[align=center] بيوت من بنزين

قصة قصيرة صالح السعود

حذو مستنقعات للملح امتدت على طول الشارع العام المؤدي الى عاصمة البلاد اصطفت اكواخ من قش انبعجت سقوفها عند الناظم المائي لبحيرات للأسماك او هكذا تراءت للناظر متناثرة اثنين اثنين تماهت واجمات البردي والقصب . قدم ساكنوها من المناطق البعيدة بعد ان لم يجدوا لهم مأوى فوقعت عليهم لعنة من هجّر من دياره وإن ضاقت بهم سبل العيش لجئوا الى بيع ما يمكنهم الحصول عليه من وقود البنزين . فأنتشرت عبوات مختلفة الحجوم وبراميل صدئة تحوي بداخلها وقود السيارات والمولدات من البنزين وزيت الغاز .
طيور الماء لم تعد تألف مساحات مراتعها بعد ان تلوثت مياهها ببقع الزيت الطافية على سطح برك المياه فما كان منها الا ان لمت رحالها وهاجرت هي الاخرى .
حين طرأ على ذهنه تسائل عن مصدر كل تلك الكميات المعبئة من الوقود اجابه احد صيادي السمك متذمرا
- انها محطات الوقود اللعينة القريبة من الحقول
تسائل مستغربا كون المحطات التي يقصدها مغلقة في غالب الاحيان , اكد الرجل داحضا له قناعته
- ذلك لانك تراها هكذا خلافا للاخرين يجدونها على عكس ما تقول .
دأب اصحاب السيارات من ذوي الدخول العالية بأرتياد تلكم البيوتات الصغيرة التي تكاد تغوص في الارض الملحية ليحصلوا على ما يحتاجونه من وقود لقاء مبالغ عالية جدا .


ثمة عجلات بدأن يتجمعن في رتل منتظم أمام المشبك الحديدي لبوابة الوقود التي اشار إلى احدها محدثي الصياد حتى هرعن نسوة مع اطفالهن وبالمثل بدأ شيوخ متعبون يهرولون وحاوياتهم البلاستيكية الفارغة تبغي نجدة . في حين هرع بعض الفتية يوخزون حمير عرباتهم الخشبية العتيقة ليأخذوا دورهم للتزود بالوقود , في ماراحت فكوك حميرهم تواصل طحنها المضطرب لعيدان القصب الصفراء .
امرأة عجوز خانت بها قدماها فما عادت بقادرة على الهرولة فأقعدت منتصف المسافة تهذي بكلمات تخرج بحشرجة من بين بقايا لأسنان هجرت فمها المتعب منذ زمن بعيد :
- شوباش .. حل الخير !
وسط دهشة حبيسة فكّر بصوت عال : يا الله .. ها قد حلت الساعة !
اتخذ مكانه خلف مقود سيارته وانطلق مع المتزاحمين تجاه محطة الوقود . سرعان ما اصطفت السيارات برتل تجاوز المسافة الكيلو متر . ترجل سائقوها متجمعين امام المشبّك الحديدي للبوابة الرئيسية .
الانظار كلها توجهت صوب باب الدائرة الرئيس عل احد يخرج لينجد ذلك الحشد من المتزاحمين .
ذوي هائل ملأ المكان خلّفه اصوات لسيارات اسعاف ليست بعيدة آتية من مركز المدينة .
الجميع كبّر مهللا في ما تسمروا في مكانهم الباب الرئيس لمل يزل مغلقا وساحة المحطة تخلو من عمالها . النسوة تحلقن خارج خط الاسلاك الشائكة الثاني شمس تموز اللاهبة توسطت كبد السماء ولم تألو جهدا من صب حممها البركانية على تلك الجسوم المحتشدة .
اصوات بعض الصبية من باعت المثلجات ينادون باغراء لترويج بضاعتهم :
- موتا .. موتا .. موتا .. تبرد وانتعش .. موتا موتا ..
احد الشيوخ وقد تهدل لفاع رأسه مغطيا نصف لحيته البيضاء لم يقو موازنة حمله لصندوق المثلجات بيد وفنطاس الوقود الفارغ باليد الاخرى .
سرعان ما التوت اعناق الرجال تجاه رجل بدين اطل من مقصورته بوجنتين حمراويين تلمعان فوق شارب اسود وقد مال رأسه الى صدره . زغردت بعض النسوة مستبشرات .
داعب لحيته السوداء ثم تقدم معتليا دكة لادوات اطفاء للحريق ركل بعضها بقدمه , تنحنح ليبأ خطبته :
- ياناس .. ياناس !
صمت الجميع عدا صوت بائع المثلجات
- مالي أراكم غير منتظمين ؟ رغم ما انتم عليه من خلق وادب .. نحن من علم العالم النظام والحضارة .. كونوا هادئين فستحصلون على حاجتكم .. فقط عودوا منتظمين صوت لاطلاقات نارية قطع الصمت المطبق على الجميع سرعان ما افزع النسوة فلذن ناكصات الى جانب الطريق ليفسحن المجال لسيارتين دلفتا من الباب المخصص للخروج ! هرول الرجل البدين لا يلوي على شئ فاتحا بوابة المحطة باحترام جم وتعظيم لرجل ترجل من إحداهما متوجها صوب مضخة الوقود .
بعد برهة صاح آمرا بفتح باب الخروج ثانية . اختفت السيارتان بسرعة وسط لعلعة الرصاص الذي ملأ المكان دون ان ينبت احد ببنت شفه خطا الرجل البدين ثلاث خطوات ثم صاح بأعلى صوته:
- على النساء الوقوف بانتظام وليشكلن رتلا واحدا
اصطفت النساء المتشحات بالسواد يتهامسن داعيات شاكرات
التفت الرجل ناصحا اصحاب الحمير ليشكلوا رتلا ايضا .
سرعان ما تلاطمت حاويات الوقود وعلت المكان غبرة كثيفة .
نبه احد الواقفين من بين جمع السيارات المحتشدة , حانقا وهو يداري وضع عقاله الذي علق به التراب اثر سقوطه المباغت :
- وما حال السيارات يارجل ؟
عقب الرجل البدين مواصلا
- قلت النسوة اولا . اين ولت الرجولة اذن .. اما ترى وضعهن؟
ثم وكمن اعجبه ان ينتهز مثل ذلك الحديث
- هؤلاء هجرن من ديارهن وخرجن صفر اليدين والواجب يقضي علينا مساعدتهن
بخطبته استطاع البدين كسب تعاطف البعض ممن هم قريبون من بوابة المحطة الوقت . تجاوز الثالثة بعض الظهر وبين الفينة والاخرى يتكرر حال اطلاق النار وكوكبة من السيارات الفارهة تدخل مخالفة القواعد فتتزود بالوقود ثم تغادر وسط لغط المحتشدين ووجف قلوبهم وحقدهم الدفين يقطعه صوت بائع المثلجات .. موتا .. موتا .. اقتل عطشك وانتعش !
تناول احد اكواب المثلجات فيما وصل الى اذنه همس الرجل بعد ان عدل من وضع صندوق بضاعته
- سيعلنها قريبا .. من ان الوقود قد نفد ويفض اجتماع هذا اليوم , فلا تكترث للرجل البدين
كان وقع الخبر كالصاعقة على رأسه . فمضى يردد كمن اصيب بهلوسة :
- مالذي سنفعله نحن اصحاب السيارات ؟
وكأنما توقع الرجل بائع المثلجات ما سيقوله صاحبه فأومأ برأسه تجاه البيوت الصغير وكمن يتوعد بمصير ابدي لا غيره ..
- تلك بيوت الوقود ياولدي
رفع الرجل البدين يده الى فمه منهيا بصوت صافرته حفلة تزود بالوقود بعد ما القم سيارته الفارهة بزيادة من الوقود وانطلق بطريقة مسرحية ليبتلعه سراب الطريق مخلفا ورائه غمامة من غبار
عج المكان بالسباب والشتائم . رفع احدهم يديه متضرعا الى السماء وهو يتنتن بكل جوارحه :
- يا الله ياجبار جفف بحر وقودنا حتى تعود الطيور الى اعشاشها.
بعد ان واسى الرجل استقل سيارته ومن ثم دلف الى الطريق المؤدية الى بيوت البنزين عاملا بنصيحة الرجل بائع المثلجات .
هنالك لم يفاجئه وجود السيارة الفارهة للرجل البدين مركونة امام احد البيوت الطينية , ولما يزل صوت الفه قبل قليل يعلو فيملأ صداه المكان :
- موتا .. موتا .. موتا .. اقتل عطشك وانتعش !



الكاتب الاستاذ صالح ابراهيم ال سعود المسيباوي
[/align]