[align=justify]
[align=center][frame="7 80"]_______________________________
السلفيــــــــــــــــــــــــــة
..عرض و نقد ..
_______________________________[/frame][/align]
السلفية الدينية في المجال التاريخي الاسلامي .. مقاربة نقدية
ا. نبيل علي صالح
اولا - مقدمة ضرورية تعتبر دراسة التاريخ الاسلامي - وما فيه من احداث وافكار - بتقنية علمية وموضوعية من المسائل الشائكة والصعبة..وهي لا تتوفر الا للقلة من الباحثين نظرا لطبيعة المادة التاريخية التي قد تتشابك نصوصها، وتتضارب احداثها ووقائعها، وتتلون تحليلات الكتاب والمؤرخين حولها بمختلف الوان الاتجاهات السياسية والمذهبية المتبناة من قبل هذا المؤرخ اوذاك.
واذا كان التاريخ الاسلامي لا يزال مصدرا اساسيا من مصادر الفكر والمعرفة الاسلامية، فان المنطق العقلي والعلمي يلزمناجميعا - كمفكرين وباحثين ومنتجين للمعرفة - ان نقوم بدراسة مواقع (ومواضع) هذا التاريخ دراسة نقدية واعية لا تكتفي بنقل مخزوننا التراثي التاريخي الهائل الحجم والاتساع كما هو الى عصرنا الراهن، ولكنها تنفذ الى عمق حركة هذا التاريخ لتبحث عن افكاره واحداثه ورموزه ومواقعه، وتقوم بتوثيقه من حيث رواته ومضامينه ومحتوياته، وتدرس امكانية انسجامها او عدم انسجامها مع حقائق الاشياء والظروف الموضوعية التي تحيط بهذه الفكرة او الواقعة او تلك الشخصية التاريخية.
وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في ضرورة ان نتعاطى مع التاريخ - باعتباره حركة الانسان في محيطه خلال الزمان -من موقع العبرة والدرس والعظة والاستذكار الايجابي الفعال، ليغدو - هذا التاريخ - مدرسة نعرف نتائجها في حجم التجربة، ولنصنع التاريخ في مدرسة نحرك نتائجها في المستقبل..
يقول تعالى: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (الانعام:55)..
وهذا ايضا ما تؤكد عليه نصوص السنة الشريفة من خلال ضرورة «عقل الخبر عقل رعاية لا عقل رواية.. فرواة العلم كثيرون ورعاته قليلون»، كما يشير الحديث الشريف.
ونحن عندما نتحدث تاريخيا عن فكرة او رمز او موقف تاريخي ماض، فاننا نريد لبحثنا التاريخي ان يدخل الى العمق الروحي والفكري للرمز والقيمة والمفهوم، وان نستقدم من التاريخ الماضي للشخصية التاريخية المدروسة - التي ابتعدناعنها كثيرا في حساب الزمن المادي - كل المبادئ والقيم الروحية والعملية مما كان يتحدث عنه، او يوجه اليه، او يعظ به..من خلال ما كانت تمثله من صورة مضيئة ومشرقة للاسلام كله على مستوى الفعل والقول والحركة والموقف.. وهذا يضعناامام مدخلية فكرية منهجية اراها ضرورية للبحث في اي مادة تاريخية.. وهي مسالة كيفية دراسة المادة التاريخية،والادوات الواجب استخدامها، وضبطها في سياقها الطبيعي، سواء كانت المادة فكرا ام رمزا.
ولعل من اهم الامراض التي تصاب بها اغلب الحضارات والثقافات في فكرها وتاريخها وحركتها - والتي تفضي حتماالى تخلف الشعوب وانحطاط الامم - هو مرض التمسك الشديد لنخبها بافكار ونظريات ومبادئ ومواقف عاشت ونشات في الماضي، وتجاوزها الزمن، وسبقتها عجلة التطور، ولم يعد لها اي علاقة عملية بالوقائع الجديدة والاحداث المتتالية والمتراكمة، حتى ان العديد من هذه النخب السياسية والثقافية المتمسكة بالقديم ترى تخطئة من يغير مفاهيمه وآراءه لتتلاءم مع روح العصر، وتتكيف مع المستجدات ومنطق التطور التاريخي.. فالتخلي عن المبادئ لديها (حتى لو اثبتت التجربة والايام عقمها وفشلها، وتاثيرها السلبي على حركة الحاضر والمستقبل)، يعتبر اعلى درجات «اللااخلاقية» في العمل السياسي والفكري، ليكون - بحسب اصحاب هذا المنطق - التمسك بالمبادئ والاصول - التي لا تزعزعهاالتحديات، ولا تقهرها المتغيرات.. والراسخة رسوخ الجبال - اعلى درجات «الثورية» والنجاح، فالمهم الانتصار في اللفظ والخطابة واللغة، حتى لو خسرنا الارض والواقع والحاضر كله.. وبهذا يمكن تفسير اسباب الجمود والتخشب الفكري والعملي لدى تيارات سياسية وفكرية تفتخر بانها ثابتة على المبادئ دون الاهتمام بمدى مناسبتها للظروف السائدة،وبمدى وجود فرص حقيقية لنجاحها في الاطار العملي.
ومن هنا تاتي فكرة «السلفية» لتكون فكرة من جملة الافكار التاريخية الدينية التي انطلقت شراراتها الاولى منذ قرون عديدة، واصبح لها انتشار وتاييد واسعين في عالم العرب والاسلام حاليا، ولا تزال رائجة ومتحركة بقوة في داخل اجتماعنا الديني والسياسي المعاصر، حتى باتت تشكل عصب التفكير الحركي للكثير من النخب والتيارات والحركات الاسلامية المعاصرة المنتشرة انتشار النار في الهشيم على امتداد مساحة مجتمعاتنا العربية والاسلامية.
ومنذ بداية التشكل التاريخي لهذه الظاهرة (التي رفع بعض زعمائها وقادتها المحدثين شعار: الحسام البتار، والدرهم والدينار)((348)) لاحظنا كيف انطلقت الخلافات ودبت الانقسامات بين صفوف المسلمين على اختلاف مللهم وانتماءاتهم ومذاهبهم، بحيث نستطيع القول ان نشوء السلفية الدينية هو من اهم المسببات في ايجاد حدود ومداميك مذهبية ايديولوجية بين عموم ابناء الدين الواحد.. وقد تعمقت تلك الحدود والحواجز الفكرية والثقافية الدينية اكثر من تعمق الحدود الجغرافية - السياسية.
وقبل ان نبدا بالحديث عن طبيعة الفكر السلفي، ومقوماته، وكيفية مواجهته بالنقد والتحليل، نسال هنا: كيف يمكن للمرءان يفسر بعقلانية ظهور السلفية (والاصولية) الاسلامية اليوم؟ ثم لماذا في عصر المنطق، توجد اعداد هائلة من اتباع العقلانية والتنوير والاعتدال في العالم الاسلامي قد ينجذبون ويدعمون مفهوما دينيا اصوليا في العالم، من مجموعات اصولية متطرفة على غرار القاعدة وطالبان الى منظمات اكثر نموذجية على غرار (الاخوان المسلمون) في مصر (والجماعة الاسلامية) في باكستان؟! ان الذي يبدو امامنا هو ان المسلمين الاصوليين يسيطرون فعلا على العالم الاسلامي. فاين يمكن البحث عن الاجوبة؟!!يزودنا كل من التاريخ وعلم الاجتماع، بدلا من الفلسفة الفكرية، بعدسة من اجل السعي لتخطي هذه الظاهرة الفكرية -الاجتماعية المتفاقمة.
ثانيا - السلفية: مقدمات فكرية وخلفيات تاريخية ومذهبية لدى مراجعة كتب اللغة ككتاب لسان العرب مثلا، يتحدث ابن منظور عن السلفية قائلا: «سلف: سلف يسلف سلفاوسلوفا:
تقدم... والسالف: المتقدم. والسلف والسليف والسلفة: الجماعة المتقدمون، وقوله تعالى: (فجعلناهم سلفا ومثلاللاخرين) (الزخرف: 56)...
وقال الفراء: يقول جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الاخرون... ويقول الجوهري: سلف يسلف سلفا مثال طلب يطلب طلبا، اي مضى. والقوم السلاف: المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع اسلاف وسلاف... والسلف ايضا: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم من فوقك في السن والفضل، واحدهم سالف... وقيل: سلف الانسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سمي الصدر الاول من التابعين السلف الصالح((349))».
اذن، كلمة السلف تعني لغة: الاقدمية الزمني، اي التقدم الزمني كما يقول الشيخ د. محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه(السلفية - مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي)((350)) : «كل زمن من الازمان سالف بالنسبة الى الازمنة الاتية في اعقابه وخلف بالنسبة الى الازمنة التي سبقته ومرت قبله». وقد حدد الشيخ البوطي هذه المرحلة السلفية بالقرون الثلاث الاولى من عمر التجربة الاسلامية، وقد اختلف كثيرون معه في ذلك.
اما المراد بمذهب السلف، فيقول احمد بن حجر: «ما كان عليه الصحابة رضوان اللّه عليهم، وما كان عليه اعيان التابعين لهم باحسان، وما كان عليه اتباعهم وائمة الدين ممن شهد له بالامامة، وعرف عظيم شانه في الدين، وتلقى الناس لكلامهم خلفا عن سلف. كالائمة الاربعة، والسفيانيين، والليث بن المبارك النخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر اصحاب السنن دون من رمي ببدعة او شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية، والجهمية، والمعتزلة وسائر الفرق الضالة» ((351)).
وهكذا لا يشير مفهوم السلف او السلفية الى فترة او مرحلة زمنية محددة اختلف المؤرخون في تحديدها، وانما يتعداه الى مصطلح ومفهوم «الخيرية» المنتزع من حديث رسول اللّه المروي في اكثر من كتاب تاريخي: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجي اقوام تسبق شهادة احدهم يمينه ويمينه شهادته».
واذا ما اردنا التدقيق في الرؤية التاريخية السابقة التي تعتبر ان السلفية مذهب ومنهج له بداياته التاريخية منذ زمن الرسول والصحابة الاوائل ومن ثم الذين يلونهم، فانه يمكن التاكيد هنا على ان مفهوم «السلفية» لم يتمظهر تاريخيا كتيار له سمات محددة ومعايير معينة في طبيعة المفاهيم والعقائد والسلوك الا بعد ان بدا الاسلام ينتشر في العوالم المتعددة المحيطة بشبه جزيرة العرب. حيث انطلق المسلمون فاتحين بلاد العالم القديم متسلحين برؤية دينية عقائدية ايمانية محددة،واستطاعوا - خلال فترة زمنية غير طويلة نسبيا - الهيمنة الفعلية على اكبر امبراطوريات التاريخ آنذاك، وقاموا بنقل ارثهماالكبير، كما حاولوا - طيلة قرون عديدة - هضم واستيعاب ميراثهما الحضاري العريق والمتراكم.
ونتيجة لهذا التفاعل والاحتكاك الحي المتواصل والمتراكم مع العوالم الاخرى، كان من البديهي ان يتاثر الفاتحون المسلمون بافكار ومعارف وثقافات الحضارات المتنوعة في افكارها وعاداتها وتقاليدها.. فهؤلاء المسلمون عاشوا في شبه جزيرة صحراوية، ولم يتطبعوا بطباع المدنية، بل سكنوا الخيم في ظروف مناخية بالغة القسوة والشدة، اثرت على طباعهم واخلاقهم، وعلى طبيعة نظرتهم للحياة والانسان.
اذن، بدا التحول يظهر على حياة اولئك الفاتحين، وبدات قيم وعادات جديدة تسيطر على معيشتهم واحوالهم من حيث شكل اللباس وطريقة الاكل والمسكن، خصوصا بعد ان سكنوا المدن واختلطوا مع افراد تلك المجتمعات الجديدة في البلدان الواسعة التي فتحوها والتي اصبحت تشكل - مع مناطقهم الجغرافية - ما يسمى ب -«المجتمع الاسلامي الكبير».
ومنذ ذاك الحين بدات وتائر الدعوات والنداءات المحذرة والمتوعدة تتصاعد من طرف بعض الناس في تنبيههم وتحذيرهم من هذا التحول ومن خطورة نتائجه، وتدعو للرجوع الى ما كان عليه الرسول ومجتمع الصحابة الاول. فامام حركة الترف والتنعم بملذات الدنيا وخيراتها (من امتلاك للمزارع الكبيرة، وبناء الدور والقصور الفخمة، واقتناء الجواري والعبيد والخدم والحشم... الخ) ظهر تيار مناهض لهذه المظاهر وندد بها((352))، داعيا للتقشف والزهد في الحياة الدنيا. على ان ذلك - كما يدعي اصحاب هذا المنطق - من صميم الدين وسيرة السلف الصالح، وهناك محاورة((353)) بين الامام الصادق( وسفيان الثوري (وكلاهما ينتسب لعصر التابعين) تظهر لنا عدم تقبل الكثير من الملتزمين بالدين الجديد -خصوصا من العرب - بعض العادات الجديدة في الملبس والماكل والمسكن. وهذا كله مما يدل على قوة تلك التحولات العميقة وردود الافعال عليها ضمن الدائرة الاسلامية.. حيث لاحظنا - مع مرور الايام وزيادة انغماس المجتمع الاسلامي اكثر فاكثر في الحياة المدنية والترف الحضاري المديني - تصاعد الدعوات الى ضرورة العودة لاقتفاء «اثر السلف الصالح»،وباتت الدعوة لتقليد السلف في ملبسهم وسلوكياتهم العامة خطا او تيارا خاصا متميزا في الوسط الاسلامي بجانب التيارات الاخرى. لكن هذه الدعوة ستاخذ ابتداء من القرن الرابع الهجري بعدا مفاهيميا (فكريا ونظريا) له رموزه وشخصياته ممن يدعون للعودة الى التزام نهج وقيم وآراء ومذاهب السلف الصالح.
ولكننا هنا نطرح عدة اسئلة حول الزمن التاريخي المحدد الذي عاشوا فيه؟ وماهية هؤلاء السلف الصالح؟ من هم؟ ماهو تاريخهم؟ ما هو دورهم في الحياة الاسلامية؟! ما هي ابرز اعمالهم وانجازاتهم التاريخية التي لا تزال باقية حتى الان؟!وهل تنطبق مقولة السلف الصالح على كل من عاش في زمن الرسالة الاولى؟ واذا كان الامر كذلك، فهل كل من كان مع الرسول كان صالحا ومؤمنا وصادقا.. اي تنطبق عليه كل الصفات الحسنة والمحمودة؟! في الاجابة نرى انه عند العمل على تحديد هؤلاء السلف الصالح الذين يقصدهم رموز هذا الخط.. فالمسالة تبدو مبهمة احيانا ومتناقضة احايين اخرى، وغير محددة المعالم على وجه الدقة..
اذ اننا عندما نقرا كتب التراث السلفي - اذا صح القول - نجد انفسنا امام مجموعة غير قليلة من التعاريف المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة التي تشرح وتحلل فكرة السلفية..يمكن ان نستنتج معها ان المقصود بالسلف الصالح ليس كل من رافق الرسول الكريم، او عايشه، او رافق من رافقه، وعايش من عايشه، باعتبار ان فيهم المؤمن والمنافق، الصالح والطالح، الصادق والفاسق، الملتزم والمنحرف، لا بل ان بعضهم ارتدواعلن العداوة على الملا.. وبالنتيجة نسال: هل تنطبق على كل هؤلاء مقولة «السلف الصالح»؟! بالطبع لا.
كما اننا نعتقد ان الازمات والنكبات والتجارب الكثيرة التي مرت على عالم الاسلام والمسلمين منذ حادثة «السقيفة» -التي افترق المسلمون بعدها الى مكونين وفرقتين، لكل منهما طريقتها ومنهجها في فهم النص، ووعي رسالة الاسلام،واسلوب الدعوة - تدل دلالة اكيدة على وجوب عدم وجود نظرة واحدة او مستوى واحد في تقدير (وتقييم) كل ما يسمى بالسلف الصالح، وضرورة احترام كل ما جاؤوا به من معارف والتزامات في المستويين النظري والعملي (اذا سلمنا جدلا بان ما انتجوه من تراث ديني يشكل معرفة حقيقية بالمعنى الصحيح للكلمة).. فهم ابناء عصرهم ونتاج بيئتهم، انتجوا فكرامعينا نتيجة ظروفهم وكسبهم هم بحسب ما توصلوا اليه من خلال وعيهم وادراكهم للوجود والحياة، ولا يمكن الجزم مطلقاان تجربتهم هي افضل التجارب، او ان فهمهم للامور افضل من فهم غيرهم لها.. كما ان اختلافاتهم وخلافاتهم كثيرة وواسعة حتى انها ملات الخافقين، وتجاوزت حدود الاختلاف الفكري المحمود لتصل الى حد اباحة سفك الدماء والافتاء بالقتل ضد هذا وذاك، وتكفير الفرق لبعضها البعض، وسحق كل مناؤئ او مخالف او معارض للراي والمعتقد الخاص بهذا الطرف اوذاك ((354)). ولكن بالاجمال العام يمكن القول انه يجب ان نعذر اولئك السلف من الاباء الاوائل ((355))، بان لا ننقل تجاربهم وخلافاتهم وافكارهم المضرة الى عصرنا الحالي، وان تقتصر رؤيتنا لهم على صورة بشرية عادية وليس الهية مقدسة.
وفي تصوري ان المنطق الذي تبني السلفية دعواها التاريخية والفكرية عليه لا يستقيم ابدا مع النظرة القائلة: ان السلف صالح وخير بالمطلق، وان ما ذهب اليه السلف هو الحق، وما دونه هو الباطل، كما هي رؤية كثير من المذاهب والتيارات والنخب الاسلامية السلفية الماضية والمعاصرة. وهذه حقيقة انتقائية فجة، ونظرة ضيقة وسطحية للامور. فليس كل من هومن السلف صالح بالضرورة، وليس كل من هو من الخلف طالح بالضرورة. التقييم والحكم هنا نسبي من حيث المعيارالحقيقي تاريخيا وواقعيا.
ثالثا - التطبيقات العملية للفكر السلفي اننا عندما ندرس «السلفية» كمصطلح فكري، فاننا نفهم منها طريقة التفكير غير الموضوعية التي تتحدد بجملة افكارومعايير دينية يعمل اصحابها ودعاتها على استنطاق التراث بشكل قوالب جامدة وانماط شكلانية محددة غير قابلة للانفتاح على الحياة والعصر، مما يوقع المنتمين اليها في ازمة الابتعاد العملي عن الواقع، والعيش في جنة النظريات والافكار ((356)).
واذا اردنا ان نميز ونحدد بشكل اكثر دقة اهم انماط وتطبيقات السلفية في طبيعة فهمها الجامد للنصوص والافكاروالوقائع والتواريخ، يمكننا تسجيل النقاط التالية:
1 - دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة:
ادعاء الفكر السلفي امتلاك الحقيقة التاريخية ((357)) بالكامل (شخصا ام فكرا)، وعدم وجود معيار علمي موضوعي عقلاني لديه للتمحيص والتدقيق والنقد.. وهذا يؤدي على الدوام الى اثارة الفتن والبغضاء بين الفرق والمذاهب والتيارات المتعددة والمختلفة. لانك عندما تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فلا بد ان تثير لدى الاطراف الاخرى هواجس كثيرة،وتستنفر لديها كل ما بحوزتها من مكونات المواجهة ضدك، الامر الذي يجعل من الصدامات المتبادلة قدرا لا مفر منه،وهذه هي احدى مميزات الحركة السلفية، فحيث تستعر نار الطائفية والخلافات المذهبية، تجد هناك - دون شك او ريب -عقل سلفي يؤجج هذه النار، ويمدها بالوقود كي تشتعل اكثر وتدوم. ولا شك ان من يدفع ثمن وتكلفة تلك النيران المشتعلة هم ابناء مجتمعاتنا على العموم، وبخاصة من ينتمون منهم لمذهبي السنة والشيعة تحديدا.
ولعل المراجع لتاريخنا الاسلامي - الذي كان الفكر السلفي الديني احد عناوينه البارزة المؤثرة بقوة قي كل حركته منذبدايات الدعوة وحتى الوقت الحاضر الذي نبتت فيه حركات واحزاب السلفية الدينية - لا يمكن الا وان يلاحظ وجوداشكالية مهمة يثيرها الاسلوب المنهجي والعملي في طبيعة التعاطي مع قضايا (ورموز وشخصيات((358)) واحداث وافكار) هذا التاريخ في كثير من مفاصلة الهامة، من خلال انه ينطلق ضمن اجواء ضاغطة تتاسس على رؤية ضبابية مختنقة في الجانب الذاتي من التاريخ النظري والعملي.. فيما هو الاستغراق (المنتفخ) - اذا صح التعبير - في داخل الساحة التاريخية، والمعبا بكل ذاتيات هذا التاريخ الزاهي والمتالق، في التركيز على الصيغة التاريخية الميكانيكية الخطابية الجامدة التي لا تنتج الا الانحراف والتحريف في الفكر والممارسة، والفقر في الاغتناء المعرفي الحضاري والانساني.
وعندما يقوم اصحاب تلك الطريقة بدراسة الظاهرة او الحدث البشري او الطبيعي - في محيطه الانساني والتاريخي - فانهم ينظرون الى انسان التاريخ (او الحدث او الفكرة) ككائن ينتمي الى بعد ذاتي واحد، ينفصل عن الزمان والمكان، ويعيش في مركزيته الشخصية بعيدا عن التاثير او التفاعل مع حركة الاحداث التي يعايشها، ويمكن ان يؤثر (او يتاثر) بها فتغتني منه، ويغتني منها.
انها الطريقة التبسيطية التبريرية التي تواجه المشكلة او الهدف بشكل حماسي يتميز بوجود كم هائل من ركام الشعارات المنتفخة والمثيرة، والمهرجانات الصاخبة «غوغائية التقديس المفتعل» الخالية من المحتوى الفكري، والمضمون الاعتقادي الهادف والفاعل الذي يخطط للمستقبل بوعي وايمان، ويرسم حدوده وتفاصيل تحركه بكل تركيز وتخطيط وثبات.
وقد لمسنا هذا الاتجاه في معظم الدراسات التاريخية التي تناولت حياة الرسول(ص) او الائمة(، او حتى كثير من السلف الذين عاشوا حركة الرسالة بالمعنى التاريخي لا الزمني.
والتي تركزت جهودها الفكرية على الجانب الشخصي في امتداده التقديسي المطلق الذي يتعامل مثلا مع المعصوم كرمز مقدس مزروع في دائرته الخاصة (او في فضائه السحيق) بعيدا عن تفاصيل الحركة الحياتية والبشرية. اي عدم وجود اي منطق عقلي او واقعي، من خلال ان لكل ظاهرة او حادثة معينة اسبابها (وعلتها) الطبيعية، ومفاعيلها المتحركة في الواقع.
اننا نعتقد ان المعيار الحقيقي والواقعي الذي يضمن تحقيق استخدام امثل وافعل للمادة التاريخية السالفة فكرا اوشخوصا هو امتلاك المقدرة الفكرية على التعامل مع التاريخ بلغته التحليلية الموضوعية في الاتجاه الذي تتحول فيه وقائع هذا التاريخ وحوادثه العامة - التي عاشها البشر في الماضي - الى فعل حي متحرك تستنبط من خلاله جملة القواعدوالسنن الالهية المهيمنة على مجريات الاحداث، والوقائع التاريخية المتنوعة، على صعيد ملاحظتها ودراستها وتحليلهاوتركيبها واكتشاف خصائصها وطبائعها الايجابية المميزة، وروابطها العلية والمعلولية، واستنتاج ضوابطها العامة الحاكمة، ثم نشر القانون وتعميم قاعدته على الحاضر والمستقبل كمرحلة من مراحل المسيرة الانسانية نحو اهدافها الكبيرة في الحياة.
2 - الفهم الخطير لموضوع الجهاد والقتال:
ولعل من اهم التطبيقات العملية الواضحة للفكر السلفي هي الفهم الخاطئ والملتبس لمعنى مقولة (وركن) الجهاد في الاسلام، فمفهوم الجهاد (الاكبر:جهاد العدو) اساسا يعني الدفاع الوقائي عن الذات والارض في حال تعرضهم لاعتداءخارجي داهم، اما عند السلفيين فانهم يعزلون الجهاد - بما هو فعل قتال دفاعي - عن ظرفه وملابساته ومناخاته المختلفة،فيظهر المعنى عندها حاملا لمعنى القسر والضغط والعنف والاكراه والتسلط كمفردات لتنظيم العلاقة مع الاخر.
وقد يفاقم من حضور هذا المعنى طبيعة الجهاد نفسه في الاسلام، اي الطبيعة العقيدية للجهاد، الامر الذي قد يعني ان الجهاد انما شرع من اجل اكراه الاخرين واكراههم على الدخول في العقيدة الاسلامية. وهذه هي الصورة النمطية الوحيدة الماخوذة حاليالدى العالم كله عن الجهاد.. انها الصورة التي يقدمها السلفيون من حيث تركيزهم على معنى الجهاد في غزو الاخر واجباره على الرضوخ والخضوع الى درجة الاذلال، حتى لو كان هذا الاخر مسلما يدين بالاسلام((359)). وان الجهاد الاكبر لدى هؤلاء هو الاطاحة بالانظمة (الجاهلية) بالعنف وبالقوة المسلحة، فاعادوا من جديد احياء مذهب الخوارج، ولكن هذه المرة بطريقة مؤثرة اكثر ومكلفة اكثر.
وطبعا لو سلمنا هنا بالفكرة السلفية القائلة بان الجهاد المسلح ضد الطواغيت والظالمين والمستكبرين واجبة وحق مشروع في كل زمان ومكان (الجهاد السلمي الحضاري افعل وانضج براينا، واكثر ديمومة عبر الزمان) نسالهم: هل هم الوحيدون المؤهلون اساسا للسير في هذا الاتجاه؟! وهل مهمة الجهاد والدفاع والقتال تقع على عاتق هذا التيار ومنوطة بذاك الحزب، ام هي وظيفة الدولة المدنية العادلة الراشدة التي لا تحصر الجهاد بمعانيه الضيقة (الكامنة اساسا في تعميم ثقافة العنف والقسر والاكراه والتعصب)، ولكنها تؤسسه على بعد انساني راسخ هو الجهاد الاصغر اي جهاد النفس، وتوسع من معانيه السامية حتى يصل الى حدود اقامة حلف عالمي لرفع الظلم والمعاناة عن الانسان اينما كان وباي دين دان؟! ان هذا الخلط العجيب الذي يظهر عند السلفيين في موضوعة الجهاد ادى الى تضييع المعنى الحقيقي لهذا الركن المرتبط اساسا بتقديم تفسير حقيقي ومنطقي وموضوعي للعقائد والمفاهيم الاسلامية ككل من حيث نظرة الاسلام للحريات ((360)) الفردية والعامة، ورؤيته لشروط التكاليف والمسؤوليات، ونظرته للصلح والسلام والامان وغيرها من الموضوعات التي تشكل الاطار الموجه والمعيار الناظم لفكرة الجهاد في الاسلام.
3 - تحريف التاريخ الاسلامي:
اجمع كثير من علماء السنة والجماعة على وجود تحريف كبير في نقل افكار ووقائع وعقائد الفرق والمذاهب الاسلامية قام بها زعماء السلفية ومنظروها.. وسناخذ مثالا على ذلك «شيخ الاسلام» ابن تيمية، الذي كان غير امين اطلاقافي عملية نقل آراء الخصوم والمخالفين له والاستشهاد بها، بل تعمد تحريف اقوالهم. وهذا ما يظهر من خلال الامور التالية((361)):
ا - الكذب في الاجماع على فكرة التاويل:
فقد حكى ابن تيمية عن السلف اقوالا حاول تقديم اجماعات وتفسيرات لهم لا وجود لها في الواقع. كما حكى عن بعض الائمة ما لم يتفوهوا، ولو قال شيئا من ذلك فاتباعهم ادرى واعلم بذلك. مثلا يقول ابن تيمية: «ان جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تاويلها، وقد طالعت التفاسير المقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت على ما شاء اللّه تعالى من الكتب الكبار والصغار اكثر من مائة تفسير. فلم اجد الى ساعتي هذه عن احدمن الصحابة انه تاول شيئا من آيات الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف» ((362)). بهذه الكلمات يدعي ابن تيمية مؤكدا ان احدا من الصحابة لم يتاول شيئا من آيات الصفات ((363))، وعندما يرجع الباحث لكتب التفسير يجدها زاخرة بنقل تاويلاتهم. فهذا الطبري الذي مدح ابن تيمية تفسيره في فتاويه بانه تفسير ليس بدعة، يقول: اختلف اهل التاويل في معنى الكرسي، فقال بعضهم هو علم اللّه تعالى ذكره . ((364)) كما ويؤكد الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه عن السلفية ((365)) خلافا لما جاء به ابن تيمية فيقول:«ليس صحيحا انه لا يوجد في السلف من جنح في تفسير آيات الصفات او بعض منها الى التاويل التفصيلي. ففي السلف من جنح للتاويل التفصيلي ولم يكتف بالاجمال فقط.
من ذلك ما صح من تاويل الامام احمد كلمة جاء في قوله تعالى(وجاء ربك والملك صفا صفا) بمعنى وجاء امر ربك، كما قال تعالى: (او ياتي امر ربك). وقد اورد البوطي بعضا من اسماءالسلف، الذين اولوا الصفات. كما ذهب الى ان ابن تيمية نفسه سقط في التاويل عندما قال بان الوجه الوارد في الاية ليس من الصفات.
ب - تضعيف الاحاديث النبوية المخالفة لاتباع السلفية:
وهذا ما ظهر بشكل واضح عند ابن تيمية الذي كان يرفض الاخذ باي حديث شريف يتعارض مع قناعاته الفقهية والعقائدية حتى لو كان الحديث صحيحا وقوي الاسناد، وكان يعمد الى التشكيك به وتضعيفه.. وقد عبر الحافظ الذهبي عن ذلك اصدق تعبير في قوله الذي يوجهه لابن تيمية: «يا ليت احاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تغير عليهابالتضعيف والاهدار، او التاويل والانكار» ((366)).
ولم يكن لدى ابن تيمية من حجة في رفض الاحاديث التي لا تعبر عن معتقده ووجهة نظره سوى جراته في التشكيك بها، بحيث يخال المرء ان «الشيخ الاكبر» لديه من الحجج والادلة القوية ما يدعم وجهة نظره تلك.
ج - انتقاء الاحاديث الموافقة فقط:
وقد اعتمد ابن تيمية هذا الاسلوب في انتقاء الاحاديث التي تتوافق مع عقيدته ورؤيته، واستبعاد تلك التي تتعارض مع توجهه. وقد تحدث الدكتور البوطي ((367)) نقلا عن ابن حجر انه «رفض هذا التصرف الذي لا مسوغ له مع انه من المعتدلين في تقويم افكاره وبين فئتي المتعصبين له والمتعصبين ضده».
د - عدم وجود فهم حقيقي عميق لافكار وطروحات المخالفين:
وتجلى هذا العمل مع الصوفية والشيعة بالخصوص، وادى الى استنتاجات وتقريرات خاطئة وفي غير محلها عقلياوتاريخيا، لا تتوافق مع اصحاب اهل المذاهب ذاتها.
ومن هذه الصور المضحكة التي تنقلها كتب التراث في هذا الشان عن ابن تيمية، ان تجد شابا داخل مسجد ما يعلن امام الملا بانه يشهد بان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه، وانه يؤمن بكل ما جاء في القرآن، ويعتقد بكل شرائع الاسلام.
لكن شابا او جماعة اخرى يردون عليه بانه كافر مرتد، لان «شيخ الاسلام» ((368)) حكم بكفر الشيعة وارتدادهم، او انك جهمي معطل (اي منزه)، والجهمي كافر.. او انك تعتقد في الاولياء وتستشفع بهم، ومن يفعل ذلك فهو مشرك ومرتد عن دين محمدوكافر بالاسلام، حلال الدم والمال.
ه - - غلبة الكذب الصريح على خصومهم ومخالفيهم في الراي والمعتقد:
وقد ورد في هذا الشان كثير من الاحاديث والروايات التاريخية الموثقة في كتب اهل السلفية، وبحوثهم، ومتونهم وخصوصا الحنابلة (اتباع احمد ابن حنبل).. واول ما يصادفنا في هذا السياق ونحن ننقب حول هذه الجذور، اطلاق الامام السبكي مصطلح «الخطابية» على الحنابلة. حيث نقل ان كلتا الفرقتين ترى جواز الكذب على من خالفهم في العقيدة((369)).
ويبدو ان هذه الطريقة في التحريف والطعن بالخصوم وتجويز الكذب الواضح عليهم، ساهمت بفعالية منقطعة النظير في التاسيس اللاحق لكل افكار التكفير الممنهج للخصوم، والباسهم لبوس الضلال والانحراف في العقيدة. حتى نكاد نقول ان تاريخنا الاسلامي عموما هو تاريخ التكفير والكذب والانتحال.
و - الطعن في السند، والتحريف في النص التاريخي:
وهذا واضح في كتبهم حيث نجد ان اغلب علماء الجرح والتعديل كانوا من الحنابلة او ممن يتعاطفون مع معتقداتهم وآرائهم((370)) . حيث تراهم يضعفون سند كل الاحاديث التي تتعارض مع معتقداتهم ويضعون حولها الشكوك والظنون والاحتمالات المختلفة التي لا علاقة لها باصل الفكرة، وهذا التشكيك والطعن وادعاء الحرص على دقة السند يزداد اكثرمع الخصوم الشيعة خصوصا عندما يرتكز هؤلاء في دعم افكارهم وآرائهم الفقهية على احاديث ومرويات تصب في خانة تاييد خطهم الامامي، حتى لو كان لها سندها المعتبر في كتب السنن والصحاح المعروفة عند اهل السنة والسلفية.
وفي هذا الاتجاه لا يجد بعض ائمة السلف حرجا في تحريف نصوص واقوال علماء الاسلام اما بالحذف او التحوير اوالاضافة او التعديل .((371))
4 - تحديد فهم القرآن (والنص الديني عموما) في عصر ورجال وتفاسير بعينها:
يرى الفكر السلفي ان الرجوع الى الخلف يعني المشي الى الامام. وان فهم القرآن فهما حقيقيا واضحا وصريحا لايتحقق الا كلما كان المفسر اقرب زمنيا الى عصر الخلافة الاولى، اي كلما غاص اكثر في مغارة الماضي البعيد، فالاقرب للماضي اقرب للفهم الصحيح.. وهكذا فتفسير الطبري افضل من القاسمي، وتفسير القرطبي افضل من رشيد رضا((372)) .
ومقتل الفكر السلفي في هذا المجال هو في انه يحدد فهم القرآن في عصر معين ورجال وتفاسير محددين دون غيرهم.بينما المنطق الفعلي والحقيقي يقول ان التفسير ليس في العصر والرجال، بل في آيات الافاق والانفس. وهو مرجع القرآن.والقرآن طلب بذاته السير خارج القرآن فقال: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدا الخلق) (العنكبوت: 20).
وقال:(يتدبرون.. يعقلون... يتفكروا..).
[/align]