حول دراسة حياة الأئمة من أهل البيت (ع)
سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله)



ثقل المهمّة

إن دراسة حياة الإمام الصادق (ع) والأئمة من أهل البيت (ع)، من الأمور التي نحس، ويحس كثير من المسلمين وغيرهم ،بضرورة العمل على تحقيقها بدقة ووضوح، لأن لها صلة كبيرة بالجانب العقائدي من حياتنا، وبالجوانب الفكرية والروحية من ثقافتنا وديننا وتاريخنا.

ونستطيع أن ندرك جيداً مدى ضرورة هذه الدراسة، ومدى صلتها بحياتنا، إذا لاحظنا: أن الأئمة من أهل البيت (ع) _ في ما نراه _ يمثلون الامتداد الرسالي للدعوة الإسلامية، فقد كانت مهمتهم توضيح القضايا الإسلامية التي اعتراها الغموض والإبهام بعد النبي (ص) بسبب الظروف والملابسات الكثيرة التي رافقت الإسلام في تلك الفترات، والقيام بدور الحارس الأمين للقيم والمفاهيم الإسلامية، حذراً من أن تُشوَّه أو تحرّف وفقاً لمقتضيات الظروف السياسية للحاكمين، الذين تحيط بهم فئة من المرتزقة تتملّق الحكم في كل نزوة من نزواته وشهوة من شهواته، فتعد لهم تفسيراً يتلاءم معها، ومبرراً يستر فضائحها، على حساب المفاهيم العامة التي تشوّه وتحرّف كما يشاء الحكم، وكما يريد الحاكم.

وهنا نشعر بثقل المهمَّة الملقاة على عواتقهم وهم يتحدَّثون عن كلِّ المؤثرات وكل هذه العقبات، ليوجّهوا وليوضحوا وليحدّدوا تلك المفاهيم، فلا يبقى هناك مجال للتشويه وللتحريف. كل ذلك بأساليب عديدة كانت الثورة منها، كما في نهضة الحسين العظيمة (ع)، وكان الدعاء الموجّه من بعضها، كما رأيناه في حياة زين العابدين (ع).

وكان التوجيه والتثقيف والبحث والمناظرة من جملتها، كما نقرأه في حياة الإمام الباقر وولده الصادق وبقية الأئمة (ع)، حسب الظروف الزمنية التي قد تسمح لبعضهم بأكثر مما تسمح به للبعض الآخر.

وقد اجتمع لدينا من ذلك كله ثروة علمية دينية، حصلنا منها على الشيء الكثير في مختلف مجالات الحياة بفضل الدراسة الموضوعية الحرة.

رسالة الأئمة (ع)

وكان الخلفاء من بني أمية ومن بني العبّاس، يتحيَّنون الفرص للوقوف أمام الأئمة في تأدية رسالتهم، ويتفنَّنون في اختراع أساليب الاضطهاد والتعذيب للأئمة وأصحابهم، حتى كان أهون على الإنسان في بعض تلك الفترات أن يقال له يهودي من أن يقال عنه إنه يتشيع لأهل البيت (ع).

ولماذا كان هذا، مع أن الأئمة (ع) لم يعلنوا الثورة ضد أي شخص من هؤلاء، منذ ثورة الحسين (ع)؟

وإن دققنا النظر، لعرفنا أن السبب في ذلك يعود إلى أن الثورة التي حمل الحسين (ع) لواءها، تحوَّلت نتيجة الظروف إلى ثورة فكرية وروحية يقودها الأئمة (عليهم السلام) ضد الظلم والطغيان والتفسخ الديني والخلقي الذي كان يمثله الكثيرون من هؤلاء.

وتتمثّل هذه الثورة في الرسالة التي يحملها الأئمة من أهل البيت، وهي قيامهم بعرض الإسلام للناس بحقيقته وواقعه، بعيداً عن تحريف المحرِّفين وتشويه المشوِّهين.

الإسلام الذين يلعن الظالم والظالمين ويصرخ بهم مهدداً ومتوعداً ويدعو إلى محاربتهم ومقاطعتهم ويلعن من يتعاون معهم.

الإسلام: الذي يعتبر الأمة مسؤولة عن تولي الظالمين الحكم، لأنها تقدّم لهم الطاعة والمعونة على إدارة شؤون الدولة، ما يسهل لهم مهمة التحكُّم في رقاب العباد ومقدراتهم. وإلا فما عسى أن يفعل فرد أو جماعة أمام إرادة الملايين من أبناء الأمة، الذين لو قاموا بمقاطعته فقط، فلا يلبث حكمه أن ينهار ويتلاشى، ليفسح في المجال أمام حكم عادل يعمل للمصلحة الإسلامية العليا قبل كل شيء.

الإسلام الذي يحدّد للحاكمين صلاحياتهم ومسؤولياتهم، ويجعل للأمة الرقابة الواعية عليهم، فلا يستطيعون الانحراف عن الطريق المستقيم، وإلا كان لهم بالمرصاد يحاسبهم على ما عملوه من صغيرة وكبيرة.

الإسلام الذي يقدّم العدالة الاجتماعية بأروع صورها للناس متمثلةً في مساواة الحاكم للمحكوم أمام القانون العادل.

ومن الطبيعي أن عرض الإسلام بهذه الصورة الوضيئة يتعارض والمصالح الشخصية لأولئك الطغاة، الذين كانت أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم معلّقة بكلمة تصدر منهم أو شهوة تعرض لهم، من دون أن يحاذروا رقيباً أو حسيباً بسبب الضغط والإرهاب، بالإضافة إلى ما دفعوا إليه المجتمع الإسلامي من الانحدار الخلقي والروحي والفكري.

لذلك كنا نجد كل فرد منهم، لا يكاد يتولّى الحكم حتى يكون موقفه من الإمام الذي يعاصره أول ما يفكر فيه، وفي الطريقة التي يمكنه أن يقضي على الأصوات الخيِّرة التي تنطلق من الدعوة الإسلامية الصريحة، وعلى التفكير الثوري الذي كانت تعاليم الأئمة تركّزه في أعماق الأمة.. فكان القتل بالسم وغيره، وكان الاضطهاد وكان التعذيب وكان السجن، وغير ذلك من الأساليب التي تعرَّضَ لها الأئمة من جبابرة زمانهم.

ولكن.. متى كانت هذه الأساليب تقتل فكرة، أو تخنق ثورة؟ ومتى كان الظلم يستطيع أن يحجب الشعاع الخيّر المنطلق من نفوس المصلحين وعقولهم مهما أثار من الغبار، ومهما حشد من الضباب؟

آفاق جديدة

كما أنها تستطيع أن تعطينا حلولاً كثيرة لما نجابه من مشاكل فكرية وروحية، وتبعدنا عن جو السطحية والسذاجة اللتين لا نزال نعالج مشاكلنا على أساسهما.

فقد أُثير الكثير من هذه المشاكل في زمن الإمام، وكان الكثير منها يشابه إلى حد بعيد عصرنا الحاضر، مع فارق بسيط تفرضه طبيعة اختلاف الزمن.

وكانت المرونة الفكرية والعمق والاستيعاب تتمثّل في الحلول التي عالج بها الإمام (ع) هذه المشاكل معالجةً دقيقة على ضوء الإسلام وهديه.
وأخيراً، نحن بحاجة ماسة إلى دراسة حياة الأئمة من أهل البيت (ع)، وإلى دراسة حياة الإمام الصادق (ع) بوجه خاص، لأن مثل هذه الدراسة تلتقي بآفاق جديدة في العلم والدين والأخلاق والسلوك والنفس والمجتمع،
بقي علينا أن نضع أيدينا على المعين الصافي، الذي انطلق منه الإسلام وعاش فيه، ولن نجد إلا الريّ لظمأ المعرفة، الذي يملأ أرواحنا وأفكارنا، ولن نحصل إلاّ على الراحة والطمأنينة، والتخلّص من القلق النفسي الذي يعصف بحياتنا ويبعثر خطواتنا في دربنا الطويل، والله من وراء القصد.