذلك ـ وفي فترات مختلفة ـ شهدت صورا من التعاون بن السيد الشهيد وحزب الدعوة الإسلامية ، سواء قبل الحجز أو خلاله، وسوف استعرض ذلك في طيّات هذا الموضوع.
أما عن موضوع تأسيس حزب الدعوة الإسلامية فإن سماحة آية الله السيد كاظم الحائري كتب عن ذلك ما يلي:
ان الاستاذ الشهيد مر بأدوار عديدة في عمله السياسي، والتطور المشهود في أساليب عمله يرجع إلى عدّة أسباب:
1- أن العمل التكامل في فترة طويلة نسبيا من الزمن بطبيعته يتطلّب المرحليّة والتطوّر والتغيير بمرور الزمن، بمعنى أن ما يصح من العمل في مرحلة منه قد لا يصلح في المرحلة المستبقة، والعكس هنا ـ أيضا ـ صحيح.
2 - أن تبدل العوامل الخارجية الذي قد لا يكون من أول الأمر بالحسبان، يؤثر ـ لا محالة ـ على طريقة العمل.
3 - أن أصل النظرية في أسلوب العمل قد تنضج وتتكامل وتتطور في ذهن الانسان بمرور الزمان، مما يؤثر على أسلوب العمل، ويؤدي إلى تطويره.
إن أستاذنا الشهيد أسس في أوائل شبابه حزبا إسلاميا باسم ـ حزب الدعوة الإسلامية ـ وكان هذا في وقته تقدما ملحوظا في الوعي السياسي بالنسبة لمستوى الوعي المتعارف أنئذ في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حتى أن كثيرا من المتديّنين بالتديّن الجاف آنذاك كان يرمي من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية ـ فضلا عمن يؤسس حبا إسلاميا ـ بالانحراف عن خط الإسلام الصحيح ،وبالارتباط بالاستعمار الكافر. كل من يدّعي ضرورة إقامة الحكم الإسلامي كان يتّهم بمثل هذه الاتهامات لأن إقامة الحكم الإسلامي لا يكون في نظرهم إلا بعد ظهور الامام صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه الشريف.
أما تاريخ تأسيسه لهذا الحزب فهو عبارة عن شهر ربيع الاول من سن (1377 هـ) حسب ما قاله الحاج محمد صالح الأديب ـ حفظه الله ـ وهو يعد أحد أعضاء النواة الاولى، أو يعد إحدى اللبنات الأولية لبناء صرح الحزب.
وأيضا قال الحاج محمد صالح الأديب: إن السيد الشهيد خرج من التنظيم بعد تأسيسه إياه بحوالي أربع سنين ونصف أو خمس سنين.
وكان قصّة خروجه من التنظيم على ما حدثنا الحاج الأديب ـ حفظه الله ـ ما يلي:
(كثر الكلام من قبل بعض المغرضين لدى المرحوم آية الله العظمى السيد الحكيم على الشهيد الصدر بحجّة تأسيسه للحزب، أخيرا جاء (حسين الصافي) وهو رجل بعثي لئيم إلى المرحوم آية الله الحكيم وقال: إن السيد الصدر وآخرين مكن ذكر أسماءهم، قد أسّسوا حزبا حزب الدعوة الإسلاميّة، وبهذا سيهدمون الحوزة العلميّة، بدأ يهدد ويتكلّم ضدّ من أسماهم مؤسسين للحزب، فنهره آية الله السيد الحكيم، وقال له : أفأنت أحرص على مصالح الحوزة العلميّة من السيد الصدر: ثم أخرجه من بيته بذلّ وهوان، ثم أرسل أحد أولاده إلى السيد الصدر وقال له عن لسان والده: إن دعم كل الوجودات الإسلامية والأعمال الإسلامية هو من شأنك ومما ينبغي لك أن تقوم به ،أما أنت تحسب على جهة إسلامية معيّنة وحزب خاصّ، فهذا لا ينبغي لمن هو مثلك في المقدم العلمي والاجتماعي الشامخ، والذي يجب أن يكون دعامة لكل الأعمال الإسلامية من دون التأطر بإطار خاص.
قال السيد الشهيد سافكّر وأتأمّل في الأمر، وفي اليوم الثاني أرسل رسالة مفصّلة إلى حزب الدعوة عن طريق الحاج محمد صالح الأديب، وكانت خلاصة ما هو مكتوب في الرسالة بعد التأكيد الشديد على ضرورة استمراريّة عمل ـ حزب الدعوة الإسلامية ـ والإشادة الكبيرة بذلك: أن آية الله الحكيم طلب مني أن لا أكون في التنظيم طالبا منكم الاستمرار بجد في هذا لعلم، وأنا أدعمكم في علمكم الإسلامي المبارك.
انتهى ما أخذته من الحاج محمد صالح الأديب ـ حفظه الله.
وبعد ذلك مت الأيام والليالي، إلى أن تصدّى السيد الشهيد للمرجعيّة بالتدريج من بعد وفاة المرحوم آية الله العظمى الحكيم، وطرح أخيرا فكرته عن ضرورة الفصل بين جهاز المرجعيّة الصالحة والتنظيم الحزبي بسبب أن المرجعيّة الصالحة هي القيادة الحقيقيّة للأمّة الإسلامية وليس الحزب، وإنّما الحزب يجب عليه أن يكون ذراعا من أذرع المرجعيّة وتحت أوامرها، والتشابك بين التنظيم
(1) ما زال الكلام لسماحة السيد الحائري حفظه الله .
الإسلامي والجهاز المرجعي يربك الأمور.
وما يدرينا لعل الاستاذ الشهيد كان مؤمنا بهذه الفكرة منذ تأسيسه للحزب، وإن أجل إبرازها للوقت المناسب، فلم يكن هناك تناقض بين المرحلتين من عمله. وقد أنشأ في بيته ضمن العشرة الأخيرة من سني عمره المبارك مجلسا أسبوعيا كان يضم عينة طلابه، وكان يتداول معهم البحث في مختلف الأمور أسبوعيا كان يضم عينة طلابه، وكان يتداول معهم البحث في مختلف الأمور الاجتماعية والقضايا الأساسيّة، وكانت تطرح في هذه الجلسات الكثير من مشاكل المسلمين في شتّى أرداء العلام، وكان يبرر لم يحضر هذه الجلسات تبني الاستاذ الشهيد لتلبية حاجات المسلمين في كل مكان من البلاد الإسلامية وغيرها، وتفكيره الدائب فيكل ما ينفع الإسلام والمسلمين، وتخطيطه الحكيم للحوزات العلميّة، ولمل الشواغر العلمانيّة في كل بلد يوجد فيه تجمّع إسلامي، ولإرشاد العاملين ضد الكفر والطاغوت في جميع البلدان، وما إلى ذلك.
ولست هنا بصد سرد الأبحاث التي كانت تدور في تلك الجلسات الأسبوعية إلا بالمقدار الراجع من تلك الأبحاث إلى ما نحن بصدده من بيان استراتيجيّة في العمل السياسي وهي ثلاث نقاط:
أولا: موقفه من العمل المرحلي المعروف عن حزب الدعوة الإسلامية الذي تبنّاه عند تأسيس الحزب.
ثانيا: اطروحته للمرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة.
ثالثا: رأيه ف مدي صحّة اشتراك الحوزة العلميّة في الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة.
أما الأوّل: وهو العمل المرحلي لحزب الدعوة الإسلامية الذي تبنّاه لدى تأسيسه للحزب، فالمعروف اليوم عن حزب الدعوة هو الإيمان بمراحل أربع للعمل:
1 - مرحلة تكوين الحزب وبنائه، والتغيير الفكري للامة.
2 - مرحلة العمل السياسي التي يضمنها جلب نظر الأسلوب إلى الاطروحة الإسلامية للحزب،ومواقفه السياسّة، وتبيّنها لتلك المواقف ودفاعها عنها. 3 - مرحلة استلام الحكم.
4 - مرحلة رعاية مصالح الإسلام والأمة الإسلامية بعد استلام الحكم.
ولكن الذي نقله الاستاذ في تلك المجالس الأسبوعية لطلابه، هي المراحل الثالث الاولى كما هو مثبت في النشرات الأوّلية للحزب، ولم يتعرّض للمرحلة الرابعة.
وعلى أيّة حالة فقد تناول الاستاذ هذا العمل المرحلي بالبحث، ولم يكن غرضه من ذلك شجب أصل كبرى المرحليّة في العمل، فإنّها من أوّليات العلم الاجتماعي، وقد طبّقها فيما كتبه عن عمل المرجعيّة الصالحة، وإنّما الذي بينه في بحثه عن ذلك هو النقاش في مصداق معيّن بلحاظ الانتقال من المرحلة الاولى إلى المرحلة الثانيّة.
وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هو، أنّنا حينما نعيش بلدا ديمقراطيا يؤمن باحترام الشعب وآرائه ، ولا تجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أي حساب وكتاب، يكون بالإمكان افتراض حزب يبدأ عمله بتكوين بنية ذاتيّة بشكل سرّي، ثم يبدأ في مرحلة سياسيّة علنيّة، ومحاولة كسب الأمة إلى جانبه، وجرّها إلى تبنّي تلك المواقف السياسية ، ولكن الواقع في مثل العراق ليس هكذا، ففي أي لحظة تحس السلطة الظالمة بوجود حزب إسلامي منظّم يعلم وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام تقتّل وتشرّد وتسجن وتعذب العاملين، وتخنق العمل في تلك البلاد قبل تماميّة تعاطف الأمة معه وتحرّكها إلى جانبه، فما لم يصادف هناك تحوّل آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الاولى إلى المرحلة الثانية . قال هذا الكلام بحدود سنة 1392 هـ).
(1) مباحث الاصول ج 1,ص 87-91.
هذا أهم ما يتعلّق بموضوع تأسيس حزب الدعوة الإسلامية.
أمّا عن علاقة السيد الشهيد بحزب الدعوة بعد انفصاله منه فإن موقفه كان يتمثّل بالدعم والتأييد والمساندة بالأسلوب الذي كانت الظروف تسمح به.
ثم أعقب ذلك فترة من البرود في العلاقة كان من أسبابها أن السيد الشهيد طلب من قيادة الحزب إخراج شخص معيّن من قيادة الحزب، بسبب عدم صلاحه ـ وقد ثبت ذلك فيما بعد ـ فرفضوا ذلك، وأصرّوا على بقائه، فحدث ما يشبه القطعية بين السيد الشهيد وحزب الدعوة.
وفي سنة (1972 م) إثر الاعتقالات التي شملت الشهداء الخمسة صدرت منه الفتوى التي ظاهرها تحريم ارتباط الحوزة العلميّة بصوره عامّة بالعمل الحزبي، وكن ذلك يعود إلى أمرين مهمّين:
الأول: أن الاندماج والتلاحم بين الحوزة العلميّة والعمل الحزبي سيؤدي إلى انعكاس جميع الأخطار السياسيّة الكبيرة التي يمنى بها العمل الحزبي على الحوزة العلميّة، فإذا تم القضاء على العمل الحزبي من قبل السلطة العفلقيّة فسوف يؤدي ذلك إلى القضاء على الحوزة العلميّة أيضا.
الثاني: أن من وظيفة الحوزة العلميّة أن تشمل برعايتها جميع قطّاعات الأمة الإسلامية، والانتماء إلى العمل الحزبي يمنع عن مثل هذه الرعاية الشاملة.
وفي الفترة الأخيرة من عمره الشريف حصل تغيّر في العلاقات إلى الأحسن، وكان الحزب يعلن بين الحين والآخر عن استعداده لتنفيذ أوامر وتوجيهات السيد الشهيد، ثم عيّن أحد تلاميذه الإجلاء بما يشبه الرابط أو المنسّق بينه وبينهم،
كما كان يقدّم لهم دعما ماليا بما تسمح به الظروف.
وعن هذا الموضوع كتب سماحة السيد الحائري ما يكفي ويغني، فقد جاء في كتاب مباحث الاصول الجزء الأول الصفحة (110 ) ما يلي:
(وبعد هذا حينما اعتقلت السلطة الكافرة في العراق ثلّة من العلماء الأعلام، وثلّة من المؤمنين الكرام، كان بضمنهم الشهداء الخمسة، الشيخ عارف البصري وصحبه، وكان بضمنهم السيد الهاشمي، وكنت أنا ـ وقتئذ ـ في إيران، وأفرحت السلطة بعد ذلك عن جماعة منهم السيد الهاشمي، وبقي جماعة آخرون في الاحتجاز، أصدر الاستاذ الشهيد كلمته المعروفة التي ذكر فيها فصل الحوزة العلميّة عن العمل الحزبي، وكان هذا بتاريخ (10 شعبان 1394 هـ).
وكتبت بعدئذ رسالة إلى أستاذنا الشهيد استفسره فيها عما هو المقصود الواقعي عن هذه الكلمة، فذكرت له : إن المحتملات عندي أربعة:
1 - أن يكون المقصود بهذه الكلمة لحاظ مصلحة في أصل ذكرها ونشرها كتقية (وعلى حد تعبير علماء الاصول تكون المصلحة في الجعل).
2 - أن يكون المقصود بهذه الكلمة أولئك العلماء والطلاب المرتبطون بمرجعيّتكم، وإن اقتضت المصلحة إبرازها على شكل العموم.
3 - أن يكون المقصود بهذه الكلمة فصل طلاب الحوزة العلميّة في العراق عن العمل الحزبي درءا للخطر البعثي الخبيث عنهم، الذي يؤدي إلى إبادتهم.
4 - أن يكون المقصود بها فصل جميع الحوزات العلميّة في كل زمان ومكان عن العمل الحزبي الإسلامي ـ وعلى حدّ تعبير الأصوليين تكون القضية قضية حقيقية وليست خارجيّة ـ وعلى هذا الاحتمال الأخير يكون تعليقي على هذه الكلمة: أن هذا الإجراء سيؤدي في طول الخط إلى انحراف الحركة الإسلامية الحزبية عن مسار الإسلام الصحيح، نتيجة لابتعادهم في أجوائهم الحزبيّة عن العلماء الأعلام.
فكتب لي في الجواب : أني قصدت المعنى الأول والثاني والثالث، دون الرابع خامسا: وكان السيد الشهيد يرى ضرورة وأهمية العمل العسكري والجهادي، وقد باشر ذلك على الصعيد العملي ولو بشكل محدود في السنوات الأخيرة من عمره الشريف، وكان يقول ما معناه: إنّ هذا النظام ـ ويعني نظام العفالقة ـ قضى على كل مظاهر الحريّة في العراق بالحديد والنار، فلا بد من مقارعته بالقوّة.
ولمعرفة المزيد عن هذا الموضوع يمكن مراجعة البيانات الثلاثة التي وجّهها إلى الشعب العراقي والموجودة في هذا الكتاب فإن هذا الكتاب فإن فيها رؤية تفصيليّة عن هذا الموضوع.
هذه أهمّ النقاط التي أحببت الاشارة إليها على نحو الإيجاز والإجمال فيما يتعلّق بستراتيجيّة السيد الشهيد ونظرته إلى العمل تاركين التفصيل إلى فرصة أخرى.[/align]
-
[align=justify][align=center]المرجعيّة والحوزة في حياة الشهيد الصدر[/align]
من المواضيع الجديرة بالبحث موضوع المرجعيّة ـ فكرا وسلوكا ـ في حياة الشهيد الصدر، وكيف كان يعمل ويخطط للنهوض بها إلى مستوى الطموح الكبير، وبما يواكب متطلّبات العصر الحديث، وحاجاته الأساسيّة.
والحوزة العلميّة كمؤسسة علميّة وبكل تفاصيلها وتشعباها تعيس في ظل المرجعيّة، وتعيش المرجعيّة في كنفها، فما هو رأي السيد الشهيد بها، وكيف كان يفكّر لإعادة، بنائها، وتنظيم كافّة مرافقها الدراسية والمنهجيّة والإداريّة؟ ولا اريد هنا أن استعرض تاريخ المرجعيات والحوزة العلميّة على امتداد التاريخ، والمشاكل والصعاب التي ترشّحت منها والتي شكّلت ثقلا كبيرا على المرجعيات الواعية والموضوعيّة فيما بعد.
إنّ ذلك يحتاج إلى دراسات مستقلّة تبحث المسألة من جذورها القديمة، إنّما أشير فقط إلى ما كان منها محل اهتمام السيد الشهيد.
لقد وجد شهيدنا العظيم أن أوّل وأهم قضية يجب أن تعالج هي الحالة الذاتيّة في المرجعيّة، إذ المفروض على كل مرجعيّة أن تعتمد الموضوعيّة أسلوبا في عملها المرجعي، لأنه يحقق أكبر قدر من الخدمة الإسلام، ولا بد لكل مرجعيّة أن تكون حلقة في سلسلة كبرى، ولبنة قوية تشدّ اللبنة التي سبقتها والتي تليها، والمرجعيّة الجديدة يجب أن تواصل علمية البناء من حيث انتهت المرجعيّة التي سبقتها ، لا أن تبدأ من نقطة الصفر كما هو الحال في أسلوب المرجعيّة الذاتيّة.
وقد عالج شهيدنا الصدر ذلك بوضع اطروحة المرجعيّة الموضوعيّة التي سيأتي ذكرها.
والقضية الأخرى المهمة هي افتقار المرجعيّة والحوزة إلى نظام واضح المعالم، محدّد الصورة، يحكم كافة المجالات.
كان السيد الشهيد قد شخص تلك المشاكل، واقترح لها الحلول الناجعة قبل تصديّه العملي للمرجعيّة، فكان طموحه وتفكيره باتجاه بناء هيكل مرجعي وحوزوي متين ينسجم مع متطلبات العصر، ويلبّي المستجدّات في حياة الأمة بما يخدم الإسلام على أكمل وجه، ولم يكن بالإمكان إحداث هذا التغيير بين عشية وضحاها، خاصّة إذ أخذنا بنظر الاعتبار أجواء الحوزة، والتقاليد التي تسودها، وكذلك الإمكانات العمليّة والماديّة في مجال التنفيذ بالنسبة للسيد الشهيد، التي كانت محدودة إلى درجة كبيرة.
ولم يكن من خيار أمام سيدنا الشهيد في تلك الفترة إلا الاستفادة من الوضع الموجود، والإمكانات المتاحة لإحداث بدايات التغيير حسب، الاطروحة التي كان قد وضعها.
ومن المؤكد أن عملية التغيير التي كان يستهدفها الشهيد الصدر في تلك المرحلة كانت شاملة للمرجعيّة والحوزة من جانب، وللامّة من جانب آخر، إذ يبدو من تاريخ تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في أواخر عام (1957 م) المصادف لربيع الأوّل (1377 هـ) وتأسيس جماعة العلماء في عام(1958 م) ، أن ما كان قد صمّم على تنفيذه خطّة شاملة وعامّ لكيلهما.
وظهرت اولى معالم التغيير بتأسيس جماعة العلماء في النجف الأشرف، وإصدار مجلة الأضواء، ومما لا شك فيه أن الشهيد الصدر كان قد أدى دورا كبيرا في دعمها وتطورها وتنميتها بكل ما يملك من طاقات وإمكانات، وهو وإن لم يكن عضوا فيها إلا أن تأثيره كان يتم عن طريق خاله المرحوم آية الله الشيخ المرتضى آل ياسين، الذي كان يثق ثقة تامّة بسيدنا الشهيد الصدر وبحكته وتخطيطه.
وعن جماعة العلماء ومبررات وجودها وأهدافها كتب سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد باقر الحكيم عن تلك الفترة ما يلي:
(لابد لأن نفهم عمق الأحداث التي سوف أتناولها، والمواجهة التي وقت بين الإمام الشهيد الصدر وحزب البعث في العراق، من أن نرجع إلى بدايات سنة(1378 هـ) أي بعد التغيير في الحكم الذي حصل في العراق بد انقلاب الرابع عشر من تموز عام (1958 م)، فقد ظهرت على سطح المسرح السياسي في العراق مجموعة من التيّارات السياسيّة والفكريّة، بعد أن حصل الشعب العراقي نتيجة الانقلاب على بعض المكاسب السياسيّة والاجتماعيّة.
وقد احتدم الصراع في المرحلة الاولى بين التيار الماركسي الذي كان يقودوه الحزب الشيوعي العراقي والذي كان يحصل على الدعم المعنوي من قائد الانقلاب عبد الكريم قاسم من جانب، ومجموعة التيّارات السياسية الأخرى كالتيار القومي الذي كان يجمع بين الناصريين والبعثيين وغيرهم، والذي كان له وجود سياسي في الحكم وفي الشارع، بسبب الدعم الذي كان يحصل عليه من الجمهورية العربيّة المتّحدة حينذاك بقيادة جمال عبد الناصر، وكالتيار الإسلامي الذي كانت تتعاطف معه جماهير واسعة من الشعب العراقي المسلم دون أن يكون له وجود سياسي قوي، عدا بعض الأحزاب السياسية الإسلامية الصغيرة:
وقد وجد علماء النجف الأشرف أن من الضروري أن يطرح الإسلام كقوّة فكريّة وسياسيّة أصيلة تنتمي إلى السماء، وتمتد جذورها في الشعب المسلم.
وولدت من أجل ذلك اطروحة (جماعة العلماء) التي مكن أن نقول بحق إن وجودها يرتبط بشكل رئيسي بعقليّة السيد الشهيد الصدر، واهتمامات المرجعيّة الدينيّة وطموحاتها الكبيرة التي كانت تتمثّل بالمرحوم الإمام السيد محسن الحكيم، بالإضافة إلى الشعور بالحاجة الملحّة لمثل هذه الاطروحة لدى قطّاع واسع من الأمة.
ورغم أن السيد الشهيد لم يكن أحد أعضاء جماعة العلماء لصغره عمره، إلا أنّه كان له دور رئيسي في تحريكها وتوجيهها، كما ذكرت ذلك في مذكّراتي عن جماعة العلماء في النجف الأشرف.
ومن خلال ذلك تمّكن علماء النجف الأشرف أن يطرحوا الخطّ الإسلامي الصحيح، ويعملوا على القوّة السياسيّة الإسلاميّة المتميّزة.
وقد باشرت جماعة العلماء ـ بالرغم من قوّة الأحداث، وعدم توفّر الخبرة السياسيّة الكافية، وتخلف الوعي الإسلامي في الأمة ـ عملها من أجل إرساء قواعد هذا الخطّ الأصيل، وذلك من خلال بعض المنشورات والاحتفالات الجماهيريّة، والاتّصال ببعض قطّاعات الشباب، وإصدارها لمجلة الأضواء الإسلامية التي كانت تشرف عليها لجنة توجيهيّة مكوّنة من شباب العلماء، كان له اتّصال وثيق بالسيد الشهيد الصدر.
بعد مضي أقل من عام تمكّنت جماعة من العلماء من بناء قاعدة إسلامية شابّة، ولذا قرّرت هذه الجماعة إصدار نشرة الأضواء الإسلاميّة كأداة للتعبير عن وجودها من ناحية، ولمواصلة السير في الطريق الذي رسمته من ناحية ثانية.
وقد بعثت مجلة الأضواء من خلال خطها الفكري والسياسي، ومن خلال ما رسمته من معالم الطريق الإسلامي وخطوطه العريضة، وبالأخص الخطوط التي كانت ترسم ضمن موضوع ـ رسالتنا ـ الذي كان يكتبه السيد الشهيد باسم جماعة العلماء، وبإذنها طبعا بعث الروح الإسلامية في قطّاعات واسعة من الجماهير.
وسافرت إلى لبنان في سنة (1380 هـ) حيث كانت طموحاتنا أن أنقل أفكارنا إلى ذلك البلد، وودعت السيد الاستاذ الشهيد حيث كان في الكاظميّة حينذاك بعد أن عشت معه أياما، وكنت أراسله باستمرار في رسائل طويلة، وكان يجيبني بأخرى يتحدث فيها عن عواطفه الفيّاضة وهمومه الإسلاميّة.
وفي هذه الرسائل بدأ السيد الشهيد يحّدثني عن هجمة قاسية شرسة، قام بها حزب البعث تستّرت ببعض أهل العلم، فلقد كانت الواجهة في هذه الهجمة بعض من ينتسب إلى أهل العلم، ولكن كانت يد حزب البعث وراءها، حيث يطرح السيد الاستاذ في بعض رسائله بأن المحامي (حسين الصافي) الذي كان معمما من قبل، ومن عائلة علميّة، وله صلات شخصيّة وطيدة ببعض أهل العلم، ومسؤول حزب البعث في النجف الأشرف كان وراء هذه الحملة، وتحدّث إلى بعض الأشخاص لإثارتهم،
فقد كتب السيد الشهيد في صفر(1380 هـ) يقول:
لقد كان بعدك أنباء وهنبثة،وكلام ، وضجيج، وحملات متعدّدة جنّدت كلها ضد صاحبك وبغية تحطيمه ... ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء، أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم فأخذوا يتكلّمون وينتقدون، ثم تضاعفت
(1) يعني نفسه رضوان الله عليه .
الحملة، وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي ـ ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببيّة وارتباط بين الحملتين، أو لا ـ تنبري هذه الجماعة .... فتذكر عنّي وعن جماعة ممّن تعرفهم شيئا كثيرا من التهم من الأمور العجيبة.)
ومن الملاحظ أن البعثيين استعملوا في هذه الحملة أسلوبين رئيسين: الأوّل: أسلوب الاتّهام بأن هذه المجلة لا تعبّر عن رأي جماعة العلماء، وإنّما هي تعبّر عن رأي تنظيم سياسي ديني سرّي يستغل اسم جماعة العلماء، وقد كان الاتّهام بالتنظيم السياسي في تلك الفترة الزمنيّة يعتبر تهمة شنيعة، بسبب التخلّف السياسي الديني في أوساط المتديّنين، وبالأخص أهل العلم منهم. الثاني: موضوع (رسالتنا) الذي يكتب باسم جماعة العلماء، وكان يكتبه السيد الشهيد الصدر دون أن يعرضه على أحد منهم، فقد كتب السيد الشهيد في نفس الفترة، يقول:
كما أن هناك زحمة من الإشكالات والاعتراضات لدى جملة من الناس، أو (الآخوندية) في النجف على النشرة، وخاصّة (رسالتنا)، باعتبار أنها كيف تنسب سلفا، وأن في ذلك هدرا لكرامة العلماء، هذا في الوقت الذي يقول الأخ.... إن الكلمة في بغداد متّفقة على أن (رسالتنا) كتابة تجديد وابتكار تختص بمستواها الخاصّ عن بقية الأضواء.)
وقد كتب في 6 ربيع الأول 1380 هـ:
( لا أستطيع أن أذكر تفصيلات الأسماء في مسألة جماعة العلماء وحملتها على الأضواء.... ولكن اكتفي بالقول: بأن بعض الجماعة كان نشيطا في زيارة أعضاء جماعة العلماء لإثارتهم على الأضواء، وعلى (رسالتنا)، حتّى لقد قيل: إن الشيخ الهمداني الطيّب القول قد شوّهت فكرته عن الموضوع.... وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل بالنسبة إلى جملة من الطلبة مع الاختلاف في بعض الجهات.)
وقد كتب أيضا:
(فإنّني أجيبك على سؤالك فيما يخصّ من موقف الخال، فإنّ الشيخ الخال كان في الكاظميّة بعيدا عن الأحداث نسبيا، ولم يطّلع إلاّ على سطحها الظاهري، وهو ماض في تأييده (للأضواء) ومساندته لها، وقد طلب.... أن يكتب إلى بعض جماعة العلماء لتطييب خاطرهم، وجلب رضاهم عن (الأضواء)....فكتب إلى.. وأخبره بأن (الأضواء) لم تكن تصدر إلا بعد مراقبته وإشرافه، أنّها تناط الآن .. كما أخبره بأن كاتب (رسالتنا) سوف ينقطع عن الكتابة...).
وأيضا كتب السيد الشهيد:
( فقد حدثني شخص في الكاظمية أنه اجتمع في النجف الأشرف فأخذ يذكر عنّي له سنخ التهم التي كالها حسين الصافي من دون مناسبة مبرّرة. وعلى كل حال، عسى أن يكون له وجه صحّة في عمله إن شاء الله).
وقد كان لهذه الإثارة دور كبير في تحريك جماعة العلماء بالخصوص ضد السيد الشهيد، فأنّ دوره الأساسي كان في أوساط المتشدّدين من أهل العلم البعيدين عن التيار الإسلامي وهمومه، ومشاكل الأمّة وانحرافاتها الفكريّة والسياسيّة، ولذا كان تأثيره على جماعة العلماء محدودا...
وقد أحسن السيد الاستاذ الشهيد الصدر في معالجة الموقف بهدوء حيث تمسّك بالصبر والسكوت، فقد كتب يقول:
(وأما واقع (الأضواء) هنا فهو ناقع المجلة المجاهدة في سبيل الله، وقد هدأت ـ والحمد لله ـ حملة جماعة العلماء علها بعد أن تم
الأمة وتأثير فيها).
تأليف كتاب فلسفتنا:
ومن نشاطات السيد الشهيد في تلك المرحلة تأليف كتاب (فلسفتنا) الذي لبّي فيه أكثر حاجات الأمة في تلك الفترة ولازال، والذي قارع فيه الفكر ماركسي بأجلى بيان، وأقوى حجة، وكان عازما على طبعه باسم (جماعة العلماء) دعما وتأييدا لها، إلا أن اعتراض البعض على بعض أفكاره صرفه عن ذلك.
تأسيس مدرسة العلوم الإسلامية.
والخطوة الأخرى التي كانت باتّجاه تغيير الأوضاع على الصعيد الحوزوي مساهمته في تأسيس (مدرسة العلوم الإسلامية) والتي تعرف بالدور، وكانت تحت إشراف آية الله العظمى السيد الحكيم، وهي أل محاولة لتنظيم الوضع الدراسي في الحوزة، والخطوة الاولى نحو اعتماد أسلوب المراحل في الدراسة الحوزوية.
وقد وقف السيد الشهيد بكل ما كان يتاح له من إمكانات لدعم مشروع مدرسة العلو الإسلامية، وقد طلب من أفضل تلاميذه تدريس أبسط المواد الدراسيّة في مختلف المراحل الدراسيّة، حرصا منه على إنجاحه.
وعلى كل حال، لم تسلم جماعة العلماء ولا مدرسة العلوم الإسلامية (الدورة) من معارضة قويّة استهدفت وأدهما معا وهما في المهد من قبل بعض أعضاء جماعة العلماء، ولعل الرسائل التي كتبها السيد الشهيد إلى سماحة السيد محمد باقر الحكيم تكشف عن حجم المعاناة التي كان الشهيد الصدر يعانيها من جرّاء هؤلاء وأمثالهم. هذه أهم النشاطات التي كانت قائمة على أساس الاطروحة الشاملة التي
(1) مجلة الجهاد العدد (14)الصادر في شهر جمادي الآخرة سنة 1401هـ .
وضعها الشهيد الصد رفي فترة ما قبل التصدي للمرجعيّة.
وبعد وفاة الإمام السيد الحكيم بدأت تقريبا مرحلة التصدّي الفعلي لمرجعية السيد الشهيد، ولم يكن راغبا بذلك لأنّ الشهيد الصدر كان يؤمن بضرورة تكريس كل الطاقات، وتوحيد كافّة الصفوف باتجاه مرجعيّة واحدة، وهذا مبدأ عام يؤمن به ، وقاعدة أساسيّة يتبنّاها، يضاف إلى هذا أن الفراغ الذي تركه السيد الحكيم كان خطيرا إلى حد كبير، كما أن النظام البعثي العميل كان قد أعد كل مستلزمات تدمير المرجعيّة والحوزة العلميّة والحركة الإسلامية، ومما لا شك فيه أن وفاة الحكيم كانت فرصة ثمينة لتنفيذ هذا المخطط. وقد سمعت سماحة السيد الحائري يقول: إن السيد الشهيد كان قلقا ومتوجسا منذ اليوم الأوّل لوصول حزب البعث إلى السلطة لأنّه أدرك من تلك الفترة نواياهم الشريرة.
وهكذا فإن الظروف الموضوعية كانت تفرض وجود مرجعيّة واحدة وقويّة، وكان من الضروري تخطي المراحل التي كانت تستغرق زمنا طويلا لتحقيق ذلك.
وهنا وجد الشهيد الصدر أن المرجع المرشّح لذلك هو سماحة آية الله العظمى السيد الخوئي فقد كانت له أرضيّة وشهرة أكبر من المراجع الآخرين على مستوى الحوزة والأمة، فأرجع إليه في التقليد والفتوى ـ حسب شروط معيّنة كان قد أتّقف عليها معه ... وحرص على تسديد مرجعيّته وتأييدها بكل قوّة رغم ما كلّفه ذلك من مشاكل وصعاب، كما أن الشهيد الصدر اتّخذ موقفا رافضا لكل المحاولات التي كانت من قبل أنصاره ومحبّيه لطرحه على الساحة كمرجع للتقليد.
وكان المفروض على المرجعيّة المرشّحة أن تلبّي متطلّبات المرحلة، وحاجات الأمة، والعمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى، وأن لا تقف طموحاتها عن أهداف محدودة.
وأثبتت الأحداث أن الأمور تجري في ظل هذه الأجواء إلى ما لا يحمد عقباه، وأن الضرورة تفرض التصدّي السريع لمرجع يفهم الحياة من كل زواياها ومناحيها، وأن الضرورة تفرض التصدّي السريع لمرجع يفهم الحياة من كل زواياها ومناحيها، ويفهم الظروف والأوضاع، وما يجب ويلزم، وما لا يحب ولا يجوز، ولا يجعل التقية خطا ثابتا في عمله، لا يفرّق فيه بين (الكيان المرجعي) كمقام ربّاني ومسؤولية خطيرة واجبها حماية الإسلام والأمة من كافّة الأخطار، وبين المرجع كشخص وفرد من أفراد الأمة له الحق في حماية نفسه بالطرق المشروعة من دون التأثير على الكيان الإسلامي العام.
وأتذكر أن من الأمور التي هزت الشهيد الصدر في تلك الفترة، أن أحد المؤمنين سأل أحد المراجع الكبار عن جواز أو حرمة الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق، فأفتاه بالجواز، وكان ذلك المرجع خائفا من أن يكون السائل من جواسيس السلطة، أو أنه يخشى من انعكاس ذلك على السلطة لو أفتى بالحرمة، مما يسبب له أضرارا شخصيّة، وإلا فنحن نعلم أن هذا المرجع يحرّم في الواقع الانتماء لحزب البعث العميل. وكان تعليق السيد الشهيد على هذه القضية وغيرها أن الوضع إذا اسمر هكذا فأن الأجيال التي سوف تأتي سترى الانتماء إلى حزب البعث أمرا طبيعيا لا حرج فيه، ولهذا السبب تصدّي إلى الافتاء بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صوريا، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، فكان هو المرجع الوحيد الذي أفتى بذلك وحزب البعث في أوج قوّته، وكان ذلك جزءا من العلّة وأحد الأسباب التي أدت إلى استشهاده.
هذه الأمور وغيرها شكّلت ضغطا على السيد الشهيد للتصدّي العملي للمرجعيّة ولو بمستوى محدود جدا، وإن كان يميل نفسيا إلى خلاف ذلك، وكان يحبذ تأجيل عملية التصدي إلى وقت آخر. وأستطيع أن أقول: إن المرجعيّة هي التي أقبلت عليه، وإن الأمة هي التي فرضت هذا الواقع وجرّته إليه، بالإضافة إلى السبب الذي أشرنا إليه من قبل، ولم يتصدّ هو إلى ذلك.
ومن المعروف أن السيد الشهيد ابتعد عن كل المظاهر التي كانت تلازم ـ عادة ـ عمليّة التصدّي، فلا جهاز دعائي يرشد الناس إلى تقليده، ولا رسالة عملية توزع مجانا ولا تمييز في إعطاء الرواتب على أساس حضور البحث، أو الولاء الشخصي، وابتعد عن كل مظهر من المظاهر التي يعرف المرجع من خلالها، والأعظم من كل ما تقدم استعداده الدائم للذوبان في أي مرجعيّة صالحة تخدم الإسلام، والتنازل عن وجوده كلّه لصالحها، وكان هذا الخط ثابتا على طول حياته المرجعيّة. ففي بداية تلك المرحلة ـ وكما حدّثني سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد عبد الهادي الشاهرودي وهو أحد طلابه المقربين ـ أن السيد الشهيد خاطب خاصّة طلابه في اجتماع خاصّ بهم فقال لهم:
(يجب عليكم أن لا تتعاملوا مع هذه المرجعيّة ـ وقصد مرجعيّة ـ بروح عاطفية وشخصية، وأن لا تجعلوا ارتباطكم بي حاجزا عن الموضوعيّة، بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الإسلام، فأي مرجعيّة أخرى استطاعت أن تخدم الإسلام وتحقّق له أهدافه يجب أن تقفوا معها، وتدافعوا عنها، وتذوبوا فيها، فلو أن مرجعيّة السيد الخميني مثلا حقٌّقت ذلك، فلا يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيّة).
وكان هذا الكلام قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بعشر سنوات تقريبا.
وأما ما بعد ذلك، فيكفينا ما كتبه بخطّه الشريف في الرسالة التي وجّهها إلى طلابه في إيران في أوائل انتصار الثورة الإسلامية المباركة، والتي أعلن فيها بوضوح عن تنازله وذوبانه في مرجعيّة السيد الإمام وأكّد فيها بوضوح كالم على أنّ المرجعيّة وسيلة لا غاية، فمتى ما حقّقت مرجعيّة من المرجعيّات الصالحة الأهداف الخيّرة توخّاها فيجب أن تنصهر المرجعيّات الأخرى فيها، فقد كتب:
(إن الواجب على كل أجد منكم، وعلى كل فرد قدّر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة أن يبذل كل طاقاته، وكل ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كله في جمة التجربة، فلا توقّف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام،ولا حد للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام... ويجب أن يكون واضحا أيضا أن مرجعيّة السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لا بدّ من الالتفات حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم....).
وقد سمعته مرارا يقول أمام بعض من كان يعترض على تأييده للسيد الإمام والثورة الإسلامية:
(لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام، لما تردّدت في ذلك، إنّ السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إلى تحقيقه....).
ومن الواضح أنّه لا مصلحة شخصية وراء ذلك الاندفاع للتنازل عن وجود مرجعي قائم قد إلى معظم العالم الإسلامي، إلا مصلحة الإسلام الكبرى، والحفاظ على كيان الرسالة ومصالح الأمة.
أضف إلى ذلك أن القاعدة التي انطلق منها السيد الشهيد إلى المرجعيّة، والتصدّي لأمور المسلمين كانت من القوّة المتانة بالقدر الذي يكفي للامتداد السريع إلى كافة طبقات الأمة المثقّفة الواعية التي تشكّل قاعدة البناء القويّة لكلّ تحرّك وعمل، وتلك القاعدة هي مؤلّفات السيد الشهيد، وما تميّزت به من عمق وإبداع وأصالة.
وعلى صعيد الحوزة العلميّة استطاع السيد الشهيد أن يثبت فقاهة منقطعة النظير وهو في المرحلة الاولى من عمره العلمي، وتجلّى ذلك أوّلا يما ضمّن بحثه التاريخي (فدك في التاريخ) من أبحاث فقهيّة كانت قد عبّرت عن عمق وأصالة قلّ نظيرها لمن هو في مثل عمره، ثم جاء بعد ذلك ما كتبه في مجال الفقه والأصول، ليعزز هذه الرؤية:
لقد أثير الكثير من الشبهات حول السيد الشهيد بهدف إسقاطه، والقضاء على مرجعيّة، لقد قبل: إنّه عاطفي لا يصلح للمرجعيّة، وقيل : إنّه حزبي، والحزبيّة تتنافى مع المرجعيّة، وهذه الشبهات وإن كانت تافهة وسخيفة، إلا أنّه لم يجرؤ أحد على التشكيك في فقاهته وعمقه في أيّ ميدان من ميادين المعرفة، وكان الجميع يعترفون له بذلك تصريحا، أو تلميحا.
وهكذا أستطيع القول بأن مرجعيّة السيد الشهيد كانت تمتلك كل مقوّمات البقاء والاستمرار، مستمدّة ذلك من نفس المقوّمات والخصائص التي كان السيد الشهيد يتمتّع بها.
وبالنسبة للمرجعيّة فقد كان قد وضع لها مخطّطا شاملا، ونظاما دقيقا في محاولة لإخراجها من الطابع الخاص إلى النظام المؤسساتي الثابت، الذي لا يتغير بتبدّل الشخص. وما دام السيد الشهيد قد كتب هذا النظام بنفسه، فلا أجد ضرورة إلى الحديث عنه، ويكفينا أن ننقل ما كبه تحت اسم (المرجعيّة الموضوعيّة) فهو يكفي لإعطاء رؤية تفصيليّة عن هذا الجانب.[/align]
-
[align=justify][align=center]المرجعيّة الموضوعيّة
بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
إن أهم ما يميز المرجعيّة الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقة التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محّددة لهذه الأهداف، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي، تتصرّف دائما على أساس تلك الأهداف بدلا من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئيّة، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة.
وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادرا على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كل الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.
أهداف المرجعيّة الصالحة:
ويمكن تلخيص أهداف المرجعيّة الصالحة رغم ترابطها، وتوحّد روحها العامّة في خمس نقاط:
1 - نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.
2 - أيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.
3 - إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعيّة، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادرا على مد كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.
4 - القيمومة على العمل الإسلامي،والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده، وتصحيح ما هو خطأ.
5 - إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القياديّة للأمّة بتبّني مصالحها، والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.
ووضوح هذه الأهداف للمرجعيّة وتبيّنها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعيّة ويحدث تغييرا كبيرا على سياستها العامة، ونظراتها إلى الأمور، وطبيعة تعاملها مع الأمة.
ولكن لا يكفي مجرد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على اكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعيّة الصالحة لأن الحصول على ذلك يتوقف إضافة إلى صلحا المرجع ووعيه واستهدافه على عمل مسبق على قيام المرجعيّة الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات على أسلوب المرجعيّة، ووضعها العملي من ناحية أخرى.
أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعيّة الصالحة، فهي تعني أن بداية نشوء مرجعيّة صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الأمة، وإعدادها فكريّا وروحيّا للمساهمة في خدمة الإسلام،وبناء المرجعيّة الصالحة، إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع وحده غير كاف لإيجاد المرجعيّة الصالحة حقّا، وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.
وبهذا كان لزاما على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعيّة إلى مرجعيّة صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة مّا، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـ بالرغم من صلاحهم ـ يشعرون عند تسلّم المرجعيّة بالعجز الكامل عن التغيير لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحدّدوا مسبقا الأهداف الرشيدة للمرجعيّة، والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.
[align=center]تطوير أسلوب المرجعية:[/align]
وأمّا فكرة تطوير أسلوب المرجعيّة وواقعها العملي، فهي تستهدف:أوّلا: أيجاد جهاز عمليّ تخطيطي وتنفيذي يقوم على أساس الكفاءة،
والتخصّص، وتقسيم العمل، واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة.
ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلا من الحاشية التي تعبّر عن جهاز عفوي مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة، وبدون أهداف محدّدة واضحة.
ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة، تتكامل وتنمو بالتدريج إلى إليه الجهاز العمليّ للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله.
1 - لجنة، أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلميّة، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل (الخارج)، والإشراف على دراسات الخارج، وتحدّد المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة، وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
2 - لجنة للانتاج العلميّ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث، ومتابعة سيرها، وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام، والتوافر على إصدار شئ كمجلة، أو غيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.
3 - لجنة، أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتّبع سيرهم وسلوكهم، واتصالاتهم والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب، أو عند طلب المرجع.
4 - لجنة الاتصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعيّة في المناطق التي لم تّتصل مع المركز، ويدخل في مسؤوليتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتصال بها، وإيجاد سفرة تفقّديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع، أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم، وتولّي متابعة السير بعد ذلك، ويدخل في صلاحيتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات، كفرصة الحجّ.
5 - لجنة رعاية العمل الإسلامي، والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي، وتكوين فكرة عن كل مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة. 6 - اللجنة الماليّة التي تعنى بتسجيل المال، وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليّين والسعي وفي تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة الجهاز، مع التسجيل والضبط.
ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتٍّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد، ومن الطبيعي أن يبدأ الجهاز محدودا وبدون تخصّصات حدّية تبعا لضيق نطاق المرجعيّة، وعدم وجود التدريب الكافي، والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسيع والتخصّص.
وثانيا: إيجاد امتداد افقي حقيقي للمرجعيّة يجعل منها محورا قويّا، تنصبّ فيه قوى كل ممثلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم لأن المرجعيّة حينما تتبنى أهدافا كبيرة، وتمارس عملا تغييرا واعيا في الأمة لابد أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ، لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثّليها في العالم. وبالرغم من انتساب كل علماء الشيعة تقريبا إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتساب نظري وشكلي، لا يخلق المحور المطلوب، كما هو واضح.
وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعي، فالمرجع تاريخيا يمارس عمله المرجعي كله ممارسة فرديّة، ولهذا لا تشعر كل القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤولية والتضامن الجاد معه في الموقف. وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة، والقوى الممثّلة له دينيّا، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس فسوف يكون العمل المرجعي موضوعيّا، وإن كانت المرجعيّة نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع، غير أن هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدّد له أسلوب الممارسة، وإنّما يتحدد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف، والمصالح العامّة.
وبهذا الأسلوب الموضوعي من الممارسة يصون المرجع من علمه المرجعي من التأثر بانفعالات شخصية ، ويعطي له بعدا وامتدادا واقعيا كبيرا، إذ يشعر كل ممثلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليات العمل المرجعي، وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس. وسوف يضم هذا المجلس تلك اللجان التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعيّة، وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النقطة.
ولئن كان في أسلوب الممارسة الفرديّة للعمل المرجعي بعض المزايا، كسرعة التحرّك، وضمان درجة أكبر من الضبط والحفظ، وعدم تسرّب عناصر غير واضحة إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعي، فإن مزايا الأسلوب الآخر أكبر وأهمّ.
ونحن نطلق على المرجعيّة ذات الأسلوب الفردي في الممارسة اسم (المرجعيّة الذاتية)، وعلى المرجعيّة ذات الأسلوب المشترك، أو الموضوعي في الممارسة اسم (المرجعيّة الموضوعيّة).
وهكذا يظهر أن الفرق بين المرجعيّة الذاتيّة والمرجعيّة الموضوعيّة ليس في تعيين شخص المرجع الشرعي الواقعي، فإن شخص المرجع دائما هو نائب الإمام، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة.
وهذا يعني أن المرجعية من حيث مركز النيابة للإمام ذاتيّة دائما، وإنّما الفرق بين المرجعيّتين في أسلوب الممارسة.
وثالثا: امتدادا زمنيا للمرجعيّة الصالحة لا تتٍّسع له حياة الفرد الواحد، فلابد من ضمان نسبي لتسلك المرجعيّة في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعيّة الصالحة، لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعيّة إلى من لا يؤمن بأهدافها الواعية. ولابد أيضا من أن يهيئ المجال للمرجع الصالح الجديد،ليبدأ ممارسة مسؤوليته من حيث انتهى المرجع العام السابق، بدلا عن أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاق هذه البداية، وما تتطلّبه من جهود جانبية. وبهذا يتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.
ويتم ذلك عن طريق شكل المرجعيّة الموضوعيّة، إذ في إطار المرجعيّة الموضوعيّة لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات، ويوجد الموضوع وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعي الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأمّا الموضوع فهو ثابت، ويكون ضمانا نسبيّا إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلّو المركز، وثقة الأمة به ـ القدرة دائما على إسناد مرشّحة، وكسب ثقة الأمة إلى جانبه، وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريق الحلّ.
[align=center]مراحل المرجعيّة الصالحة:[/align]
والمرجعيّة الصالحة ثلاثة مراحل:
1 - مرحلة ما قبل التصدّي الرسمي للمرجعيّة المتمثّل بطبع رسالة عمليّة، وتدخل في هذه المرحلة أيضا فترة ما قبل المرجعيّة إطلاقا.
2 - مرحلة التصدي بطبع الرسالة العمليّة.
3 - مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الديني.
وأهداف المرجعيّة الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث. وفي المرحلة الاولى يتم إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا إليه سابقا وإلى ضرورته، لقيام المرجعيّة الصالحة.
وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعيّة ممارسة أقرت إلى الفرديّة بحم كونها غير رسميّة، ومحدودة في قدرتها وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعي، فالمرجعيّة في هذه المرحلة ذاتيّة، وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعيّة الموضوعيّة عن طريق تكوين أجهزة استشارية محدودة، ونوع التخصص في بعض الأعمال المرجعيّة.
وأما في المرحلة الثانية، فيبدأ عمليا تطوير الشكل الذاتي إلى الشكل الموضوعي، ولكن لا عن طريق الإعلان عن أطروحة المرجعيّة الموضوعيّة بكاملها، ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين لأن هذا وإن كان يولّد زخما تأييديا في صفوف بعض الراشدين في التفكير،ولكنّه من ناحية يفصل المرجعيّة الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المحلة، ومن ناحية أخرى يضطرها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعية الموضوعيّة ممارسة المرجعيّة الصالحة لأهدافها، ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعدّدة، بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعيّة، وقدرات المرجعيّة البشريّة والاجتماعيّة، يربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات، ويوسّع منه حتى تتمخض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعيّ.
ويتأثر سير العمل في تطوير أسلوب المرجعيّة وجعلها موضوعيّة بعدة عوامل في حياة الأمة فكريّة وسياسيّة، وبنوعيّة القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعيّة الموضوعيّة، ومدي وجودها في الأمة، ومدى علاقتها طردا أو عكسا مع أفكار المرجعيّة الصالحة. ولا بد من أخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار، والتحفّظ من خلال مواصلة عملية التطوير المرجعي عن تعريض المرجعيّة ذاتها لانتكاسة تقضي عليها، إلا إذا لو حظ وجود مكسب كبير في المحاولة، ولو باعتبارها تمهيدا لمحاولة أخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتّب على تفتّت المرجعيّة الصالحة التي تمارس تلك المحاولة).
كما أن السيد الشهيد أضاف بعض الملحقات والاقتراحات لمشروع المرجعيّة الموضوعيّة فيما بعد، وقد لخّصها سماحة آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه (مباحث الاصول) بما يلي:
1 - اقتراح إنشاء حوزات علميّة فرعية في المناطق التي تساعد على ذلك ترفد بها الحوزة العلميّة الامّ.
2 - اقتراح أيجاد علماء في الفقه والأصول والمفاهيم الإسلامية في سائر أصناف الناس، فليكن لنا من ضمن الأطباء علماء، ومن ضمن المهندسين علماء، وما إلى ذلك من الأصناف، ولا يشترط في هؤلاء العلماء التخصّص والاجتهاد في الفقه والأصول، ويكون كل من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، يبث العلم والمعرفة وفهم الأحكام الشرعيّة، والمفاهيم الإسلامية فيما بينهم.
3 - ربط الجانب المالي للعلماء والوكلاء في الأطراف بالمرجعيّة الصالحة، فلا يعيش الوكيل على ما تدر المنطقة عليه من الحقوق الشرعية بل يسلّم الحقوق كاملة إلى المرجعيّة، وتموّله المرجعيّة ليس بالشكل المتعارف في بعض الأوساط من إعطاء نسبة مئويّة من تلك الأموال كالثلث، أو الربع، ممّا يجعل علاقة الوكيل بالمرجعيّة سنخ علاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال، بل بشكل تغطية
(1) الجزء الاول من القسم الثاني ،ص 99.
مصاريف الوكيل عن طريق عطائين من قبل المرجعيّة:
الأوّل: راتب شهري يكفل له قدرا معقولا من حاجاته الضرورية.
الثاني: عطاء مرن ويغر محدّد، يختلف من شهر إلى شهر، وقد لا يعطى في بعض الأشهر، وقد يضاعف أضعافا مضاعفة في بعض الأشهر ويكون المؤثر في تقليل وتكثير هذا العطاء عدة أمور:
أحدها : احتياجاته بما هو إنسان، أو بما هو عالم في المنطقة، فإنها تختلف من شهر إلى شهر.
والثاني : مقدار ما يقدمه للمرجعية من أموال وحقوق شرعية.
والثالث : مقدار ما يقدمه للمنطقة من أتعاب وجهود.
والرابع : مقدار ما ينتج في تلك المنطقة من نصر للاسلام.
كما أن هذه الأمور قد تؤثر أيضا في تحديد مقدار العطاء المتمثل في الراتب المقطوع.
4_ دعم المرجعية الصالحة لمكتب صالح ونظيف من بين المكاتب، وهي التي تسمى في النجف (البرّانيّات) بحيث يصبح ما يصدر من ذاك المكتب ممثلا في نظر الناس بدرجة خفيفة لرأي المرجعية.
وفائدة ذلك : أن المرجعية الصالحة قد تريد أن تنشر فكرة سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك من دون أن تتبناها مباشرة لمصلحة في عدم التبني المباشر، أو تريد ان تفاوض السلطة في أمر من الأمور بشكل غير مباشر، فذاك المكتب يتبنى أمثال هذه الأمور.
عقبات التصدي للمرجعية:
أما المشاكل والعقبات التي واجهها (رضوان الله عليه) بعد التصدي، فلا تكاد تحصى، لكثرتها وتنوعها، وبعضها مصدره السلطة، والآخر مصدره المجتمع الذي عاش فيه، وبعض الجهات في الحوزة.
إن أهم معاناة كان يعيشها الشهيد الصدر رحمه الله هي عدم قدرة الحوزة على استيعابه، وفقدان الفهم الكافي له في مجتمعه. فكان يشعر بغربة قاتلة في ظل تلك الأجواء التي جعلته بين الحين والآخر يتمنى الموت. كان يقول حينما تتراكم عليه المشاكل الناشئة من هذا الوضع:
(لقد بلغت من العمر ما بلغه أبي وأخي، فلم لا يعاجلني الموت ويريحني).
وكان (رضوان الله عليه) صبورا كتوما، لا يشتكي، ولكن في بعض الاحيان كان الصبر يعيا أمام عظم المشاكل، فتصدر منه تلك الأنات واللوعات، والله يعلم إلى أي مدى كان الهم يتصاعد ، فيضطر إلى الشكوى، بل أي مشاكل كانت تلك التي لا يطيقها ذلك القلب الكبير.
كان الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) يسعى لإحداث تغيير في كيان الحوزة والمرجعية من الأساس، بما يلبي الحاجات الحاضرة والمستقبلية، وبما ينسجم مع متطلبات العصر والحياة، ويحقق للمرجعية والحوزة الحماية الكاملة، والاستقرار الثابت.
وحتى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الأمة، ما كان إلا من أجل حماية كيان الإسلام والأمة الإسلامية، ومن الغريب أن البعض كان يسمح لأبنائه بالانتماء إلى حزب البعث الصليبي، ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الإسلامية. كان البعض ينتقد العلماء أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي للعراق فيقول: إنهم حرّموا على أبنائنا دخول المدارس الإنجليزية في العراق، ولم يفتحوا لهم مدارس إسلامية، واليوم أسس لهم العلماء حزبا إسلاميا ليحصنهم من الانتماء إلى حزب البعث، أو الحزب الشيوعي ومن الإلحاد عموما فإذا بهم كالبنيان المرصوص ضده. ولو أنهم وقفوا عند حدود معقولة، وناقشوا الأمر بروح موضوعية وتعقّلوا مدى صحة هذا الأسلوب أو ذاك، لكان أمرا سائغا ومنطقيا، أما أن يعتبروا ذلك انحرافا، ويجعلوه حربة يحملونها بيد، وتحملها السلطة باليد الأخرى، فتسفك بها الدماء، وتهتك بها الأعراض، وتستحل الحرمات، فهو أمر بمكان من الخطورة جعل قلب الشهيد الصدر يتفجر دما، وروحه تفيض حزنا وألما.
إن الجهل الذي كان يملأ قلوبهم، أو قل الحقد الذي أعماهم وأضلهم، كان يخيل لهم أن المسألة محدودة بالشهيد الصدر فقط، ولن تتعداه إلى سواه، فإذا كان اتهامه بالحزب خير وسيلة للقضاء عليه فليكن هو الأسلوب المتبع.
وكان رحمه الله حينما تبلغه الاتهامات والافتراءات التي توجّه إليه من قبل بعض الأطراف في الحوزة يقول: (إن السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين إلا بسبب ظروفي وأوضاعي الخاصة، وإلا فإن هدفها أكبر وأشمل، إنها استهدفت الوجود العام كله، المرجعيات كلها، والحوزات كلها بغض النظر عن فكرة الاتهامات الحزبية، وما ذريعة الحزب إلا أداة لتضليل الناس).
والغريب أن هؤلاء الذين كانوا يشكلون جبهة متراصة لحرب السيد الشهيد والقضاء عليه، والذين يعتبرون أنفسهم في طليعة المؤمنين الموالين لأهل البيت لم يرتدعوا حتى بعد أن امتدت يد العفالقة إلى شعائر الإمام الحسين عليه السلام، وقتل زواره وإبادتهم في كربلاء، وفي الطريق إليها في انتفاضة صفر البطولية، لقد سكتوا جميعا ولم يتخذوا إلا موقف المتفرج والدماء تسفك والأشلاء تطحن في أقبية مديريات الأمن حقدا وانتقاما على أهل البيت وأنصارهم، وهم في كل صباح ومساء يلعنون قتلة الحسين عليه السلام، ومن شايعهم وتابعهم إلى قيام يوم الدين، فما أغرب هذه المفارقة وما أبشعها.
لقد عانى السيد الشهيد رحمه الله الكثير مما يصعب سرده في هذه المذكرات المبنيّة على الاختصار، إن هناك الكثير مما ينبغي أن يذكر _ وسوف يذكر إن شاء الله في المستقبل _ وهنا لا أريد إلا أن اُشير إلى واحدة من تلك المعاناة _ وقس على ما سواها _ ، ذلك أنه لم يحدث أن يخضع مرجع من مراجع التقليد إلى محاسبة مرجع آخر على تصديه للمرجعية، وطبع رسالته العملية. إن هذا الأمر لا سابقة له في تاريخ المرجعيات، وهو أمر يثير العجب.
وأتذكر أن أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلّم بانفعال وعصبيّته ويحاسب السيد الشهيد على تصديّه للمرجعيّة، وطبعه للفتاوى الواضحة، وقد سجل نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها إلى أحد تلامذته، وهذا مقطع منها:
(1) ( عزيزي اب جواد ، في الفترة الاخيرة جاء الى زيارة السيد (......), و هو شخص لنا علاقات و رفاقة طويلة الامد معه , وقد اجتمع بي ودارت احاديث مفصلة خلال خمسة مجالس في محاولة لتصفية العلاقات و توثيقها بين الجهة ( اصطلاح يعني به مرجعيته رحمه الله ) و مرجعية السيد ( .....) و كان بودي ان تكون قربي لاتحدث اليك بكل ما دار من حديث كما تعودت في كل قضية و لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله و قد حدثت الشيخ (....) بلباب الحديث كله و كلفته بان ينقله اليك لكي تضع سياسة الجه هناك من الناحية الآخندية و الحوزوية على اساسها وتلزم كل ابنائنا بذلك ان السيد (......) كان يعترض ويقول : كيف تتصدى للمرجعية في عهد السيد , وقد شرحت له كل الظروف و كل سلبيات مرجعية السيد تجاهنا و التي فرضظت الضطرار الى موقف من هذا القبيل وبعد اخذ ورد طويلين قلت له ماذا تريدون ؟ قالوا نريد ان تذكر بان مرجعيتك طولية قلت نعم انا التزم بذلك قالوا نريد ان تؤكد لمحبيك ان طبع الرسالة للمقلدين شيئ , و مزاحمة المرجعية العليا و ايجاد التفاضل في الاعلمية والتعديل عن التقليد شيئ آخر قلت وهذا ايضاً إني اراه منذ البداية و الآن سوف اجدد التأكيد على اصحابي في هذا المجال و على الاساس انا اريد يا عزيزي ان تفهم كل اخوتك إني تعهدت عنهم جميعاً بان يلتزموا بما التزمت به فلا يصدر من احد منهم محاولة تعديل شخص من مقلدي السيد ... عن تقليده و لا يطرح اسمي بنحو يوجب الإستفزاز مثلاًكان السيد (..) ينقل انه حينما زار (.....) وكانت الجلسة عامرة فقال (....) ان السيد الصدر استغنى في المسألة الفلانية وافتى بكذا وقال احد رفقائه نعم والسيد (...) يوافق السيد الصدر ان مثل هذه الكلمات لا يمكن ان اتحملها هذا كلام السيد (....) وانتم ترون يا ولدي ان مثل هذا جانب الإثارة فيه اكبر بكثير من الجوانب الأخرى ان الجه يااولادي وصلت بعناية الله ( سبحانه ) الى مرحلة جيده وقد تعتبر نوعاً من الإعجاز مع اخذ كل الظروف و العوامل بعين الإعتبار و لهذا فإنها احوج ما تكون الآن الى حل التعقيدات وتمييع منابع الإثارة حتى و لو لم يحصل أي توسع عددي ) راجع وثيقة رقم (9) ص 342.[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=justify][align=center]المرجعيّة الموضوعيّة
بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
إن أهم ما يميز المرجعيّة الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقة التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محّددة لهذه الأهداف، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي، تتصرّف دائما على أساس تلك الأهداف بدلا من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئيّة، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة.
وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادرا على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كل الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.
أهداف المرجعيّة الصالحة:
ويمكن تلخيص أهداف المرجعيّة الصالحة رغم ترابطها، وتوحّد روحها العامّة في خمس نقاط:
1 - نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.
2 - أيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية، من قبيل المفهوم الأساسي الذي يؤكّد بأنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.
3 - إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعيّة، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادرا على مد كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.
4 - القيمومة على العمل الإسلامي،والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حقّ منها وإسناده، وتصحيح ما هو خطأ.
5 - إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القياديّة للأمّة بتبّني مصالحها، والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.
ووضوح هذه الأهداف للمرجعيّة وتبيّنها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعيّة ويحدث تغييرا كبيرا على سياستها العامة، ونظراتها إلى الأمور، وطبيعة تعاملها مع الأمة.
ولكن لا يكفي مجرد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على اكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعيّة الصالحة لأن الحصول على ذلك يتوقف إضافة إلى صلحا المرجع ووعيه واستهدافه على عمل مسبق على قيام المرجعيّة الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات على أسلوب المرجعيّة، ووضعها العملي من ناحية أخرى.
أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعيّة الصالحة، فهي تعني أن بداية نشوء مرجعيّة صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الأمة، وإعدادها فكريّا وروحيّا للمساهمة في خدمة الإسلام،وبناء المرجعيّة الصالحة، إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع وحده غير كاف لإيجاد المرجعيّة الصالحة حقّا، وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.
وبهذا كان لزاما على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعيّة إلى مرجعيّة صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة مّا، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـ بالرغم من صلاحهم ـ يشعرون عند تسلّم المرجعيّة بالعجز الكامل عن التغيير لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحدّدوا مسبقا الأهداف الرشيدة للمرجعيّة، والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.
[align=center]تطوير أسلوب المرجعية:[/align]
وأمّا فكرة تطوير أسلوب المرجعيّة وواقعها العملي، فهي تستهدف:أوّلا: أيجاد جهاز عمليّ تخطيطي وتنفيذي يقوم على أساس الكفاءة،
والتخصّص، وتقسيم العمل، واستيعاب كل مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة.
ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلا من الحاشية التي تعبّر عن جهاز عفوي مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة، وبدون أهداف محدّدة واضحة.
ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة، تتكامل وتنمو بالتدريج إلى إليه الجهاز العمليّ للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله.
1 - لجنة، أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلميّة، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل (الخارج)، والإشراف على دراسات الخارج، وتحدّد المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة، وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
2 - لجنة للانتاج العلميّ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث، ومتابعة سيرها، وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام، والتوافر على إصدار شئ كمجلة، أو غيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.
3 - لجنة، أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتّبع سيرهم وسلوكهم، واتصالاتهم والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجمالي في وقت رتيب، أو عند طلب المرجع.
4 - لجنة الاتصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعيّة في المناطق التي لم تّتصل مع المركز، ويدخل في مسؤوليتها إحصاء المناطق ودراسة إمكانات الاتصال بها، وإيجاد سفرة تفقّديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع، أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم، وتولّي متابعة السير بعد ذلك، ويدخل في صلاحيتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات، كفرصة الحجّ.
5 - لجنة رعاية العمل الإسلامي، والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي، وتكوين فكرة عن كل مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة. 6 - اللجنة الماليّة التي تعنى بتسجيل المال، وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليّين والسعي وفي تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة الجهاز، مع التسجيل والضبط.
ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتٍّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد، ومن الطبيعي أن يبدأ الجهاز محدودا وبدون تخصّصات حدّية تبعا لضيق نطاق المرجعيّة، وعدم وجود التدريب الكافي، والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسيع والتخصّص.
وثانيا: إيجاد امتداد افقي حقيقي للمرجعيّة يجعل منها محورا قويّا، تنصبّ فيه قوى كل ممثلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم لأن المرجعيّة حينما تتبنى أهدافا كبيرة، وتمارس عملا تغييرا واعيا في الأمة لابد أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ، لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثّليها في العالم. وبالرغم من انتساب كل علماء الشيعة تقريبا إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتساب نظري وشكلي، لا يخلق المحور المطلوب، كما هو واضح.
وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعي، فالمرجع تاريخيا يمارس عمله المرجعي كله ممارسة فرديّة، ولهذا لا تشعر كل القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤولية والتضامن الجاد معه في الموقف. وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة، والقوى الممثّلة له دينيّا، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس فسوف يكون العمل المرجعي موضوعيّا، وإن كانت المرجعيّة نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع، غير أن هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدّد له أسلوب الممارسة، وإنّما يتحدد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف، والمصالح العامّة.
وبهذا الأسلوب الموضوعي من الممارسة يصون المرجع من علمه المرجعي من التأثر بانفعالات شخصية ، ويعطي له بعدا وامتدادا واقعيا كبيرا، إذ يشعر كل ممثلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليات العمل المرجعي، وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس. وسوف يضم هذا المجلس تلك اللجان التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعيّة، وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النقطة.
ولئن كان في أسلوب الممارسة الفرديّة للعمل المرجعي بعض المزايا، كسرعة التحرّك، وضمان درجة أكبر من الضبط والحفظ، وعدم تسرّب عناصر غير واضحة إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعي، فإن مزايا الأسلوب الآخر أكبر وأهمّ.
ونحن نطلق على المرجعيّة ذات الأسلوب الفردي في الممارسة اسم (المرجعيّة الذاتية)، وعلى المرجعيّة ذات الأسلوب المشترك، أو الموضوعي في الممارسة اسم (المرجعيّة الموضوعيّة).
وهكذا يظهر أن الفرق بين المرجعيّة الذاتيّة والمرجعيّة الموضوعيّة ليس في تعيين شخص المرجع الشرعي الواقعي، فإن شخص المرجع دائما هو نائب الإمام، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة.
وهذا يعني أن المرجعية من حيث مركز النيابة للإمام ذاتيّة دائما، وإنّما الفرق بين المرجعيّتين في أسلوب الممارسة.
وثالثا: امتدادا زمنيا للمرجعيّة الصالحة لا تتٍّسع له حياة الفرد الواحد، فلابد من ضمان نسبي لتسلك المرجعيّة في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعيّة الصالحة، لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعيّة إلى من لا يؤمن بأهدافها الواعية. ولابد أيضا من أن يهيئ المجال للمرجع الصالح الجديد،ليبدأ ممارسة مسؤوليته من حيث انتهى المرجع العام السابق، بدلا عن أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاق هذه البداية، وما تتطلّبه من جهود جانبية. وبهذا يتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.
ويتم ذلك عن طريق شكل المرجعيّة الموضوعيّة، إذ في إطار المرجعيّة الموضوعيّة لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات، ويوجد الموضوع وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعي الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأمّا الموضوع فهو ثابت، ويكون ضمانا نسبيّا إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلّو المركز، وثقة الأمة به ـ القدرة دائما على إسناد مرشّحة، وكسب ثقة الأمة إلى جانبه، وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريق الحلّ.
[align=center]مراحل المرجعيّة الصالحة:[/align]
والمرجعيّة الصالحة ثلاثة مراحل:
1 - مرحلة ما قبل التصدّي الرسمي للمرجعيّة المتمثّل بطبع رسالة عمليّة، وتدخل في هذه المرحلة أيضا فترة ما قبل المرجعيّة إطلاقا.
2 - مرحلة التصدي بطبع الرسالة العمليّة.
3 - مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الديني.
وأهداف المرجعيّة الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث. وفي المرحلة الاولى يتم إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا إليه سابقا وإلى ضرورته، لقيام المرجعيّة الصالحة.
وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعيّة ممارسة أقرت إلى الفرديّة بحم كونها غير رسميّة، ومحدودة في قدرتها وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعي، فالمرجعيّة في هذه المرحلة ذاتيّة، وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعيّة الموضوعيّة عن طريق تكوين أجهزة استشارية محدودة، ونوع التخصص في بعض الأعمال المرجعيّة.
وأما في المرحلة الثانية، فيبدأ عمليا تطوير الشكل الذاتي إلى الشكل الموضوعي، ولكن لا عن طريق الإعلان عن أطروحة المرجعيّة الموضوعيّة بكاملها، ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين لأن هذا وإن كان يولّد زخما تأييديا في صفوف بعض الراشدين في التفكير،ولكنّه من ناحية يفصل المرجعيّة الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المحلة، ومن ناحية أخرى يضطرها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعية الموضوعيّة ممارسة المرجعيّة الصالحة لأهدافها، ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعدّدة، بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعيّة، وقدرات المرجعيّة البشريّة والاجتماعيّة، يربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات، ويوسّع منه حتى تتمخض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعيّ.
ويتأثر سير العمل في تطوير أسلوب المرجعيّة وجعلها موضوعيّة بعدة عوامل في حياة الأمة فكريّة وسياسيّة، وبنوعيّة القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعيّة الموضوعيّة، ومدي وجودها في الأمة، ومدى علاقتها طردا أو عكسا مع أفكار المرجعيّة الصالحة. ولا بد من أخذ كل هذه العوامل بعين الاعتبار، والتحفّظ من خلال مواصلة عملية التطوير المرجعي عن تعريض المرجعيّة ذاتها لانتكاسة تقضي عليها، إلا إذا لو حظ وجود مكسب كبير في المحاولة، ولو باعتبارها تمهيدا لمحاولة أخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتّب على تفتّت المرجعيّة الصالحة التي تمارس تلك المحاولة).
كما أن السيد الشهيد أضاف بعض الملحقات والاقتراحات لمشروع المرجعيّة الموضوعيّة فيما بعد، وقد لخّصها سماحة آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه (مباحث الاصول) بما يلي:
1 - اقتراح إنشاء حوزات علميّة فرعية في المناطق التي تساعد على ذلك ترفد بها الحوزة العلميّة الامّ.
2 - اقتراح أيجاد علماء في الفقه والأصول والمفاهيم الإسلامية في سائر أصناف الناس، فليكن لنا من ضمن الأطباء علماء، ومن ضمن المهندسين علماء، وما إلى ذلك من الأصناف، ولا يشترط في هؤلاء العلماء التخصّص والاجتهاد في الفقه والأصول، ويكون كل من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، يبث العلم والمعرفة وفهم الأحكام الشرعيّة، والمفاهيم الإسلامية فيما بينهم.
3 - ربط الجانب المالي للعلماء والوكلاء في الأطراف بالمرجعيّة الصالحة، فلا يعيش الوكيل على ما تدر المنطقة عليه من الحقوق الشرعية بل يسلّم الحقوق كاملة إلى المرجعيّة، وتموّله المرجعيّة ليس بالشكل المتعارف في بعض الأوساط من إعطاء نسبة مئويّة من تلك الأموال كالثلث، أو الربع، ممّا يجعل علاقة الوكيل بالمرجعيّة سنخ علاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال، بل بشكل تغطية
(1) الجزء الاول من القسم الثاني ،ص 99.
مصاريف الوكيل عن طريق عطائين من قبل المرجعيّة:
الأوّل: راتب شهري يكفل له قدرا معقولا من حاجاته الضرورية.
الثاني: عطاء مرن ويغر محدّد، يختلف من شهر إلى شهر، وقد لا يعطى في بعض الأشهر، وقد يضاعف أضعافا مضاعفة في بعض الأشهر ويكون المؤثر في تقليل وتكثير هذا العطاء عدة أمور:
أحدها : احتياجاته بما هو إنسان، أو بما هو عالم في المنطقة، فإنها تختلف من شهر إلى شهر.
والثاني : مقدار ما يقدمه للمرجعية من أموال وحقوق شرعية.
والثالث : مقدار ما يقدمه للمنطقة من أتعاب وجهود.
والرابع : مقدار ما ينتج في تلك المنطقة من نصر للاسلام.
كما أن هذه الأمور قد تؤثر أيضا في تحديد مقدار العطاء المتمثل في الراتب المقطوع.
4_ دعم المرجعية الصالحة لمكتب صالح ونظيف من بين المكاتب، وهي التي تسمى في النجف (البرّانيّات) بحيث يصبح ما يصدر من ذاك المكتب ممثلا في نظر الناس بدرجة خفيفة لرأي المرجعية.
وفائدة ذلك : أن المرجعية الصالحة قد تريد أن تنشر فكرة سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك من دون أن تتبناها مباشرة لمصلحة في عدم التبني المباشر، أو تريد ان تفاوض السلطة في أمر من الأمور بشكل غير مباشر، فذاك المكتب يتبنى أمثال هذه الأمور.
عقبات التصدي للمرجعية:
أما المشاكل والعقبات التي واجهها (رضوان الله عليه) بعد التصدي، فلا تكاد تحصى، لكثرتها وتنوعها، وبعضها مصدره السلطة، والآخر مصدره المجتمع الذي عاش فيه، وبعض الجهات في الحوزة.
إن أهم معاناة كان يعيشها الشهيد الصدر رحمه الله هي عدم قدرة الحوزة على استيعابه، وفقدان الفهم الكافي له في مجتمعه. فكان يشعر بغربة قاتلة في ظل تلك الأجواء التي جعلته بين الحين والآخر يتمنى الموت. كان يقول حينما تتراكم عليه المشاكل الناشئة من هذا الوضع:
(لقد بلغت من العمر ما بلغه أبي وأخي، فلم لا يعاجلني الموت ويريحني).
وكان (رضوان الله عليه) صبورا كتوما، لا يشتكي، ولكن في بعض الاحيان كان الصبر يعيا أمام عظم المشاكل، فتصدر منه تلك الأنات واللوعات، والله يعلم إلى أي مدى كان الهم يتصاعد ، فيضطر إلى الشكوى، بل أي مشاكل كانت تلك التي لا يطيقها ذلك القلب الكبير.
كان الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) يسعى لإحداث تغيير في كيان الحوزة والمرجعية من الأساس، بما يلبي الحاجات الحاضرة والمستقبلية، وبما ينسجم مع متطلبات العصر والحياة، ويحقق للمرجعية والحوزة الحماية الكاملة، والاستقرار الثابت.
وحتى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الأمة، ما كان إلا من أجل حماية كيان الإسلام والأمة الإسلامية، ومن الغريب أن البعض كان يسمح لأبنائه بالانتماء إلى حزب البعث الصليبي، ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الإسلامية. كان البعض ينتقد العلماء أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي للعراق فيقول: إنهم حرّموا على أبنائنا دخول المدارس الإنجليزية في العراق، ولم يفتحوا لهم مدارس إسلامية، واليوم أسس لهم العلماء حزبا إسلاميا ليحصنهم من الانتماء إلى حزب البعث، أو الحزب الشيوعي ومن الإلحاد عموما فإذا بهم كالبنيان المرصوص ضده. ولو أنهم وقفوا عند حدود معقولة، وناقشوا الأمر بروح موضوعية وتعقّلوا مدى صحة هذا الأسلوب أو ذاك، لكان أمرا سائغا ومنطقيا، أما أن يعتبروا ذلك انحرافا، ويجعلوه حربة يحملونها بيد، وتحملها السلطة باليد الأخرى، فتسفك بها الدماء، وتهتك بها الأعراض، وتستحل الحرمات، فهو أمر بمكان من الخطورة جعل قلب الشهيد الصدر يتفجر دما، وروحه تفيض حزنا وألما.
إن الجهل الذي كان يملأ قلوبهم، أو قل الحقد الذي أعماهم وأضلهم، كان يخيل لهم أن المسألة محدودة بالشهيد الصدر فقط، ولن تتعداه إلى سواه، فإذا كان اتهامه بالحزب خير وسيلة للقضاء عليه فليكن هو الأسلوب المتبع.
وكان رحمه الله حينما تبلغه الاتهامات والافتراءات التي توجّه إليه من قبل بعض الأطراف في الحوزة يقول: (إن السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين إلا بسبب ظروفي وأوضاعي الخاصة، وإلا فإن هدفها أكبر وأشمل، إنها استهدفت الوجود العام كله، المرجعيات كلها، والحوزات كلها بغض النظر عن فكرة الاتهامات الحزبية، وما ذريعة الحزب إلا أداة لتضليل الناس).
والغريب أن هؤلاء الذين كانوا يشكلون جبهة متراصة لحرب السيد الشهيد والقضاء عليه، والذين يعتبرون أنفسهم في طليعة المؤمنين الموالين لأهل البيت لم يرتدعوا حتى بعد أن امتدت يد العفالقة إلى شعائر الإمام الحسين عليه السلام، وقتل زواره وإبادتهم في كربلاء، وفي الطريق إليها في انتفاضة صفر البطولية، لقد سكتوا جميعا ولم يتخذوا إلا موقف المتفرج والدماء تسفك والأشلاء تطحن في أقبية مديريات الأمن حقدا وانتقاما على أهل البيت وأنصارهم، وهم في كل صباح ومساء يلعنون قتلة الحسين عليه السلام، ومن شايعهم وتابعهم إلى قيام يوم الدين، فما أغرب هذه المفارقة وما أبشعها.
لقد عانى السيد الشهيد رحمه الله الكثير مما يصعب سرده في هذه المذكرات المبنيّة على الاختصار، إن هناك الكثير مما ينبغي أن يذكر _ وسوف يذكر إن شاء الله في المستقبل _ وهنا لا أريد إلا أن اُشير إلى واحدة من تلك المعاناة _ وقس على ما سواها _ ، ذلك أنه لم يحدث أن يخضع مرجع من مراجع التقليد إلى محاسبة مرجع آخر على تصديه للمرجعية، وطبع رسالته العملية. إن هذا الأمر لا سابقة له في تاريخ المرجعيات، وهو أمر يثير العجب.
وأتذكر أن أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلّم بانفعال وعصبيّته ويحاسب السيد الشهيد على تصديّه للمرجعيّة، وطبعه للفتاوى الواضحة، وقد سجل نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها إلى أحد تلامذته، وهذا مقطع منها:
(1) ( عزيزي اب جواد ، في الفترة الاخيرة جاء الى زيارة السيد (......), و هو شخص لنا علاقات و رفاقة طويلة الامد معه , وقد اجتمع بي ودارت احاديث مفصلة خلال خمسة مجالس في محاولة لتصفية العلاقات و توثيقها بين الجهة ( اصطلاح يعني به مرجعيته رحمه الله ) و مرجعية السيد ( .....) و كان بودي ان تكون قربي لاتحدث اليك بكل ما دار من حديث كما تعودت في كل قضية و لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله و قد حدثت الشيخ (....) بلباب الحديث كله و كلفته بان ينقله اليك لكي تضع سياسة الجه هناك من الناحية الآخندية و الحوزوية على اساسها وتلزم كل ابنائنا بذلك ان السيد (......) كان يعترض ويقول : كيف تتصدى للمرجعية في عهد السيد , وقد شرحت له كل الظروف و كل سلبيات مرجعية السيد تجاهنا و التي فرضظت الضطرار الى موقف من هذا القبيل وبعد اخذ ورد طويلين قلت له ماذا تريدون ؟ قالوا نريد ان تذكر بان مرجعيتك طولية قلت نعم انا التزم بذلك قالوا نريد ان تؤكد لمحبيك ان طبع الرسالة للمقلدين شيئ , و مزاحمة المرجعية العليا و ايجاد التفاضل في الاعلمية والتعديل عن التقليد شيئ آخر قلت وهذا ايضاً إني اراه منذ البداية و الآن سوف اجدد التأكيد على اصحابي في هذا المجال و على الاساس انا اريد يا عزيزي ان تفهم كل اخوتك إني تعهدت عنهم جميعاً بان يلتزموا بما التزمت به فلا يصدر من احد منهم محاولة تعديل شخص من مقلدي السيد ... عن تقليده و لا يطرح اسمي بنحو يوجب الإستفزاز مثلاًكان السيد (..) ينقل انه حينما زار (.....) وكانت الجلسة عامرة فقال (....) ان السيد الصدر استغنى في المسألة الفلانية وافتى بكذا وقال احد رفقائه نعم والسيد (...) يوافق السيد الصدر ان مثل هذه الكلمات لا يمكن ان اتحملها هذا كلام السيد (....) وانتم ترون يا ولدي ان مثل هذا جانب الإثارة فيه اكبر بكثير من الجوانب الأخرى ان الجه يااولادي وصلت بعناية الله ( سبحانه ) الى مرحلة جيده وقد تعتبر نوعاً من الإعجاز مع اخذ كل الظروف و العوامل بعين الإعتبار و لهذا فإنها احوج ما تكون الآن الى حل التعقيدات وتمييع منابع الإثارة حتى و لو لم يحصل أي توسع عددي ) راجع وثيقة رقم (9) ص 342.[/align]
-
[align=justify]هذا نموذج واحد من نماذج كثيرة كان يواجهها بسعة صدر وتحمّل كبير.
الحرب النفسيّة ضد السيد الشهيد:
لقد استغلت بعض الأطراف حالة العداء الدائمة بين السيد الشهيد والسلطة لعزله وتهديد مرجعيّته، وكانت هذه الأطراف في نشاطها وفعّاليتها أقوى من السلطة وأخطر منها، حتى أن بعض الطلبة وبسبب الضغط النفسي الناشئ من تخويفهم وإرهابهم ترك حضور بحث السيد الشهيد ومجلسه العامّ. واستطاعت هذه الجهات تجاوز نطاق الحوزة إلى الأمة، فكانوا يلوّحون بمديريات الأمن لمن يحاول الاقتراب من السيد الشهيد.
وأتذكر أن رجلا من المناطق الجنوبية في العراق جاء إلى النجف لزيارة أمير المؤمنين، فحدّث السيد الشهيد بما جرى له ، فقال: كنت لا أعرف أين يقع منزلكم، وكانت رغبتي شديدة أن أزوركم وألتقي بكم، فوقفت في الصحن الشريف أنتظر من يدلّني، فمرّ بقربي أحد (المعمّمين)، فسألته عن منزلكم فقال لي: إن منزل السيد الصدر مطوّق من قبل سلطان الأمن، وسوف تعتقل حال وصولك. ثم سال آخر وآخر فكان الجواب واحدا، إلا أن أحد الطلبة الشباب دلّني على منزلكم، وأخبرني بأن الأمور طبيعية، وقال لي: لا تخف، وأتى بي إلى هنا، وأنا الآن أرى الأمور طبيعيّة، فلماذا يفعل هؤلاء هكذا. وكان في حيرة شديدة لا يعرف كيف يفسّر تلك الظاهرة!
هذا النموذج يعبّر عن مئات، أو آلاف النماذج المشابهة التي كانت تصلنا أخبارها بين الحين والآخر، وما خفي أكثر واكبر، وكانت السلطة تغذي هذا الطرح وتدعمه، وتحاول إرهاب أكبر عدد من الناس من خلال الحملات النفسيّة المشابهة.
أعتمدت السلطة في حربها النفسيّة على أمرين:
الأول: الاعتقالات التي تعرض لها السيد، وكذلك أنصاره وأعوانه من بين المراجع والمرجعيّات التي كانت قائمة آنذاك في النجف الأشرف، فكان يشاع بين الناس أن السلطة لم تكن لتعتقل الصدر لولا تورّطه بأمور خطيرة، وإلا فلماذا لا تعتقل المراجع الآخرين؟
الثاني: مقاطعتها السيد الشهيد وهو أمر في غاية الأهمية، فكان يقال : إنّ السلطة لا تعترف بمرجعيّة الشهيد الصدر، وتعتبره عدوّها، بدليل أن فلان عضو مجلس قيادة الثورة مثلا زار المرجع الفلاني، ولم يزر السيد الصدر، وهكذا. وأفرزت الحملة النفسيّة بتفاصيلها الواسعة حالة من تطويق شديد للشهيد الصدر، فكان مجلسه اليومي محدودا بعدد من الطلبة الشباب لا يتجاوزون عدد الأصابع، وكان بحثه كذلك وكانت صورة قاتمة ترتسم في الأذهان عن المستقبل إن استمر الوضع على هذا الشكل، بل أستطيع أن أجزم بأن مرجعيّة السيد الشهيد كانت على وشك الانهيار التامّ، أو لا أقل الانزواء الكامل، حتّى أنّه اضطرّ إلى ترك التدريس فترة من الزمن، وكان على وشكّ أن يغلق باب داره.
وتصدّي الراشدون الأبرار من الطلبة للعمل من أجل الدفاع عن هذه المرجعيّة، وحماية كيانها، وانضمت إليهم الطلائع الواعية من المؤمنين في صفوف متحدّة متراصة وجنود متواصلة، ورغم الأخطار التي كان من المحتمل أن يتعرّضوا لها، كان في طليعة هؤلاء سماح العلامّة حجة الاسلام الشيخ أديب حيدر فقد لعب دورا كبيرا في مجال إحباط مخطط الحرب النفسيّة وتمكن السيد الشهيد أن يشق الطريق بثبات وعزم، فامتدّ إلى أعماق الأمة فاضطرت السلطة فيما بعد ـ رضوخا لسياسة الأمر الواقع ـ إلى الاعتراف بمرجعيّة، والتعامل معه تعامل الند للند، وكانت الخطورة الاولى في هذا المجال زيارة زيد حيدر عضو ما يسمي بالقيادة القومية لحزب البعث.
[align=center]زيارة زيد حيدر:[/align]
قبل زيارة حيدر للسيد الشهيد كان مستوى الشخصيات الحكوميّة التي تزوره منحصرة تقريبا بمدير أمن النجف، أو القائم مقام، وحتّى هؤلاء لم تكن زياراتهم وديّة، بل كانت تتم ضمن مخطط وأهداف معيّنة، إلا أن زيارة زيد حيدر قلبت الموازين، وشكّلت منعطفا كبيرا في هذا المجال.
جاء زيد حيدر وهو لا يحمل مطلبا معيّنا ولا اقتراحا خاصّا، وقد ظل ساكتا طيلة مدّة الزيارة مستمعا فقط للسيد الشهيد وهو يتحدّث، وقد قال السيد الشهيد في جملة ما قال: جاء في الحديث (إذ رأيتم الحكّام على أبواب العلماء، فقولوا نعم الحكّام ونعم العلماء، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الحكّام، فقولوا بئس العلماء وبئس الحكّام).... ثم قال: إن العلماء هم المؤشر الحقيقي الذي يعكس بأمانة مطالب الشعب و رغباته، إن المواطن لا يتحرّج من البوح بما في نفسه أمام العالم، بينما لا يفعل ذلك أمام الدولة، فإذا أردتم معرفة مطالب الشعب الحقيقة ورغباته المشروعيّة، فعليكم بمراجعة العلماء والاستفسار منهم.
ثم تحدث عن دور العلماء في لبنان أثناء الاستعمار الفرنسي لها، ودورهم الكبير في تحريض الشعب على الاستقلال، ودور الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في تلك الأحداث.
وطال الحديث، وكانت الزيارة في المجلس العامّ وبحضور عدد من الطلبة والعلماء. لقد نقل فيما بعد أن زيد حيدر اعترف أمام قيادته في بغداد بأن السيد الصدر مفكّر عربي من طراز فريد، وأنه يستطيع تدوين قوانين دولة في مدّة يسيرة من الزمن. وعلى كل حال فقد انتشر خبر زيارة زيد حيدر للسيد الشهيد والسلطة، وبدأ سوط الرعب الذي يحرّكونه متى أرادوا هزيلا لا يقوى على إخافة أحد، فكثر تردد الناس، وعادت الأمور بالتدريج إلى حالتها الطبيعيّة.
[align=center]زيارة حسن بن علي:[/align]
وحصلت حادثة أخرى، مثيلة لسابقتها، وهي زيارة حسن علي عضو مجلس قيادة الثورة ووزير التجارة للسيد الشهيد ، وهي أيضا لم تكن متوقّعة وكانت في المجلس العامّ.
ولم يدر في تلك الجلسة ما يستحق الذكر، ولكن كان تأثيرها في كسر حاجز الخوف كبيرا.
بعد ذلك كثرت زيارة مختلف مراتب المسؤولين من حكوميين وحزبيين، وكانت كلّها تساهم في تحقيق تلك الحالة من حيث لا يشعرون، وقد أعماهم الله وأصمّهم.
واستطاع السيد الشهيد أن يكسب الوقت، حتّى اضطرّت السلطة إلى التعامل معه تعامل الندّ للندّ. فمثلا وبعد زيارة أعضاء القيادتين جاء فاضل البرّاك مدير الأمن العامّ من مساعده مدير الشعبة الخامسة الخاصّة في تعذيب المؤمنين لزيارة السيد الشهيد، وكان متخفّيا، فكل السيارات التي كانت معه تحمل أرقاما خليجيّة، ومعظم الأفراد الذين جاءوا لحمايته كانوا بزّي خليجيّ ، وكان يظهر الحبّ والمودّة حتى أنّه قال للسيد الشهيد في المكالمة التلفونيّة من بغداد التي طلب فيها موعدا للزيارة، إنّه يريد أن يحضر مائدة عشاء مع السيد الشهيد وحصر هدف الزيارة بذلك ليظهر نوعا من المودّة، وبعد أن التقى بالسيد الشهيد طلب اجتماعا ثنائيا خاصّا، واعتقد أن سبب ذلك كان خوف البرّاك من مساعده، فقد كان الصراع بين جماعة البكر وصدام على أشدّه، والبرّاك كان محسوبا في تلك الفترة على البكر. ولعل مساعده كان محسوبا على صدام. وعلى كل حال كانت خلاصة الاجتماع كما اخبرني السيد الشهيد ما يلي: (إن البرّاك أعطى للبكر انطباعا حسنا عن السيد الشهيد، وإن البكر يكن بالغ الاحترام للسيد الصدر، وأمثال هذه العبائر.... ثم قال: أرى من صالحنا جميع أن نتّفق على أن لا نتدخل في شؤونكم وأن لا تتدخّلوا في شؤوننا، ثمّ قال إنّني أستطيع أن أهمل جميع التقارير التي تكبت عنكم وترفع إلينا من قبل مديرية أمن النجف وغيرها، إلا إنّني لا أستطيع أن أفعل شيئا للتقارير التي ترفع للقيادة مباشرة من قبل أشخاص في الحوزة نفسها، فأرجو أن لا يصدر منكم شئ يسبب لي إحراجا أمام القيادة)، وذكر للسيد الشهيد أسماء بعضهم، ونموذجا من تقاريرهم، ولم يفصح عن أسمائهم إلا في فترة الحجز. هذا أهم فقرات ذلك الاجتماع، وهو يعبّر بوضوح عن الحقيقة التي ذكرتها آنفا.
وعلى كل حال فقد استطاع أن يسكب فرصة زمنيّة استمرت عدة سنوات مكّنته من القيام بأعمال ما كان يمكن أن تتمّ لولا ذلك، أذكرها على سبيل الإجمال:
1 - إعادة بناء الحوزة:
من الأمور التي كانت موضع اهتمام السيد الشهيد وضع الحوزة علميّة الذي لم يكن يتناسب مع تطور الأوضاع في العراق ـ على الأقلّ ـ لا كما ولا كيفا.
فمن جانب كانت السلطة العفلقيّة قد أفرغت الحوزة من معظم الطاقات العلميّة عن طريق التسفير بالنسبة لطلبة العلوم الدينيّة من الإيرانيين وغيرهم، ولم تسمح بالإقامة إلا لعدد محدود من كبار السن، والشيوخ من خلال قوائم تنتخب وتقدّم للسلطة من قبل أحد المراجع.
كما أن الملاحقات المنيّة كانت مستمرّة للطلبة العراقيين والعرب، وبالنسبة للطلبة العراقيين كان أسلوب الملاحقة والضغط يتمثل تارة بدعوتهم إلى أداء الخدمة العسكريّة. وهذا إن تم فسوف يفرغ الحوزة من كل الطاقات الشابة، ولم يبقى إلا الشيوخ وكبار السن، وتارة بتوجيه الاتهامات السياسيّة إليهم، وما يتبعه من ملاحقة أمنيّة.
هذا الواقع أحدث عزوفا عن الدارسة في الحوزة، أو الانتماء إليها خاصّة وأنّ اللانظام هو النظام الذي يسودها، فالطالب الجديد الذي يفكّر بالدراسة فيها سيجد كل شئ مجهولا وغامضا الحاضر والمستقبل، وكلّ شئ.
ورغم أن عمليّة التغيير تحتاج إلى تكاتف كل الطاقات والإمكانات، مع توفّر الوعي والقناعة التامّين بضرورة وأهميّة التغيير،إلا أن السيد الشهيد كان يدرك أن الأوضاع السائدة وخاصّة أوضاع معظم المرجعيات التي كانت قائمة، وكذلك أوساط كثيرة في الحوزة التي ألفت تلك الحياة القائمة على عدم النظام لا تستسيغ محاولات التغيير، أو الإصلاح، ولكن مع ذلك ما كان هذا ليحول دون إجراء كل ما هو ممكن وضروري.
كانت أهم قضية في تلك الفترة هي جذب الطاقات الشابّة المثقّفة الواعية وتطعيم الحوزة بها، وإثراؤها بالقوى البشرية الكفوءة والقادرة على أداء مهمّة التبليغ إلى الله ـ تعالى ـ على أحسن وجه.
وبما يلبي حاجات العراق ـ على الأقل ـ من العلماء الرساليين المخلصين. وبدأ خطواته على هذا الصعيد بحثّ وكلائه على تشجيع الشباب الذين تتوفّر اللياقة والكفاءة، وخاصّة من الشباب الجامعيين على الانتساب إلى الحوزة وكان قد تعهّد لهذا الصنف من الشباب بكفالتهم مادّيّا كفالة تامّة، بل وباشر بنفسه هذه المهمّة فكان يحثّ بعض الشباب ويرغّبهم بذلك في مجلسة العامّ الذي كان يعقده قبل ظهر كلّ يوم.
وخلال فترة قصيرة انتسب إلى الحوزة الكثير من الشباب، وامتلأت بهم بعض المدارس وخاصّة مدرسة أمير المؤمنين الواقعة في منطقة (الجديدة) والمدرسة الشبّريّة الواقعة في محلّة البراق. وفي الفترة الأخيرة اضطر إلى إصلاح مدرسة الجزائري التي كانت مهجورة لإسكان الطلبة فيها.
ولاجل تقديم خدمات إضافية إلى الطلبة وتوفير الوقت لهم وتهيئة الجوّ الدراسي المناسب قرّر توفير وجبات الطعام للطلبة، وبدأ هذا المشروع بطلاب المدرسة الشبّريّة كخطوة اولى ، وكان من المقرّر أن تعمّم على باقي المدارس، كما أمر بتوفير أجهزة غسل الملابس الكهربائية للمدارس كخطوة أخرى للغرض نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك اهتمّ بتهيئة الكادر الكفوء من الأساتذة، وأمر بعض تلامذته بتدريس أيّ مادّة علميّة حتّى لو كانت أقل بكثير من مستواهم العلمي، بل كان يهتمّ شخصيّا بمراجعة بعض الطلبة له بخصوص تحصيل أساتذة لهم.
ورغم العمر القصير لهذا المشروع فقد بدأت ثماره تنمو بسرعة كبيرة، فلقد تمّ بناء لبنات الجيل الجديد من العلماء، وكان نعم الجيل مباركا طيّبا.
2 - تغيير المناهج الدراسيّة:
والخطوة الأخرى كانت تغيير المناهج الدراسيّة في الحوزة العلميّة، حيث كانت المناهج الدراسيّة فيها تشكل عقبة كبيرة أمام تطور الحوزة بالشكل الذي تتطلّبه الأوضاع وحاجات المجتمع، إذ لم تكن قادرة على بناء علماء أكفّاء في فترة زمنيّة معقولة، بل كانت تستوعب قدرا كبيرا من عمر الطالب، وبالتالي كان يؤثر على مقدار عطاء الحوزة من العلماء، ولهذا السبب كانت معظم مدن العراق تعاني من فراغ خطير في هذا الجانب، في الوقت الذي كانت في السلطة البعثيّة قد استوعب كافة مدن العراق وغطّت كافة قراه ونواحيه بالمنظمات الحزبيّة والثقافيّة، بل امتدّ نفوذها إلى معظم مساجد وحسينيات الشيعة، وسيطرت عليها.
وعلى كل حال كان هناك أكثر من سبب يدعو إلى إعادة بناء المنهج الدراسي الحوزوي، وصياغته صياغة حديثة تختصر الوقت مع الاحتفاظ بالمستوى العلمي والعمق والدقّة.
ومن هنا فكّر بإعداد كتب دراسيّة تكفل للطالب تلك الخصائص، فكتب معظم مواد حلقات (دروس في علم الاصول) في مدّة شهرين، كما ذكر هو ذلك في مقدّمة الحلقة الاولى، وبيّن في مقدّمة الكتاب أسباب تأليف الكتاب والضرورات التي دعت إلى كتابته.
وقد استطاعت حلقات (دروس في علم الاصول) أن تحقّق هدفها في اختزال الوقت مع مراعاة جانب تلقي المطالب العلميّة الذي يقتضي التدريج في الطرح وبيان المسائل، مع احتفاظها بالمستوى العلمي الرفيع حيث تضمّنت أحدث النظريات العلمية في علم الاصول، ولا زالت تشق طريقها في الحوزات والمعاهد العلميّة الدينيّة، وكان أول طالب ـ على ما أذكر ـ درس كتاب دروس في علم الاصول هو الشهيد الشيخ محمد البشيري نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسين البشري.
وكان السيد الشهيد قد أعد العدة لكتابة (دروس في علم الفقه) على نفس منهجيّة (دروس في علم الاصول) من التدرّج في تعميق المادّة العلميّة من مرحلة الفتوى وحتى مرحلة الاستدلال المعمّق،فقد وضع مخطط وهيكلية الكتاب إلا أنّ يد الإجرام عاجلته قبل أن ينجز هذا المشروع العلمي الفريد.
وكان السيد الشهيد تصوّرات وأفكار تتعلّق بهذا الموضوع لا مجال لذكرها الآن.
إرسال الوكلاء:
وقد استيعاب الساحة ببعث العلماء والوكلاء إلى مختلف مناطق العراق، وكان له منهج خاص وأسلوب يختلف عمّا كان مألوفا في طريقة الإرسال.
كان الأسلوب السابق ـ باستثناء مرجعيّة الإمام الحكيم ـ ينحصر في أن المنطقة التي ترغب بطلب عالم يقيم فيها تتكفّل جميع نفقاته الماليّة والمعاشيّة، والمرجع يحدّد له نسبة معيّنة من الحقوق الشرعيّة بما يشبه المضاربة. وهذا الأسلوب تترتّب عليه سلبيّات كثيرة، منها أن بعض المناطق وبسبب أوضاعها الاقتصادية الضعيفة لا تتمكّن من تغطيّة نفقات العالم،فتعزف عن التقدّم
(1) ارسلنا اليكم ثلاثين من الحلقات الثلاث في البريد و إذا امكن ان يطلب بعض اصحاب المكتبات كمية من الكتاب من بيروت ابتداءً فهو اسهل ونحن هنا استوردناالف دورة والاقبال على الشراء قياسي و كبير جداًالأمر الذي جعلني افكر على الخط الطويل في كتابة مشروع مماثل لما يدرس من الفقه في السطوح وثيقة رقم (10) ص 344.
للمرجع لطلب عالم يقيم بينهم، وتكتفي فقط باستدعاء خطيب لمناسبة محرّم وشهر رمضان على أحسن الأحوال.
ومنها أن بعض ذوي الثروة يحاول السيطرة على العالم، ويقيّده بسياسة خاصّة مستغلا الضغط في حال كفالته لعالم المنطقة.
وكان من شأن هذا الأسلوب أن يعطي صورة سلبية عن المبلّغ والعالم، فيعتبر في نظر النسا متسولا أو مسكينا يستحق العطف والمساعدة، وليس قائدا للناس، وموجّها لهم.
أما السيد الشهيد فقد اتخذ سياسة جديدة تحقق الكثير من الإيجابيات، وتخلو من جميع السلبيات التي أشرنا إلى بعضها فيما سبق، وكانت أركانها الأساسية ما يلي:
1 - حرص على إرسال خيرة العلماء والفضلاء هديا وأخلاقا وتقوى وإحاطة بما تتطلّبه الحياة والمجتمع، وتجنّب إرسال العناصر المتّسمة بالجفاف والانزواء، والتي لا تعرف مقتضيات العصر ومتطلباته.
2 - تتكفّل المرجعيّة بتغطية كافة نفقات الوكيل الماديّة، ومنها المعاش والسكن، سواء كان إرسال الوكيل بطلب من المنطقة، أو مباشرة من قبل المرجع.
3 - الامتناع عن قبول الهدايا والهبات التي تقدّم للعالم من قبل أهالي المنطقة.
4 - العالم وسيط بين المنطقة والمرجع في كل الأمور، ومنها الأمور الماليّة، وقد ألغيت النسبة المئويّة التي تخصّص للعالم.
أما النتائج الإيجابيّة التي ترتّبت على هذه السياسة فكثيرة أذكر منها:
1 - تحرّكت المناطق التي كانت غير قادرة على تغطية نفقات العالم، فطلبت علماء للإقامة فيها، وأمكن بذلك ملء الفراغات الكبيرة، وخاصّة في مناطق المستضعفين، كما حصل في مدينة الثورة التي تعتر من أهمّ مناطق بغداد على
(1) راجع ما كتبه السيد الشهيد بخصوص هذا الموضوع في ص 173.
الصعيد الشعبي والجماهيري، وأدّى ذلك إلى ولادة تيار إسلامي أقلق سلطة البعث العمليّة.
2 - وانتجت هذه السياسة أيضا رغبة قويّة بين الشباب المثقّفين للاتّجاه إلى الحوزات والدراسة فيها.
3 - أثرت هذه السياسة في تغيير الصورة السلبيّة الموروثة عن العالم، وأعطت عنه صورة إيجابية برّاقة، فمثلا استطاع سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن عبد الساتر أن يحدث تأثيرا كبيرا في الكوت مركز محافظة واسط، وصنع جيلا من الشباب الواعين المؤمنين المثقّفين، بل ويؤثر حتّى على طبقة كبار السن من الشيوخ لأنّ هؤلاء لم يعهدوا عالما يترفّع حتّى عن قبول الهدايا والهبات، بل كان يتفقّد الفقراء والمعوزين، وينفق عليهم.
ونموذجا آخر هو المرحوم الشهيد الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي الذي كان وكيلا في إحدى مناطق محافظة ديالى، فكان يشارك أهل المنطقة حتّى في زراعة حقولهم وجني الثمار من بساتينهم، رغم إصرار أهل المنطقة على منعه من ذلك. ولمّا أنهى موسم التبليغ ـ وكان شهر رمضان ـ وأراد مغادرة المنطقة إلى النجف قدّم له الأهالي مبلغا قدره مائة وخمسون دينارا كهدية ، فأبى قبولها، وقال لهم: إن السيد الصدر يتحمّل كافة نفقاتي، وإن وظيفتي التبليغ والإرشاد، وليس جمع المال. وألحّ أهل المنطقة على دفع المال إليه، فاضطر إلى أخذه، ثم قدّمه كهدية إلى الحسينيّة، ممّا أثار إعجابهم. فهذا العفاف والترفّع لم يكن معهودا في السابق.
وكان لكلّ عالم بعثه السيد الشهيد أكثر من قصّة من هذا القبيل، هزت المشاعر، وحرّكت القلوب، وأعطت العالم مكانة خاصة في القلوب والنفوس.
وفي الوقت نفسه استطاع أن يحجّم معظم أولئك الذين استغلّوا فراغ المناطق من العلماء ، فنصّبوا أنفسهم علماء، وتلبّسوا بزي علماء الدين، وكان معظمهم يعمل لصالح السلطة، ويسير في فلكها، والغريب أن بعضهم استطاع الحصول على وكالات من مراجع كبار ما كان يحتمل أن يصدر منهم ذلك، لقد وقف السيد الشهيد بوجه هؤلاء وقفة حازمة، فحرّم الصلاة خلفهم، أو التجاوب معهم في أي نشاط ديني واجتماعي، وكان هذا الإجراء يعتبر نوعا من المواجهة مع السلطة، لأنّها هي التي نصّبت معظمهم.
وأتذكر أن أحد هؤلاء وكان يسكن مدينة الثورة أجبر المصلّين في أحد المساجد على تشكيل وفد برئاسته ليطلبوا له وكالة من السيد الشهيد، فلمّا حضر الوفد طلب الشيخ من السيد الشهيد توكيله، وقال: هؤلاء أهل المنطقة يرغبون بذلك.
وهنا توجّه السيد الشهيد السؤال إليهم بقوله: هل ترغبون بتوكيل الشيخ؟ فقالوا: كلا، فغضب الشيخ غضبا شديدا لأنّه يعلم أن عدم منحه وكالة من قبل السيد الشهيد يعني إنهاء وجوده الديني والاجتماعي وكان بعض أعضاء الوفد قد أخبر السيد الشهيد قبل ذلك بأن هذا (الشيخ) أجبرهم على تشكيل الوفد، ولم يتمكّنوا من الامتناع لأنّه يعمل مع أجهزة الأمن، وتمكّن من تطهير تلك المساجد من أمثال هؤلاء، وإبدالهم بالأكفّاء الصلحاء من خيرة شباب الحوزة العلميّة في النجف.
ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أن السيد شجّع الكثير من الشباب المثقّفين كالأطباء والمدرسين وأمثالهم على دراسة ما يمكن من المناهج العلمية التي تدرّس في الحوزة، وخاصّة الفقه والأصول في إطار الاستفادة من هذه الطاقات لسد الفراغات الكبيرة التي تعاني منها المساجد والحسينيّات، وحتّى المراكز العلميّة والتربويّة التي يعملون فيها كموظفين وإداريين. وكان يقول : سأضمن لمن يرغب من هؤلاء بالتفرّغ للدارسة في الحوزة نفس المستوى المعاشي الذي كان يحصل عليه من وظيفته الحكوميّة إن لم يكن أفضل. وكان يتوخّى من ذلك الإسراع في تربية علماء يملكون ثقافة عصريّة إلى جانب ثقافتهم الدينيّة، وكذلك الارتفاع بالمستوى الاجتماعي للحوزة بتطعيمها بعناصر لهم مكانة في المجتمع، كالأطباء والأساتذة وغيرهم. وكان أيضا ينوي توكيل بعض الأشخاص ـ من غير طلبة الحوزة ـ ممن تتوفّر فيهم مواصفات معيّنة ليمارسوا دور العالم كل في منطقته أو دائر عمله، وقد طبّق ذلك في دائرة محدودة.
وعلى كل حال كان للسيد الشهيد من الطموح ما هو أكبر وأشمل مما ذكرنا بشأن تطوير الحوزة والمرجعيّة والعمل الإسلامي، رغم أن ما تحقق كان يعتبر قفزة نوعية قياسا إلى قدراته الماليّة الضعيفة والوضع السياسي الصعب وأجواء الحوزة المعتمة، والفترة المحدودة التي أتيحت له في إطار العمل المرجعي.[/align]
يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......
-
[align=justify]هذا نموذج واحد من نماذج كثيرة كان يواجهها بسعة صدر وتحمّل كبير.
الحرب النفسيّة ضد السيد الشهيد:
لقد استغلت بعض الأطراف حالة العداء الدائمة بين السيد الشهيد والسلطة لعزله وتهديد مرجعيّته، وكانت هذه الأطراف في نشاطها وفعّاليتها أقوى من السلطة وأخطر منها، حتى أن بعض الطلبة وبسبب الضغط النفسي الناشئ من تخويفهم وإرهابهم ترك حضور بحث السيد الشهيد ومجلسه العامّ. واستطاعت هذه الجهات تجاوز نطاق الحوزة إلى الأمة، فكانوا يلوّحون بمديريات الأمن لمن يحاول الاقتراب من السيد الشهيد.
وأتذكر أن رجلا من المناطق الجنوبية في العراق جاء إلى النجف لزيارة أمير المؤمنين، فحدّث السيد الشهيد بما جرى له ، فقال: كنت لا أعرف أين يقع منزلكم، وكانت رغبتي شديدة أن أزوركم وألتقي بكم، فوقفت في الصحن الشريف أنتظر من يدلّني، فمرّ بقربي أحد (المعمّمين)، فسألته عن منزلكم فقال لي: إن منزل السيد الصدر مطوّق من قبل سلطان الأمن، وسوف تعتقل حال وصولك. ثم سال آخر وآخر فكان الجواب واحدا، إلا أن أحد الطلبة الشباب دلّني على منزلكم، وأخبرني بأن الأمور طبيعية، وقال لي: لا تخف، وأتى بي إلى هنا، وأنا الآن أرى الأمور طبيعيّة، فلماذا يفعل هؤلاء هكذا. وكان في حيرة شديدة لا يعرف كيف يفسّر تلك الظاهرة!
هذا النموذج يعبّر عن مئات، أو آلاف النماذج المشابهة التي كانت تصلنا أخبارها بين الحين والآخر، وما خفي أكثر واكبر، وكانت السلطة تغذي هذا الطرح وتدعمه، وتحاول إرهاب أكبر عدد من الناس من خلال الحملات النفسيّة المشابهة.
أعتمدت السلطة في حربها النفسيّة على أمرين:
الأول: الاعتقالات التي تعرض لها السيد، وكذلك أنصاره وأعوانه من بين المراجع والمرجعيّات التي كانت قائمة آنذاك في النجف الأشرف، فكان يشاع بين الناس أن السلطة لم تكن لتعتقل الصدر لولا تورّطه بأمور خطيرة، وإلا فلماذا لا تعتقل المراجع الآخرين؟
الثاني: مقاطعتها السيد الشهيد وهو أمر في غاية الأهمية، فكان يقال : إنّ السلطة لا تعترف بمرجعيّة الشهيد الصدر، وتعتبره عدوّها، بدليل أن فلان عضو مجلس قيادة الثورة مثلا زار المرجع الفلاني، ولم يزر السيد الصدر، وهكذا. وأفرزت الحملة النفسيّة بتفاصيلها الواسعة حالة من تطويق شديد للشهيد الصدر، فكان مجلسه اليومي محدودا بعدد من الطلبة الشباب لا يتجاوزون عدد الأصابع، وكان بحثه كذلك وكانت صورة قاتمة ترتسم في الأذهان عن المستقبل إن استمر الوضع على هذا الشكل، بل أستطيع أن أجزم بأن مرجعيّة السيد الشهيد كانت على وشك الانهيار التامّ، أو لا أقل الانزواء الكامل، حتّى أنّه اضطرّ إلى ترك التدريس فترة من الزمن، وكان على وشكّ أن يغلق باب داره.
وتصدّي الراشدون الأبرار من الطلبة للعمل من أجل الدفاع عن هذه المرجعيّة، وحماية كيانها، وانضمت إليهم الطلائع الواعية من المؤمنين في صفوف متحدّة متراصة وجنود متواصلة، ورغم الأخطار التي كان من المحتمل أن يتعرّضوا لها، كان في طليعة هؤلاء سماح العلامّة حجة الاسلام الشيخ أديب حيدر فقد لعب دورا كبيرا في مجال إحباط مخطط الحرب النفسيّة وتمكن السيد الشهيد أن يشق الطريق بثبات وعزم، فامتدّ إلى أعماق الأمة فاضطرت السلطة فيما بعد ـ رضوخا لسياسة الأمر الواقع ـ إلى الاعتراف بمرجعيّة، والتعامل معه تعامل الند للند، وكانت الخطورة الاولى في هذا المجال زيارة زيد حيدر عضو ما يسمي بالقيادة القومية لحزب البعث.
[align=center]زيارة زيد حيدر:[/align]
قبل زيارة حيدر للسيد الشهيد كان مستوى الشخصيات الحكوميّة التي تزوره منحصرة تقريبا بمدير أمن النجف، أو القائم مقام، وحتّى هؤلاء لم تكن زياراتهم وديّة، بل كانت تتم ضمن مخطط وأهداف معيّنة، إلا أن زيارة زيد حيدر قلبت الموازين، وشكّلت منعطفا كبيرا في هذا المجال.
جاء زيد حيدر وهو لا يحمل مطلبا معيّنا ولا اقتراحا خاصّا، وقد ظل ساكتا طيلة مدّة الزيارة مستمعا فقط للسيد الشهيد وهو يتحدّث، وقد قال السيد الشهيد في جملة ما قال: جاء في الحديث (إذ رأيتم الحكّام على أبواب العلماء، فقولوا نعم الحكّام ونعم العلماء، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الحكّام، فقولوا بئس العلماء وبئس الحكّام).... ثم قال: إن العلماء هم المؤشر الحقيقي الذي يعكس بأمانة مطالب الشعب و رغباته، إن المواطن لا يتحرّج من البوح بما في نفسه أمام العالم، بينما لا يفعل ذلك أمام الدولة، فإذا أردتم معرفة مطالب الشعب الحقيقة ورغباته المشروعيّة، فعليكم بمراجعة العلماء والاستفسار منهم.
ثم تحدث عن دور العلماء في لبنان أثناء الاستعمار الفرنسي لها، ودورهم الكبير في تحريض الشعب على الاستقلال، ودور الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في تلك الأحداث.
وطال الحديث، وكانت الزيارة في المجلس العامّ وبحضور عدد من الطلبة والعلماء. لقد نقل فيما بعد أن زيد حيدر اعترف أمام قيادته في بغداد بأن السيد الصدر مفكّر عربي من طراز فريد، وأنه يستطيع تدوين قوانين دولة في مدّة يسيرة من الزمن. وعلى كل حال فقد انتشر خبر زيارة زيد حيدر للسيد الشهيد والسلطة، وبدأ سوط الرعب الذي يحرّكونه متى أرادوا هزيلا لا يقوى على إخافة أحد، فكثر تردد الناس، وعادت الأمور بالتدريج إلى حالتها الطبيعيّة.
[align=center]زيارة حسن بن علي:[/align]
وحصلت حادثة أخرى، مثيلة لسابقتها، وهي زيارة حسن علي عضو مجلس قيادة الثورة ووزير التجارة للسيد الشهيد ، وهي أيضا لم تكن متوقّعة وكانت في المجلس العامّ.
ولم يدر في تلك الجلسة ما يستحق الذكر، ولكن كان تأثيرها في كسر حاجز الخوف كبيرا.
بعد ذلك كثرت زيارة مختلف مراتب المسؤولين من حكوميين وحزبيين، وكانت كلّها تساهم في تحقيق تلك الحالة من حيث لا يشعرون، وقد أعماهم الله وأصمّهم.
واستطاع السيد الشهيد أن يكسب الوقت، حتّى اضطرّت السلطة إلى التعامل معه تعامل الندّ للندّ. فمثلا وبعد زيارة أعضاء القيادتين جاء فاضل البرّاك مدير الأمن العامّ من مساعده مدير الشعبة الخامسة الخاصّة في تعذيب المؤمنين لزيارة السيد الشهيد، وكان متخفّيا، فكل السيارات التي كانت معه تحمل أرقاما خليجيّة، ومعظم الأفراد الذين جاءوا لحمايته كانوا بزّي خليجيّ ، وكان يظهر الحبّ والمودّة حتى أنّه قال للسيد الشهيد في المكالمة التلفونيّة من بغداد التي طلب فيها موعدا للزيارة، إنّه يريد أن يحضر مائدة عشاء مع السيد الشهيد وحصر هدف الزيارة بذلك ليظهر نوعا من المودّة، وبعد أن التقى بالسيد الشهيد طلب اجتماعا ثنائيا خاصّا، واعتقد أن سبب ذلك كان خوف البرّاك من مساعده، فقد كان الصراع بين جماعة البكر وصدام على أشدّه، والبرّاك كان محسوبا في تلك الفترة على البكر. ولعل مساعده كان محسوبا على صدام. وعلى كل حال كانت خلاصة الاجتماع كما اخبرني السيد الشهيد ما يلي: (إن البرّاك أعطى للبكر انطباعا حسنا عن السيد الشهيد، وإن البكر يكن بالغ الاحترام للسيد الصدر، وأمثال هذه العبائر.... ثم قال: أرى من صالحنا جميع أن نتّفق على أن لا نتدخل في شؤونكم وأن لا تتدخّلوا في شؤوننا، ثمّ قال إنّني أستطيع أن أهمل جميع التقارير التي تكبت عنكم وترفع إلينا من قبل مديرية أمن النجف وغيرها، إلا إنّني لا أستطيع أن أفعل شيئا للتقارير التي ترفع للقيادة مباشرة من قبل أشخاص في الحوزة نفسها، فأرجو أن لا يصدر منكم شئ يسبب لي إحراجا أمام القيادة)، وذكر للسيد الشهيد أسماء بعضهم، ونموذجا من تقاريرهم، ولم يفصح عن أسمائهم إلا في فترة الحجز. هذا أهم فقرات ذلك الاجتماع، وهو يعبّر بوضوح عن الحقيقة التي ذكرتها آنفا.
وعلى كل حال فقد استطاع أن يسكب فرصة زمنيّة استمرت عدة سنوات مكّنته من القيام بأعمال ما كان يمكن أن تتمّ لولا ذلك، أذكرها على سبيل الإجمال:
1 - إعادة بناء الحوزة:
من الأمور التي كانت موضع اهتمام السيد الشهيد وضع الحوزة علميّة الذي لم يكن يتناسب مع تطور الأوضاع في العراق ـ على الأقلّ ـ لا كما ولا كيفا.
فمن جانب كانت السلطة العفلقيّة قد أفرغت الحوزة من معظم الطاقات العلميّة عن طريق التسفير بالنسبة لطلبة العلوم الدينيّة من الإيرانيين وغيرهم، ولم تسمح بالإقامة إلا لعدد محدود من كبار السن، والشيوخ من خلال قوائم تنتخب وتقدّم للسلطة من قبل أحد المراجع.
كما أن الملاحقات المنيّة كانت مستمرّة للطلبة العراقيين والعرب، وبالنسبة للطلبة العراقيين كان أسلوب الملاحقة والضغط يتمثل تارة بدعوتهم إلى أداء الخدمة العسكريّة. وهذا إن تم فسوف يفرغ الحوزة من كل الطاقات الشابة، ولم يبقى إلا الشيوخ وكبار السن، وتارة بتوجيه الاتهامات السياسيّة إليهم، وما يتبعه من ملاحقة أمنيّة.
هذا الواقع أحدث عزوفا عن الدارسة في الحوزة، أو الانتماء إليها خاصّة وأنّ اللانظام هو النظام الذي يسودها، فالطالب الجديد الذي يفكّر بالدراسة فيها سيجد كل شئ مجهولا وغامضا الحاضر والمستقبل، وكلّ شئ.
ورغم أن عمليّة التغيير تحتاج إلى تكاتف كل الطاقات والإمكانات، مع توفّر الوعي والقناعة التامّين بضرورة وأهميّة التغيير،إلا أن السيد الشهيد كان يدرك أن الأوضاع السائدة وخاصّة أوضاع معظم المرجعيات التي كانت قائمة، وكذلك أوساط كثيرة في الحوزة التي ألفت تلك الحياة القائمة على عدم النظام لا تستسيغ محاولات التغيير، أو الإصلاح، ولكن مع ذلك ما كان هذا ليحول دون إجراء كل ما هو ممكن وضروري.
كانت أهم قضية في تلك الفترة هي جذب الطاقات الشابّة المثقّفة الواعية وتطعيم الحوزة بها، وإثراؤها بالقوى البشرية الكفوءة والقادرة على أداء مهمّة التبليغ إلى الله ـ تعالى ـ على أحسن وجه.
وبما يلبي حاجات العراق ـ على الأقل ـ من العلماء الرساليين المخلصين. وبدأ خطواته على هذا الصعيد بحثّ وكلائه على تشجيع الشباب الذين تتوفّر اللياقة والكفاءة، وخاصّة من الشباب الجامعيين على الانتساب إلى الحوزة وكان قد تعهّد لهذا الصنف من الشباب بكفالتهم مادّيّا كفالة تامّة، بل وباشر بنفسه هذه المهمّة فكان يحثّ بعض الشباب ويرغّبهم بذلك في مجلسة العامّ الذي كان يعقده قبل ظهر كلّ يوم.
وخلال فترة قصيرة انتسب إلى الحوزة الكثير من الشباب، وامتلأت بهم بعض المدارس وخاصّة مدرسة أمير المؤمنين الواقعة في منطقة (الجديدة) والمدرسة الشبّريّة الواقعة في محلّة البراق. وفي الفترة الأخيرة اضطر إلى إصلاح مدرسة الجزائري التي كانت مهجورة لإسكان الطلبة فيها.
ولاجل تقديم خدمات إضافية إلى الطلبة وتوفير الوقت لهم وتهيئة الجوّ الدراسي المناسب قرّر توفير وجبات الطعام للطلبة، وبدأ هذا المشروع بطلاب المدرسة الشبّريّة كخطوة اولى ، وكان من المقرّر أن تعمّم على باقي المدارس، كما أمر بتوفير أجهزة غسل الملابس الكهربائية للمدارس كخطوة أخرى للغرض نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك اهتمّ بتهيئة الكادر الكفوء من الأساتذة، وأمر بعض تلامذته بتدريس أيّ مادّة علميّة حتّى لو كانت أقل بكثير من مستواهم العلمي، بل كان يهتمّ شخصيّا بمراجعة بعض الطلبة له بخصوص تحصيل أساتذة لهم.
ورغم العمر القصير لهذا المشروع فقد بدأت ثماره تنمو بسرعة كبيرة، فلقد تمّ بناء لبنات الجيل الجديد من العلماء، وكان نعم الجيل مباركا طيّبا.
2 - تغيير المناهج الدراسيّة:
والخطوة الأخرى كانت تغيير المناهج الدراسيّة في الحوزة العلميّة، حيث كانت المناهج الدراسيّة فيها تشكل عقبة كبيرة أمام تطور الحوزة بالشكل الذي تتطلّبه الأوضاع وحاجات المجتمع، إذ لم تكن قادرة على بناء علماء أكفّاء في فترة زمنيّة معقولة، بل كانت تستوعب قدرا كبيرا من عمر الطالب، وبالتالي كان يؤثر على مقدار عطاء الحوزة من العلماء، ولهذا السبب كانت معظم مدن العراق تعاني من فراغ خطير في هذا الجانب، في الوقت الذي كانت في السلطة البعثيّة قد استوعب كافة مدن العراق وغطّت كافة قراه ونواحيه بالمنظمات الحزبيّة والثقافيّة، بل امتدّ نفوذها إلى معظم مساجد وحسينيات الشيعة، وسيطرت عليها.
وعلى كل حال كان هناك أكثر من سبب يدعو إلى إعادة بناء المنهج الدراسي الحوزوي، وصياغته صياغة حديثة تختصر الوقت مع الاحتفاظ بالمستوى العلمي والعمق والدقّة.
ومن هنا فكّر بإعداد كتب دراسيّة تكفل للطالب تلك الخصائص، فكتب معظم مواد حلقات (دروس في علم الاصول) في مدّة شهرين، كما ذكر هو ذلك في مقدّمة الحلقة الاولى، وبيّن في مقدّمة الكتاب أسباب تأليف الكتاب والضرورات التي دعت إلى كتابته.
وقد استطاعت حلقات (دروس في علم الاصول) أن تحقّق هدفها في اختزال الوقت مع مراعاة جانب تلقي المطالب العلميّة الذي يقتضي التدريج في الطرح وبيان المسائل، مع احتفاظها بالمستوى العلمي الرفيع حيث تضمّنت أحدث النظريات العلمية في علم الاصول، ولا زالت تشق طريقها في الحوزات والمعاهد العلميّة الدينيّة، وكان أول طالب ـ على ما أذكر ـ درس كتاب دروس في علم الاصول هو الشهيد الشيخ محمد البشيري نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسين البشري.
وكان السيد الشهيد قد أعد العدة لكتابة (دروس في علم الفقه) على نفس منهجيّة (دروس في علم الاصول) من التدرّج في تعميق المادّة العلميّة من مرحلة الفتوى وحتى مرحلة الاستدلال المعمّق،فقد وضع مخطط وهيكلية الكتاب إلا أنّ يد الإجرام عاجلته قبل أن ينجز هذا المشروع العلمي الفريد.
وكان السيد الشهيد تصوّرات وأفكار تتعلّق بهذا الموضوع لا مجال لذكرها الآن.
إرسال الوكلاء:
وقد استيعاب الساحة ببعث العلماء والوكلاء إلى مختلف مناطق العراق، وكان له منهج خاص وأسلوب يختلف عمّا كان مألوفا في طريقة الإرسال.
كان الأسلوب السابق ـ باستثناء مرجعيّة الإمام الحكيم ـ ينحصر في أن المنطقة التي ترغب بطلب عالم يقيم فيها تتكفّل جميع نفقاته الماليّة والمعاشيّة، والمرجع يحدّد له نسبة معيّنة من الحقوق الشرعيّة بما يشبه المضاربة. وهذا الأسلوب تترتّب عليه سلبيّات كثيرة، منها أن بعض المناطق وبسبب أوضاعها الاقتصادية الضعيفة لا تتمكّن من تغطيّة نفقات العالم،فتعزف عن التقدّم
(1) ارسلنا اليكم ثلاثين من الحلقات الثلاث في البريد و إذا امكن ان يطلب بعض اصحاب المكتبات كمية من الكتاب من بيروت ابتداءً فهو اسهل ونحن هنا استوردناالف دورة والاقبال على الشراء قياسي و كبير جداًالأمر الذي جعلني افكر على الخط الطويل في كتابة مشروع مماثل لما يدرس من الفقه في السطوح وثيقة رقم (10) ص 344.
للمرجع لطلب عالم يقيم بينهم، وتكتفي فقط باستدعاء خطيب لمناسبة محرّم وشهر رمضان على أحسن الأحوال.
ومنها أن بعض ذوي الثروة يحاول السيطرة على العالم، ويقيّده بسياسة خاصّة مستغلا الضغط في حال كفالته لعالم المنطقة.
وكان من شأن هذا الأسلوب أن يعطي صورة سلبية عن المبلّغ والعالم، فيعتبر في نظر النسا متسولا أو مسكينا يستحق العطف والمساعدة، وليس قائدا للناس، وموجّها لهم.
أما السيد الشهيد فقد اتخذ سياسة جديدة تحقق الكثير من الإيجابيات، وتخلو من جميع السلبيات التي أشرنا إلى بعضها فيما سبق، وكانت أركانها الأساسية ما يلي:
1 - حرص على إرسال خيرة العلماء والفضلاء هديا وأخلاقا وتقوى وإحاطة بما تتطلّبه الحياة والمجتمع، وتجنّب إرسال العناصر المتّسمة بالجفاف والانزواء، والتي لا تعرف مقتضيات العصر ومتطلباته.
2 - تتكفّل المرجعيّة بتغطية كافة نفقات الوكيل الماديّة، ومنها المعاش والسكن، سواء كان إرسال الوكيل بطلب من المنطقة، أو مباشرة من قبل المرجع.
3 - الامتناع عن قبول الهدايا والهبات التي تقدّم للعالم من قبل أهالي المنطقة.
4 - العالم وسيط بين المنطقة والمرجع في كل الأمور، ومنها الأمور الماليّة، وقد ألغيت النسبة المئويّة التي تخصّص للعالم.
أما النتائج الإيجابيّة التي ترتّبت على هذه السياسة فكثيرة أذكر منها:
1 - تحرّكت المناطق التي كانت غير قادرة على تغطية نفقات العالم، فطلبت علماء للإقامة فيها، وأمكن بذلك ملء الفراغات الكبيرة، وخاصّة في مناطق المستضعفين، كما حصل في مدينة الثورة التي تعتر من أهمّ مناطق بغداد على
(1) راجع ما كتبه السيد الشهيد بخصوص هذا الموضوع في ص 173.
الصعيد الشعبي والجماهيري، وأدّى ذلك إلى ولادة تيار إسلامي أقلق سلطة البعث العمليّة.
2 - وانتجت هذه السياسة أيضا رغبة قويّة بين الشباب المثقّفين للاتّجاه إلى الحوزات والدراسة فيها.
3 - أثرت هذه السياسة في تغيير الصورة السلبيّة الموروثة عن العالم، وأعطت عنه صورة إيجابية برّاقة، فمثلا استطاع سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ حسن عبد الساتر أن يحدث تأثيرا كبيرا في الكوت مركز محافظة واسط، وصنع جيلا من الشباب الواعين المؤمنين المثقّفين، بل ويؤثر حتّى على طبقة كبار السن من الشيوخ لأنّ هؤلاء لم يعهدوا عالما يترفّع حتّى عن قبول الهدايا والهبات، بل كان يتفقّد الفقراء والمعوزين، وينفق عليهم.
ونموذجا آخر هو المرحوم الشهيد الشيخ عبد الأمير محسن الساعدي الذي كان وكيلا في إحدى مناطق محافظة ديالى، فكان يشارك أهل المنطقة حتّى في زراعة حقولهم وجني الثمار من بساتينهم، رغم إصرار أهل المنطقة على منعه من ذلك. ولمّا أنهى موسم التبليغ ـ وكان شهر رمضان ـ وأراد مغادرة المنطقة إلى النجف قدّم له الأهالي مبلغا قدره مائة وخمسون دينارا كهدية ، فأبى قبولها، وقال لهم: إن السيد الصدر يتحمّل كافة نفقاتي، وإن وظيفتي التبليغ والإرشاد، وليس جمع المال. وألحّ أهل المنطقة على دفع المال إليه، فاضطر إلى أخذه، ثم قدّمه كهدية إلى الحسينيّة، ممّا أثار إعجابهم. فهذا العفاف والترفّع لم يكن معهودا في السابق.
وكان لكلّ عالم بعثه السيد الشهيد أكثر من قصّة من هذا القبيل، هزت المشاعر، وحرّكت القلوب، وأعطت العالم مكانة خاصة في القلوب والنفوس.
وفي الوقت نفسه استطاع أن يحجّم معظم أولئك الذين استغلّوا فراغ المناطق من العلماء ، فنصّبوا أنفسهم علماء، وتلبّسوا بزي علماء الدين، وكان معظمهم يعمل لصالح السلطة، ويسير في فلكها، والغريب أن بعضهم استطاع الحصول على وكالات من مراجع كبار ما كان يحتمل أن يصدر منهم ذلك، لقد وقف السيد الشهيد بوجه هؤلاء وقفة حازمة، فحرّم الصلاة خلفهم، أو التجاوب معهم في أي نشاط ديني واجتماعي، وكان هذا الإجراء يعتبر نوعا من المواجهة مع السلطة، لأنّها هي التي نصّبت معظمهم.
وأتذكر أن أحد هؤلاء وكان يسكن مدينة الثورة أجبر المصلّين في أحد المساجد على تشكيل وفد برئاسته ليطلبوا له وكالة من السيد الشهيد، فلمّا حضر الوفد طلب الشيخ من السيد الشهيد توكيله، وقال: هؤلاء أهل المنطقة يرغبون بذلك.
وهنا توجّه السيد الشهيد السؤال إليهم بقوله: هل ترغبون بتوكيل الشيخ؟ فقالوا: كلا، فغضب الشيخ غضبا شديدا لأنّه يعلم أن عدم منحه وكالة من قبل السيد الشهيد يعني إنهاء وجوده الديني والاجتماعي وكان بعض أعضاء الوفد قد أخبر السيد الشهيد قبل ذلك بأن هذا (الشيخ) أجبرهم على تشكيل الوفد، ولم يتمكّنوا من الامتناع لأنّه يعمل مع أجهزة الأمن، وتمكّن من تطهير تلك المساجد من أمثال هؤلاء، وإبدالهم بالأكفّاء الصلحاء من خيرة شباب الحوزة العلميّة في النجف.
ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أن السيد شجّع الكثير من الشباب المثقّفين كالأطباء والمدرسين وأمثالهم على دراسة ما يمكن من المناهج العلمية التي تدرّس في الحوزة، وخاصّة الفقه والأصول في إطار الاستفادة من هذه الطاقات لسد الفراغات الكبيرة التي تعاني منها المساجد والحسينيّات، وحتّى المراكز العلميّة والتربويّة التي يعملون فيها كموظفين وإداريين. وكان يقول : سأضمن لمن يرغب من هؤلاء بالتفرّغ للدارسة في الحوزة نفس المستوى المعاشي الذي كان يحصل عليه من وظيفته الحكوميّة إن لم يكن أفضل. وكان يتوخّى من ذلك الإسراع في تربية علماء يملكون ثقافة عصريّة إلى جانب ثقافتهم الدينيّة، وكذلك الارتفاع بالمستوى الاجتماعي للحوزة بتطعيمها بعناصر لهم مكانة في المجتمع، كالأطباء والأساتذة وغيرهم. وكان أيضا ينوي توكيل بعض الأشخاص ـ من غير طلبة الحوزة ـ ممن تتوفّر فيهم مواصفات معيّنة ليمارسوا دور العالم كل في منطقته أو دائر عمله، وقد طبّق ذلك في دائرة محدودة.
وعلى كل حال كان للسيد الشهيد من الطموح ما هو أكبر وأشمل مما ذكرنا بشأن تطوير الحوزة والمرجعيّة والعمل الإسلامي، رغم أن ما تحقق كان يعتبر قفزة نوعية قياسا إلى قدراته الماليّة الضعيفة والوضع السياسي الصعب وأجواء الحوزة المعتمة، والفترة المحدودة التي أتيحت له في إطار العمل المرجعي.[/align]
-
[align=justify][align=center]الصراع الدائر بين السيد الشهيد والسلطة[/align]
منذ الأيام الاولى حزب البعث العميل إلى السلطة عام (1968 م) أدرك السيد الشهيد خطورة هذا النظام، وما يحمل من أفكار
(1) بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى المرجع الديني دام ظله س : ما هو الأسلوب الذي يجب ان يمارسه الشباب الجامعي او الموظف الاداري لنشر تعاليم الدين الحنيف و بث مفاهيم الإسلام و ما هي المتطلبات التي ينبغي للمسلم المعاصر ان يتوفر عليها في طريق الدعوة الى الإسلام ؟
19 صفر 1394
بسم الله الرحمن الرحيم
ج: لا بد اضافةً الى تجسيد الرسالة الإسلامية في سلوكه و اخلاقه وعلاقاته ان يستعمل في العمل لأجل رسالته لغة العصر ومنهاج الفكر الحديث ويصب المحتوى الإسلامي في إطار هذه اللغة و المنهج مقارناًبافكار العصر ومعطيات الحضارة السائده ويقوم في نفس الوقت بدور الوسيط بين الجامع الرشيد الذي يحمل رسالة الإسلام و الوسط و الذي يعيش فيه لأن كثيراً من الأوساط لا صلة فعلية لها بالجوامع فلا بد من همزات وصل تحمل الإشعاع وتمارس عمل إمام الجامع الرشيد في قطعاتها المختلفة و تعيد الى الناس الأمل في قدرة دينهم على تلبية حاجاتهم ومسايرة طموحهم المشروع وحل مشاكلهم في الطريقة الفضلى .محمد باقر الصدر
راجع وثيقة رقم (11),ص 345.
هدّامة، ومخططات إجراميّة ضدّ الإسلام، والمراكز والقوى الإسلاميّة.
كان من الطبيعي في بادئ الأمر أن ترفع السلطة شعارات برّاقة عن الحرية، والعجالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بهدف تضليل الجماهير، والتمويه عليهم، ولكن لم يمض وقت طويل حتى كشف النظام عن وجهه البشع، وصورته الحقيقية، وهويّته الإلحاديّة، وتوجّهاته الحاقدة والمعادية للدين من خلال ممارسته وأعماله التي فاقت في الإجرام والوحشيّة كلّ تصوّر.
جاء هذا الحزب العميل ليسخّر ثروات العراق وأمواله وما فيه من طاقات وإمكانات للقضاء على الإسلام واجتثاثه من قلوب العراقيين وأرواحهم، واستبداله بعقيدة ميشيل عفلق، والعيسمي، وأمثالهم من الماسونيين وعبدة الصليب، فحارب الإسلام بضراوة بالغة، وقتّل العلماء والصلحاء من أبناء العراق دون رحمة، فتضرّجت أرض العراق بدماء أبنائها وشبابها بما لا نظير له في التاريخ.
كانت الخطورة الاولى التي كشفت حقيقة هذا النظام هي توجيه تهمة الجاسوسيّة للشهيد السعيد السيد مهدي الحكيم، وكان المستهدف الحقيقي بذلك هو الإمام الحكيم مرجع الشيعة العامّ، وبالتالي المرجعيّة العامّة نفسها، والتي كانت حربة في قلوب العفالقة، وشوكة في عيونهم.
ثم أعقبتها الخطوة الثانية التي تمثلت بإعدام الشهيد عبد الصاحب دخيل بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية.
وتلا ذلك حملات التهجير والتسفير للطلبة وأبناء الشعب، بذريعة أن هؤلاء من أصل إيراني،وكان الهدف الحقيقي هو إفراغ الحوزة العلميّة في النجف وغيرها من الكوادر العلميّة تمهيدا للقضاء عليها، وكذلك الإخلال بالنسبة المئويّة للشيعة في العراق.
واستمرّ مسلسل الإجرام في حلقاته المعدة والمدروسة دون انقطاع، فكان له في كل يوم ضحية، وله في كل ساعة قربانا من خيرة أبناء العراق يفترسه بأنياب أسود، وعداء شديد للإسلام وللمؤمنين به، إنّ كل العراقيين يعرفون ذلك، وحتّى أطفالا يعرفون البعث ضدّ الإسلام.
ولكن هل من طريق للخلاص؟ لم تكن القوى المعارضة للسلطة بالمستوى القادر على مواجهتها ومقارعتها وجها لوجه، فالحركات الوطنيّة ـ كما يسمّونها ـ قد فقدت كل قوّة ، والأحزاب الإسلاميّة كانت ولا تزال تحبو وهي مع ذلك نالت من الاضطهاد والعنف ما لم تنله الأحزاب الأخرى غير الإسلامية وهي أوج قوّتها وعنفوان شبابها.
والمرجعية بشكل عام ـ إذا استثنينا مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم التي كانت واعية لدورها ومسؤوليتها ـ كانت تعيش هموما أخرى بعيدة عن هذا الخطر، بل اعتقد أن أحدا لم يصل بتفكيره إلى هذا المستوى، وإلى هذا اللون من التطّلع، بينما كان أخطبوط البعث يمتدّ إلى كل ميدان ومرفق، إلى كل قرية وناحية ومدينة ومحافظة، بل وتجاوز العراق إلى أقطار أخرى كاليمن والسودان والأردن وغيرها من الدول.
وكنا نرى مواكب الفتوّة والطلائع والرفاق تمرّ من قرب حرم أمير المؤمنين علي تنشد ألحان الصليب وشعاراته، متحديّة عليّا في مضجعه، وكانت أناشيد الإشادة بالبعث التي تبثّ من مكبّرات الصوت تختلط مع الآذان.
وكنا نرى الفلاّح رفيقا، والعامل رفيقا، والطالب رفيقا، ونرى السكارى والفاسقين ومن أفنوا عمرهم في الرذيلة يسمّون بالمناضلين، والكل يكفر بالله جهرة، ويتبرّأ من كل القيم الخيّرة عن علم أو جهل.
وكان الأخيار والعلماء يضرجون الأرض بدمائهم في زنزانات البعث، وسجونه، ولا من مكر ولا من رادع.
كان كل شئ يسير إلى الهاوية في ظل خطّة مدروسة ودقيقة، ينفذها حزب البعث في العراق، وكان السيد الشهيد يراقب تلك الأوضاع بدقة، وكان قلقا إلى حد كبير وهو يواكب المسيرة التائهة في دياجير الظلام. ورغم أن إمكاناته الماديّة لا تتيح له الكثير من الفرص، ورغم أن كيانه المرجعي ووضعه الاجتماعي كان محدودا قياسا بالآخرين لا يمكّنه من العمل إلا في حدود ضيّقة، ومع ذلك فقد خطى عدّة خطوات باتّجاه إسقاط النظام، واقتلاع جذوره في العراق. وتحرّك باتجاهين:
الاتّجاه الاول: كان نحو تفتيت حزب البعث في المجتمع العراقي واعتباره وجودا غير مشروع.
الاتّجاه الثاني: كان لإسقاط النظام، أو على أقلّ تقدير اجتثاث الرأس الذي يقف وراء كل تلك المخططات الإجراميّة التي استهدفت الإسلام والمسلمين.
وكان تشخيص السيد الشهيد أن صدّاما التكريتي هو الرأس المدبّر للنظام، وكان هذا التشخيص في وقت مبكّر جدا، وقبل استلام صدّام لكافة السلطات، وقد سمعته كرارا يردّد هذا التشخيص، ويقول:
( مادام هذا الشخص في الحكم لا يمكننا عمل شئ، بل إذا سكتنا عنه فسوف يحطّم ويهدّم الكيان الإسلامي في العراق).
وعلى هذا الضوء بادر السيد الشهيد إلى القيام بعدّة أعمال، أذكر منها التالي:
1 - على أساس الاتّجاه الأوّل، وهو تفتيت حزب البعث واعتباره وجودا غير مشروع أصدر فتواه بتحريم الانتماء إلى حزب البعث.
لم يكن هذا الموقف تحدّا للسلطة فرضته طبيعة الصراع، كما لم يكن السيد الشهيد بوجوده المرجعي والاجتماعي بمستوى هذه الصراحة الخطيرة والمواجهة المباشرة مع السلطة العاتية المجرمة، بل كان يقدّر العواقب الكبيرة والأخطار الهائلة التي تترتّب على هذا الموقف، وهو يعلم أنّه يعيش في الحوزة التي لم تكن مستعدّة لمساندته والدفاع عنه، باستثناء شرائح قليلة منها لا تدفع عنه ضيما، وهو يعلم أن امكاناته ليست بمستوى هذه المواجهة الخطيرة، كما أن السلطة من حيث القوة والامكانات قادرة على كسب الصراع بسهولة، ومع ذلك قرر السيد الشهيد أن يتخذ هذا الموقف وبوضوح تام.
وكان لهذا الموقف ما يبرّره، فقد وجد أن المكاسب أكبر من الخسائر بالنسبة لمجمل الوجود الإسلامي في العراق على المدى البعيد، وبدون اتخاذ هذا الموقف ستكون النتيجة معكوسة. وكان يقول:
(يجب أ نفرق بين براءة ذمّة المكلّف على الانتماء لحزب البعث أمام الله،وبين النتيجة العمليّة التي تترتّب على ذلك والآثار الخطيرة التي ستنتج على صعيد الواقع. فعلى الثاني لو أن المؤمنين وغيرهم أيضا أكرهوا على الانتماء لحزب البعث بسبب الضغط الوظيفي أو الدراسي أو غير ذلك، فإنّه وبمرور الزمن ستنشأ الأجيال، فتجد أن الانتماء لحزب البعث أمر طبيعي لا يتحرج منه من الناحية الدينية).
وكان يقول:
(أنّني أعلم أن هذه الفتوى سوف لن تؤثر في الوقت الحاضر التأثير المرجوّ منها وذلك لأن السلطة طوّقت حياة الموطن العراقي في كل مناحيها، وخاصّة الاقتصاديّة بالانتماء لحزب البعث. وسواء أفتينا بحرمة الانتماء أم لا فإنّه على كل حال سينتمي للحزب، ولكن فرق بين أن ينتمي وهو يعلم أن هذا العمل محرّم شرعا. وبين أن ينتمي وهو يرى أن الانتماء أمر طبيعي لا حرج فيه من الناحية الشرعيّة، إن هذا الأمر في غاية الأهميّة، ويجب أن نأخذه بنظر الاعتبار).
ورغم أن انتشار الفتوى كان محدودا، فأن عدا كبيرا من المؤمنين ممكن كانوا قد انتموا لحزب البعث مكرهين أو مضطرين راجعوا السيد الشهيد إمّا للتعرّف على الموقف العمي بعد أن علموا بحرمة الانتماء، أو لبيان المبرّرات التي تجعل من غير الممكن خروجهم من الحزب، فكان جوابه:
( إن من يتمكّن من توفير مستلزمات حياته المعاشيّة عن طريق التجارة والعمل، فيجب عليه ذلك).
وكان يجب أولئك الذين لا تسمح لهم الظروف بالخروج من الحزب بأنّه (يجب عليكم العلم من داخل الحزب لتفتيه بأي شكل ترونه مناسبا....). ومن الطبيعي أن يتسرّب خبر الفتوى إلى السلطة، فبعث جواسيسها لتسيل الفتوى من لسان السيد الشهيد لإدانته بها فيما بعد، ولم يكن حذرا من ذلك، وأتذكر أن أحد العلماء طلب من السيد الشهيد أن يحتاط في الجواب، ويقتصر على الأشخاص الموثوقين تماما. وكان الجواب السيد الشهيد:
(لا ضير من ذلكن، فأنا اريد أن يعلم الجميع أن الانتماء لحزب البعث حرام، ولتعلم السلطة بموقف المرجعيّة الرافض لحزبها وعقائدها).
ومن المؤكّد أن المردود الإيجابي لهذه الفتوى كان كبيرا، بل أقلق السلطة وهي في أكمل مراحل قوّتها، ولم تتمكّن من اتّخاذ رد الفعل المناسب الذي كنّا نتوقعه في ذلك الوقت.
والحقيقة أن هذا الموقف المشهود يعتبر من أشجع وأنبل المواقف للسيد الشهيد قياسا إلى الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في العراق، فمن عاصر تلك الفترة السوداء وشاهد نظام البعث يقتّل حتّى الأطفال والنساء والشيوخ لمجرد الظن والتهمة، لا لجريمة اقترفوها أو ذنب ارتكبوه يدرك أيّة شجاعة كان يتمتع بها شهيدنا العظيم، وأيّة غيرة على الإسلام يحملها ذلك القلب الكبير.
2 - كانت الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة في فترة ما من تاريخ العراق قد فرضت على العلماء والفقهاء أن يتّخذوا موقفا سلبيا من مسألة الدخول في الجيش العراقي، فأفتوا بالحرمة على أساس أنّه عمل مع الظالمين، أو إعانة لهم في ظلمهم. وكان من الطبيعي أن يتجنّب الأخيار الدخول في الجيش متطوّعين. أمّا من لم يكن مهتمّا بالتدين والالتزام، فإنّه وجد في الانضمام إلى الجيش فرصة مناسبة للعيش، خاصّة وأنّ الأوضاع الاقتصاديّة كانت في تلك الفترة رديئة للغاية. ولما ولدت التيارات القوميّة والحزبيّة وجدت في الجيش والقوات المسلّحة مرتعا خصبا للعمل، فحزّب كلّ حزب ما يستطيع منه، وبمرور الزمن أصبح الجيش العراقي اليد الضاربة للأحزاب العلمانيّة والتيّارات القوميّة.
أمّا الإسلام فقد خسر أبناءه، بل أصبحوا ضدّه، وصار هذا الجيش حربة يطعن بها الإسلام والقيم الربّانيّة، وتسفك بيده دماء خيرة أبناء العراق.
كان السيد الشهيد وهو يعدّ لمرحلة المواجهة الشاملة يعرف خطورة هذا الفراغ، وضرورة معالجته، وكان في المرحلة الاولى يفكّر بالمراكز الحسّاسة في الجيش، ومصادر القرار فيه، وعلى هذا الأساس سمح لنخبة منتخبة من الشباب بالانتماء إلى الجيش والقوّات المسلّحة على أمل أن يكونوا النواة الطيّبة للسيطرة العمليّة على الجيش وتسخيره لخدمة الإسلام.
وأمكن خلال فترة وجيزة الوصول إلى بعض قواعد القوّة الجويّة، أو المراكز الحسّاسة في الجيش، حتّى أنّ أحد الطيّارين الذي كان يستدعى في بعض الأحيان لمرافقة طيّارة نائب رئيس الجمهوريّة قد تعهّد للسيد الشهيد بضرب طيّارة صدّام وإسقاطها في الوقت المناسب، وكان مهتمّا بهذا التعهّد.
ولأهميّة الجيش العراقي ودوره الخاصّ والكبير اهتمّت السلطة العميلة في السيطرة عليه سيطرة تامّة، وحرمت على كل عراقي لا ينتمي لحزب البعث الدخول فيه، وأخذت من كل عسكري تعهّدا خطيّا يقضي بإعدامه في حال انتمائه لحزب آخر غير حزب البعث، وشدّدت من قبضتها عليه بكلّ وسيلة إيمانا منها بخطورة وأهميّة هذه الطاقة الكبيرة.
وبعد برهة من الزمن يأتي رجل لا أجد فيه ما يدلّ على تديّنه، فهو حليق اللحية، متختّم بالذهب، يطلب لقاء السيد الشهيد فكنت وحسب أمر السيد أبرز له الاستعداد والترحيب، فإذا اجتمع به يطلب مني أن لا أسمح لأحد بالصعود إلى غرفة المكتبة، وأن لا أترك البيت حتّى ينتهي الاجتماع، ولم يكن السرّ في هذا الأمر مفهوما لي.
وفي فترة الحجز سمعنا بفشل محاولة عدنان حسين للإطاحة بصدّام، رأيت السيد الشهيد يتأسّف، فأردت أن أقول له : إن الأمر لا يعنينا، بل هو في مصلحتنا ونفعنا فقلت (نارهم تأكل حطبهم) فنظر إلي نظرة طويلة، ولم يجب بشيء.
وفي الأيام الأخيرة من الحجز عندما أحسّ بقرب أجله قال لي: أتذكر ذلك الشخص بتلك الأوصاف؟
قلت: نعم.
قال: له قصّة أخبرك لها لتكون ضمن ما سوف تكتبه عنّي. إنّ هذا الشخص كان مبعوثا من قبل عدنان حسي لمهمّة خاصّة، فقد أخبرني بأنه ينوي الإطاحة بصدام، وطلب منّي أن أعطيه وعدا بتأييد الثورة مشروطا بشروط أنا أضعها، وكان منفتحا ومتجاوبا إلى أقصى الحدود. قال: شككت في بادئ المر بذلك، وتصوّرت أن هذه المحاولة من محاولات السلطة للحصول على مستمسك ضدّي، ولكنّه قدّم لي من الأدلّة ما بدّد تلك الشكوك، فقلت له: إن موقفي بالتأييد حسب الشروط ـ كان السيد الشهيد قد بيّن لي تلك الشروط ـ يتوقّف على مدي التزام عدنان حسين بها بعد أن يستلم الحكم، أمّا قبل ذلك فلا أقف موقفا معارضا أو سلبيّا حتّى تتبيّن الأمور.
وقد قال لي : كان هدفي الأساسي هو إسقاط نظام صدام التكريتي لأن صداما هو الرجل الذي يشكّل خطورة حقيقيّة على الإسلام في العراق، كما أنّ عدنان حسين لا يكون أسوأ من صدّام التكريتي على أسوأ التقادير في حال استلامه للحكم.
وما يجب أن اشر إليه هنا أن السيد الشهيد كان يعد لمواجهة مكشوفة مع النظام متى ما توفّرت الإمكانات، أو اقتضت مصلحة الإسلام ذلك، وكانت فكرة التفسير الموضوعي داخلة في هذا النطاق وذلك لأنّه كان يعتقد أنّ المرجعيّة تفتقد الكثير من وسائل وأساليب الصلة بالأمة، ولا توجد للناس صلة بالمرجع إلا من خلال قنوات ضعيفة كصلاة الجماعة، أو الجلسة العامّة اليوميّة، وهي قنوات غير فعّالة ولا مؤثّرة، ولا يستطيع المرجع من خلالها أن يبيّن مواقفه للامّة، ومن هنا وجد أن فكرة التفسير الموضوعي للقرآن تحقّق هدفين في وقت واحد، الأوّل: كتابة تفسير موضوعي للقرآن على طراز جديد وفريد، والثاني: إيجاد منبر للمرجع يتمكّن من خلاله بيان وجهات نظره للامّة كلّما دعت الحاجة.
و على هذا الأساس كان الحضور مفتوحا لكل الطلبة الذين يمكنهم استيعاب المادّة التفسيريّة من دون التقيّد بكونه بمستوى بحث الخارج. وكان تصميمه على فسح المجال لحضور كلّ أبناء الأمة على اختلاف مستوياتهم في مرحلة لاحقة، وبعد أن يصبح مجلس التفسير واقعا لا تتمكّن السلطة من منعه.
ولأهميّة هذا المجلس اقتطع وقتا له من بحث خارج الفقه، وهو أمر يدلّ على مدى اهتمامه بهذه الفكرة، كما شجّع على فكرة تسجيل البحث وتوزيعه من خلال أشرطه الكاسيت ليتاح لمن لا يستطيع حضور الدرس
(1) واعتقد ان عدنان حسين تيقض بعد ان عاش في عمق التجربة الطائفية لنظام التكارتة وسياستهم القائمة على اساس التفريق فقام بهذا العمل ,ليصحح بعض تلك الأخطاء الكبيرة , وإلا فإنه كان يحظى بمركز قوي في السلطة ولدى العائلة الحاكمة وكان يعرف بأنه ( مدلل ) صدام التكريتي , وكان صدام لا يفارقه حتى في سفراته الخاصة , وفي زيارة ( السمك المسگوف ) والتي اصطحب معه فيها السمك من الشوائين إلى فرنسا على طائرة خاصة وعلى مائدة العشاء خاطب صدام رئيس وزراء فرنسا جاك شيراك قائلا له مشيرا إلى عدنان حسين هذا هو العقل الاقتصادي العراقي المفكر ليعرب له عن اعتزازه به .[/align]
الاطلاع على الأفكار والآراء التي تمثّل موقف المرجع من مختلف القضايا في المستقبل.
هذه بعض القضايا التي وقعت في إطار الإعداد لمواجهة النظام وإسقاطه، ذكرتها على نحو الاختصار.
-
[align=justify][align=center]الاعتقالات ومحاولات الاغتيال والمراقبة الحكوميّة
الاعتقالات لتي تعرض لها الشهيد الصدر[/align]
ولنقف لحظات مع صفحة من تاريخ هذا المرجع المظلوم، هذه الصفحة التي الفرد بها دون غيره من مراجع تاريخنا المعاصر، وما عاني من ظلم واضطهاد، وما كشفت عنه من خصائص كان يتمتّع بها، من صمود وثبات واستهانة بالموت من أجل القيم الإسلامية.
[align=center]الاعتقال الأول[/align]
اعتقل السيد الشهيد في ظل حملة إرهابيّة شنّتها السلطة وقادها المجرم المعروف ناظم كزار مدير الأمن العامّ في ذك الوقت.
والحقيقة ليست لدي معلومات خاصة عن ذلك الاعتقال، إذ لم تكن علاقتي بالسيد الشهيد في تلك الفترة إلا في الحدود العامّة لباقي الطلبة ممّن هم في عمري، إلا أن سماحة آية الله السيد كاظم الحائري كتب في (مباحث الأصول) عن ذلك الاعتقال، والظروف التي أحاطت به ما يلي:
(اعتقل في سنة (1392 هـ)، وكان ذلك ـ في الظن الغالب ـ في شهر رجب، أو
(1) لقد شهدت مراسم تشييع جنازة المجرم ناظم كزار بعد إعدامه يوماً الى الصحن الشريف , فلاحظت العشرات من قوات الأمن وقد اخذوا مواقعهم في الصحن الشريف ورايت جنازة يحملها اثنان من حمالي الجنائز وخلفها رجل واحد فسألت عن الميت فقالوا هذه جنازة ناظم كراز.
في أواخر جمادي الثانيّة، والقصّة كما يلي:
ذكر ذات يوم أنه بلغني خبر يقول: إن البعثيين سيعتقلونني في هذه الليلة، وفي صبيحة تلك الليلة عرفنا أنّه لم يقع شئ من هذا القبيل.
وفي الليلة الثانية ابتلي صدفة بالتسمّم أو ما يشبهه، ممّ كان يحتلم أداؤه إلى الموت، فطلب. إيصاله إلى المستشفى، وكنت أنا والمرحوم السيد عبد الغني بخدمته، لا أذكر ما إذا كان شخص آخر أيضا معنا أولا، فأخذناه إلى مستشفى النجف، وبعد فترة من الزمن جاءت زوجته أم جعفر، وأخته بنت الهدى إلى المستشفى لعيادته، ثم رجعنا إلى البيت، ورجعت أنا أيضا إلى بيتي، وبقي معه في المستشفى المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي وأطلعنا بعد ذلك على أن رجال الأمن العراقي طوّقوا في تلك الليلة بيت الأستاذ، واقتحم البيت لغرض اعتقاله، فقال لهم الخادم (وكان خادمه وقتئذ محمد على محقق ): إنّ السيد غير موجود، ولا أعلم أين ذهب السيد، فبدأوا بضربه ليعترف لهم عن مكان السيد، إلا أنّه أبى، وأصر على إنكاره،رغم علمه بمكان السيد، وجاءت زوجته أم جعفر، وقالت لهم: إنّ السيد المريض،وقد انتقل إلى المستشفى النجف، فانتقل رجال الأمن إلى مستشفى النجف، وطوّقوا المستشفى وطالبوا المشرفين على المستشفى بتسليم السيد.
فقالوا لهم: إنّ السيد مريض، وحالته خطيرة، وذا أردتم نقله، فنحن لا نتحمّل مسؤولية ذلك إذ ما مات بأيديكم.
وأخيرا وقع الاتفاق على أن ينقل السيد تحت إشراف رجال الأمن إلى مستشفى الكوفة، على أن يكون معه المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي بعنوان مرافق المريض، وهكذا كان، فقد نقلوا السيد الاستاذ إلى مستشفى الكوفة، ووضعوه في ردهة المعتقلين، وعند الصباح ذهب السيد محمد الغروي إلى مستشفى الكوفة كي يطّلع على حال السيد الاستاذ، فالتقى بالمرحوم السيد عبد الغني فقال له: إن
(1) لان في مستشفى الكوفة ردهة للإعتقال.
رجال الأمن قد وضعوا قيد الحديد على يده الكريمة، فأخبرني السيد الغروي بذلك، فذهبت أنا إلى بيت السيد الإمام الخميني حيث كان وقتئذ يعيش في النجف الأشرف، وتشرّفت بلقائه وحكيت له القصّة.
ثم كثرت صبيحة ذلك اليوم مراجعة الناس على الخصوص طلاب العلوم الدينيّة والعلماء العظام، أمثال المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر إلى مستشفى الكوفة يطالبون بلقاء السيد، والجلاوزة يمنعونهم عن ذلك، ودخل البعض على السيد رغما على منع الجلاوزة، وكاد أن يستفحل الاضطراب في وضع الناس، فخشيت الحكومة من نتائج الأمر، فرفع القيد من يد السيد.
وبد فترة وجيزة أطلقت السلطة سراح السيد الاستاذ، ووضع في القسم العادي. غير ردهة المعتقلين ـ في مستشفى الكوفة، وبعد ذلك رجع إلى مستشفى النجف، وبعد أن تحسّن حالته الصحيّة رجع إلى أيام وفاة الإمام موسى الكاظم حيث أقام السيد الشهيد في بيته مأتما للإمام الكاظم كعادته في كل سنة، وكان المجلس يغص بأهله، وكان الخطيب في ذلك الحفل السيد جواد شبر.
وكان يقول السيد الاستاذ إن هذا الاعتقال قد أثر في انشداد الأمة إلينا أكثر من ذي قبل، وتصاعد تعاطفها معنا.
وكان المفهوم لدينا وقتئذ أن مرض السيد كان رحمة، وسببا لتأخير تنفيذ ما يريده البعثيون من اخذه مخفورا إلى بغداد، إلى أن اشتهرت القصّة، وضج الناس، واضطرّت الحكومة إلى إطلاق سراحه من دون الذهاب به إلى بغداد.
وكان قبل ذلك قد تعرض سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد باقر الحكيم إلى الاعتقال فقد اعترضته مجموعة من قوات الأمن في
(1) مباحث الاصول ج 1,من القسم الثاني ص 105.
الصحن الشريف وطلبوا مه مرافقتهم إلى مديرية الأمن، فرفض ذلك وبقي في الصحن ما يقرب من ساعة، وبعد ذلك خرج منه باتجاه سوق العمارة، وحاول المجرمون اعتقاله في السوق فامتنع حتى يودّع أخاه المرحوم آية الله السيد يوسف الحكيم وكان يتكلّم معهم بصوت مرتفع بهدف إعلام الناس وإخبارهم بهذا الأمر.
وكذلك تم الاعتقال مجموعة من العلماء الأعلام والمجاهدين الأعزاء منهم سماحة السيد محمد تقي الطباطبائي والشيخ عز الدين الجزائري والسيد محمد علي الشيرازي والشيخ مجيد الصيمري وغيرهم، وقد أطلق سراحهم جميعا في اليوم الثاني، واستثني منهم الشيخ مجيد الصيمري وبعض الأشخاص الذين حكموا بتهمة محاولة القيام بعمل مسلح ضد السلطة وكان حكمه سنة واحدة، وشخص آخر كان محور التهمة حكم بثلاث سنوات وهو معلم من أهل البصرة.[/align]
-
[align=justify][align=center]الاعتقال الثاني و(انتفاضة صفر الخالدة)[/align]
قبل الدخول في تفاصيل ذلك يجب أن نحيط بالظروف والأوضاع التي كانت سائدة في تلك الفترة، فمن خلال ذلك نستطيع أن نفهم الأحداث بدقّة ووضوح. شدّدت حكومة البعث يوما بعد آخر على الشعائر الإسلامية بهدف تطويقها والقضاء عليها. واتخذت حكومة البعث سياسة التدرّج للوصول إلى هذا الهدف، وقد شجعها على تخطي مراحل متقدّمة في ممارساتها الإجراميّة والتطاول في غيّها وطغيانها في مراحل تحقيق هدفها المنشود ما اعتبرته نجاحا باهرا في مواقفها الإرهابيّة تجاه السيد الشهيد والحوزة العلميّة في النجف الأشرف، لما كانا يمثلانه من حصن منيع للإسلام، ومصدر خطر جدّي يهدد حاضر الحزب وأهدافه المستقبليّة، حيث لم تر في ممارستها الإرهابية ضد هذا الوجود الإسلامي أي رد فعل من شأنه إثارة مخاوف السلطة، فقد كانت تجسّ النبض بواسطة إشاعات تثيرها قل عملية الاعتقال تلفّق من خلالها التهم والافتراءات السياسّيّة ضدّ هذا الوجود المقدّس، وعندما لم توجه بردة الفعل المناسبة من قبل الجماهير كانت تعتبر ذلك مؤشرا على نجاح لعبتها، وأن تلك الإشاعات قد فعلت فعلتها في التضليل، فترى الجو مناسبا للدخول في مرحلة متقدّمة في سلّم مواجهة الإسلام واقتلاع جذوره، فمدت يدها المجرمة إلى شعائر سيد الشهداء الإمام الحسين، فتمكّنت وبسبب الضغط والإرهاب من استغلال الشعائر الحسينيّة، وخاصّة المواكب التي اعتاد الناس تنظيمها في شهر محرم وصفر لصالحها، وأجبرت الشعراء والمنشدين (الرواديد) على ذكر أحمد حسن البكر رئيس الجمهوريّة وصدّام حسين التكريتي الذي كان نائبا له وقتئذ، والإشادة بما تسميّة إنجازات الثورة في قصائدهم ورثائهم.
وكان على السلطة أن تكتفي بما ارتكبه بهذه الخطوة من مسلسل جرائمها، وتقنع بهذا القدر من جرح عواطف الناس، والضغط عليهم في ممارسة شعائرهم المستوحاة من عقائدهم. ولكن كما هي العادة ظنّت أن ذلك نجاحا قد مهّد الطريق لها للخطوة الأخيرة المستهدفة أساسا وهي منع إقامة الشعائر الحسينيّة نهائيا.
وشرعت في تنفيذ سياسة خطوة خطوة، بدءا من الاقضية والنواحي، لتشمل محافظات العراق جميعا في مرحلة لاحقة، باستثناء مدينتي النجف وكربلاء، حيث إن الأوضاع القائمة فيهما أكثر صعوبة وتعقيدا من غيرهما، ولكن لم تمضي إلا سنوات قليلة حتّى اقتربت الحملة من النجف وكربلاء، وحاولت أن تنفّذ فيهما المنع المطلق عن ممارسة جميع الشعائر الحسينيّة تقريبا، فبدأت بمنع مواكب المشاة إلى كربلاء، وهي مسيرات سلميّة هادئة، اعتاد الناس من قديم الزمان على تنظيمها والذهاب إلى كربلاء مشيا على الأقدام مبالغة منهم في حب الحسين وإظهار الولاء له وإكراما لتضحيته من أجل إحياء الإسلام والدفاع عن كرامة المسلمين.
كان المفروض بسلطة البعث أن لا تقف من هذه الشعائر موقف سلبي، ما دمت ترفع شعار الحرية كشعار من شعاراتها الرئيسيّة التي تدّعي العمل لأجل تحقيقها، بل تحترم مشاعر المسلمين، وتخلي سبيلهم في إقامة شعائرهم الدينيّة والمذهبيّة التي تعدّ حقا لكل إنسان في أن يعبر إرادته الدينيّة ومعتقداته الفكريّة ما دامت لا تخل بأمن البلاد.... وهذا الحق أصبح مسلّما لدى جميع حكومات العالم، وتتعاطف معه جميع شعوب الأرض بمختلف معتقداتها الفكريّة ومشاربها الدينيّة والمذهبيّة، وقد أقرّته هيئة الأمم المتحدة في إعلانها العالمي لحقوق الإنسان عام (1948 م) مما أسمته بحرية العقيدة تارة والدين تارة أخرى، وادعت ضرورة حمايته وأوصت جميع الدول الموقّعة على الإعلان المذكور باحترامه، وكانت سلطة البعث قد وقّعت على الإعلان وأقرّت به أمام المحافل الدوليّة.
ألا أن سلطة البعث العميل ضربت ذلك كلّه بعرض الحائط، ولم تقنع يما ارتكبته بل أقدمت على منع مواكب المشاة إلى كربلاء حاربت هذه الشعيرة الحسينيّة حربا شعواء فكشفت بذلك القناع عن وجهها البشع، وأفصحت عن نواياها الحاقدة مما حرّك نهضة الجماهير، وإيقاظها وحرّك الغيرة على الدين في عروقها، ولن تنفع اليوم الاتّهامات السياسيّة، والمبرّرات الأمنيّة لتغطية هذه الجريمة النكراء، فوقف أبناء الشعب العراقي المسلم الغيور موقفا مشرّفا في انتفاضة صفر الخالدة عام(1937 هـ) المصادف لـ(9 شباط 1977 م) لأنه أيقن أن هذه الزمرة الحاكمة على العراق تستهدف القضاء على الحسين بكل ما يمثّله من ثورة ورسالة وأهداف إنسانيّة شريفة، وتريد محوه من صفحة وجدان الشعب الحسيني في العراق لغرض زرع ما جاء به المؤسس البعثي عفلق من بلاد الغرب بكل ما يحمله من قيم غربيّة على البعد الديني للعراق، ومن منهج اجتماعي من المدرسة اليهوديّة الماسونيّة التي خطّطت للقضاء على الإسلام منذ أمد ليس بقصير.
أحسّت السلطة أن الجماهير في النجف الأشرف ومن وفد أليها من المحافظات الأخرى تستعد للانطلاق بمسيرة كبرى إلى كربلاء، متحدية المنع الصارم الذي أعلنته خلال اجتماع جاسم الركابي محافظ النجف برؤساء المواكب في ذلك التاريخ.
وخرجت المسيرة في الوقت المقرر وهو يوم الجمعة 15 صفر (4 شباط) باتجاه كربلاء صارخة بشعار التحدي (لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفا سيدي يا حسين)، وتحوّلت الشعارات بسبب ردّة الفعل القويّة إلى شعارات معادية السلطة، ولكل أعداء الحسين، فأرهب ذلك حكومة البعث العميلة وأدركت فشل خطتها، فحاولت تلافي الخطأ بإلغاء قرار منع المسيرة خاصة بعد حصول اصطدام في اليوم الثاني في خان النص، وسقوط بعض الشهداء، واستعداد العشائر للدخول في مواجهة مع النظام.
ولكن لم يكن بمقدور هذا الإجراء أن يحل الأزمة، خاصّة وأن المسيرة كانت قد قطعت أكثر من ربع الطريق باتّجاه كربلاء المقدسّة.
كان السيد الشهيد يتابع الأحداث بدقّة، وكان في غاية السرور والارتياح وهو يتلقّ] أنباء تحدّي أنصار الحسين لسلطة أعداء الحسين، وصمود أبناء الشعب أمام دبّاباتهم وطائراتهم، وانضمام أعداد كبيرة من قطعات الجيش العراقي وعدد من أعضاء حزب البعث إلى صفوف الثوّار. وكان يعتبر تلك الأحداث مؤشرات حقيقة على بزوغ صحوة الشعب الإسلاميّة، وإدراكه لحقيقة النظام الحاكم الذي ظلّله فترة طويلة. وكان يقول:
( إن هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إن هذه المواكب وهذه الشعائر هي التي زرعت في قلوب الأجيال حب الحسين وحب الإسلام، فلا بد من بذل كل الجهود للإبقاء عليها رغم حاجة بعضها إلى التعديل والتهذيب).
وكان قد أمرني بتقديم الاموال لكافة المواكب التي كانت بحاجة إلى مساعدة ودعم، بل وبعث بالكثير من الأموال إلى المواكب الأخرى التي لم تعتد طلب المساعدات والتبرعات.
وعلى كل حال، كانت انتفاضة تاريخية أقضت مضجع السلطة وأرعبتها، وحطمت كبرياءها، خاصّة بعد فشل التدخّل العسكري، وانهيار قوّات الأمن في منعها.
وحاولت السلطة أن تحافظ على الحد الأدنى من كرامتها وذلك بكف الثوار عن ترديد الشعارات المعادية للبكر وصدام، وأن يدخلوا إلى كربلاء بشعارات حسينيّة فقط، وهي بالطبع عاجزة عن ذلك رغم إمكاناتها الكبيرة، فلجأت إلى العلماء، وطلبت منهم التدخّل لحل الأزمة المتفاقمة بإقناع الثوار بالاقتصار على ترديد الشعارات الحسينيّة فقط.
أما بالنسبة للسيد الشهيد، فقد جاء إليه محافظ النجف جاسم الركابي، وطلب منه التدخّل بإرسال وفد يطلب من الثواّر أن لا يرددوا شعارات معادية للسلطة، ويبلّغهم بتراجع السلطة عن قرار منع المسيرة الحسينيّة، ويطلب منه الهدوء، والاكتفاء بترديد الشعارات الحسينيّة، فقط، وأنه لن يتعرض أحد منهم للاعتقال فيما بعد. فقال له السيد الشهيد:(ومن يضمن سلامة الوفد الذي أبعثه إليهم؟)
فقال الركابي : أنا أضمن سلامة الوفد، ولو حدث غير ذلك فسوف أقدّم استقالتي، واحلق شاربين أن هذا تعهّد منّي ومن وزير الداخليّة عزت الدوري.
لم يكن السيد الشهيد يثق بوعود السلطة أبدا إلا أنّه لا حظ أن المسيرة قد حقّقت أهدافها، وأنّ السلطة سوف تتّخذ أقسى الإجراءات ضد الثوار ريثما تنتهي مناسبة زيارة الأربعين، فكان من الطبيعي أن تتّجه الجهود إلى تخيف رد فعل السلطة تاه الثوار، والسعي لإنقاذ أنفسهم وأرواحهم، والاقتصار على قدر محدود من الضحايا، ومن المؤكّد أن السلطة لن تجعل هذه القضية تمر دون أن تنتقم، فكان سعي السيد الشهيد نحو تضييق دائرة الانتقام إلى أقل عدد ممكن من الضحايا، وبالإضافة إلى ذلك كان السيد الشهيد محرجا في حال امتناعه من إرسال وفد بعد أن استجاب سماحة آية الله العظمى السيد الخوئي لطلب السلطة في
تهدئة الثوار، وسوف يفسر موقف السيد الشهيد في حال عدم استجابته بأنّه موقف مخالف ومعادي للسلطة، ومؤيد للثوار.
وعلى كل حال فبعد أن طلب منه الركابي ذلك عقد اجتماعا ضم كبار طلابه، ومنهم سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد باقر الحكيم اتخذ فيه بعد استشارتهم في الأمر القرار بإرسال وفد يمثّل السيد الشهيد برئاسة السيد الحكيم، وكان السيد الحكيم يرى أن عدم الاستجابة أفضل لأن السلطة سوف لن تفي بتعهّداتها (وكان رأي السيد الشهيد في الواقع كذلك) إلا أنه مع ذلك استجاب لرغبة السيد الشهيد وذهب إلى الثوار، وتحّدث معهم بما يجب، وكان دقيقا وحكيما في كل خطوة خطاها ، وتمكن خلال فترة قصيرة من تهدئة الثوار رغم حالة الغضب والتوتّر لتي كانت تسودهم وتسطير عليهم.
وكان المفروض أن يقدّر هذا الموقف ويشكر من قبل رجال السلطة لأنّه حقن الدماء بحكمة، وكان المفروض ـ وعلى أقل تقدير ـ أن لا يعتقل ، ولكن الذي حدث أن محافظ النجف الذي كان قبل ساعات يستغيث بالسيد الشهيد قام هو بنفسه باعتقال السيد الحكيم وسلّمه إلى قوات الأمن.
لم يخضع السيد الحكيم لأي لون من التحقيق، ولم ير محكمة الثورة، وإنما ابلغ وهو في سجن المخابرات العامة بالحكم عليه بالسجن المؤبّد، ثم نقل إلى سجن أبي غريب.
ولم يقدّم محافظ النجف استقالته، ولم يحلق شاربه ـ كما وعد من قبل ـ، بل توجّهت السلطة بغضب وحقد إلى الشهيد الصدر لتنتقم منه باعتباره الرمز الحقيقي للنجف بما تحمل من تراث ديني وعلمي عريق.
ومن المؤكّد أن السلطة لم تمتلك ما يثبت تورّط السيد الشهيد بالأحداث، أو تحريكه للجماهير ضدّها، ومع ذلك فقد صدر الأمر باعتقاله وجلبه إلى بغداد.
الثاني: في تلك الفترة كان صراع يجري بين المحافظ جاسم الركابي وبين مدير أمن النجف إبراهيم خلف، فكان كل منهما يتربص بالآخر، وكان إبراهيم خلف قد أخبر السيد الشهيد في وقت سابق، بأن محافظا جديدا سوف يعين قريبا لمدينة النجف، هو جاسم الركابي سوف يزوركم حتما فأرجو أن تذكروني عنده بخير!!! وكان الركابي محافظا لمدينة الديوانية، وإبراهيم خلف مديرا للأمن فيها قبل مجيئه إلى مدينة النجف وحدث صراع بينهما هناك، لم يحسم إلا بنقل إبراهيم خلف إلى مدينة النجف، ومن المحتمل أن إبراهيم خلف أستغل أحداث صفر، وسخّرها ضد الركابي بطريقة ما، وإلا فأن الانطباع المعروف عن الركابي لا ينسجم مع ما كان قد صدر منه.
وعلى كل حال، فإننا ومن خلال التجارب الكثيرة عرفنا أن تربية حزب البعث لقيادته وكوادره قائمة على أساس الغدر، والخداع، والكذب، وغيرها من الصفات الدنيئة، فلا نستعبد أن يكون كل ذلك حلقات من مسلسل كان قد اعد من قبل.[/align]
-
[align=justify][align=center]الاعتقال الثالث[/align]
قبل غروب الشمس من يوم الاثنين المصادف (16 رجب 1399 هـ) بدأت قوات الأمن ومنظمة حزب البعث تطوق منزل السيد الشهيد ، والشوارع والأزقة القريبة منه أو المحيطة به، ومنعت المرور منها منعا باتّا.
وجاء الليل بسكونه وهدوئه يخيّم على النجف إلاّ هذا الزقاق حيث مستقر سيدنا الشهيد، إذ تحث الخطي، وتتعالى حركة الحشود، فكانت تمزّق ذلك السكون في ساعات تلك الليلة،وكان الاستعداد قائم على قدم وساق تمهيدا لاعتقال السيد الشهيد. وكن ارقب ذلك الوضع من خلال فتحة أحدثها كسر صغير في زجاجة النافذة المطلّة على الزقاق، فأيقنت أن السلطة تستعد لاعتقال الشهيد الصدر، فذهبت إليه، وأخبرته بذلك الاستعداد، وتلك الحشود المجرمة، فقال لي: (لا بأس، أنا ذاهب للنوم لأنّي أشعر بالتعب الشديد)
ثم سلّم (الخاتم) الذي يعبّر عن إمضائه والذي يختم به فتاواه ورسائله إلى من يثق به من المقرّبين منه خشية أن يسلب منه بعد اعتقاله واستشهاده، فيستغل في تزوير ما تحتاج إليه السلطة من فتاوى مثلا. وكانت الشهيدة السعيدة بنت الهدى قد اطّلعت أيضا على الوضع الحشود الكبيرة المتجمّعة في زقاق. كان السيد الشهيد قد قرّر أن يواجه مدير الأمن بعنف ـ إن جاء لاعتقاله ـ ويعلن له بصراحة عن موقفه من السلطة وسياستها وممارساتها الوحشيّة ضد الإسلام والمسلمين، وكنت قد قلت له ما فائدة هذه المواجهة في الوقت الذي نستطيع أن نستوعب هذه الأزمة، ونمرّرها بهدوء:
فقال:
(أرى أن أجبر السلطة على قتلي، عسى أن يحرّك ذلك الجماهير للإطاحة بالنظام، وإقامة حكم القرآن في العراق).
وفي الصباح الباكر، والناس نيام، لم نشعر إلا والباب قد فتحت، وإذا بالمجرم (أبو سعد) مدير أمن النجف يطلب مقابلة السيد الشهيد ، ولم تكن هذه الزيارة! غير متوقع، أو مباغته، فقد كانت كال الدلائل تشير إلى أنّ السيد الشهيد سوف يعتقل في هذا اليوم، وعلى :ل حال، اجتمع هذا المجرم بالسيد الشهيد، فقال: سيدنا إن القيادة ترغب بالاجتماع بكم.
السيد الشهيد: أنا لا أرغب بالاجتماع بهم.
مدير الأمن: لابد من ذلك.
السيد الشهيد: أنا لا أذهب معك، إلا إذا كنت تحمل أمرا باعتقالي.
مدير الأمن: نعم، أحمل أمرا باعتقالك.
هنا أجابه السيد الشهيد، فقال:
(أي سلطة هذه، وأي نظام هذه... أنكم كمّمتم الأفواه،وصادرتم الحرّيات، وخنقتم الشعب بقوّة الحديد والنار...
تريدون شعبا ميّتا يعيش بلا إرادة.
تريدون عشبا بلا كرامة...
وحين يعبّر شعبنا عن إرادته، وحين يتّخذ موقفا من قضيّة مّا، وحينما تأتي عشرات الآلاف من أبناء شعبنا لتعبّر عن ولائها للإسلام والمرجعيّة، تقوم قائمتكم، فلا تحترمون شعبا، ولا دينا، ولا قيما، بل تلجأون إلى القوّة لتكمّوا الأفواه ، وتصادروا الحرّيات، وتسحقوا كرامة الشعب.
أين الحرية التي تدّعونها، وجعلتموها شعارا من شعاراتك؟
أين هذا الشعب الذي تدّعون أنّكم تدافعون عنه، وتحمون مصالحه؟
أليس هؤلاء الآلاف الذي جاءوا ليعبّروا عن ولائهم للمرجعيّة هم أبناء العراق؟
لماذا يستولي الرعب والخوف على قلوبكم إن عبّرت الجماهير يوما عن إرادتها ورغبتها؟
وظل السيد الشهيد يواصل هجومه بتوجيه أمثال لهذه الاعتراضات إلى مدير أمن النجف الذي كان مضطربا وقلقا، وقد وقع تحت تأثير هذه المفاجأة، فلم يتكلّم بشيء وظل ساكتا.
ثم خاطب مدير الأمن، فقال: هيا لنذهب إلى حيث تريد).
خرج السيد الشهيد بشمائل علويّة، وشجاعة هاشميّة، وقد صمّم على الشهادة وهو يذكر الله عز وجل ويردد (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر).
كنت مع الإخوة، الشيخ طالب السنجري، والسيد محمود الخطيب، والحاج عباس برفقه السيد الشهيد من البيت وحتّى السيارة، إلا أننا فوجئنا بوالدته العجوز التي كانت لا تقوى على الحركة تجر أنفاسها بصعوبة بالغة وهي منحنية الظهر واقفة في الزقاق تخاطب أحد الجلاوزة المجرمين، وتقول له: خذوني مع ولدي، وتفاجئنا بالعلوية الشهيدة بنت الهدى وقد وقفت بقرب السيارة التي كانت معدة لنقل السيد الشهيد إلى بغداد، ركب في السيارة، وفجأة ألقى الشيخ طالب السنجري بنفسه في السيارة، وجلس إلى جانب السيد الشهيد، وأصرّ على مرافقته إلى مديريّة الأمن العامّة في بغداد رغم تشدّد قوات الأمن على منعه من ذلك، ورافقه كذلك الأخ السيد محمود الخطيب.[/align]
-
[align=justify][align=center]خطاب الشهيدة بنت الهدى[/align]
كانت الشهيدة الخالدة بنت الهدى قد سبقت الجميع إلى حيث تقف سيارة مدير الأمن في شارع الإمام زين العابدين، والتي كانت ستنقل السيد الشهيد إلى بغداد، وهناك وقفت وكأنّها زينب في شجاعتها وصبرها وتضحيتها، تخاطب الظالمين الذين احتوشوا أخاها وقد زاد عددهم على ثلاثمائة شخص من قوّات أمن، وأعضاء في حزب البعث، ومرتزقة من هنا وهناك.
وأمام هذا الحشد الكبير ألقت الشهيدة خطبتها فقالت:
(انظروا ـ وأشارت إلى الجلاوزة المدججين بالسلاح ورشاشات الكلاشنكوف ـ أخي وحده بلا سلاح، بلا مدافع، بلا رشاشات...
أمّا أنتم فبالمئات مع كل هذا السلاح.
هل سألتم أنفسكم لم هذا العدد الكبير؟ ولم كل هذه الأسلحة؟
أنا أجيب... والله لأنكم تخافون .. ولأن الرعب يسيطر على قلوبكم.
والله أنكم تخافون لأنكم تعلمون أن أخي ليس وحده، كل العراقيين معه، وقد رأيتم ذلك بأعينكم، وإلا فلماذا تعتقلون فردا واحدا لا يملك جيشا ولا سلاحا بكل هذا العدد من القوات؟
أنّكم تخافون، ولو لا ذك لما اخترتم اعتقال أخي في هذا الوقت المبكّر... لماذا تجيئون لاعتقاله والناس نيام؟
ممن تخافون؟... ومن تخشون؟... اسألوا أنفسكم؟
ثم وجّهت خطابها إلى السيد الشهيد: إذهب يا أخي، فالله حافظك وناصرك، فهذا طريق أجدادك الطاهرين...)
والحقيقة أننا لم نكن نعلم أن القوّات التي كانت تطوق منزل السيد الشهيد بهذا الحجم، فبالإضافة إلى قوات الأمن حشّدت السلطة عددا من أعضاء حزب البعث والموظّفين أمثال المجرم مدير تربية محافظة النجف، وعددا من سواد الناس وعامّتهم، ممن يعمل معهم في الخفاء، وذلك بهدف تستّر السلطة على نفسها، وإعطاء الاعتقال طابعا جماهيريّا، بأن توحي أن (الجماهير!) هي التي تصدّت لاعتقال السيد الشهيد،وكان ذلك بإرادتها وبدافع من نفسها.
أو أنّها في حالة مواجهتها لرد فعل جماهيري قوي يحصل إثر اعتقال السيد الشهيد، ثم تعجز عن قمعه أو السيطرة عليه، ويسبّب لها مشكلة تعجز عن حلّها فتقوم عندئذ باعتقال من أرسلتهم لاعتقال السيد الشهيد كأسلوب لامتصاص نقمة الجماهير.
وعلى كل حال، فلقد رأيت الحشود الآثمة وهي تلوذ بالفرار عندما كانت الشهيدة تلقي خطبتها، ولم يجرأ أحد منهم على مواجهتها، بل تفرّقوا في الأزقة، ولم يبق من حشودهم إلا ما هو بعدد الأصابع، بينما كان عددهم يزيد على ثلاثمائة فرد. غادر السيد الشهيد النجف الأشرف إلى بغداد، وبعده
(1) استغرقت خطبتها ما يزيد على عشرة دقائق ,وما كتبته أعلاه هو بعض فقراتها.
استمرت قوّات السلطة في محاصرتها لمنزله، فكان من الطبيعي أن ينتشر خبر اعتقاله ولو على شكل شائعة في بادئ الأمر، فكان أول من تجرأ على دخول البيت رغم تطويق قوّات الأمن له هو سماحة الأخ حجّة الإسلام والمسلمين السيد علي أكبر الحائري، وهو من تلاميذ السيد الشهيد الأوفياء والمخلصين، فسألني عمّا جرى، وهل حقّا قد تم اعتقال السيد الشهيد؟ فقلت: نعم. ثم خرج من المنزل متحدّيا الأمن بعد أن طلبوا منه البقاء فيه بهدف اعتقاله فيما بعد، إلا أنّه قال لهم: خرجت على كل حال، وافعلوا ما تشاؤون.
أمّا أنا فقد بقيت في المنزل السيد الشهيد للقيام ببعض المهمّات، كحرق بعض الرسائل، وإتلاف بعض الأوراق التي كان فيها أسماء بعض المؤمنين خوفا من وقوعها بيد السلطة في حال اقتحام البيت، ولم أكن أعلم بما يجري في داخل النجف، إلا أن العلوية الشهيدة كانت قد أخبرتني بأنها ستخرج إلى حرم الإمام علي لتعلن عن خبر اعتقال السيد الشهيد،وفعلا خرجت، ثم عادت بسرعة، وأخبرتني بأن عدد الناس في الحرم كان قليلا، وأنها ستذهب حينما يتواجد فيه أكبر عدد منهم بعد شروق الشمس.
قلت للسيدة الشهيدة : المفروض أن تتريّثي قليلا حتى يتبّين الموقف، وتتجلى الأمور، إن خطابك قد فتح لك صفحة خطيرة في ملّفات الأمن، وأعلم أنك لا تخشين شيئا، ولكن قد يؤثّر ذك على السيد نفسه.
(فقالت: إن المسؤولية الشرعيّة، والواجب الديني يفرض علي اتّخاذ هذا الموقف، إن زمن السكوت قد وليّ.. لا بد أن نبدأ صفحة جديدة من الجهاد .. لقد سكتنا طويلا، وكلّما طال زمن السكوت كلما كبرت محنتنا .. لماذا أسكت وأنا أرى مرجعا مظلوما يقع في قبضة هؤلاء المجرمين!!! ألم ترهم وقد تجمعوا عليه كالحيوانات المفترسة؟ لم أصبر؟ إن اليوم يوم جهادنا وتضحيتا.)
قلت لها: إن هؤلاء المجرمين لا يتورعون من أن تمتد أيديهم القذرة إليك، ويمكن أن يكون مصيرك الإعدام.
فقالت: الله يشهد، أني أتمنى الشهادة في سبيله، لقد قررت أن استشهد منذ اليوم الأول الذي جاءت فيه الوفود.. أنا أعرف هذه السلطة، إنها متوحشّة قاسية مجرمة لا فرق في مقاييسها بين الرجل والمرأة، وبين الصغير والكبير، أما أنا فسواء عندي أن أعيش أو اقتل ما دمت واثقة أن موقفي كان طلبا لمرضاة الله ومن أجله عز وجل.
لقد كنت استمع للشهيدة بنت الهدى وكأنّها زينب بن علي، إنّها تتكلّم من أعماقها كلام الواثقة كل الثقة بعقيدتها وقضيّتها، كلام من صمّم على الفداء والتضحية. إن الشهيدة السعيدة بنت الهدى جسّدت إيمانها العظيم، واستقامتها وصلابتها الهائلة ليس في حادث اعتقال السيد الشهيد وحده، بل في طيلة فترة الاحتجاز، وفي يوم اعتقالها، وقبل ذلك في حياتها الشخصية، وسلوكها الفردي والاجتماعي، فمذ عرفتها كانت بهذا المستوى الذي لا يرقي إليه إلا القليل من الرجال والنساء.
وبقيت تفكّر فيما يجب أن تفعل في تلك الساعات العصبية الحرجة، وكأنّها تقول: أنا ابنة علي لن أسكت، ولن أصبر على الضيم والهوان. لقد رأيتها تمشي في ساحة البيت، وتتكلم مع نفسها ، وكأنها تعيش بروحها في عالم آخر، تفكرّ في الخطوة القادمة، تنتظر شروق الشمس، وتواجد الزوار في حرم الإمام علي، وحين أيقنت أن الوقت قد حان، والفرصة قد أتت خرجت إلى الحرم الشريف، وعند ضريح سيد المظلومين علي نادت بأعلى صوتها:
(الظليمة الظليمة....
يا جدّاه، يا أمير المؤمنين، لقد اعتقلوا ولدك الصدر.
يا جدّاه، إنّي أشكو إلى الله وإليك ما يجري علينا من ظلم واضطهاد..
ثم خاطبت من كان في الحرم الشريف، فقالت: أيها الشرفاء المؤمنون، هل تسكتون وإمامكم يسجن ويعذّب؟
ماذا ستقولون غدا لجدي أمير المؤمنين إن سألكم عن سكوتكم وتخاذلكم؟
اخرجوا وتظاهروا واحتجوا....)
فجاءها أحد خدام الحضرة الشريفة ممن يعمل للسلطة، وحاول منعها، فنهرته، وصرخت بوجهه. ثم قام إليه بعض من كان في الحرم، فإنهالوا عليه بالضرب، فولّى هاربا.
لقد ذكرتني الشهيدة بنت الهدى بموقف زينب حينما رأت الحسين وقد خذله القريب والبعيد، إلا القليل ممن ثبّته الله على الهدى، فقامت تذبّ عنه، وتدافع عنه، وهي مثقلة بعياله وأطفاله، وهكذا كانت ـ والله بنت الهدى، تذبّ عن أخيها وتنصره بعد أن خذله من كان يدعي أنه يفديه بالغالي والنفيس، وهي مع ذلك مثقلة كزينب بالعيال والأطفال، وبأمّ أنهكها المرض، وحطمتها المصائب والهموم، فقدت في شبابها الكثير من الأولاد، وها هي في شيخوختها على وشك فقد أعز أبنائها.
أما ما حدث في خارج البيت، فقد كتب عنه سماحة السيد علي أكبر الحائري ما يلي:
عندما ما اعتقل السيد الشهيد في ساعة مبكرة من صباح يوم السابع عشر من رجب سنة (1399 هـ)، كانت الشهيدة بنت الهدى أوّل من خرجت لإشاعة هذا النبأ وكسر طرق التعتيم البعثي الذي كانوا يخيّمونه على جرائمهم، فنطقت صارخة في حرم الإمام أمير المؤمنين، وأدّت دورها البطولي الرائع في إبلاغ خبر اعتقال هذا المرجع العظيم من قبل جلاوزة السلطة الغاشمة، وسرعان ما اشتهر هذا النبأ في أوساط المؤمنين المخلصين للسيد الشهيد في النجف الأشرف، وكان الخبر في
(1) مذكراتي عن الشهيدة بنت الهدى (كتاب مخطوط).
بادئ الأمر على شكل شائعة غير مؤكّدة، وكان جلاوزة الأمن واقفين على باب دار السيد الشهيد يراقبون الأوضاع عن كثب خشية وقوع حادثة، أو رد فعل معيّن.
وبعد التأكّد من الخبر وقع الاضطراب والبلبلة في أوساط المؤمنين، وكانت تخيّم علينا حالة التحيّر والشك في الوظيفة العملي، رغم إحساس الجميع بضرورة وقوع رد فعل جماهيري عظيم تجاه هذه الجريمة النكراء التي قامت بها السلطة الظالمة، ولكن كل يقول ماذا نصنع؟ كيف نتحرك: ما هي الوظيفة: ما هو الأسلوب؟ وأنا بدوري شعرت أيضا بأن هذه ساعة حرجة، لا بد فيها من اتّخاذ موقف سريع، فذهبت مع أحد الاخوة المؤمنين ـ من طلاب السيد الشهيد إلى بيت شخص آخر من زملائنا الأعزاء، فعقدنا هناك اجتماعا ثلاثيا للتخطيط حول ما يجري صنعه في هذه الساعات الحرجة، فكانت نتيجة هذا الاجتماع هو التصميم القاطع بتنظيم مظاهرة جماهيرية للاحتجاج على هذه الجريمة النكراء، مع وضع الخطة الكاملة من حيث تعيين مكان التجمّع، وساعة الانطلاق، وكيفيّة الإعداد، فقد عيّنا الحرم الشريف مكانا للتجمع ، وصمّمنا على الانطلاق من هناك على رأس الساعة العاشرة بعد قراءة دعاء الفرج ـ وإنّما اخترنا دعاء الفرج من بين الأدعية المأثورة باعتبار أن هذا الدعاء ينتهي باسم الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، وسيقوم الناس بطبيعتهم احتراما لاسم الإمام، فيكون هذا القيام إعدادا للانطلاق في المظاهرة، ـ وهكذا كان ، فقد خرجت أنا وصاحبي من بيت ثالثنا لنبلّغ المؤمنين بهذا القرار، فمررنا بأكثر المدارس العلميّة في النجف، وبلّغنا من وجدنا فيها من الطلاب والمؤمنين، والتقينا بمن التقينا من المؤمنين أيضا في الطرق والشوارع وبلّغناهم الأمر.
ولمّا قرب الموعد ذهبت إلى الحرم الشريف، وانتظرت هناك إلى أن حان الوقت واجتمع عدد من المؤمنين،فشرعت بقراءة دعاء الفرج، وكان الجميع يرددّون معي جملة جملة، إلى أن بلغنا اسم الإمام الحجة(عجل الله تعالى فرجه الشريف) فقمنا جميعا إجلالا له، ثم بدأت الشعارات: الله أكبر الله أكبر، نصر من الله وفتح قريب، عاش عاش عاش الصدر... وانطلقت المظاهرة بركضة سريعة.
وهنا لابد من الإشارة إلى مشاركة المرأة المسلمة العراقيّة في هذه الانتفاضة، حيث تواجد عدد من المؤمنات الرساليّات في الحرم الشريف، واشتركن في بداية المظاهرة، إلا أن سرعة المظاهرة منعتهنّ عن إمكان الالتحاق بالرجال عند الخروج من الحرم الشريف، فتفرّقن بطبيعة الحال، وتعرّض بعضهن إلى المراقبة والملاحقة من قبل أعضاء جهاز الأمن الإرهابي في العراق.
ولمّا انطلقت المظاهرة التحق بنا جمع غفير من المؤمنين من خارج الحرم الشريف، وسرعان ما اتّسع العدد أيضا عندما دخلت المظاهرة شارع الإمام الصادق.
وحاولت أجهزت الأمن الإرهابية بشتّى الأساليب أن تفرّق المتظاهر منذ خروجهم من الصحن الشريف فلم تستطع، حتّى اقتحمت سيارة الأمن جموع المتظاهرين وهم في شارع الإمام الصادق، فلم تحصل إلا على ضربات قاسية على زجاجها من قبل المتظاهرين.
ثم واصلت المظاهرة طريقها في شارع الإمام الصادق إلى أن واجهت قوى أمنيّة مكثّفة من جهة الحرم الشريف، فحرفت مسيرها إلى جهة السوق الكبير من أحد الأزقة المؤدية إليه، ولما دخلنا السوق وجدنا المحلات كلّها معطلة، فواصلنا السير في داخل السوق إلى أواخر السوق، حث وقع الاشتباك بين المتظاهرين وجهاز الأمن الإرهابي، رغم تجرّد المتظاهرين من كل سلاح. وتعالت أصوات إطلاق الرصاص من قبل الجلاوزة، ثم رجع المتظاهرون في داخل السوق باتّجاه الحرم الشريف، حيث كان الجلاوزة ينتظرونا على مدخل السوق، فاضطررنا إلى الرجوع مرة أخرى من إحدى الأزقة إلى شارع الإمام الصادق، وبدأ التفرّق من هناك، حيث هرب من هرب، والقي القبض على الباقين.
ثم بدأت عملية إلقاء القبض على الناس بصورة عشوائية في أكثر شوارع النجف الأشرف، مما يدل على مدى الرعب والوحشية التي أصيب بها الجلاوزة إثر هذه المظاهرة.)
وكان لهذه التظاهرة ـ رغم عفويّتها في التخطيط والتنفيذ ـ بالغ الأثر في إجبار السلطة على الإفراج عن السيد الشهيد، وتأجيل تنفيذ حكم الإعدام فيه، وقد نقل لنا المرحوم السيد علي بدر الدين أن برقية أرسلت من السلطات المحليّة في النجف الأشرف إلى أحمد حسن البكر ذكر له فيها أن تظاهرات كبيرة خرجت في النجف الأشرف احتجاجا على اعتقال السيد الشهيد، وأن الأوضاع فيه على وشك الانفجار.
وقد حدثني السيد الشهيد: أن أسلوب فاضل البراك مدير الأمن العام كان قاسيا، ولهجة فضة حينما كان يستجوبني، وفي أثناء ذلك دخل عليه شخص، فسلّمه ورقة صغيرة، فلمّا قرأها غير من أسلوبه معي في التحقيق، وبعد ذلك بدقائق دق جرس الهاتف، وبدى لي أن المتحدّث معه كان شخصية كبيرة، إذ كان فاضل البراك يجيب بعبارات من مثل: نعم سيدي، أمرك سيدي، وما شابه ذلك). وقد علمنا فيما بعد أن المتحدث كان هو المقبور أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية آنذاك.
قال السيد الشهيد:
(شعرت أن شيئا ما قد حدث غير من مجرى التحقيق معي، وإن كنت لا أعرف حدوده، إلى أن قال لي فاضل البرّاك: ماذا فعلنا حتّى تخرج تظاهرات في النجف والكاظميّة احتجاجا على ما يسمّونه اعتقالا لكم، إنّ هذه زيارة وليس اعتقالا!!!).
(1) هامش كتاب (دروس في علم الأصول)ج 1من القسم الثاني,ص 130-131.
وكان المجرم (أبو أسماء) مساعد مدير الأمن العامة وهو تركماني وعضو في حزب البعث العربي! أول من استقبل السيد الشهيد في مديرية الأمن من العامّة في بغداد، وقال له بلهجة ساخرة: (سيدنا ضعفان)، فأجابه بلهجة خشنة:(كلا، لست كذلك، أنا طبيعي جدّا).
وكان رد الفعل الجماهيري على اعتقال السيد الشهيد سريعا وقويّا: وذك لأننّا تمكّنا من إخبار أحد تلاميذ السيد الشهيد في إيران بخبر الاعتقال، وهو بدوره أبلغ وكالات الأنباء العالميّة، ومنها وكالة أنباء الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران التي بثّت الخبر، وأذاعه راديو طهران بقسميه الفارسي والعربي، وبهذا الأسلوب تمكّنا من نشر الخبر على أوسع نطاق، وكان طريقنا للاتّصال يتم من خلال هاتف سماحة الأخ حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد باقر المهري، الذي كان قد هاجر من العراق، وترك لنا منزله للاستفادة من الهاتف الذي لم يكن تحت المراقبة.
ولهذا السبب فأن ردود الفعل على حادث الاعتقال شملت عدة مدن في وقت واحد تقريبا، كان منها النجف، والسماوة، وديالى، والثورة، وجديد الشط، والكاظميّة، وناحية الفهود، وغيرها من المدن، مما أرعب السلطة وأقلقها، والفضل في ذلك كلّه يعود إلى وسائل الإعلام.
وعلى كل حال، فأن فاضل البراك غير من أسلوبه في التحقيق، فقال للسيد الشهيد: لم يكن هدفنا اعتقالكم، بل أحببنا أن نتعرف بشكل مباشر منك على الأحداث. فقال له السيد الشهيد: وهل يتطلّب ذلك طرح هذا العدد الكبير من
(1) كان السيد الشهيد يخطط قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران لشراء وقت محدود كنصف ساعة مثلاً من إذاعة (مونت كارلو) لنشر الثقافة الإسلامية و الدعوة الى الإسلام وكان-على ما اذكر- قد كلف احد الأخوة من الطلبة اللبنانيين بدراسة إمكانية تنفيذ هذا المشروع ايماناً منه بأهمية الإعلام و دوره في خدمة القضايا السلامية.
الأسئلة، وبهذا الأسلوب. ثم هل يستدعي ذلك تطويق بيتي من العصر حتّى الصباح، وبهذا العدد الكبير من القوّات.
فقال: إن هذا خطأ ارتكبه مدير أمن النجف، وكنا قد لنا له: إننا نريد أن نستفسر من السيد الصدر عن بعض الأسلوب،وطلبنا منه أن يصحبكم إلى بغداد بكل احترام!! ثم قال: إن أحببت العودة إلى النجف فأنت حر، وأهلا بك.
قال السيد الشهيد:
(رفضت الإفراج عني والعودة إلى النف، إلا إذا افرج عن مرافقي، وعن جميع الذين اعتقلوا في هذه الأحداث).
ووعد السيد الشهيد أن يتوسط شخصيا لدى رئيس الجمهوريّة أحمد حسن البكر للإفراج عنهم وذكر أيضا أن قسما منهم قد قتل أو جرح عددا من قوّا الأمن، فلا يمكن لمديريّة الأمن الإفراج عنهم< لأنّه خارج عن صلاحيتها.
لم يقنع السيد الشهيد بكلامه، ولم يثق بوعده، فرفض العودة إلى النجف إلا بعد تنفيذ هذا الشرط. هنا حاول البرّاك أن يتوسّط وبحضور السيد الشهيد، إلا أن محاولته فشلت، وأقسم أمام السيد الشهيد على أن يفرح عنهم في أقرب فرصة ممكنة. عاد السيد الشهيد إلى النجف الأشرف، فأخبرته بأن اعتقالات واسعة شملت وكلاء وعددا كبيرا من المؤمنين، وخاصّة أولئك الذين اشتركوا في وفود البيعة، فقال لي:
(كان ظنّي أن ذلك قد حدث وأنا في مديريّة الأمن العامّة: لأننّي أعلم أن السلطة لن تكتفي باعتقالي فقط، بل أنّه ستعتقل عددا كبيرا من المؤمنين).
ثم أمر سماحة الأخ حجة الاسلام السيد محمود الخطيب أن يتصل بفاضل البراك، ويطالبه باسم السيد الشهيد بالإفراج عن جميع المعتقلين. وفعلا فقد تم الإفراج عن عدد كبير منهم، واحتجز آخرون.
وكان ممن اعتقل إثر انتفاضة رجب ثلة من العلماء الأفاضل، وقد استشهد بعضهم فيما بعد خلال فترة الاحتجاز، وهنا أذكر أسماء البعض ممن استشهدوا أو اعتقلوا على سيبل المثال لا الحصر.
1 - آية الله المجاهد الشهيد السيد قاسم الشبر. ويعتبر هذا السيد الجليل (شيخ الشهداء)، استشهد وعمره قد جاور التسعين.
2 - الشهيد السعيد حجة الإسلام السيد قاسم المبرّقع.
3 - الشهيد السعيد حجة الإسلام الشيخ عبد الجبار البصري.
4 - الشهيد السعيد حجة الاسلام الشيخ سامي طاهر العلي.
5 - الشهيد السعيد حجة الإسلام الشيخ محمد علي الجابري.
6 -الشهيد السعيد حجة الإسلام الشيخ عبد الجليل مال الله.
7 - الشهيد السعيد حجة الإسلام السيد محمد حسين المبرّقع.
8 -الشهيد السعيد حجة الإسلام السيد عبد الرحيم الياسري.
9 - الشهيد السعيد حجة الإسلام الشيخ عبد الأمير الساعدي.
10 - الشهيد السعيد حجة الإسلام الشيخ خزعل السوداني.
11 - الشهيد السعيد حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مهدي السماوي.
12 - الشهيد السعيد حجة الإسلام محمد يونس الأسدي.
13 - الشهيد السعيد حجة الإسلام السيد عز الدين الخطيب.
14 - سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ حسن عبد الساتر.
15 - سماحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ عفيف النابلسي.
16 - سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد حسين الصدر.
17 - سماحة حجة الاسلام والمسلمين السيد حسين السيد هادي الصدر.
18 - سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد علي أكبر الحائري.
19 - الشهيد سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الجليل فرج الله.[/align]
-
[align=justify][align=center]وقائع التحقيق[/align]
يقول السيد الشهيد :(إن كل الدلائل كانت تشير إلى أن السلطة كانت عازمة على إعدامي، وكان فاضل البرّاك متشنّجا، مكفهّر الوجه، خشن المعاملة).
وأنا هنا أذكر بعض ما سمعته من السيد الشهيد فيما يتعلٌّق بالتحقيق الذي جرى معه في يوم (17 ) رجب عام 1399 هـ.
فاضل البراك: ما هي علاقتكم بالسيد الخميني؟
السيد الشهيد: علاقة العالم بالعالم.
البراك: الخميني، سياسي، وليس عالم.
السيد الشهيد: أنا لازلت أعتقد انه عالم ديني، ومرجع من مراجع المسلمين.
البراك: الخميني زعيم دولة، ونحن نعتبر أي علاقة به خارج القنوات الدبلوماسيّة للدولة العراقيّة نوعا من العمالة.
السيد الشهيد: فسروا ذلك بما شئتم، أمّا أنا، فسيبق السيد الخميني في نظري مرجعا من مراجع المسلمين.
البراك: لماذا أصدرت بيانات تؤيد فيها الثورة الإسلامية في إيران؟
السيد الشهيد: واجبي الشرعي فرض عليّ ذلك، وليس فيها ما يضركم.
البراك: هذا شأن الدولة، لا المواطنين.
السيد الشهيد: ما صدر مني لا يخالف سياسة الدولة، أنتم تقولون نحن نؤيد الثورة الإسلامية، وهذا الموقف ينسجم مع موقفكم.
البراك: إننا نعتبر ذلك تجاوزا للسلطة والقانون، إلا إذا تم بإشرافنا وموافقتنا، ومن خلال القنوات الدبلوماسيّة.
السيد الشهيد: أن علمت بتكليفي الشرعي والأخلاقي، وليس وراء ذلك أهداف أو أغراض سياسيّة.
البرّاك: ما هو اهدف من زيارتك لبيت السيد الخميني في اليوم الذي غادر فيه العراق؟
السيد الشهيد: هكذا هي العلاقة بين العلماء، لقد ذهبت لتوديعه، وهذا يؤكد ما قلته سابقا من أن علاقتي بالسيد الخميني قائمة على أسس غير سياسيّة، إن زيارتي له كانت قبل انتصار الثورة.
البراك: ماذا يعني السيد الخميني بالبرقية التي بعثها لك؟
السيد الشهيد: ...(لا جواب).
البراك: أين السيد المحمود الهاشمي؟ علمانا أنه ذهب إلى إيران ليمثلكّم هناك؟
السيد الشهيد: ....(لا جواب).
البراك: ألا يعتبر إرسال السيد محمود الهاشمي إلى إيران عملية تحريض ضدنا؟
السيد الشهيد: فسروا ذلك بما شئتم.
البراك: الوفود التي جاءت إلى النجف، من نظّمها؟ ومن يقف خلفها؟ وما هو الهدف منها؟
السيد الشهيد: الشعب العراقي كان وراءها، وهو الذي نظّمها، جاءوا يطلبون منّي البقاء بينهم.
البراك: وهل كنت تنوي مغادرة العراق؟
السيد الشهيد: كلا.
البراك: إذا ألا تعتبر أن ذلك تحريض مدروس، واتّفاق مسبق بينك وبين السيد الخميني، قام بتنسيقه السيد محمود الهاشمي للإطاحة بالسلطة عن طريق تحريض الجماهير علينا؟
السيد الشهيد: ليس بيننا اتّفاق على شئ.
البراك: إذا لماذا طلب منك البقاء في العراق؟ هل لكي تقود الثورة ضدّنا بمساعدة إيران.
السيد الشهيد: ليس لإيران، ولا لأي دولة أخرى يد في ذلك، كل الذين جاءوا هم من أبناء العراق، وأنتم تعرفون ذلك.
البراك: إنّنا نعتبر ذلك تحريضا للشعب للإطاحة بالحزب والثورة.
السيد الشهيد: أنتم تقولون نحن أقوياء بما فيه الكفاية، فهل يستطيع هؤلاء الإطاحة بالثورة من خلال تظاهرات سلميّة غير مسلّحة، وفي النجف؟
البراك: لقد ثبت لدينا أنكم تحرمون الانتماء لحزب البعث؟
السيد الشهيد:....(لا جواب).
البراك: إن كل واحدة من هذه الأمور تستحق الإعدام.
السيد الشهيد: أنا في قبضتكم، فافعلوا ما شئتم.
وهنا دخل أحد الأشخاص وسلّم البرّاك ورقة صغيرة، ثم دق جرس الهاتف، وبعدها افرج عن السيد الشهيد كما ذكرنا.
أمّا الاعتقال الرابع الذي انتهى إلى الاستشهاد، فسوف نتحدّث عنه فيما بعد أن شاء الله تعالى.[/align]
-
[align=center]محاولات الاغتيال[/align]
من التاريخ غير المعروف للسيد الشهيد هو محاولات الاغتيال التي تعرض لها، أو التي خطط لها النظام، ولم يتمكن من تنفيذها، وسوف
(1) في خطاب للمجرم صدام التكريتي – مسجل على شريط فيديو – شتم فيه السيد الشهيد وعبر عنه بـ(المقبور) واشار فيه الى ذلك الإنطباع عن السيد الشهيد على انه ينوي قيادة الثورة في العراق للإطاحة بالحكومة بتحريض من ايران .
أسجل أهم تلك المحاولات تخطيطا وتنفيذا.
[align=center]المحاولة الاولى[/align]
كان المفروض ان تنفذ هذه المحاولة بعد فترة قصيرة من اليوم الذي افرج فيه عن السيد الشهيد بعد أحداث رجب، فقد اتصل المجرم فاضل البراك وكذلك مساعده المجرم (أبو أسماء) بعد وصول السيد الشهيد إلى النجف فطلبا أن يعود السيد الشهيد إلى وضعه السابق من التدريس ومقابلة الناس، وألحّا في الطلب على قاعدة( يكاد المريب أن يقول خذوني) ما أثار لدينا الشكوك في النوايا الحقيقيّة من هذا الطلب.
بعد ذلك ونحن في الاحتجاز علمنا من المرحوم السيد علي بدر الدين أن السلطة كانت قد أعدت مخططا لاغتيال السيد الشهيد، وكنت الخطة تقضي بأن يفتعل شجار بين بعض أفراد الأمن في سوق العمارة، أو في الطريق الذي يمر منه السيد الشهيد، وأثناء الشجار والعراك يطلق أحدهم النار في الوقت المناسب باتّجاه السيد الشهيد ويؤدّي ذلك إلى قتله خطأ حسب الخطة، ثم تقوم السلطة بإعدام القاتل، وبذلك العمل تتخلّص من أعتى وأعند معارض لها.
وفي الفترة التي رفعت فيها السلطة الحجز جزئيا طلب مدير أمن النجف المجرم (أبو سعد) من السيد الشهيد العودة إلى وضعه الطبيعي، وكان ذلك لنفس الهدف.
وكان أحد أفراد قوّات الأمن محيطين، بمنزل السيد الشهيد قد سأل ـ في تلك الفترة ـ الحاج عباس عن وقت الذي سيخرج فيه السيد الشهيد لزيارة الإمام أمير المؤمنين، بل كان بعضهم يقول له: لماذا لا يخرج السيد الصدر، لقد رفعت السلطة الحجز عنهن قل له فليخرج، وبسبب هذا الإلحاح أدرك الحاج عباس رغم بساطته أن السلطة تنوي إنهاء حياة السيد الشهيد، ولم يكن على علم بأن السيد علي بدر الدين قد أخبرنا بذلك.
المحاولة الثانية
قام بها النظام بواسطة عمليه المجرم (...) وهو عطار يمتلك دكانا في سوق العمارة في النجف الأشرف، وكان يتظاهر بالتديّن والالتزام، والاهتمام البالغ بشعائر الإمام الحسين.
بدأت محاولة تنفيذ هذه العملية عندما أصيب السيد الشهيد بألم في مفصل رجله اليسرى، فطلب من خادمه الحاج عباس شراء دهن (الفكس) المعروف لعلاج مثل هذه الأوجاع.
ذهب الحاج عباس، واشترى الدهن من هذا العطّار، وفي أثناء ذلك سأله: لمن هذا الدواء؟ فقال الحاج عباس: السيد يشكو من ألم في رجله اليسرى، وهذا الدواء له.
في اليوم الثاني وبينما كان الحاج عباس يمر من أمام دكانه ناداه بعد أن التفت يمنيا وشمالا، ليوهم الحاج عباس بأنه يريد أن يطمئن من خلو المكان من شرطة الأمن حذرا وخوفا من أن يكونوا على مقربة منه، فناوله جهازا صغيرا وقال له: إن أخي طبيب وقد أعطاني هذا الجهاز وهو خاصّ بمعالجة أوجاع الرجل، فأعطه السيد الصدر، وقل له أن يضعه في جيب القباء (الصاية) المحاذي لرجله المصابة، فأنّه لا يمرّ عليه يوم وليلة إلا ويشفى من كل الأوجاع.
استلم الحاج عباس الجهاز، وجاء به إلى البيت، وكان قبل ذلك قد أطلعته على وجود أجهزة لإرسال واستراق الصوت وحذّرته من الحديث معي إلا في الأماكن التي حدّدتها له، وكان منها غرفة مكتبة السيد الشهيد.
جاء الحاج عباس وكنت جالسا في المكتبة فأخبرني بما جرى، وكان قد وضع الجهاز في إحدى الغرف التحتيّة، فقلت له: اذهب وأتني به، وضعه أمامي من دون أن تتكلم بشيء حتى السلام. لقد كنت أتوقع أنه جهاز لاستراق الصوت، ثم أخبرت السيد الشهيد وأخته الشهيدة فشاهدوا الجهاز، وكنّا أثناء ذلك لا نتكلم وكنا نتخاطب عن طريق الكتابة.
كان أسطواني الشكل، طوله أقل أو أزيد من عشرة سانتيمترات، وتوجد في كل طرف من طرفيه عدسة زجاجية تشبه عدسة آلة التصوير إذا نظرت من أيّهما لا ترى الطرف الآخر، قمت بفتح الجهاز بصعوبة كبيرة، فوجدت في داخله جهازا للتوقيت متصلا بمادة متفجّرة مكبوسة داخل وعاء معدني، وجهاز التوقيت يسير بحركة لولبيّة باتّجاه نقطه معيّنة، ولم أعثر على قطع إلكترونية تدل على أنّه جهاز لاستراق الصوت.
شاهد السيد الشهيد محتويات الجهاز، وأيقنّا جميعا بأنه متفجرة موقوتة، فقال: لعنك الله يا.... إذا كنت تريد قتلي، فما ذنب هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين أنهكهم الحجز وحرمهم من أبسط ما يتمتّع به الأطفال. وكان يتسلّى بأطفاله في فترة الحجز وهم يتسلّون به بعد أن حرمهم النظام من كل حق لهم في الحياة، وها هو اليوم يبعث لهم بمتفجّرة ليبيدهم وهم في المحنة.
قلت للسيد الشهيد: ماذا أفعل بالجهاز، هل أدمّره؟ فقال: كلا أرجعه إليه. قلت له: فلنقتله به، قال: أنت وشأنك.
وبقيت أراقب جهاز التوقيت وهو يتحرك باتّجاه النقطة المعدنيّة المفروض أنّه سينفجر إذا اتصل بها، وكنت قد خمّنت أن ربع ساعة هي المتبقّية لانفجاره، فقمت بشده وإعادته إلى حالته الاولى، ثم أخذه السيد الشهيد وأعطاه للحاج عباس، وقال له : قل لـ .. إن السيد لا يحتاج إلى هذا العلاج.
أخذ الحاج عباس ـ وهو لا يعلم أنه متفجّرة ـ وسلّمه لـ ..... وهنا كانت المفاجأة، لقد قفز ... وراح يركض بسرعة، وترك دكانه مفتوحا وهو بحالة من الرعب والخوف الشديدين.
جاءني الحاج عباس، وقال لي: إن ... أصيب بالجنون عندما سلّمته الجهاز، لقد فعل كذا وكذا، ولم يكن أحد من قوات الأمن في السوق كي يخشى إلى هذا الحد وكان الحاج عباس يظن أن هذا الشخص فعل ذلك خوفا من قوات الأمن. وهكذا فشلت هذه المحاولة القذرة التي أرادت السلطة تنفيذها على يد شخص هو أبعد ما يكون ـ حسب الظاهر ـ عن أجواء الشك والريبة، وعن العمل مع أجهزة السلطة الإرهابية، خاصّة أنّه لا يحمل الجنسيّة العراقية، بل كان معرضا للتسفير في أي وقت.
المحاولة الثالثة
بعد فشل تلك المحاولة سعت السلطة إلى القيام بعملية إبادة جماعيّة للسيد الشهيد وعائلته، وكادت هذه العملية أن تنجح لولا رحمة الله ـ عز وجل ـ ..
ونفّذت هذه العملية بالشكل التالي:
أمرت أجهزة الأمن مصلحة المياه بفتح أنبوب الماء الكبير الذي يغذي المنطقة التي يقع فيها منزل السيد الشهيد من أقرب نقطة من المنزل بحيث يتم ضخّ الماء تحت منزل السيد الشهيد، واستمر ضخ الماء بقوّة كبيرة لمدة عشرين ساعة تقريبا ـ وهي المدة التي تقطع الماء فيها في ذلك اليوم عن المنطقة ـ، وكان المفروض أن يكفي ذلك لانهيار المنزل على من فيه. ولم نكن نعلم في ذلك الوقت بما حدث، إلا أننا لاحظنا حركة غير طبيعية لقوات الأمن التي كانت تحاصر منزل السيد الشهيد، فقد ابتعدوا عن المكان حتى أنّنا استغربنا من خلو الزقاق منهم، وكان المارّ يظن أن الحجز قد رفع.
في اليوم الثاني لاحظنا أن السرداب قد هوى بأكمله إلى الأسفل مسافة لا تقل عن خمسة أمتار، وبقي البيت معتمدا على بعض الأعمدة وكأنّه معلّق في الهواء.
وكان منظرا مخيفا، لا ندري في أي لحظة سينهار ويقتل كل من فيه.
ولما لم يحدث ذلك اضطرت السلطة إلى فصح الزقاق الذي يتواجد فيه أفراد الأمن عن طريق حفر عدة أماكن من الزقاق لمعرفة ما إذا كان قد حصلت فيه انهيارات أرضيّة تحت التبليط أو لا ، فلما تأكدت من عدم وجود خطر أمرت قواتها بالعودة إلى أماكنهم الاولى.
وكان قد أشيع ونحنه في الحجز أن السلطة وجهة أشعة قاتلة من مكان قريب من المنزل باتّجاه بيت السيد الشهيد لقتله، ولم يتيسّر لنا التأكّد من صحّة تلك المعلومة أو نفيها.
المحاولة الرابعة
وأراد أن ينفذها ضابط في الجيش، أو المخابرات العسكريّة، وكان بيته مجاورا لمنزل السيد الشهيد، فقد اتفقت معه السلطة على أن يقوم بدور المفاوض حول فك الحجز عن السيد الشهيد، ثم يقوم بقتله في داخل البيت.
وهذا الرجل الذي هداه الله ـ تعالى ـ فيما بعد ونال درجة الشهادة كان لا يعرف السيد الشهيد، رغم الجوار، والسبب يعود إلى قلّة تواجده في النجف، وكان يظن أنّ (السيد كاظم الكفائي) هو السيد الشهيد الصدر، وكان يعلم أن الكفائي ممن يسهل قتله، فأعلن عن استعداده للقيام بعملية الاغتيال.
وفي بوم من الأيام جاء يطلب موعدا من السيد الشهيد على أساس أنه مبعوث من قبل السلطة، ولم نكن نعرف حقيقة هذا الشخص،وأنّه يسكن في دار مجاورة لمنزل السيد الشهيد فلما التقي بالسيد الصدر أصيب برعدة شديدة، وظل يرتجف كالسعفة،ما أثار استغراب السيد الشهيد، فسأله عن سبب ذلك، فقال: سيدي ، إن السلطة بعثتني لقتلك، وهذا المسدّس أحمله لتنفيذه هذه المهمّة، أمّا
(1) الكفائي احد الشخاص المتلبسين بلباس الدين وهو يعمل للسلطة ويدور في فلكها وهو معروف بذلك لدى معظم اهالي النجف.
الآن فمن المستحيل أن أفعل ذلك، إنّني اهتز من أعماقي، ولا أعرف السبب، أرجو منك المعذرة، فقد كنت أتصوّر أن الهدف المطلوب هو كاظم الكفائي.
سأله السيد الشهيد: كيف حدث ذلك، وكيف تم اختياركم لتنفيذ الاغتيال؟ فقال: جاء ضابط كبير من المخابرات، فجمع الضبّاط الشيعة من أهل النجف،وقال لنا: هناك عميل لإيران،وعدوّ للثورة في النجف، من منكم على استعداد لاغتياله في بيته؟ فقلت له: أنا مستعد لذلك، وحينئذ كلّفوني بهذه المهمّة، ووعدوني بمنصب كبير بعد إنجازها، وأنا الآن أتوب إلى الله ـ تعالى ـ على يدكم، وسوف انتقم منهم بكل ما يتاح لي من وسائل.
هذه أهم محاولات الاغتيال التي تعرض لها السيد الشهيد تخطيطا أو تنفيذا.
-
[align=center]الرقابة الأمنيّة[/align]
منذ أن عسعس ليل البعث على العراق هرعت كلاب السلطة لتنتش رفي كل مكان، ترصد الشرفاء والأخيار من أبناء العراق، وتحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة، ولا أعتقد أن بلدا من بلدان العالم يملك منظمّة للتجسس والإرهاب ضد شعبه ومواطنيه، وخاصّة الشرفاء وأصحاب المبادئ منهم مثل العراق.
لقد شكل نظام البعث الحاكم في العراق مؤسّسة إرهابيّة لقمع الشعب سمّاها (مديريّة الأمن العامّة)، وشكّل أخرى باسم (الاستخبارات العسكريّة)، لقمع الجيش والقوّات المسلّحة، وشكّل منظمة أخرى لمراقبة تلك المنظّمات سماها العلاقات العامة لمجلس قيادة الثورة ولتي تحولت إلى جهاز المخابرات الذي يشرف عليه شخص صدام، هذا بالإضافة إلى حزب البعث نفسه، الذي حوّله إلى مؤسّسة أمنيّة هدفها التجسّس وقمع الشعب وكذلك المنظمات المهنية كاتحاد النساء والطلبة والعمال والجمعيات الفلاحية، مضافا إلى منظمة الجيش الشعبي الذي أراد بها ضبط موظفي الدولة وتسخير إمكاناتهم في خدمة القمع والتجسس وتفنن في عمل تلك التشكيلات، وأساليب قمعها للناس.
وتجاوزت سلطة البعث (القانون) حيث وضع جميع الصلاحيات التشريعية والقضائية والتنفيذية بيد ما يسمى بمجلس قيادة الثورة الذي شكّل في الغالب من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث. فلا ما نع من اعتقال أي أحد، أو اقتحام بيته، أو سجنه، أو إعدامه ومصادرة أمواله، أو ما تشاء من ظلم وتعسّف على أساس أنّ القانون هو قرار مجلس قيادة الثورة ورئيسه والأجهزة المخولة منه. وتبرير كل ذلك بفكرة الخطر المحق بثورة تموز من قبل الصهيونيّة والإمبرياليّة والرجعيّة!!! ولا زال هذا الخطر، وسيبقى ما دامت السلطة تحكم العراق!
وكان من الطبيعي أن تتكثّف طاقات السلطة وتتوحّد جهودها تجاه السيد الشهيد، الذي يعتبر ألد أعداء الفكر المادي الصليبي الذي يحكم العراق.
واتخذت المراقبة الأمنيّة صورا متعدّدة، وأشكالا مختلفة حسب الظروف والأوضاع، أذكر منها ما يلي:
1 - المراقبة البشريّة
جندت السلطة عددا من عملائها المعروفين من أمثال المنحرف أمين الساري، وثمين البصري، وأشباههم من المنحرفين، كما جنّدت عددا آخر من المتستّرين والمتخفّين لمراقبة السيد الشهيد، ومن يتردد على منزله من أبناء الأمّة، ومن الطلبة والعلماء.
والحقيقة أن كل ما نكت بعن هذا المجال لا يعبر عن الحقيقة بحجمها الحقيقي والواقعي، إذ أن هذه المراقبة امتدت بامتداد عمر السيد الشهيد نفسه ولم تنته إلا باستشهاده.
ولقد وجدت الله عز وجل مع السيد الشهيد في كل تلك الفترة، يسدده ويرعاه ويستره من عيون أعدائه الذين خابوا وخسروا في طول تلك المسيرة الشاقّة.
2 - المراقبة الإلكترونية
أحست السلطة أن مراقبتها للسيد الشهيد عن طريق أفراد الأمن ومنهم بعض المتستّرين بلباس أهل العلم لم تحقّق الأهداف المتوخّاة، فلجأت إلى التجسّس عن طريق الأجهزة الإلكترونية.
بدأ تنفيذ هذه الخطوة بعد أن أصدر السيد الشهيد فتواه الشهيرة بحرمة الانتماء لحزب البعث العميل الكافر، وعدم تمكّن الرقابة البشريّة من رصد هذه الخطوة في الوقت المناسب، مما شكك السلطة في دقة مراقبة أجهزتها الأمنية للسيد الشهيد.
وكان المتوقع أن تلعب هذه الأجهزة دورا فعالا في أداء مهماتها التجسّسية لو لم نكشفها في الوقت المناسب، ونتّخذ الاحتياطات اللازمة التي من شأنها إبطال فعّاليّتها في تحصيل المعلومات التي كانت السلطة تتوخّاها منها.
واستعملت السلطة أسلوبين للتجسس الإلكتروني، أحدهما: الأجهزة السلكيّة التي تزرع في جهاز الهاتف، والآخر: الاجهزة اللاسلكية التي تزرع في نقاط كهربائية داخل المنزل لتستمد الطاقة الكهربائية منها، وتبعث الأصوات عن طريق الذبذبات اللاسلكية.
فقد قامت السلطة بنصب جهاز إلكتروني دقيق داخل هاتف منزل السيد الشهيد مهمّته التقاط الأصوات بدقّة عجيبة في حالة عدم استعمال الهاتف، فيكون هذا الجهاز بمثابة لاقطة صوتيّة تعمل ليل نهار من دون انقطاع.
وبدأت قصّ هذه المحاولة حينما وجدنا في صباح يوم من الأيام جهاز الهاتف عاطلا عن العمل، وكان المتصور أن خللا بسيطا حدث فيه، وهو أمر طبيعي يحدث لكل هاتف، فاتصلنا بدائرة الهاتف، وطلبنا إصلاح العطل، هنا حاول عالم البريد والهاتف أن يعتّم علينا وهو لا شك يعمل ضمن مديريّة أمن النجف، فطلب الانتظار قليلا ليفحص خط الهاتف، وبعد دقائق أخبرنا بأن الخط بأن الخط سالم ولا عيب فيه، وإنّما الخلل في نفس هاتف المنزل، فطلب إحضاره ليقوم بإصلاحه.
إلى هذا الحد كانت الأمور طبيعيّة، ولم تحصل حالة من الشك، وبعثنا بالهاتف إليهم،ووعدنا بإصلاحه بعد ساعة أو أقل، ولكن خلال هذه الساعة تذكرت أن في المنزل هاتفا آخر فحاولت الاستفادة منه بدلا عن الهاتف العاطل، فوجدت أن هذا الجهاز لا يعمل أيضا، ما أثار الشك في تصرف دائرة البريد والهاتف.
وبعد ساعة استلمنا الهاتف، وكان من حسن الصدف أن هاتفا آخر من نفس النوع والشكل كان بحوزتنا فقمت بفتحهما معا للمقارنة بين أجهزتهما الإلكترونية، ومعرفة ما إذا كانت السلطة قد أحدثت شيئا فيه، وكان الظن أنها تحاول زرع متفجّرة لقتل السيد الشهيد، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن توجد أجهزة إلكترونية يمكنها أن تسترق الصوت من خلال الهاتف.
وفتحت الهاتف، فوجدت فيه جهازا زرع في نقطة معينة منه،فأخبرت السيد الشهيد وبعض الأخوة من طلابه، فاطّلعوا عليه، وشاهدوا هذا الجهاز الغريب، وكنّا في حالة من الشك والريب في حقيقة، هل هو متفجّرة أو شئ آخر.
وعلى كل حال، فقد أمرني بالاحتياط، إلا أني وفي نفس اليوم استطعت أن أتأكد من حقيقة، فقد ثبت ومن خلال تجارب بسيطة أنّه جهاز لالتقاط الصوت، ويتمتّع بحسّاسية عالية جدّا.
وبعد أن تأكدنا من ذلك استدعى السيد الشهيد خاصّة طلابه والمقرّبين منه، فأطلعهم على هذا الأمر، وطلب منهم الاحتياط التام، وأن لا يتحدّثوا بشيء مهم إلا إذا أشار إليهم بأن لا محذور من ذلك.
وكان لهذا الجهاز فوائد كثيرة، فمن فوائده أنّنا استطعنا أن نستغلّه لتضليل السلطة والتعتيم عليها، فقد كنّا نضع الجهاز في غرفة السيد الشهيد التي يعقد فيها اجتماعاته الخاصّة، وكان يأتي عدد من طلابه فيجري البحث عن مسائل أصولية وفقهيّة في نفس الغرفة مع السيد الشهيد.
ومن جانب آخر كنت مع بعض الأخوة نقوم بتضليل السلطة بأسلوب آخر، وبصورة مختلفة.... وكانت السلطة تعتقد أن العمليّة غير مكشوفة حتّى أنّ المجرم (نجم) وهو من أخب عناصر الأمن في النجف استوقفني يوما في الصحن الشريف، وقال لي: إنّنا نعلم أن السيد الصدر لا يكن عداءاً للثورة، وأنت أيضا كذلك، ولكن أحذركم من بعض العناصر من أعضاء حزب الدعوة العميل الذين يتردّدون على بيت السيد الصدر... وقال: إنّنا نعلم بكل تحرّكاتكم وتصرّفاتكم.... وكان يشير بذلك إلى هذا الجهاز، وقد استنتجنا من هذه القضية أن السلطات الأمنيّة قد وقعت تحت التضليل فعلا.
ومن أضراره أنّنا لا نستطيع أخبار كل أحد بذلك، وخاصّة الزوّار والضيوف الذين يتردّدون إلى المنزل السيد الشهيد. إن الزائر يفترض بيت السيد الشهيد المكان الآمن الذي يمكنه فيه أن ينال من السلطة ومثالبها وجرائمها بكل حرية وأمان، والتحذير أو إخبارهم جميعا بذلك سيؤدي إن عاجلا أو إجلا إلى علم السلطة باكتشافنا للجهاز، الأمر الذي لم يكن السيد الشهيد يرغب فيه، فكنّا بين محذورين، ومن هنا كنا نواجه حرجا كبيرا، ومشكلة مستعصية في كيفية التعامل مع الضيوف والزوّار.
وبسبب هذا الحرج اضطررنا وبعد فترة طويلة إلى فك الجهاز من الهاتف، وتخلّصنا من هذا الرقيب المزعج، الذي كان لا يفارقنا في الليل ولا في النهار. ومن الطبيعي أن تعلم السلطة بذلك. فقطعوا الخطّ الهاتفي على أمل أن نضطرّ إلى تكرار نفس العمليّة السابقة، ولما لم يحدث ذلك جاءوا إلى المنزل وقالوا: إن في هاتفكم عطلا شل عمل خطوط المنطقة، وطلبوا إحضار الهاتف، فأتتهم الشهيدة بنت الهدى ـ وكانت هي الوحيدة المطّلعة على تلك القضية ـ وأعطتهم هاتفا آخر، فقالوا لها: إن جهازا آخر غير هذا كان عندكم!!! فقالت لهم : إن ذلك كان عارية وقد أخذها صاحبها وسافر إلى خارج العراق، فأخذوا الهاتف ونصبوا فيه جهاز آخر، وبقي هذا الجهاز حتّى استشهاد السيد الصدر.
3 - التجسّس اللاسلكي
أحسّت السلطة بواسطة عميلها المجرم (أمين الساري) ـ وهو متلبّس بلباس أهل العلم وهم منه براء ـ أنّنا في الاجتماعات الخاصّة للسيد الشهيد نقوم بنقل جهاز الهاتف إلى مكان آخر وكنّا نفقع لذل بصورة طبيعيّة لا تثير الانتباه والشك، وهذا الإجراء كنا مضطرين إليه، وهو مما لابد منه ، إلا أن تكرر ذلك قد سبب نوعا من الشك والارتياب، خاصّة وأن المجرم (أمين الساري) كان لا يفارق منزل السيد الشهيد ما دامت أبوابه مفتوحة لاستقبال الزوّار في كل يوم، فكان يخبر مديريّة أمن النجف بكل ما يشاهده في منزل السيد الشهيد، ومنها اللقاءات والاجتماعات التي تتم في الغرفة الخاصّة بعيدا عن جهاز الهاتف الجاسوس.
من هنا فكّرت السلطة بنصب جهاز ثابت لاستراق السمع في نقطة من نقاط الكهرباء، مهمّته التقاط الأصوات في داخل الغرفة، وإرسالها بشكل ذبذبات لاسلكيّة إلى مكان قريب من منزل السيد الشهيد، لكي تلتقط من خلال أجهزة استقبال خاصّة.
وبدأت قصّة هذه المحاولة عندما قطعت السلطة التيّار الكهربائي عن بيت السيد الشهيد والبيوت المجاورة له، وعندما خرج السيد الشهيد لإلقاء بحث الخارج على طلابه في مسجد الطوسي قبل الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، وكان المفروض أن أرافقه إلى هناك لأحضر البحث، لكنّني كنت ساعة خروجه مشغولا بإسباغ الوضوء، فتخلّف عن مرافقته وفي تلك اللحظة جاءت مجموعة من رجال الأمن بلباس عمال الكهرباء، وقالوا لخادم السيد الشهيد الحاج عباس: إن خللا في بيت السيد سبب انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة، وطلبوا الإذن بالبحث عن مكان الخلل، فصعد أحدهم إلى الغرفة الخاصّة، فقام بفتح نقطة كهربائية، ثم وضع جهازا صغيرا فيها، ثم أوصله بالتيار الكهربائي، وأعاد غلق النقطة إلى حالته الاولى، وكنت أشاهد ما يجري من الحمام الذي كنت أتوضأ فيه وهو لا يشعر بوجودي، أمّا البقية فقد ذهبوا إلى أماكن أخرى ليموّهوا على الحاج عباس، ولم ينصبوا أجهزة فيها، وقد ثبت ذلك من فحصنا لتلك النقاط فيما بعد.
ولما خرجوا من البيت بعد أن ادعوا أنهم أصلحوا الخلل وضعت مفتاح التيّار الكهربائي (الفيوز) في حالة القطع،كي لا يتمّ جريان التيّار إلى المنزل بعد إعادته إلى المنطقة، خشية علم ذلك الجهاز الذي نصبوه في الغرفة ونحن لا نعلم عن حقيقته شيئا.
وبعد أن عاد السيد الشهيد أخبرته بما حدث، وشاهد الجهاز، فحذّرني من فتحه، ولمّا لم تكن لدينا وسيلة لمعرفة حقيقة قمت بفتحة من دون علم السيد الشهيد، فوجدت فيه قطعا إلكترونية، ولاقطة صغيرة جدا للصوت، وحينئذ أخبرته بذلك، فأمرني بإرجاعه إلى مكانه، وبإعادة التيّار الكهربائي إلى المنزل، وأيضا حذر من يجب تحذيره من المقرّبين منه، وحسبت السلطة أنّها نجحت هذه المرّة، وستحصل على أخطر المعلومات في المستقبل القريب.
ومما زاد من تأكيده هذه الحقيقة أن مدير أمن النجف زار السيد الشهيد بعد أيام قليلة من نصب الجهاز في نفس تلك الغرفة، فكان بين الحين والآخر يسترق النظر إلى نفس النقطة الكهربائية التي وضعوا فهيا جهاز الإنصات ويبتسم، وكان يظن أن العملية قد انطلت علينا.
وفي تلك الفترة أيضا حاولت مديرية أمن النجف شراء منزل قريب من بيت السيد الشهيد، وكان الهدف يتعلّق بنفس المهمّة، حيث كان المفروض أن يوضع جهاز استقبال الصوت في ذلك البيت القريب لضمان استقبال جيّد للأمواج الصوتيّة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى جهاز الإنصات المنصوب في الهاتف فقد تعاملنا معه بحذر أيضا، قمنا بتضليل السلطة بمهارة ودقّة لدرجة خفّفت فيها من رقابتها للسيد الشهيد عن طريق عملائها الأراذل، بحيث كانت مطمئنة إلى أن أجهزتها التجسّسية تؤدي مهامها على أفضل حال.
ومما لا شك فيه أن السلطة وقت في ارتباك كبير، ففي الوقت الذي تضع على السيد الشهيد ألف علامة استفهام، تجد أن أجهزتها الإلكترونية لا ترصد إلا الأبحاث الفقهيّة والأصولية، بل لم تحصل على ما يثبت لها وجود عداء أو مخططات للسيد الشهيد ضدّها، وهو أمر لا يقتنع به الوجدان ، وهذه الحيرة حيرة قاتلة بالنسبة لهم، خاصّة وأن فترة المراقبة والرصد قد طالت ولكن من دون نتائج مهمّة.
4 - محاولات لاأخلاقية دنيئة
ولمّا أحسّت السلطة أن جهودها في مجال التجسّس على السيد الشهيد قد تبدّدت ولم تثمر شيئا لجأت إلى أسلوب ينسجم مع طبيعتها وأخلاقها، ويعبر بوضوح عن مدي التدهور الأخلاقي الذي وصل إليه قاد حزب البعث ودوائره الأمنيّة التي كان يدّعي أنّه أسّسها لحماية أمن وكرامة وحرية العراقيين.
لقد لجأت السلطة إلى أسلوب قذر، تمثل بتجنيد عدد من النساء الساقطات، وزودتهنّ بكامرات صغيرة جدا نصبت في حقيبة اليد، وهي بطريقة الالتقاط الذاتي المؤقت، أي تلتقط صورة كل دقيقة بصورة تلقائية، وبعثتهن إلى عدد من الأشخاص كانت قد استهدفتهم لإيقاعهم في الرذيلة والفحشاء، وتصوير ذلك من دون علمهم، وبعد ذلك يتم استدعاؤهم إلى مديرية الأمن لتعرض عليهم صورتهم الفاضحة في محاولة لابتزازهم والضغط عليهم للعمل معها والتجسس لصالحها، وكانوا يهدّدونهم في حال رفضهم بإفشاء الصور الملتقطة وإرسالها إلى المراجع والعلماء لفضحهم.
ولم ينجح هذا الأسلوب الخبيث مع من استهدفتهم السلطة من المرتبطين بالسيد الشهيد وإن كنا قد سمعنا أنه نجح مع آخرين من غير الأوساط الحوزويّة والدينيّة، وقد أخبرني أحد الأخوة الثقاة من الذين اشتركوا في انتفاضة شعبان عام (1991 م)، وكان ممن اقتحم بناية مديريّة أمن النجف، أن الثوّار عثروا على مجموعة من الصور والأفلام التقطت لأشخاص تورّطوا في تلك الخدعة التي حاكتها دوائر الأمن والمخابرات، هذه الصور محفوظة فعلا لدى بعض الثوّار. وعلى كل حال فإن ما يرددّه هذا النظام من شعارات عن العروبة وقيم العرب مدعيا أنه يمثل تلك القيم وأن صداما يجسّد الشرف العربي والمجد الحضاري العرب، هاهو اليوم يمارس من الإجرام ما يبرأ منه أراذل العرب حتّى في الجاهليّة، وما سمعنا أن حاكما عربيّا نبيلا في زمن الجاهلية أو الإسلام استغلّ الماجنات والعاهرات لتثبيت حكمه وسلطانه بالشكل الذي فعله صدّام التكريتي. هذه بعض النشاطات التي قامت بها سلطة البعث العميل للتجسّس على السيد الشهيد، وقد باءت كلها بالفشل والخيبة، والحمد لله الرب العالمين.
-
[align=justify] المواقف الجهاديّة وقيادة الثورة
[align=center]الشهيد الصدر والثورة الإسلامية في إيران[/align]
شاء اللّه عز وجل أن يحقّق على يد الإمام الراحل آية اللّه العظمى السيد الخميني ( رضوان اللّه عليه ) أروع حدث من أحداث التاريخ المعاصر، والذي تمثّل بنجاح الثورة الإسلامية وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران.
فماذا سيكون موقف السيد الشهيد من هذا الحدث العظيم الذي نذر نفسه وجاهد بكل طاقة وقدراته لتحقيق نظيره في العراق؟
هل المتوقّع أن لا يعلن بصراحة عن تأييده للقائد الفذّ الذي (حقّق حلم الأنبياء)؟
وهل يمكن أن لا يعبّر عن تأييده ودعمه لهذه الثورة التي رفعت راية الإسلام خفّاقة في بلد كانت الصهيونيّة والولايات المتحدة الأمريكيّة تعتبرانه قاعدة لهما، ومركزا حسّاسا من مراكزهما الحيوية في العالم:
لقد أتّهم السيد الشهيد بأنّه تعامل مع حدث قيام الثورة الإسلامية تعاملا عاطفيا ومتسّرعا، لم يلحظ فيه ظروف العراق، ولا ظروفه الخاصّة، ولم يكن مدركا للأضرار التي ستترتّب على موقف تأييده الثورة الإسلاميّة بهذه الصراحة....!
إن هؤلاء الذين اتهموا السيد الشهيد بذلك برّروا موقفهم بالظروف الأمنيّة التي كانت تسود العراق بعد انتصار الثورة الإسلامية، فالسلطة كثّفت من رقابتها للسيد الشهيد، واعتبرته السند الحقيقي للثورة الإسلامية ومن سيقف إلى جانبها في السرّاء والضرّاء، وهو الذي سيعمّق تأييد الثورة في المجتمع العراقي، ويركز قيادة الإمام الخميني فيه. كما أن نجاح الثورة في إيران استفزّ السلطة البعثية في العراق، بل وأصابها بالذعر والقلق.
إنّ هذه الأمور تجعل عملية تأييد الثورة الإسلاميّة بالشكل الذي تبنّاه الشهيد مخاطرة كبيرة، بل عملية انتحار أكيدة.
أمّا السيد الشهيد فقد كان يعتقد أن تأييد الثورة الإسلامية تكليف شرعي عيني، وهو جهاد، والجهاد يقتضي ويستلزم التضحية والفداء في معظم الأحيان، وكان يقول:
(إن هؤلاء الذين يطلبون منّي أن أترّيث، وأن أتّخذ موقفا من الثورة الإسلامية لا يثير السلطة الحاكمة في العراق حفاظا على حياتي ومرجعيّتي لا يعرفون من الأمور إلا ظواهرها، إن الواجب على هذه المرجعيّة، وعلى النجف كلّها أن تتّخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران... ما هو هدف المرجعيّات على طول التاريخ؟ أليس هو إقامة حكم الله عز وجل على الأرض؟ وها هي مرجعيّة الإمام الخميني قد حقٌّقت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرّج، ولا أتّخذ الموقف الصحيح والمناسب حتّى لوكلّفني ذلك حياتي وكل ما أملك؟)
والحق أن السيد الشهيد وقف موقفا مخلصا بشكل منقطع النظير تجاه الثورة وقائدها المعظّم، وقد أحسست ذلك منه عن قرب بحم معايشتي الطويلة معه، وكان حريصا غاية الحرص على تأييدها ودعمها، بل كان مستعدا للتضحية من أجلها، وقد فعل ذلك عن طيب نفس ورضا كما سنرى من خلال عرضنا لأحداث الحجز.
وعلى ضوء ما لدينا من أرقام نستطيع أن نؤكّد أن موقف السيد الشهيد هذا لم يبدأ من حادث انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بل هو موقف مبدأي ثابت، يمتدّ بجذوره إلى سنوات عديدة قبل الانتصار، حيث لم تكن تلوح في الأفق بوادر الثورة بعد. وكان السيد الشهيد يرى أن الإمام السيد الخميني يمثّل نموذجا فريدا من بين المراجع، في حسّه الثوري وإدراكه لمتطلّبات العصر، وحاجات الأمة الإسلاميّة.
وهنا نستطيع أن نقسّم مواقف السيد الشهيد في هذا المجال إلى قسمين: (الأوّل) ما كان قبل الانتصار، و(الثاني) ما كان بعد الانتصار.
أمّا مواقفه قبل الانتصار، و(الثاني) ما كان بعد الانتصار.
أمّا مواقفه قبل الانتصار فأهمّها:
1 - حثه لعدد كبير من طلاّبه والمقرّبين منه على حضور أبحاث السيد الإمام الأصولية والفقهيّة رغم أن البعض منهم كان لا يفهم اللغة الفارسية، وكان ذلك من باب الدم والتأييد لمرجعيّة السيد الإمام، بعد أن شخّص أنّ السيد الخميني يمثّل قمّة الوعي ومن تعقد عليه آمال الإسلام، لأنّه كان في طليعة المراجع الذين دعوا بصراحة إلى إقامة حكومة إسلاميّة من خلال كتابه (الحكومة الإسلاميّة) الذي طبع في العراق، وكانت هذه الظاهرة وهذه الدعوة خرقا للمتبنيات المألوفة التي لا تقوم على أساس شرعي مسلّم، والتي كانت تقول: إنّه لا يمكن أن تقوم حكومة إسلاميّة قبل ظهور المهدي (سلام الله عليه).
لقد وجد الشهيد الصدر في الإمام الخميني الأمل المشرق، والضياء الوهّاج الذي سيملأ الأفق نورا،فما هي حجة أولئك الذين يدعون إلى عزل الإسلام عن الحياة متذرّعين بفهمهم الخاطئ للنصوص، واستنباطاتهم الساذجة، ممتطين التقية لحجز الاسلام عن أوطانه؟ ما هي حجّتهم وقد أعلن مرجع عظيم من مراجع المسلمين، وعابد من خيرة عبّادهم وزهّادهم أن الإسلام يجب أن يحكم الحياة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويدعوا إلى ذلك بكل صراحة في أبحاثه العلمية في مسجد الشيخ الأنصاري في النجف، ثم يقوم بطبع ذلك على شكل كتيب ويوزع على أوسع نطاق؟!
إن هذه الخطوة من أعظم خطى الإمام الراحل يجب أن تقدّر وتشكر. وقد فعل ذلك السيد الشهيد الصدر، وكان في ذلك الوقت لا يملك أكثر من أن يدعوا طلاّبه لحضور أبحاث الإمام كصورة من صور الدعم والتأييد لمرجعيّته.
2 - ومن صور الدعم أيضا ـ وهو أشرنا إليه سابقا ـ ذهاب السيد الشهيد إلى بيت السيد الإمام لزيارته وتوديعه بعد أن علم أن الإمام قرر مغادرة العراق، ورغم أن هذا التوديع لم يتم، حيث كان الإمام قد غادر النجف في ساعة مبكّرة من صباح ذلك اليوم إلى الكويت فأن السيد الشهيد قد دخل المنزل وجلس مع بعض من كان فيه من المرتبطين بالسيد الإمام مظهرا لهم التأييد والمساندة، رغم تطويق قوّات الأمن للمنزل ومراقبة من يتردّد عليه، وهذا الموقف اعتبرته السلطة من المواقف التي أدانت بها السيد الشهيد في الاعتقال الذي تعرّض له في انتفاضة رجب. وكان قد عطّل أبحاثه في ذلك اليوم، وقال:
(إنّ رحيل السيد الخميني من النجف خسارة كبيرة).
3 - والموقف الثالث له قبل انتصار الثورة الإسلامية تمثل بالرسالة التاريخية الرائعة التي بعثها للسيد الإمام وهو في باريس، والتي أشاد فيها بجهاد الشعب الإيراني وتضحياته، ووقوفه خلف قيادته الرشيدة. وهذه الرسالة تعتبر من أروع الرسائل فيما تحمل من أفكار ومعني، ومقترحات وعواطف، ومشاعر، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد خير خلقه، وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.
وبعد: فإننا في النجف الاشرف إذ نعيش مع الشعب الإيراني بكل قلوبنا، ونشاركه آلامه وآماله نؤمن أن تاريخ هذا الشعب العظيم أثبت أنّه كان ولا يزال شعبا أبيّا شجاعا وقادرا على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها، ويجد فيها هدفه وكرامته.
ونحن إذا لا حظنا مسيرة هذا الشعب النضالية خلال الفترة المنظورة من هذا القرن، وجدنا أنه خاض فيها ـ بكل بطولة وإيمان ـ عددا من المعارك الباسلة في سبيل الحفاظ على كرامته، وتحقيق ما آمن به من طموحات خيّرة وأهداف عالية،فمن قضيّة (التبغ) التي استطاع فيها هذا الشعب العظيم أن يكسر الطوق الذي أراد حكّامه ومخدوموهم المستعمرون أن يطوّقوا به وجوده، إلى قضايا (المشروطة) التي قاوم فيها الشرفاء الأحرار من أبناء هذا البلد الكريم ألوان التحكّم والاستبداد، إلى الممارسات الفعليّة لهذا الشعب المكافح التي قدّم من خلالها حجما عظيما من التضحيات، ولا يزال يقدّم، وهو يزداد يوما بعد يوم إيمانا وصمودا وتأكيدا على روحه النضالية.
بين هذه الملاحم يبدو عمق الشخصية المذهبيّة للفرد الإيراني المسلم، والدور العظيم الذي يؤديّه مفهومه الديني، وتمسّكه العميق بعقيدته ورسالته ومرجعيّته في مجالات هذا النضال الشريف. وفي كل هذا الملاحم نلاحظ أن الروح الدينيّة كانت هي المعين الذي لا ينضب للحركة، وأن الشعارات الإسلامية العظيمة كانت هي المطروحة على الساحة، وأن المرجعية الرشيدة كانت هي الزعامة التي تلتفّ حولها جماهير الشعب المؤمنة، وتستلهمها في صمودها وجهادها، ولا توجد هوية لشعب أصدق انطباقا عليه وتجسيدا لمضمونه من الهوية التي يتجلى بها في ساحة الجهاد والبذل والعطاء، لم يعبر شعب عن حريته النضالية تعبيرا أوضح وأجلي مما عبر به الشعب الإيراني المسلم عن هويّته الإسلامية في كلّ ما خاضه من معارك شريفة، كانت التعبئة لكل واحد منها تّتسم باسم الإسلام، وكانت المشاعر والقلوب تتجمّع على أساسه، وكانت القوى الروحيّة والمرجعيّة الصالحة هي التي تتقدّم المسيرة في نضاله الشريف، ولئن كان الشعب الإيراني قد عبر عن هويته النضالية الأصلية باستمرار فأن نهضته الحية المعاصرة لهي التعبير الأروع عن تلك الهوية النضالية المؤمنة التي عبر بها الشعب الإيراني عن نفسه ولا يزال، وهي من أعظم ذخائر الإسلام وطاقاته التي يملكها في التاريخ الإسلامي الحديث.
وتشير هذه الهويّة النضالية من خلال التجارب الجهادية التي مارسها ولا يزال يمارسها شعب إيران المسلم إلى عدد من الحقائق تبدو واضحة كل الوضوح، ومن الضروري أن تشكل إطارا أساسيا ثابتا لرؤية هذا الشعب لطريقه.
ومن تلك الحقائق الثابتة: أن الشعب الإيراني كان يحقق نجاحه في نضاله بقدر التحامه مع قيادته الروحيّة ومرجعيّة الدينيّة الرشيدة التحاما كاملا، واستطاع هكذا أن يحوّل الشعارات التي نادى بها إلى حقيقة.
وما من مرّة غفل فيها هذا الشعب المجاهد عن هذه الحقيقة، أو استغفل بشأنها إلا وواجه الضياع والتآمر.
فالمرجعية الدينيّة الرشيدة، والقيادة الروحيّة كانت تقوم بدورها هذا، وتنجزه إنجازا جيدا بقدر ما يسودها من التلاحم، والتعاضد، والوقوف جنبا إلى جنب. وما من مرّة استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يحقق نصرا إلا وكان للتلاحم والتعاضد المذكور دور كبير في إمكانية تحقيق هذا النصر.
ومن تلك الحقائق أيضا: أن المبارزة الشريفة لكي تضمن وصولها إلى هدفها الإسلامي لابد أن تتوفر في ظلّها نظرة تفصيليّة واعية وشاملة لرسالة الإسلام، ومفاهيمها وتشريعاتها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وبقدر ما تتوفّر من أساس فكري ورصيد عقائدي للمبارزة ـ أكثر من أي يوم مضى ـ بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتها، واكتسبت ولاء الأمة ـ كل الأمة ـ على الساحة أقول: إنها مدعوة اليوم ـ أكثر من أي يوم مضى ـ إلى أن تنظر بعين إلى الحاجات الفعليّة لمسيرتها، وتنظر بعين أخرى إلى حاجاتها المستقبليّة، وذلك بأن تحدد معالم النظرة التفصيليّة من الآن فيما يتصّل بأيديولوجيّتها ورسالتها الإسلامية الشريفة، وكما أنها مرتبطة في النظرة الاولى إلى الحاجات الفعليّة للمسيرة وتقييمها وتحديد خطواتها بالمرجعيّة الدينية المجاهدة، كذلك لا بد أن ترتبط بالنظرة الثانية ـ وفي معالم أيديولوجية إسلاميّة كاملة ـ بالمرجعيّة الدينيّة الرشيدة التي قادت كفاح هذا الشعب منذ سنين؛ لأن المرجعية هي المصدر الشرعي والطبيعي للتعرّف على الإسلام وأحكامه ومفاهيمه.
كما نرى أيضا أن المبارزة الشريفة قد حقّقت مكسبا كبيرا حينما أفهمت العالم كلّه بخطأ ما كان يتصوّره البعض من أن الإسلام لا يبرز للساحة إلا كمبارز للماركسيّة، وليس من همّه بعد ذلك أن يبارز الطبقة الأخرى، فإن هذا التصور كان يستغله البعض في سبيل إسباغ طابع التخلّف والتبعيّة على المبارزة الإسلاميّة ، وقد تمزّق هذا التصور من خلال المبارزة الشريفة التي برزت على الساحة الإيرانية، باسم الإسلام،وبقوّة الإسلام، وبقيادة المرجعيّة الدينيّة الرشيدة، لتقاوم كيانا أبعد ما يكون عن الماركسيّة والماركسيين.
وقد أثبت ذلك أن الإسلام له رسالته وأصالته في المبارز، وأن الإسلام الذي يقاوم الماركسيّة هو نفسه الإسلام الذي يقاوم كل ألوان الظلم والطغيان، وأن على المبارزة الشريفة ـ وقد آمن الشعب الإيراني بقيادته الإسلاميّة ـ أن تكون على مستوى هذه المرحلة ، وأن تدرك بعمق ما يواجهها من عداء عظيم لتحقيق أهدافه الكبير في عملية التغيير؛ لأنّ بناء إيران إسلاميا ليس مجرّد تغيير في الشكل والأسماء، بل هو ـ إضافة إلى ذلك ـ تطهير للمحتوى من كل الجذور الفاسدة، وملء المضمون ملأ جديدا حيا تتدفّق فيه القيم القرآنيّة والإسلاميّة في مختلف مجالات الحياة.
ولاشك في أن البطولة الفريدة التي تحققت بها المبارزة في عملية مكافحة الواقع الفاسد وهدمه، تؤكّد كفاءتها لإدراك هذه المسؤوليات وعمقها الروحي والاجتماعي التاريخي.
ونسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يرعى التضحيات العظيمة التي قدّمها الشعب الإيراني المجاهد، بقيادة علمائه، ويجعل من الدماء الطاهرة التي أراقها السفّاكون على الساحة شموعا تضئ بالنور لتخرج إيران من ظلمات الاستبداد والانحراف إلى تطبيق الإسلام الشامل في كل مجالات الحياة.
وليست القافلة الأخيرة من الضحايا في مدينة مشهد المقدّسة إلا حلقة جديدة من مجازر الطغاة وتغمّد الله الشهداء بعظيم رحمته، وألحقهم بشهدائنا السابقين، والصدّيقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا، والعاقبة للمتقّين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
محمد باقر الصدر
وكانت هناك صور أخرى من التعاون بين السيد الشهيد والسيد الإمام قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، تتمّعن طريق الإمام السيد موسى الصدر والسيد أحمد الخميني وغيرهم من الشخصيات الكبيرة التي كانت تعمل مع الإمام الراحل في جهاده لإقامة الحكومة الإسلاميّة في إيران.
وقد نلحظ ذلك الاهتمام م خلال هذا المقطع من رسالة للسيد الشهيد، والتي ذكر فيها السيد الإمام الخميني، وصراعه المرير مع الشاه المقبور، ولأجل ان نعرف أهمية ما كتبه يجب أن نشير إلى أجواء تلك الفترة وما عانى فيها الإمام الراحل من جفاء من قبل بعض المرجعيّات وأطراف كثيرة في الحوزة، فقد كان البعض يوجّه إليه ألوانا من التّهم والافتراءات الباطلة، وكانت أيضا قوات الشاه المتسترّة تسند تلك الحملات الظالمة بكل ما تملك من طاقات وإمكانات، فكانت تبدو مرجعيّة السيد الإمام ـ وهي في النجف ـ غريبة ومعزولة عن الأمة.
وأتذكر أن أحدهم قال لي في تلك الفترة: لا يجوز لك أن تستلم مرتّبك الشهري من الإمام لأنّه شيوعي!! وهذا القائل يمثل ـ بلا شك ـ نموذجا من التيّار المعادي السيد الإمام.
في مثل هذه الأجواء القاتمة كانت رؤية السيد الشهيد؛ للإمام الراحل تختلف عن الآخرين، فهو يراه القائد الذي قطع لسان الشاه العميل لأمريكا، وأن الإمام كما هو عدو للشرق الشيوعي كذلك هو عدو للغرب الرأسمالي، يقول في تلك الرسالة التي كتبها في عام (1963 م) ما يلي:
(وأمّا بالنسبة إلى إيران فلا يزال الوضع كما كان ، وآقاي خميني مبعد في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران، وقد استطاع آقاي خميني في هذه المرّة أن يقطع لسان الشاه الذي كان يتهّم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر؛ لأن خوض معركة ضد إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم أن يصف ذلك بالتأخر....).
هذه بعض مواقف السيد الشهيد من الإمام الراحل قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
أما قبيل الانتصار وبعده، فإن موقفه من الثورة وقائدها يعتبر من المواقف النموذجيّة في التاريخ، بل بماذا يمكن أن نعبر عن موقف أدّى إلى الشهادة، يقدم عليه مختارا بنفس مطمئنّة راضية، وهو يعلم أن لا مصلحة مادّية له بذلك. وسنعرف تفصيل ذلك من خلال أحداث فترة الاحتجاز بإذن الله.
أما مواقفه من الثورة الإسلامية بعد أن انتصرت وتحقّقت فيه كثيرة، أذكر منها:1 - قام بعد أن بلغه نبأ انتصارها بإعلان التعطيل لدروسه ابتهاجا وفرحا بذلك الحدث التاريخي العظيم، وتحدّث في البحث الذي أعلن فيه التعطل عن ضرورة دعمها وإسنادها ووجوب الوقوف معها في السّراء والضرّاء.
وهذا الموقف هو الوحي الذي وقفه مرجع كبير من مراجع النجف، وبهذه الصراحة في تلك الفترة الحرجة والقاسية في ظل حزب البعث الحاكم.
2 - وأراد أن يحرّك الساحة باتّجاه إيجاد تأييد شعبي عامّ وشامل، فدعا بعض أنصاره إلى تنظيم تظاهره شعبيّة لتأييد الثورة الإسلامية في إيران، وإظهار الابتهاج بانتصاره، فهرع الشباب المؤمن فخرجوا بتظاهرة من جامع الخضراء بعد صلاة المغرب والعشاء، ورفع المتظاهرون فيها صور السيد الشهيد والسيد الإمام وهي المرّة الاولى التي يحدث فيها مثل ذلك في العراق.
3 - وكتب رسالة إلى طلاّبه الذين هاجروا إلى الجمهورية الإسلامية في إيران،دعاهم فيها إلى بذل كل الطاقات والإمكانات لخدمة الثورة، وأكّد لهم فيها ضرورة الالتفات حول مرجعيّة السيد الخميني والعمل على إسنادها ودعمها.
وتعتبر هذه الرسالة من أروع مواقف الدعم والتأييد، وهذا نصّ الرسالة. بسم الله الرحمن الرحيم
أولادي وأعزائي حفظكم الله بعينه التي لا تنام
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.
أكتب إليكم في هذه اللحظات العظيمة التي حقق فيها الإسلام نصرا حاسما وفريدا في تاريخنا الحديث على يد الشعب الإيراني المسلم، وبقيادة الإمام الخميني وتعاضد سائر القوى الخيّرة والعلماء الأعلام، وإذا بالحلم يصبح حقيقة، وإذا بالأمل يتحقٌّق، وإذا بالأفكار تنطلق بركانا على الظالمين، لتجسّد وتقيم دولة الحقّ والإسلام على الأرض، وإذا بالإسلام الذي حبسه الظالمون والمستعمرون في قمقم، يكسر القمقم بسواعد إيرانيّة فتية لا ترهب الموت، ولم يثن عزيمتها إرهاب الطواغيت، ثم ينطلق من القمقم ليزلزل الأرض تحت أقدام كل الظالمين، ويبعث في نفوس المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها روحا جديدة وأملا جديدا.
إن الواجب على كل واحد منكم، وعلى كل فرد قدّر له حظه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة أن يبذل كل طاقاته، وكل ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كله في خدمة التجربة، فلا توقّف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام، ولا حد للبذل والقضية
(1) وثيقة رقم (12),ص 347.
ترتفع رايتها بقوة الإسلام، وعملية البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كل فرد مهما كانت ضئيلة.
ويجب أن يكون واضحا أيضا أن مرجعيّة السيد الخميني التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفات حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعيّة الصالحة شخصا، وإنّما هي هدف وطريق، وكل مرجعيّة حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعيّة الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص.
والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران يجب الابتعاد بها عن أي شئ من شأنه أن يضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعيّة الرشيدة القائدة.
أخذ الله بيدكم، وأقرّ عيونك بفرحة النصر، وحفظكم سندا وذخرا. والسلام عليكم يا أحبّتي ورحمة الله وبركاته.
أبوكم
4 - وفي الفترة التي عمل فيها أعداء الثورة الإسلامية في إيران على إثارة القلاقل والفتن، وتحريض عرب إيران على التمّرد والعصيان، وجّه رسالة إليهم دعاهم فيها إلى نبذ الفكر الجاهلي والقومي، وطلب منهم الالتفات حول قيادة الإمام الخميني وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
شعبنا العربي المسلم العزيز في إيران المجاهد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنّي أخاطبكم باسم الإسلام، وأدعوكم وسائر شعوب إيران العظيمة لتجسيد روح الأخوّة الإسلاميّة، التي ضربت في التاريخ مثلا اعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتّقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلا بالتقوى، مجتمع عمّار بن ياسر، وسلمان الفارسيّ، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، مجتمع القلوب العامرة بالفكر والإيمان، المتجاوزة كل حدود الأرض المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء.
فلتتوحّد القلوب، ولتنصهر كل الطاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني، وفي طرق بناء المجتمع الإسلام العظيم الذي يحمل مشعل القرآن الكريم إلى العالم كلّه.
والسلام عليكم ورحمة وبركاته
محمد باقر الصدر
النجف الأشرف 16 رجب
5 - ومن أهم صور الدعم والإسناد للثورة الإسلامية في إيران كتابه حلقات (الإسلام يقود الحياة). وكان سبب تأليفه أنّه رأى أن بعض القوى التي برزت على الساحة الإسلامية في إيران بعد انتصار الثورة كانت تشكّل خطرا كبيرا على الثورةـ وقد ثبت ذلك فيما بعد بما قدمت به حركة مجاهدي خلق المنحرفة ـ فكان مهتمّا بهذا الأمر.
وقال في تلك الفترة: لأجل تجاوز هذا الخطر يجب أن تطرح رسالة الإمام (توضيح المسائل) كشعار يرفعه كل إيراني، ويطالب بتطبيقها.
ومن الطبيعي أن هذا العمل سيفرز القوى المنحرفة، ويعزلها عن الساحة، لأن المنافق لا يطالب بتطبيق رسالة (توضيح المسائل) التي تمثّل أحكام القرآن والشريعة الإسلامية المقدّسة.
وقد بادر إلى كتابة سلسلة (الإسلام يقود الحياة) لإعطاء تصورّات عامّة وبسيطة عن موقف الإسلام من مختلف القضايا الحياتيّة، والجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ونظام الحكم وغير ذلك. وقد بعث العدد الأوّل من سلسلة الإسلام يقود الحياة (لمحة فقهيّة) إلى أحد تلامذته المخلصين وهو سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد الغروي (حفظه الله) إذ كان قد أخبره بأنّه عازم على الذهاب إلى إيران ضمن وقد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان للتهنئة بمناسبة انتصار الثورة فطلب منه السيد الشهيد طباعة هذا العدد وتقديم عدّة نسخ منه إلى المسؤولين في إيران، وقام سماحة السيد الغروي بتقديم نسخة منه إلى مكتب الإمام الراحل ونسخة إلى الشهيد السيد البهشتي وإلى عدد من المسؤولين في أجهزة الدولة العليا في ذلك الوقت.
وقد طاب السيد الشهيد ترجمة هذه الكراسات إلى اللغة الفارسيّة ليتسنّى للجميع معرفة تصورّات عامّة عن هذه الجوانب الحيويّة من الإسلام.
وكن يقول: إن القادة الكرام في إيران مشغولون بالكثير من المشاكل والقضايا التي تتعلّق بحفظ الأمن واستتابه، وتركيز قواعد الثورة، وممّا لا شك لفيه أن ملء الجوانب الفكريّة لا يتيسّر لهم في الوقت الحاضر، فكان الواجب أن نمدّ يد العون والمساندة لهم، ولو بهذا الجهد البسيط، وكان مصمما على كتابة أفكار حلقات (الإسلام يقود الحياة) بتفصيل واستيعاب أشم لولا أن عاجلته يد الإجرام العفلقيّة، فحرمتنا من ذلك.
هذه بعض الوقت مواقف السيد الشهيد التي عبّر فيها عن تأييده المطلق للثورة الإسلامية في إيران، ولقائدها العظيم، في الوقت الذي كانت الظروف الأمنيّة في العراق كلها ضد السيد الشهيد، وكانت السلطة تتربّص به الدوائر، وتحصي عليه أنفاسه.
وكانت النجف ـ بما تمثّل ـ تتغافل هذا الحدث العظيم، وتعيش في سبات عميق، وقد ابتعدت بنفسها عن كلمة أو موقف تجاه الثورة أو قائدها، ولولا مواقف السيد الشهيد لكانت النجف من دون موقف، ولكانت صفحتها في التاريخ سوداء قاتمة لا يسترها شئ وهي التي كانت تعرف على امتداد التاريخ بمواقفها المشرقة الناصعة.[/align]
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|