النتائج 1 إلى 15 من 15
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    الآن أقـرأ ~.صناعة الأدلة:الولاية التكوينية نموذجاً.~ السيد محمد طاهرالياسري الحسيني






  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي ابرز عناوين الكتاب :

    [align=justify]

    [align=center]صناعة الأدلة: الولاية التكوينية نموذجاً
    [mark=CCCCCC]دراسة في محاولات الاستدلال على الولاية التكوينية[/mark]
    [/align]
    [align=center][overline]سماحة العلامة السيد محمد السيد طاهر الياسري الحسيني *[/overline] [/align]



    ابرز عناوين الكتاب :

    المقدمة

    التمهيد

    مركز الأنبياء (ع) في الفكر الإسلامي

    - البشرية في شخصية الرسول

    - نظرية السيد فضل الله

    - نسيان الأنبياء

    - علم الأنبياء

    - معاجز الأنبياء

    - قانون المعجزة

    - الولاية التكوينية

    - الولاية التكوينية اصطلاحا

    - الاحتمالات في المسألة

    - الأدلة على الولاية التكوينية

    [/align]








    [align=justify]____________________
    * ترجمة مختصرة للمؤلف:
    محمد السيد طاهر الياسري الحسيني
    مواليد 1963 النجف/العراق
    إجازة في الحقوق
    درس العلوم الإسلامية في حوزة قم.
    يمارس الكتابة والتأليف والتدريس
    صدر له عدة مؤلفات:
    - مقاتل الأمويين (دار البلاغ – بيروت 1990)
    - معجم المصطلحات الأصولية (دار العارف – بيروت 1994)
    - فقه الشركة (دار الملاك – بيروت)
    - فقه الإجارة (دار الملاك – بيروت)
    - ثبوت الهلال طبقاً لقول الفلكي (دار الملاك – بيروت)
    - هوامش نقدية (دار المعارف – بيروت)
    - السيد محمد حسين مفسراً (دار الملاك – بيروت)
    - صناعة الأدلة (دار الملاك – بيروت)
    - الاجتهاد والحياة (مركز الغدير – بيروت)
    - المنهج الفقهي عند الشهيد الصدر (دار الهادي – بيروت)
    - الإمام محمد باقر الصدر – دراسة في سيرته ومنهجه (دار الفرات – بيروت)
    - محمد باقر الصدر .. فكر خلاق (دار المحجة البيضاء – بيروت).
    وشارك في كتابة عدد من الأبحاث والمقالات، نشرت في دوريات مهمة، من أهمها:
    1. الفكر الاقتصادي عند الشهيد الصدر – مجلة قضايا إسلامية – العدد 3/1996م.
    2. تاريخ الفرق والمذاهب، تأملات في المنهج السائد – مجلة المنهاج – العدد 1.
    3. الشيخ النجفي ومنهجه الفقهي من خلال كتاب (جواهر الكلام) – مجلة المنهاج – العدد 9.
    4. الحافظ ابن كثير مؤرخاً – مجلة المنهاج – العدد 4.
    5. الاتجاهات العامة المعاصرة في دراسة السيرة النبوية – مجلة المنهاج – العدد 6.
    6. الشيخ النائيني – فكر سياسي مبكر – مجلة المنهاج – العدد 15.
    7. هوامش نقدية – دراسة في كتاب (أصول مذهب الشيعة الإمامية الأثني عشرية) – مجلة المنهاج – العدد 2.
    8. السيد محمد باقر الصدر فقيهاً – نظرات في فقه السياسي والدستوري – مجلة الكلمة – العدد 48.
    9. المنهج الفقهي عند الشيخ شمس الدين – مجلة الكلمة.
    10. نظرات في مسألة القياس الفقهي – مجلة أهل البيت – العدد 26.
    11. الشهيد محمد الصدر ومنهجه الفقهي في ملامحه العامة – كتاب (الصدر الثاني – دراسات في فكره وجهاده)- مؤسسة دار الإسلام.
    12. نظرية الدفاع الشرعي عند السيد الخميني – مجلة الثقافة الإسلامية – العدد 26.
    13. التقدم من المنظور الإسلامي – مجلة الثقافة الإسلامية – العدد 42.
    14. المرأة في كتابات الإسلاميين – مجلة الثقاة الإسلامية – العدد 58.
    15. دولة من ورق – نقد كتاب (يثرب الجديدة) لمحمد جمال باروت – مجلة الثقافة الإسلامية – العدد 62).
    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]

    [mark=CCCCCC]المقدمة[/mark]


    بسم الله الرحمن الرحيم

    هذه السطور ليست في مقام البحث عن (الولاية التكوينية) بقدر ما هي في مقام المنهج وخطوات البحث التي يلزم احترامها ومراعاتها، لأنني وجدت مفارقات عدّة شكّلت المعلم الأساسي للأبحاث التي تصدت لمعالجة هذه المسألة العقائدية، وقد دعت إلى الاعتقاد بأن هناك ميلاً لدى هؤلاء الباحثين (ممن تصدى لبحث هذه المسألة) بصناعة الأدلة وتحشيدها بغية الانتصار لفكرة أريد لها أن تقوم أو تشيع، ولذلك صُنعت هذه الأدلة عند بعضهم بإتقان – ظاهرياً – من خلال تلفيق بعض الأدلة إلى بعضها الآخر، وضم جملة منها إلى أخرى، في وقت كان يفترض فيه أن تكون الأدلة على مسألة الولاية التكوينية بالخصوص واضحة جلية، بحيث لا تحتاج إلى تأويل وترميم من هنا وهناك، كما أنها لا تحتاج إلى التعميم ومحاولة التضبيب.
    وكي لا تكون هذه الملاحظة مجرد دعوى، أشير إلى عدة ملاحظات تؤكد ما بصدده هذه المقدمة، وهي:

    1. يلاحظ على المنتصرين للولاية التكوينية أنهم يفتقرون ابتداءً إلى تحديد المصطلح، فضلاً عن الوضع في الأدلة، إذ سيجد القارئ الكريم أنهم لم يستقروا على تعريف واحد، فمنهم من يرى الولاية التكوينية: "" هي إقدار اللّه سبحانه وتعالى للأنبياء والأوصياء على التصرف في أمور كونية وغيرها خارقة للعادة، وخارجة عن قدرة البشر ""، كما عن السيد علي مكي في كتابه (معقتدات الشيعة، ص 219، ط المؤسسة الدولية/ بيروت 2003)، أو من يبلغ بها إلى كونها تعني إدارة الكون وتدبيره. ولا يخفى أن التعريف الأول لا يبتعد عن المعجزة، فأي فرق بينهما، ولماذا نسيمها الولاية التكوينية!! ويحسن أن أشير إلى قيد (خارجة عن قدرة البشر) الذي أخذه السيد علي مكي، في وقت يعتبر فيه السيد كمال الحيدري أن الولاية التكوينية ثابتة للإنسان وإن لم يكن من الأنبياء( ) بل زاد الشيخ جلال الصغير على ذلك واعتبر أن كل إنسان قادر على التصرف بالكون إن ارتاض بالرياضات الروحية اللازمة لذلك، وعليه فهي لا تختص بالنبي أو الوصي، بل يمكن أن تثبت لكل إنسان( ) .

    ثم أنه يلاحظ على المنتصرين للولاية التكوينية في معظم أبحاثهم أنهم يتكئون على (الإمكان) مع أن البحث ليس من هذا الوادي، إذ ليس هناك من ينفي ذلك، "" إذ لا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ، لأن اللّه قادر على الوجود كله، من بعض مواقع القدرة ووسائلها، فهو الذي جعل لهم القدرة .. ولابد من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة في الكون .. وليس في ذلك أية منافاة أو انحراف عن العقيدة التوحيدية التي ترتكز على أن الخلق والأمر له في كل شيء.. ""( ) .

    ولذلك يبدو من الغرابة أن يتوسع السيد علي مكي في كتابه (معتقدات الشيعة) في الحديث عن المشاهد الغيبية في القرآن، فيستعرض عدداً من قصص العالم الغيبي من قبيل قصة الطوفان، وقصة إلقاء إبراهيم (ع) في النار، وقصة رفع الطور فوق بني إسرائيل، وضرب الميت من بني إسرائيل ببعض البقرة ليعود حياً.. ثم يقول: "" فأين هي موارد العجب، وأي دليل يمنع من هذه الولاية، وهذا العطاء والإقدار الرباني؟ أليست هذه كلها مظاهر لقدرة اللّه وعظمة اللّه؟ وأين إشراك الأنبياء والأوصياء في هذه الأمور، بل هم استعملوا ما أقدرهم اللّه عليه، ومن دون اللّه لا يتم شيء أبداً ""( ) .

    ووجه الغرابة أن البحث – كما أشرنا إليه ليس في هذا الإطار، وإنما البحث في الدليل على الوقوع، وما سرده السيد علي مكي، ليس إلا من المعجزة، وبعضه من فعل اللّه، وليس للنبي فيه من فعل أصلاً، كما في الطوفان، ونجاة إبراهيم (ع) من الإحراق، بل وإحياء الميت، بضرب بعضه بالبقرة !!

    2. كما يلاحظ على هذه الأبحاث تغييب الرؤية الموضوعية للموضوع، ولذلك يمكن وصف هذه الأبحاث بالقراءة التجزيئية للنصوص الدينية، فقد اتجهت الأبحاث المذكورة إلى تكثيف الآيات التي تتحدث عن المعجزة والفعل التكويني المنسوب إلى النبي، ولكنه في الوقت نفسه يتم إغفال النصوص التي تشير إلى الطابع البشري، والذي ينفي القدرة على التأثير في عالم التكوين، كما في قوله تعالى مخاطبا النبي محمد (ص): ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ))/(الأنعام: 50)، وكما في قوله تعالى: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ))/(هود: 31)، وقوله تعالى: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))/(الأعراف: 188)، وقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا*أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا))/(الإسراء: 90-93).

    فكيف يكون للنبي هذا التأثير في عالم التكوين، ويكون له التدبير وإدارة الكون – كما يفترضه المنتصرون للولاية التكوينية – والقرآن نفسه يقدّم النبي بشراً غير قادر على فعل شيء من ذلك ؟!
    ثم إذا كان للنبي الدور الكبير في عالم التكوين كما يصوّره هؤلاء الباحثون، فلماذا يتوجس موسى (ع) خيفة، ولماذا يفرّ من العصا التي تحولت إلى ثعبان!! ولماذا لا يكتشف إبراهيم (ع) حقيقة ضيوفه وقد تكلَّف لهم بإعداد ما يناسبهم!! ولماذا يخشى لوط (ع) على ضيوفه ولم يتعرف على حقيقتهم وأنهم الملائكة، فيضيق ذرعاً وهو يخشى أن يتعرض لهم قومه الجاهلون بالسوء!!
    وهذا ما نجده في تعاطيهم مع الروايات، فقد تغيب عن هذه الأبحاث والروايات التي تنفي صدور ما يدعي صدوره عن الأنبياء والأئمة (ع) من خلق وإماتة ورزق، كما ورد في الخبر عن الرضا (ع) أنه قال: ((إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه (ص) أمر دينه فقال: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))، فأما الخلق والرزق فلا))( ).

    وعنه أنه قال: ((من زعم أن اللّه عز وجل فوَّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام، فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك))( ) .

    وقد روي عن الإمام المهدي (ع) أنه قال في جواب سؤال شيعته: ((إن اللّه تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسَّم الأرزاق، لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فأما الأئمة فإنهم يسألون اللّه تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقهم))( ) .

    3. ويلاحظ على هذه الأبحاث أنها تستدل على مطالب عقائدية حسّاسة، كما هي مسألة الولاية التكوينية – بروايات ضعيفة، كما في أبحاث السيد كمال الحيدري، مما سنشير إليه – لاحقاً – على نحو التفصيل في كتابنا هذا، وكما في استدلالات السيد محمد الشيرازي – حيث استدل – مثلاً – بما روي عن الإمام المهدي قوله (ع): ((نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا))( ). في وقت لا يكفي فيه مثل هذا الاستدلال وفي مسألة عقائدية حساسة، هذا مع غض النظر عن صحة الاستدلال على الولاية التكوينية. وقد استدل على تفويض الخلق إلى الملائكة برواية ضعيفة مما رواه أبو خالد الصيقل عن أبي جعفر (ع)، قال: ((إن اللّه فوّض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق سبع سماوات وسبع أرضين وأشياء، فلما رأى الأشياء، قد انقادت له، قال: من مثلي؟ فأرسل اللّه إليه نويرة من نار، قلت: وما نويرة من نار؟ قال: نار أنملة، فاستقبلها بجميع ما خلق حتى وصلت إليه لما دخله العجب))( ) ، ولما كان التفويض ثابتاً للملائكة يثبت ذلك للأئمة (ع) كما يرى السيد الشيرازي.

    4. كما يُلاحظ على هذه الأبحاث بروز القرءات البعيدة عن السياق اللغوي العربي، مما يكشف عن ضعف في المستوى الثقافي اللغوي، كما يظهر في تفسير ما روي ((نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائع لنا))، حيث فسرّ السيد محمد الشيرازي (الصنع) بالخلق( )، مع أن مراجعة يسيرة لكتب الأدب والحديث تكفي ليقف معها القارئ على المعنى الصحيح وستأتي الإشارة إلى ذلك في السطور الآتية.

    بل يبلغ ببعض المنتصرين للولاية التكوينية أن يستدل بمثل هذه الاستدلالات وإن كانت لا تخلو من إساءة إلى الأئمة (ع) حيث استدل الشيخ جلال الصغير على الولاية التكوينية بقوله تعالى: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا))/(الأحزاب: 72)، فقد ادعى الصغير على أهل التفسير أن (الإنسان) في الآية هو رسول اللّه (ص) لأنه الإنسان الكامل، ويليه في ذلك الأئمة (ع)( ) .

    5. كما يُلاحظ -أيضاً – على هذه الأبحاث أنها تستدل على مسائل عقائدية حساسة بتفسيرات غير حاسمة، فقد استدل السيد كمال الحيدري على الولاية التكوينية بدعوى أن الأئمة (ع) يعلمون ما في الكتاب المبين، أو اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون، استدلالاً بقوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ))/(الواقعة: 77-79)، أي لا يقترب من العلم به إلاّ المطهرون، وهم الأئمة (ع) والملائكة، مع أن مثل هذا التفسير ليس حاسماً، بل أنه وجه محتمل وليس معيّناً على نحو لا سبيل إلى احتمال غيره على أقل تقدير. ولذلك احتمل السيد الطباطبائي ان يكون قوله تعالى ((لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)) بمعنى لا يمس الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلا المطهرون، أو بمعنى لا يمس القرآن الذي في الكتاب إلاّ المطهرون، وهذا ما نقله السيد الحيدري نفسه من السيد الطباطبائي( ) ، بل يمكن أن يكون الضمير في (لا يَمَسُّهُ) راجعاً إلى القرآن لا كما ادعاه السيد الحيدري لمجرد أن الضمير أقرب إلى الكتاب، بقرينة قوله تعالى في ذيل الآية ((تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وهو راجع قطعاً إلى القرآن لا إلى الكتاب المكنون.

    6. وأكثر ما يلاحظ على الأبحاث المنتصرة للولاية التكوينية أنها تحاول فرض اعتقادات مختلف عليها على الرؤية الشيعية وتحميل الشيعة عقائد غير معروفة عندهم، إذ أن الولاية التكوينية – بمعنى من المعاني - عند بعض أعلام الشيعة وخاصة المرحــوم المجلسي – كما ينقله السيد الخميني – كفر صريح( ).

    ففي الوقت الذي يختلف فيه العلماء على مثل هذه الأفكار والعقائد يدعي السيد علي مكي "" أن الولاية التكوينية ضرورة لازمة للنبوة والإمامة ..""( ) .

    وفي الوقت نفسه يكتب – أيضاً - الشيخ جلال الصغير: "" إن الفكرة المطروحة – الولاية التكوينية – هي من الأهمية بمكان، بما لا يمكن لأحد التنصل منها، اللهم إلا أن يخرج من دائرة الملة الحقـــة، لأن حذفها من البنية العقائدية لأي اتجاه كان تمثل في واقع الحال الخريطة الهندسية له. ومعلوم أن هذه الخريطة يمكن لأي إخلال بها أن يعرّض مجملها إلى التآكل والانهيار مع تقادم الزمــــــن، فهذه الفكرة شأنها شأن جميع الأفكار تترابط عضوياً مع بقية المنظومة الفكرية التي تحكمها ..""( ) .

    وربما لا نحتاج التعليق على مثل هذا الكلام الإنشائي، والذي ينأى عن الإنصاف العلمي، ويكفي أن أشير إلى نص ورد في كتاب (الإمامة) للرد على الكلام الإنشائي المشار إليه، إذ يؤكد الشيخ مطهري أن بعض المقامات التي تدّعى للنبي (ص) والأئمة (ع) – مما يندرج الآن في مصطلح الولاية التكوينية – لا يعدّ من أركان التشيع وإن كان الشيخ المطهري يؤكد في الوقت نفسه أنه من المعتقدين به( ).

    بل يشير الشيخ مرتضى المطهري إلى أن الشيعة يختلفون في الاعتقاد بالإمامة، فمنهم من لا يرى الإمامة أكثر من كونها قيادة اجتماعية، ويتعدى بعضهم إلى الاعتقاد بكونها قيادة تشريعية، دون أن يصل به الأمر كما يعتقده البعض من الإيمان بالولاية التي يسميها بالمعنوية، وهي التي تختزن المقامات والقدرات والدرجات الكبيرة، والتي منها ما يسمى الولاية التكوينية. وينقل الشيخ مرتضى المطهري، أن أستاذ السيد البروجردي وهو السيد محمد باقر درجئي لم يصل بالإمامة إلى هذا المستوى( ).

    ويكفي لتأكيد هذه الفكرة أن نشير إلى الفرق الكبير بين ما اشتملت عليه كتب أعلام الطائفة من قبيل الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي من معتقدات حول الإمامة، وبين ما اشتملت عليه كتب بعض المتأخرين من المتفلسفين والعرفانيين، حيث يشهد الباحث تأثيراً كبيراً للعرفان والتصوف على أفكارهم ومعتقداتهم، وإن كان يدعي بعضهم أن أهل العرفان والتصوف هم أنفسهم المتأثرون بالفكر الشيعي( ) .

    ومهما يكن من أمر، فإن من المهم الإشارة إلى أن من الضروري بناء المعتقدات والاستدلال عليها بطريقة واضحة وأدلة جلية، بعيداً عن الصناعة والتكلف، وإلاّ فإننا لا نجد من المتدينين على اختلاف دياناتهم وإن كانت باطلة من لا يستدل على صحة ديانته ويحاول التفلسف لذلك.

    آمل أن أكون وفقت في تقديم وجهة نظر مغايرة، وهي صحيحة عند كثيرين على أقل تقدير، وبذلك لا يجوز أن يحمِّل البعض الفكر الشيعي اعتقادات خاصة بهم، وتعميمها على الشيعة على سبيل القهر والإكراه، فإن وجدوا صحة ما يعتقدونه فهم معذورون، لهم الحق في الدفاع عن فكرتهم، ولكن دون أن يكونوا الناطق الرسمي باسم التشيّع. وهذا ما تعلمناه من أكابر العلماء والمفكرين، كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض كلام الشيخ المطهري..

    وأشير – أيضاً – إلى أن مناقشة أفكار بعض الباحثين وبعض العلماء ممن وردت الإشارة إليهم لا تعني المس بهم أو الإساءة إليهم.

    وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

    محمد الحسيني
    دمشق
    25 / 7 /2004

    [/align]





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]التمهيد [/mark]


    الولاية التكوينية إحدى المسائل العقائدية المحْدَثة التي لم تعرف في أوساط علمائنا الأقدمين، بل والمتأخرين منهم، وهي بالرغم من ذلك أخذت موقعاً كبيراً من حيث الجدل نفياً وإثباتاً. وفي إطار هذا الجدل نشب نزاع فوضوي لا داعي له ولا مبرر له، ولذلك لابد من بحث هذه المسألة بحثاً موضوعياً وهادئاً، سواءً على مستوى الإثبات أو النفي، ويبقى للقارئ الحكم على ما يقرأ من حيث الإقناع وعدمه، خاصة وإن المسألة ليست أصـــلاً، بمعنى أنه يجب الاعتقاد به، بـــل إن ثبتت لأحد - بالأدلة الصحيحة - الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة (ع) حقَّ له أن يعتقد بها، وإلاّ فهو في حلّ من ذلك.

    وقد أعجبني أن يحدد السيد كمال الحيدري الخطوات الإساسية للمنهج العلمي المفترض في بحث هذه المسألة وأمثالها، فقد ذكر من ذلك:

    "" أولاً: التوفر على استيعاب عميق للقرآن الكريم ولرؤاه ونظراته حيال القضايا العقائدية، بديهي لا تفي مجرد المطالعة السريعة لكتاب اللّه، ولا أيضاً محض مراجعة آراء المفسرين، بل يحتاج الدارس إلى منهج يعتمده في التلقي واضح ومحدد. ثانياً: الوقوف على دورة روائية كاملة يمر فيها الدارس على مجموعة معتمدة من الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته بشأن العقيدة ""( ) .

    ولذلك لاحظ السيد الحيدري على المنهج السائد في الوسط السُني على مستوى البحث العقائدي والتفسير أنه اعتمد – فيما اعتمد – على أخبار الآحاد في العقائد( )، وإذا كان السيد الحيدري – كما يحدد منهجه بنفسه – قد لجأ إلى روايات الآحاد، فهو من باب تخريجها شاهداً ومؤيداً لما يفهمه من القرآن الكريم ويستفيد منه( ).

    ولكن المفاجأة التي وجدت نفسي في أجوائها إن ما حدّده السيد الحيدري منهجاً للبحث العقائدي غائب عن بحثه الذي يتصل بالولاية التكوينية خاصة، إذ لم أعثر على ما أسماه بالروايات المعتمدة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ولم أجد إلاّ رواية واحدة وصفها بالصحة – اعتماداً على الشيخ المجلسي( ) – فلوحظ على الروايات التي ضمنها كتابه، أنها بمجموعها روايات وقع في طريقها رواة مجهولون، أو ضعفاء، أو محل خلاف عند علماء الطائفة، هذا فضلاً عن البحث الدلالي.

    وإلى القارئ قائمة برواياته:

    1. نقل السيد الحيدري في كتابه (بحث حول الإمامة، ص71) رواية وصفها بالقيمة تتحدث عن درجات الإيمان. وراويها هو عبد العزيز القراطيسي، وهو مجهول.

    2. نقل في كتابه المذكور (ص126)، رواية عن الإمام الباقر (ع) عن عدم خلو الأرض من الحجة، وفي طريقها محمد بن الفضيل، وهو لا يعتمد عليه ورمي بالغلو، وإن ورد فيه توثيق، فهو معارض بالتضعيف.

    3. ونقل (ص129)، بالمضمون نفسه، عن الإمام الرضا (ع)، عن محمد بن الفضيل، وهو كما ذكرنا.

    4. ونقل (ص129)، بالمضمون نفسه، عن الإمام الرضا (ع)، عن حمزة بن الطيار، وهو مجهول.

    5. ونقل (ص137)، رواية في علم الإمام والأرواح التي زُوِّد بها الأئمة (ع) عن الإمام الباقر (ع)، وفيها:

    - جابر الجعفي، وهو موضع اختلاف.
    - موسى بن عمر، وهو مشترك بين عدة مجاهيل، والثقة موسى بن عمر بن بزيع.
    - محمد بن سنان، وهو ضعيف.
    - عمار بن مروان، مشترك بين المجهول والثقة، وقد ادعى السيد الخوئي (ره) إنه مولى بني ثوبان، وذلك للانصراف إليه لكثرة رواياته.
    - عن المنخل، وهو ضعيف، فاسد الرواية.

    6. ونقل (ص139)، رواية عن الصادق (ع) يرويها المفضل بن عمرو، وهو فاسد المذهب، مضطرب الرواية، لا يعبأ به كما عن الشيخ النجاشي، وقد ذكر النجاشي أنه قيل: إنه كان خطابياً، وقد ذكرت له مصنفات لا يعوَّل عليها. وفي الرواية هذه:
    - المعلى بن محمد البصري، وهو مضطرب الحديث والمذهب، كما عن الشيخ النجاشي.
    - عبد اللّه بن ادريس، وهو مجهول.
    - محمد بن سنان، وهو ضعيف كما مرّ ذكره.

    7. ونقل (ص 150)، رواية عن الإمام الصادق (ع)، بخصوص عرض الأعمال عليهم. وفي طريقها محمد بن القاسم الجوهري، وهو لم تثبت وثاقته على أقل تقدير. وفي طريقها علي بن أبي حمزة، وهو البطائني الضعيف.

    8. ونقل (ص 151)، رواية أخرى في المضمون نفسه ووصفها أنها رواية قيّمة عن عبد اللّه بن أبان الزيّات، وكان مكيناً عن الإمام الرضا (ع). وعبد اللّه بن أبان الزيات مجهول !!. وفي طريق الرواية القاسم بن محمد الزيات، وهو مجهول!

    9. ونقل (ص274) رواية استدل بها على أن الأئمة (ع) يشرِّعون إذ أن الأدلة تثبت ذلك كما ادّعى. والراوي محمد بن سنان، وقد مرّ أنه ضعيف.

    10. ونقل (ص 331) عن الإمام الصادق (ع) رواية أثبت بها أن (الكتاب) الذي أشير إليه في الآيتين ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ)) و ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) واحد، فهو كتاب التكوين. والرواية في طريقها:

    - عباد بن سليمان، وهو مجهول.
    - محمد بن سلمان، وهو مجهول.
    - سدير، وهو محل نظر واختلاف بين العلماء.

    هذه جملة الروايات التي ضمّنها السيد الحيدري – وتلك عشرة كاملة – وهي كما ترى، فأين ما وصفه من شروط البحث العقائدي، ومن ذلك مراجعة الروايات المعتمدة!! وهل يصح له أن يقول إنه يخرجها شاهداً!! وبعضها ليس كذلك، إذ ليس الأمر كما يقول، بل أنه اعتمد عليها في تفسير القرآن، فكان القرآن صدى لهذه الروايات بدلاً من أن تُعرض الروايات على القرآن، ثم ألاّ يبعث ذلك على الريبة، وهو يعتمد روايات في طريقها المجهول والضعيف!!

    هذه حال رواياته، أما ما أسماه بمراجعة القرآن الكريم، والتوفر على استيعاب عميق للقرآن، فإنه يلاحظ على السيد الحيدري أنه يلخِّص مطالب (الميزان في تفسير القرآن) للسيد الطباطبائي، إلى درجة أنه لم يُعر اهتماماً للتراث التفسيري الضخم لعلمائنا، في وقت كان يفترض فيه أن يطّلع على هذا التراث ويقارن بينه وبين مطالب تفسير (الميزان). ويبدو أنه ارتأى الاقتصار على تفسير (الميزان)، لأنه ينسجم مع ما ينظّر له، ويدّعم ما يروّج له، وهو ما يعتبر تجاوزاً للقراءات والاجتهادات العديدة لطائفة من كبار علمائنا في حقل التفسير والعقيدة.

    ويظهر ذلك في معظم مواضع كتابه، نشير إلى بعضها ليقف القارئ على ما نقول:

    1 – في (ص 177)، وهو يتحدث عن خصائص اليقين، يؤكد السيد الحيدري تبعاً للسيد الطباطبائي، إن رؤية الجحيم ورؤية الجنة مما يحصل في هذه الدنيا، ولذلك فإن قوله تعالى ((لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ))/(التكاثر: 6)، أي ترونها في الدنيا، قبل رؤيتها في عالم الآخرة، ولذلك يقول السيد الحيدري: "" .. لترون الجحيم إنكم لترونها في هذه الدنيا. وهذا الأمر لا يختص بالجحيم وحدها، بل الجنة أيضاً كذلك، فلو استفاض الإنسان بعلم اليقين لرأى نعيم الجنان في الدنيا"". ولكن السيد الحيدري يزيد على السيد الطباطبائي، إذ أن الأخير يفسِّر الرؤية هذه برؤية البصيرة، أي الرؤية القلبية. أما السيد الحيدري – هنا - فلا يشير إلى طبيعتها، وكأنه يشير إلى الرؤية البصرية.

    2 – في (ص178) في تفسير قوله تعالى: ((وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا))، في الحديث عن دعاء إبراهيم (ع)، بعد فراغه من بناء البيت، يفسِّر السيد الحيدري قوله (أَرِنَا) بأنه يريد رؤية المناسك، ولذلك لم يقل علمّنا مناسكنا!! وقد أخذه السيد الحيدري من تفسير (الميزان). ولكن لا ندري لماذا لا يكون المراد من ((وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)) هو علمنا أو عرفنا مناسكنا، وهو ما يجري على لسان العرب كما قال الشاعر:

    أريني جواداً مات هزيلاً لعلني / أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

    ثم إن السياق القرآني يؤكده، لأن مقام إبراهيم (ع) مقام الدعاء إليه تعالى بتعريفه المناسك والمتعبدات، بعد أن فرغ من بناء الكعبة، والمناسك هذه هي الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة ..

    3 – في (ص 179)، بصدد تفسير قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا))/(الأنبياء: 73)، فسَّر الأمر المشار إليه بالأمر التكويني تبعاً للسيد الطباطبائي، ولكن الآية لا تدل على أكثر من أنهم موضع لطف اللّه تعالى، إذ فعل بهم اللطف الذي به صلحوا، ليكونوا قدوة في أفعالهم، بما أوحاه اللّه إليهم من فعل الخيرات، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ..

    ولكن السيد الحيدري اختار تفسير (الميزان) – كما قلت – لجهة تأكيد ما ينظّر له من الدور التكويني للإمام في العالم.

    4 – في (ص226)، يستدل السيد الحيدري، وهو بصدد إثبات البعد التكويني للإمام بحديث (الثقلين)، وذلك بالأمر النبوي الذي قرن أهل البيت (ع) بالكتاب العزيز (القرآن)، والذي يفيد علمهم به، وإلاّ لوقع الافتراق، ولكي يثبت أن الكتاب هو (القرآن) في الحديث، وعلم الأئمة (ع) به يقتضي العلم بالكتاب التكويني، استند إلى نظرية السيد الطباطبائي في ما ادعاه من وجود مرتبتين للقرآن، إحداهما ظاهرة بلسان مبين، وأخرى باطنة، وإن علمهم بالقرآن لابد أنْ يكون شاملاً للمرتبتين، وبذلك يكون لهم الدور التكويني، وستأتي مناقشته في مطاوي البحث.

    * * *

    وعلاوة على ما ذكرناه، فإنه يلاحظ على السيد الحيدري في تفسيره الآيات واستنتاجاته الطابع التعسفي، ويحسن إلى أن أشير إلى عدة مواضع:

    1. في تفسيره (الخليقة) في قوله تعالى: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))/(البقرة: 30)، يميل السيد الحيدري إلى التشبث به لإثبات القدرات التكوينية للإمام، ويستفيد من الآية أن اللّه كأنه يقول: ""أي أنا أقوم بأعمالي من خلال خليفة""( ) . وإن من خصائص هذا المسنخلف أنه مزوَّد بعلم لا يحضى به حتى الملائكة المقربون( ). بل أن هذه الخلافة تتجاوز الأرض، فهو مستخلف في الأرض هذه، وإنما موقع وجوده الأرض، فهو خليفة اللّه سواءُ لمن هم في الأرض أو غير الأرض، أي أنه موجود يعيش في الأرض. وعليه فإن نظام الوجود لا يدار إلا من خلال خليفة. ولما كان عاجزاً عن إثبات مطلوبه بأزيد مما تعسف فيه، فقد ركن إلى الروايات، فنقل روايات احتياج الأرض إلى الحجة، وإلا ساخت وانخسفت .. ( ).

    وما يذكره السيد الحيدري من تفسير الآيات التي تحدثت عن الخليفة، تفسير تعسفي لا يستند إلى حجة من القرآن، لأن القرآن تحدث عن الإنسان بما هو نوع الإنسان، والذي كان إبّان الخلق الأول آدم، وليس هناك دليل إلى ما بصدد إثباته.

    2. في محاولته توحيد معنى (الكتاب) الوارد في الآيات الكريمة والروايات التي أشارت إلى علم أهل البيت (ع) الكتاب، يتعسف السيد الحيدري في الجمع بين الآيات الكريمة بطريقة وكأنه يمررها على القارئ، فيقول: "" يوجد إذن عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) علم الكتاب، وهو علم مضاف، معناه أنه لا يوجد شيء في الكتاب إلاّ وعلمه عند الإمام " "، يشير بذلك على قوله تعالى: ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) ويضم إليها آية أخرى وهي قوله تعالى: ((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) ( ) وكذلك يضم قوله تعالى: ((تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ))، وقوله تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)) ( )، مع أن بعض الآيات يشير إلى الكتاب، أي القرآن الكريم، وبعضها يشير إلى اللوح المحفوظ. ولكنه يريد أن يُعمِم ذلك لإثبات مطلوبه، وهو أن الأئمة (ع) يعلمون ما في الكتاب، أي اللوح المحفوظ، مع أن المعنى مختلف، وسيأتي مناقشة بعض مقولاته في مطاوي البحث.

    3. في محاولته إثبات مطلوبه، وهو البعد التكويني للإمام ودروه في تدبير الكون، حشّد السيد الحيدري عدداً من الآيات التي يظهر بعضها في نسبة الفعل إلى اللّه تعالى مباشرة، وبعضها في نسبته إلى الإنسان مثلاً، ولكنه كان في أحيان كثيرة يتعسف في قراءة بعض الآيات، كما في تفسير قوله تعالى: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ))، فكتب بقوله: "" مما يشعر بتعدد الخالقين، فكيف ينسجم وقوله: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) ؟ ""( ). مع أن المراد بالخلق معناه اللغوي، وهو التقدير وقياس الشيء بالشيء، وهو مما لا يختص باللّه تعالى كما هو معلوم، وهو مما لا يثبت مطلوب السيد الحيدري، الذي بصدد إثبات صحة نسبة الخلق إلى الأئمة (ع)، لأن مقام الآية هو المقارنة بين الخلق الصادر من اللّه سبحانه والخلق الصادر عن غيره، ولذلك فإن خلقه يتميز بالإتقان والإيجاد من العدم. وعليه فليس المقصود ما بصدده السيد الحيدري، ولذلك ورد قوله تعالى: ((وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا))، بل لو كانت الآية واردة مورد ما بصدده السيد الحيدري، فهي لا تثبت مطلوبه بنفسها، لأنّ البحث في الدليل على صحة نسبة الخلق إلى الأئمة (ع)، وهو مفقود. وإذا كان ثبت لعيسى (ع) ((وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)) ، فهو مما ثبت بالقرآن. ونظير هذا المورد تفسيره قوله تعالى: ((وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ))، وقد بالغ السيد الحيدري في سرد الآيات التي أعتبرها دليلاً على نظام الوسائط في الجمع بين الآيات، كقوله تعالى: ((أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)) وقوله تعالى: ((يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)) وقوله تعالى: ((خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ))، وقوله تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)).

    4. ويلاحظ على السيد الحيدري اعتماده المنهج الروائي في تفسير القرآن واستفادة مطالب عقائدية، في وقت أرجع الاضطراب – وقد وصفه بالملحوظ – الذي شهدته المدرسة السُنيّة إلى اعتماد أخبار الآحاد في العقائد( ). وقد برز ذلك واضحاً في عدد من استنتاجاته، منها إصراره على وحدة معنى (الكتاب) في الأدلة والنصوص ليتعدى من الأدلة التي أثبتت العلم لأهل البيت (ع)، كما في قوله تعالى: ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) وقد نزلت في علي (ع)، أو كما في حديث (الثقلين) إلى النصوص التي ورد فيها (الكتاب) من قبيل ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ))، وهو تعدي لا يسوغه سوى لجوءه إلى الرواية كما سيأتي.

    ويظهر ذلك في تفسير قوله تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) فقد نفى أن يكون المراد هو الروح العامة الموجودة في الناس، وفسّره بالأمر الإلهي استناداً إلى بعض الروايات( ) ، في وقت نجد أن بعض الروايات تفسر هذه الروح بأنها الموجودة في الناس كما في الرواية عن أحدهما (الباقر أو الصادق (ع)) فيما رواه أبو بصير قال: ((سألته عن قوله تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي))، ""قال: التي في الدواب والناس، قلت: وما هي؟ قال: هي من الملكوت، من القدرة( ).

    5. في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)) يصر السيد الحيدري بإرجاع الضمير من ((لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)) إلى كتاب مكنون، وذلك بغية إثبات أن الأئمة (ع)، وهم المطهرون بآية التطهير، يعلمون ما في اللوح المحفوظ وأم الكتاب، وذلك بدعوى أن القواعد العربية تقضي بذلك، لأنه أقرب إليه من قوله ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ))، مع أن الضمير راجع إلى القرآن، كما استظهره الشيخ الطوسي في (التبيان)، واحتمله السيد الطباطبائي في (الميزان)، والذي يدعم ذلك أن ما ورد من الكلام كله أوصاف للقرآن وهي كالتالي:

    - إنه لقرآن كريم.
    - في كتاب مكنون.
    - لا يمسه إلاّ المطهرون.
    - تنزيل من رب العالمين.

    ثم لو رجع الضمير إلى (كتاب مكنون) لكان مقتضى السياق إن المراد بالمطهرين هم الملائكة، استبعاداً للشياطين فيما كان يثار على النبي (ص) من تكذيب، وإن ما نزل عليه من مداخله الشياطين.
    ثم لو صحّ ما يذكره السيد الحيدري من إرجاع الضمير إلى (الكتاب) المكنون، فإن مسه هو العلم به، والعلم به لا يقتضي التصرف بالكون، ونظم التكوين، لأن مجرد العلم لا يقتضيه.

    وبذلك يتضح عدم دقة ما يدعيه السيد الحيدري بقوله: "" ثم من الواضح إن من وقف على الملكوت يستطيع أن يتصرف في نظام التكوين بحكم قول اللّه (سبحانه): ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))، لماذا؟ يقول اللّه تعالى: ((فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)). إذن من وقف على الملكوت يستطيع أن يتصرف من خلال (كن فيكون)، بإذن اللّه( ). وإنما ننفي الدقة عما يدعيه، لأنّ العلم الذي أثبته بمعناه الشامل للوح المحفوظ للأئمة (ع) لا يقتضي بالضرورة تصرفهم في نظام الكون على حد تعبيره، لأن ذلك يحتاج إلى إذن اللّه تعالى كما اعترف به ونحن بحاجة إلى الدليل على صدور هذا الإذن؟!

    وهذا ما اعترف به السيد الحيدري في تحديد معنى الملكوت حيث كتب: "" .. ومن هنا يتضح أن المراد بإراءة الملكوت لإبراهيم (ع) توجيهه تعالى نفس خليله (ع) إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه عز اسمه .. ومن البديهي أن النظر من ملكوت الأشياء موجب لهداية الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية يقينية، لا يداخلها ريب، ولا يشوبها شك بوجه من الوجوه، وهذا هو اليقين الذي تمتع به إبراهيم (ع)، ولما كان النظر في الملكوت موجباً لليقين باللّه سبحانه وتعالى وبجميع صفاته وأسمائه تعالى ورد الحث على ذلك. قال تعالى: ((أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)) ..""( ). وهو الذي نقله السيد الحيدري عن تفسير (الميزان) نصاً ومضمونا( )ً.
    وقد نقل السيد الحيدري روايات عن أهل البيت (ع) في معنى الملكوت لا تفيد أكثر من العلم( ).
    [align=center]* * *[/align]

    وبشكل عام فإن أهمية ما يميّز استدلالات السيد الحيدري – وغيره – على الولاية التكوينية هو:

    أولاً: إنه يستدل بأدلة المعجزة وما صدر عن الأنبياء (ع)( ) ، ويلاحظ على هذا الاستدلال أنه بغض النظر عن طبيعة صدور المعجزة عنهم وتفسير هذا الفعل المعجز، فإنه يمكن أن يقال: إن البحث هو في الولاية التكوينية بمعنى التصرف بالكون والنظام الوجودي على نحو يكون للأنبياء والأئمة (ع) التدبير، لا مطلق التصرف. ثم أنه دلّ الدليل على صدور المعجز عن الأنبياء، ولم يدل دليل على التدبير في الكون بما يعرف بالولاية التكوينية، ومجرد الإمكان والوقوع في المعجزة لا يقتضي بالضرورة وقوع التدبير بالمعنى الشامل.

    ثانياً: إنه يستدل بما يعرف بنظام الوسائط، حيث اقتضت حكمته أن يوجد بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة( ) ، كما أن كل ما هو ثابت للّه من دور تدبيري وتصرف وإيجاد، فهو ثابت للملائكة( ) ، فإذن – حسب تعبير السيد الحيدري – فأول مصداق للولاية التكوينية والتصرف لغير اللّه، ما هو ثابت للملائكة بصريح القرآن والروايات المتواترة( ). ولكن يلاحظ أن نظام الوسائط لا يثبت بهذه الأدلة سوى إمكان توسط غير الملائكة كما هي وساطة الملائكة، ولكن لا دليل على كون غير الملائكة وسائط في التدبير، ولذلك فلابد من البحث في إثبات ذلك.

    ولذلك اعترف السيد الحيدري إن مجمل بحثه يتركز في (أصل وجود الولاية لغير اللّه)( ) . وعندئذٍ فلا يجيب السيد الحيدري عن سعة هذه الدائرة وضيقها كما اعترف به هو، مع أن البحث ليس في الإمكان، ولذلك لا يكفي ما ذكره السيد من وقوع المعجز من النبي عيسى (ع) مثلاً( ). ولا يكفي إثبات الولاية التكوينية – وبالمعنى الذي بصدده السيد الحيدري وغيره – بمجرد صدور فعل خارق وتصرف في عالم التكوين من الملائكة مثلا أو الجن، إذ إن وقوعه منهم قد يكون لخصوصية، وقد دلّ على الوقوع الدليل الصحيح من القرآن الكريم والسنة المتواترة، ولم يدل دليل كهذا على المدعى.

    ثالثاً: ونلاحظ على السيد الحيدري أنه يستند في إثبات مطلوبه وفي مسألة ذات حساسية كبيرة إلى مقولات هي محل جدل واختلاف، ومن تلك المقولات ادّعاءه ان الإمام لابد أن يعلم كل شيء مهما كان يسيراً، لأنهم عدل القرآن وفيه تبيان كل شيء وإلاّ وقع الافتراق( ). بل أن مهمة الإمام ودوره في هداية الناس تقتضي كما يزعم أن يكون عالماً بما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم، بل أن مهمته في هدايتهم تقتضي أن تكون أعمال العباد معلــــومة له، وأن لا يحجب منها عنه شيء .( ).

    نذكر أن السيد الحيدري يشير إلى مصدر هذه الأفكار وهي تفسير (الميزان) على خلاف عادته في عدد من الموارد. ولا يخفى على من قرأ تراث الشيعة وما كتبه أعلامها من أمثال الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهما عدم الاتفاق على هذه المقولات وأنها ليست مسلّمة عندهم، وسيقف القارئ على كلماتهم في كتابنا في فقرة (علم الأنبياء) الآتية.

    [/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي مركز الأنبياء (ع) في الفكر الإسلامي

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]مركز الأنبياء (ع) في الفكر الإسلامي [/mark]

    لم يكن مركز الأنبياء في الفكر الإسلامي – خارج الدائرة الإمامية الاثنا عشرية – لائقاً بهم ، فقد تسالم علماء أهل السنة – ومن على رأيهم – على عصمتهم في التبليغ وأداء الرسالة ، دونما ضرورة لعصمتهم قبل مدة النبوة والرسالة .

    ومع ذلك فقد اختلفوا في القدر الزائد – على ما تقدم – بين منع صدور المعصية الكبيرة عمداً أو سهواً دون الصغيرة التي من الممكن صدورها عنهم ، وبين منع صدور المعصية كبيرة وصغيرة عمداً دون ما يصدر عنهم منها سهواً ، فانه لا ينافي عصمتهم ولا يلزم تنزيههم عنها( ) .

    أما مركز الأنبياء في الفكر الإسلامي – من وجهة النظر الإمامية – فإنها الأكثر انسجاما مع واقع الأنبياء ودورهم ومسؤولياتهم ، بل وعظمتهم وقداستهم .

    كتب العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) ملخصاً الآراء في عصمة الأنبياء : ""إعلم ان الاختلاف الواقع في هذا الباب بين علماء الفريقين يرجع إلى أقسام أربعة : أحدها : ما يقع في باب العقائد ، وثانيها: ما يقع في التبليغ، وثالثها : ما يقع في الأحكام والفتيا، ورابعهما : في أفعالهم وسيرهم (ع) . وأما الكفر والضلال في الاعتقاد فقد أجمعت الأمة على عصمتهم عنهما قبل النبوة وبعدها ، غير ان الازارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب ، وكل ذنب عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر عليهم بل يحكى عنهم أنهم قالوا : يجوز أن يبعث الله نبياً علم أنه يكفر بعد نبوته . و أما النوع الثاني : وهو ما يتعلق بالتبليغ فقد اتفقت الأمة ، بل جميع أرباب الملل و الشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمداً أو سهواً إلا القاضي أبو بكر فإنه جوَّز ما كان من ذلك على سبيل النسيان و فلتات اللسان، و أما النوع الثالث و هو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه عمداً و سهواً إلا شرذمة قليلة من العامة، و أما النوع الرابع وهو الذي يقع في أفعالهم ، فقد اختلفوا على خمسة أقوال :

    الأول : مذهب أصحابنا الإمامية و هو أنه لا يصدر عنهم الذنب لا صغيرة ولا كبيرة و لا عمداً و لا نسياناً و لا لخطأ في التأويل و لا للإسهاء من الله سبحانه ، ولم يخالف فيه إلا الصدوق و شيخه محمد بن الحسن بن الوليد – رحمهما الله – فإنهما جوزا الاسهاء لا السهو الذي يكون من الشيطان ، وكذا القول في الأئمة الطاهرين عليهم السلام .

    الثاني : أنه لا يجوز عليهم الكبائر و يجوز عليهم الصغائر إلا الصغائر الخسيسة المنفّرة ، كسرقة حبة أو لقمة – و كل ما ينسب فاعله إلى الدناءة و الضعة ، وهذا قول أكثر المعتزلة .

    الثالث : إنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا كبيرة على جهة العمد – و لكن يجوز على جهة التأويل أو السهو ، و هو قول أبي علي الجبائي .

    الرابع : إنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ، لكنهم مأخوذون بما يقع منهم سهواً ، وإن كان موضوعاً عن أممهم لقوة معرفتهم وعلوَّ رتبهم وكثرة دلائلهم وإنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم ، وهو قول النظام وجعفر بن مبشّر ومن تبعهما .

    الخامس : أنه يجوز عليهم الكبائر و الصغائر عمداً و سهواً والخطأ ، و هو قول الحشوية وكثير من أصحاب الحديث من العامة ، ثم اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال :

    الأول: أنه من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه وتعالى، و هو مذهب أصحابنا الإمامية.

    الثاني : أنه من حين بلوغهم – و لا يجوز عليهم الكفر و الكبيرة قبل النبوة ، وهو مذهب كثير من المعتزلة .

    الثالث : أنه وقت النبوة ، و أما قبله فيجوز صدور المعصية عنهم ، وهو قول أكثر الأشاعرة و منهم الفخر الرازي ، و به قال أبو هذيل و أبو علي الجبائي من المعتزلة .

    إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ العمدة فيما اختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء، والأئمة عليهم السلام من كل ذنب و دناءة و منقصة قبل النبوة و بعدها قول أئمتنا سلام الله عليهم بذلك المعلوم لنا قطعاً بإجماع أصحابنا رضوان الله عليهم ، مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية""( ) انتهى .

    وقد أكد السيد فضل الله أن القول بتجزئه العصمة – على النحو الذي فصلناه – لا ينسجم مع معنى النبوة . بل إن القول به يشي بعدم فهم النبوة و دورها( ) .

    قال : - في جواب له – على هذه الإشكالية : "" فأنال أعتقد أن الشخصية لا تتجزأ ، بأن تكون معصومة بالتبليغ وغير معصومة في شؤون حياتها الأخرى- فالصادق هو الصادق في جميع أموره ، و الأمين هو أمين في جميع أموره ، فأنا لا أفهم أن يكون الإمام معصوماً في تبليغ الرسالة و ليس معصوماً في الأمور الأخرى ، فالشخصية المعصومة واحدة ، وتنطلق من عمق تكوينها ، و هي التي تعيش إشراقة نور المعرفة و السمو في كل شخصيتها ، فلا تتحرك إلا من خلال النور ، ذلك أن الإمام يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، و من الظلمات الفكرية إلى النور الفكري ، ومن ظلمات السلوك إلى نور السلوك ، ومن ظلمات الروح إلى نور الروح ، و لذلك جعله الله مصدر نور بحيث لا يمكن أن يكون فيه شيء من الظلام ""( )

    و انسجاماً مع هذه النظرة استبعد السيد فضل الله حصول النسيان للنبي – مطلقاً – و إن كان ذلك في دائرة الحياة الاعتيادية من الأمور الهامشية التي لا تنفر – على حد تعبير السيد المرتضى – و لا تسيء إلى النبي ، وذلك لأن عصمته من النسيان في التبليغ لابد أن تكون عن ملكة ذاتية تمنعه من النسيان بحيث تجعل وجدانه واعياً للأشياء فلا تغيب عنه عندما ينفصل عنها .. مما يجعل المسألة غير قابلة للتجزئة – كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية. . ""( ).

    ولكن اتفاق أعلام المدرسة الإمامية على عصمة الأنبياء بقول مطلق، وعلى نفي النسيان و السهو عنهم، و إنهم بلغوا من الكمال درجاته العليا ومراتبه القصـــــوى، لم يمنع من الاختلاف في بعض الحــالات التفصيلية …

    فقد تجاذبت آراء العلماء كلاً في اتجاه ، ففي الوقت الذي يرى فيه بعض أن للأنبياء والأئمة (ع) مقاماً قدسياً لا تشوبه أية علامة فارقة قد توحي بالنقص من أية جهة ، فإن ثمة بعضاً من أعلام الأمامية من يرى مقاماً عظيماً و كبيراً للأنبياء و الأئمة (ع) و لكن دونما مبالغة و دونما تجاوز للحدّ .
    و قد روى الاتجاه الأول عنهم (ع) : ""لا تتجاوزوا بنا العبودية ثم قولوا ما شئتم و لن تبلغوا ، و إياكم و الغلو كغلو النصارى فأني بريء من الغالين""( ).

    و وفقاً لهذا الاتجاه فقد أدين الغلو بما هو مظهر من مظاهر إسناد الإلوهية للأنبياء و الأئمة (ع) ، و ليس ثمة ما يوجب الغلو في تجاوز الحد فيما لو كان في المعاجز و الكرامات و الخوارق …

    لكن يجب أن نلفت الانتباه إلى اتجاه جديد لا ندري مدى انسجامه مع أي من الاتجاهات الفكرية/العقائدية وهو يصف الأئمة بالربوبية، و إن كان على نحو تم فيه تلطيف العبارة . ( )

    وفي وقت ينفي فيه الأئمة (ع) ما نسب إليهم من أنَّ الناس لهم عبيد و إنما هم عبيد في الطاعة ( ) . فإن ثمة من يسـتكثر على شيعة الأئمة (ع) ومريديهم -بحق– وصف (الكلب) لهم ، بل و يستغفر عن مثل هذا الإدعاء، لأن دعوى أنه (كلبهم) مما يوجب الاستغفار !( )

    لكن، ثمة اتجاه آخر قديم يضرب جذره في عمق المدرسة الإمامية – وتحديداً مدرسة قم و شيوخها – ممن يرى تحقق الغلو بإسباغ الكمال المطلق للأنبياء و الأئمة (ع) . قال الوحيد البهبهاني في تعليقته : "" لا يخفى أنَّ كثيراً من القدماء سّيما القميين وابن الغضائري كانت لهم اعتقادات خاصة في الأئمة عليهم السلام بحسب اجتهادهم – لا يجوِّزون التعدي عنها، و يسمون التعدي : غلوّاً و ارتفاعاً ، حتى أنهم جعلوا مثل نفي السهو عن النبي صلى الله عليه و آله غلواً ، بل ربما جعلوا التفويض – المختلف فيه – إليهم ، أو نقل خوارق العادات عنهم ، أو الإغراق في جلالتهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء و الأرض ارتفاعاً ، أو مورثاً للتهمة …""( )

    وليست هذه الحال حال القميين و كثير من القدماء من أعلام المدرسة الإمامية بل وغيرهم، فإن المفيد – و إن لاحظ على القميين شيئاً من التقصير– يرى في الغلو أنه ليس نسبة الألوهية للأنبياء و الأئمة (ع) وحسب، بل كل ما تجاوز الحد .

    قال: "" و الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته إلى الألوهية و النبوة ووصفوهم من الفضل في الدين و الدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد و خرجوا عن القصد ، و هم ضلال كفار … ""( ).

    بل يظهر من بعض الروايات مما أورده العلامة المجلسي في (بحاره) أن ما ذكرناه سابق على مدرسة القميين كما في بعض روايات (زراة بن أعين) و هو أحد النجباء و أحد أبرز رواة و فقهاء المدرسة الإمامية – فاضطر العلامة المجلسي للتعليق : "" لعل زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله …""( ).

    و مهما يكن من أمر ، فقد ترشح هذا الاتجاه أو ذاك في بعض المسائل التفصيلية ، فلم يجد البعض بأساً في وقوع الحسد و الطيرة في الأنبياء بل والوسوسة أيضاً .

    ففي المروي عن الصادق عليه السلام قال : ((ثلاث لم يعر منها نبي فمن دونه : الطيرة ، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق . )) فسَّره الشيخ الصدوق : بأنَّ الطيرة من الأنبياء بمعنى تطيرّ قومهم منهم، و الحسد أي أن يُحسدوا ، لا أنهم يَحسدون ، و التفكر في الوسوسة في الخلق فهو بلواهم (ع) بأهل الوسوسة .

    وتفسير الشيخ الصدوق و إن كان خلاف ظاهر الرواية ، لأنها في مقام بيان عدم خلو أحد من الخلق من هذه الظواهر الإنسانية بما في ذلك الأنبياء ( ) فإن العلامة المجلسي إستجود تفسيره ، و لكنه – أي العلامة المجلسي – لاحظ على تفسير الصدوق إنه لا ينسجم مع المروي في الكافي وغير الكافي .

    قال العلامة المجلسي : ""ما ذكره توجيه وجيه ، لكن في الكافي وغيره ورد فيه تتمة تأبى عنه و هي : لكنَّ المؤمن لا يظهر الحسد . و يمكن أن يكون المراد بالحسد أعم من الغبطة ، أو يقال : القليل منه مع عدم إظهاره ليس بمعصية ، و الطيرة : هي التشؤم بالشيء و انفعال النفس بما يراه أو يسمعه مما يتشأم به ، ولا دليل على أنه لا يجوز ذلك على الأنبياء ، و المراد بالتفكر في الوسوسة في الخلق التفكّر فيما يحصل في نفس الإنسان من الوساوس في خالق الأشياء ، و كيفية خلقها و خلق أعمال العباد، و التفكر في الحكمة في خلق بعض الشرور في العالم من غير استقرار في النفس و حصول شك بسببها ، ويحتمل أن يكون المراد بالخلق المخلوقات و بالتفكر في الوساوس التفكّر وحديث النفس بعيوبهم و تفتيش أحوالهم ، و يؤيد كلاً من الوجهين بعض الأخبار ،كما سيأتي في أبواب المكارم ، وبعض أفراد هذا الأخير أيضاً على الوجهين لا يستبعد عروضها لهم (عليهم السلام)""( ).

    وعبارة الشيخ المجلسي ظاهرة في عدم الدليل على نفي مثل هذه الحالات عن الأنبياء (ع) ، مع أنه قد يوحي بالضعف ومما يمس بقداستهم.

    بل لم يجد السيد المرتضى أية غضاضة في القول بوسوسة الشيطان للأنبياء ، بل ان وسوسة الشيطان زيادة في التكليف ، وليس بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب . وقد فسَّر قوله تعالى: ((أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ))/(الحج: 52)، بالتلاوة ، أو في فكرته على سبيل الخاطر ، ثم قال : "" .. وأي الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي ولا نقص ، وإنما العار والنقص على من يطيع الشيطان ويتبع ما يدعو إليه""( ) .

    ومما تقدم يتبين اختلاف الموقف في تفسير الرواية المشار إليها مما ذكرناه ، بين تفسير الشيخ الصدوق مما هو على خلاف الظاهر بغية تنزيه الأنبياء إلى أقصى حدّ وإن كان على نحو التأويل ، وبين تفسير الشيخ المجلسي مما لم يعتبره نقصاً فيهم (عليهم السلام)، وكذلك تفسير الشريف المرتضى الذي يلتقي معه في تفسير الآية المشار إليها .

    ولم تكن هذه الظاهرة هي الوحيدة مما استوقف العلماء في محاولة فهم لتقييمها وفقاً لأصل العصمة وبما لا يضر بموقع النبوة والإمامة .

    ومما وقع البحث فيه طرو الخوف لدى الأنبياء ووقوعه في نفوسهم.

    وقد ورد في القرآن الكريم في قصة موسى (ع) : ((قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى))/(طه:45) ، وقوله سبحانه وتعالى : ((فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى*قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى))/(طه: 20-21)، وقوله سبحانه وتعالى: ((فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى*قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى))/(طه: 66– 67)، وقوله سبحانه وتعالى على لسان شعيب لموسى عليهما السلام : ((قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))/(القصص:25)، وقوله سبحانه وتعالى في قصة ابراهيم ( ع ): ((وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ*فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ))/(هود:69–70).

    والقرآن ظاهر في نسبة الخوف إلى الأنبياء (ع) ووقوعه في نفوسهم بما لا يضر العصمة ولا يمس مقامهم الكريم .

    ومع ذلك فقد حاول بعض الأعلام توجيه ما ورد في القرآن من الدلالة على وقوع الخوف منهم . ففي قوله سبحانه وتعالى: ((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)). قال السيد المرتضى: "" قلنا لم يخف من الوجه الذي تضمنه الســؤال - يعني الخوف نتيجة الشك في صحة ما أتى به – وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر فآمنه الله تعالى من ذلك وبيَّن له ان حجته ستتضح للقوم بقوله سبحانه وتعالى : ((قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)) ( ) .

    وفي الاتجاه نفسه ذكر العلامة المجلسي – في جملة من الأسباب – أن يكون السبب في خوف موسى ( ع ) أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا مثل ما فعله ، ويظنوا المساواة فيشكوا ، أو أنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا قبل أن يعلموا بطلان السحر فيبقوا في شبهة ، أو أنه خاف لأنه لم يدر أن العصا إذا انقلبت حيَّة هل يظهر المزيَّة ؟ لأنه لم يعلم أنها تتلقفها ، وكان ذلك موضع خوف ، لأنها لو انقلبت حيَّة ولم تتلقف ما يأفكون ربما إدعوا المساواة ، لا سيما والأهواء معهم والدولة لهم ، فلما تلقفت زالت الشبهة . ( ) .

    وقد ناقش العلامة الطباطبائي في ما ذكره العلامة المجلسي لجهة أنَّ خوفه ان كان من خوف التباس الأمر على الناس فيشكوا فهو ينافي إطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقال له ربه قبل ذلك : ((قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ))/(القصص:35) وإن كان من خوف تفرق الناس بعد رؤية سحرهم وأن لا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدخل في نفوسهم التساوي ، فانه خلاف ظاهر الآية ، لأن ظاهر تفريع قوله سبحانه وتعالى : ((فأوجس في نفسه خيفة)) على قوله سبحانه وتعالى: ((فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه)) أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل ان يتبين الأمر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولاً ، بل أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه ( ع ) : ((قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى))، ولقيل : لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا( ).

    ولذلك قال السيد الطباطبائي تعليقاً على قوله تعالى : ((قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى)).
    إن فيه دلالة خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية ، وهو ما دلّ عليهَ قوله تعالى من موضع آخر : ((فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ))/(القصص :31)( ) .

    ولمَّا كان ما ذكرناه من احتمالات في تفسير خوف موسى (ع) خلاف الظاهر القرآني، فقد وافق السيد فضل الله السيد الطباطبائي وذكر في تفسير قوله تعالى : ((فأوجس في نفسه خيفة موسى))، أنه خوف ""من خلال الضعف البشري الذي يعيشه الإنسان في حالات الغفلة لاسيما أن موسى لا يعرف ماذا يحدث له من خلال التفاصيل الجزئية، لأن المسألة ليست اختيارية له ، بل هي مسألة التدبير الإلهي الذي يثق بحصوله ولكنه لا يعرف طبيعته .. ولذا فإنه كان ينتظر نداء الله وتعليماته .. "" ( )
    وعليه فان خوف موسى (ع) ناشئ من الطبع الإنساني انطلاقاً من فطرة الحذر والتحرز من مصادر الشر ومحاولة الدفاع عن النفس . وهو احتمال ذكره العلامة المجلسي في تفسير خوف موسى (ع) . قال: ""وقيل : كان خوفه ابتداءً على مقتضى الجبلّة البشرية"" ( ) وقال في موضع آخر : "" وقيل إنه خوف الطباع إذا رأى الإنسان فظيعاً فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة "" ( ) .

    وقال الشيخ الطوسي : "" لم يشك موسى في (أن) انقلاب العصا حية أنه دالّ على نبوته ، وأنه معجز له ولم يترقب بذلك ، و إنما خاف بالبشرية من الثعبان لأن البشر بطبعهم ينفرون عن هذا الجنس ، وان علموا أنه يصل إليهم منه خير إلى أن رجعت نفسه إليه وثبت "" ( ) .

    بل في بعض الروايات ما يؤكد وقوع الخوف كما في المروي عن الصادق (ع) ، سأله إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : " سألت أبا عبد الله (ع) عن موسى بن عمران (ع) لما رأى حبالهم كيف أوجس في نفسه خيفة ولم يوجسها إبراهيم (ع) حين وضع في المنجنيق وقذف به في النار ؟ فقال (ع) : إنَّ إبراهيم (ع) حين وضع في المنجنيق كان مستنداً إلى ما في صلبه من أنوار حجج الله عز وجل ، ولم يكن موسى (ع) كذلك فلهذا أوجس في نفسه خيفة، ولم يوجسها إبراهيم ( ع )( ) .

    على انَّ إبراهيم ( ع ) نفسه أوجس خيفة من الملائكة كما قصَّ علينا القرآن الكريم : ((فلما رآى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ، قالوا لا تخف إنا ارسلنا إلى قوم لوط))، فإذا صحت التفاسير والاحتمالات مما ذكروه في توجيه خوف موسى (ع) على الرسالة وتفرق الناس قبل اتضاح حقيقة السحرة لهم أو اشتباه الأمر عليهم والتسوية بينه وبين السحرة فما هو تفسير خوف إبراهيم (ع) وليس ثمة ما يخافه على الرسالة من الناس كما هو ظاهر القرآن ؟
    ولا يبقى إلا احتمال أن يكون الخوف حالة طبيعية تنسجم مع الطبيعة الإنسانية والجبلة البشرية ولا تنافي العصمة ولا النبوة كما يتوهم، وهذا ما عناه السيد فضل الله بأنَّ النبوة تلتقي مع الضعف البشري كما سيأتي توضيحه .

    أما لماذا لا يعدَّ الخوف منافياً للعصمة ولمقام النبوة ، فذلك لأن الخوف هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر وهو غير الخشية التي هي تأثر القلب واضطرابه ، فان الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف ، والأنبياء عليهم السلام يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى : ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ))/(الأحزاب: 39) ( ) .

    وبعبارة أخرى : فنسبة إستشعار الخوف إلى إبراهيم (ع) لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية والرذائل الخلقية ، فانَّ مطلق الخوف ، وهو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه والمبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل ، وانما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس وظهور العي والفزع والذهول عن التدبير لدفع المكروه وهو المسمى بالجبن ، كما أنَّ عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقاً وهو المسمى تهوراً ليس من الفضيلة في شيء، وذلك أنَّ الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس ، ومنها التأثر والانفعال عن مشاهدة المكروه والشر كالشوق والميل والحب وغير ذلك عن مشاهدة المحبوب والخير عبثاً باطلاً ، فان جلب الخير والنفع ودفع الشر والضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها ، وعليه يدور رحى الوجود في نظامه العام … والذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور ، وليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه وهو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع ، وانما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي والتدبير ويستتبع العيّ والانهزام . ( )

    وعليه يتضح وجه ما ذكره السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) إذ يقول : "" إنَّ من الواضح انه عليه السلام لم يخف على نفسه فانه كان يعلم أنها حبال وليست حيات حقيقية ، كما أنها احتيالات وتخييلات لا واقع لها " يخيل إليه من سحرهم إنها تسعى "" وإنما خاف عليه السلام على الناس أن يتأثروا بسحرهم ، وان يتسبب ذلك بضلالهم عن الحق ، وابتعادهم عن سبيل الرشاد والهدى . ولذلك نجد الآيات القرآنية تشير إلى أنَّ الله تعالى قد طمأن موسى (ع) إلى حقيقة إنَّ الله سيبطل سحرهم وكيدهم ، ويكون موسى عليه السلام هو الغالب، حيث قال الله تعالى: ((لا تخف إنك أنت الأعلى))، إذن فموسى (ع) قد خشي من أن تكون الغلبة لهم وأن يكون لهم العلو الذي سينشأ عنه غواية الناس عن طريق الحق والهدى . وبذلك يتضح أيضاً أن خوف موسى عليه السلام لم يكن ناشئاً عن ضعف طاقته البشرية ، بل كان خائفاً على الناس كما قلنا ."" ( ) لأن ما ذكره من أنه واضح ليس واضحاً، بل ما ذكره خلاف ظاهر القرآن كما أشار إليه السيد الطباطبائي فراجع ما ذكرناه .

    وأما ما نسبه السيد جعفر مرتضى إلى السيد فضل الله، من القول بأن خوف موسى (ع) ناشئ عن ضعف طاقته البشرية فردَّ عليه بقوله : "" وبذلك يتضح أيضاً أن خوف موسى عليه السلام لم يكن ناشئاً عن ضعف طاقته البشرية "" فهو ليس صحيحاً، لأن ما ذكره السيد فضل الله هو أن النبوة تلتقي مع الضعف البشري، أي مع الطبيعة البشرية ولم يقل إن طاقة النبي – وبالتحديد موسى (ع) – ضعيفة فثمة فرق بين التعبيرين، لأن الأول يعني أن الأنبياء بشر ويجوز عليهم ما يجوز على البشر ما لم يضر بالعصمة ، والخوف لا يضر بالعصمة – كما بينه السيد الطباطبائي ونقلناه عنه مفصلاً ، والتعبير الثاني الذي نسبه السيد جعفر مرتضى إلى السيد فضل الله من ان طاقة موسى ضعيفة فيعني ان طاقتة البشرية ضعيفة وبالتالي يشكّل ذلك نقصاً في أداء الرسالة ولا يخفى الفرق فتأمل !
    على ان الاحتمال الذي يذكره من أن خوفه (ع) خوف على الرسالة غير مبرر ، لأنَّ الله تعالى أخبره كما يقول – هو نفسه – وطمأنه بأنه سيبطل سحرهم وكيدهم ويكون هو الغالب ، فلماذا خاف على الناس من الانحراف وقد طمأنه الله تعالى؟!
    ونظير الخوف و وقوعه في نفوس الأنبياء حصول الشهوة لديهم و ميلهم إليها انسجاماً مع الطبيعة الإنسانية و الجبلّة البشرية . و لذلك وقع البحث بين الأعلام في تفسير (هم يوسف) (ع) فيما قصه الله تعالى علينا في الكتاب الكريم ، بعد اتفاقهم على تنزيه يوسف (ع) من المعصية و القصد إليها و العزم عليها ، فجوَّز الأعلام أن يكون (همَّ) يوسف ما وجد في نفسه ، من الشهوة – كما عن الطبرسي – و غيره( ).
    و انطلاقاً من النظرة العامة لمركز الأنبياء و موقعهم في الفكر الإسلامي اختلف العلماء في وقوع السهو من الأنبياء ، ففي وقت نفاه الأكثر فإن ثمة من الأعلام من جوزَّه على الأنبياء ، بل عن الشيخ الصدوق و شيخه محمد بن الحسن بن الوليد – أحد أبرز مشايخ مدرسة قم يومذاك – أن نفي السهو عن الأنبياء أول درجة في الغلو. ( )

    و قد نقل الشيخ المجلسي : عدم انعقاد الإجماع من الشيعة على نفي مطلق السهو عن الأنبياء ( ) .
    ومما اختلفوا فيه – أيضاً - التفويض إلى الأنبياء و الأئمة (ع) سواء من الناحية التكوينية – كما سيأتي بيانه – أم من الناحية التشريعية ، إذ في الوقت الذي أثبت فيه بعض الأعلام التفويض التشريعي إلى النبي (ص) على نحو يكون المشرع هو النبي (ص) في جميع الأحكام والأئمة كذلك وليس الوحي إلا واسطة في إلهام المصالح و المفاسد إلى نفوس الأنبياء و الأئمة (ع) فإن ثمة من الأعلام – وهم الأكثر – من يرى أن المشرع للأحكام هو الله تعـــــــــالى فحسب، ووظيفة النبي (ص) هي التبليغ فقط( )
    وتفريعاً على هذه النظرة فإنهم اختلفوا – كذلك -في مصدر علم الأئمة (ع) ففي الوقت الذي كتب فيه الشيخ الصدوق : "" إنَّ الإمام إنما يخبر بما يكون في غدِ بعهد واصل إليه من الرسول الله (ص)، و ذلك مما نزل به عليه جبريل من أخبار الحوادث الكائنة إلى يوم القيامة " فقد لاحظ عليه المجلسي : "" إنَّ الأخبار المتواترة الدالة على كون الإمام محدثاً و إنه مؤيد بروح القدس و أنّ الملائكة و الروح تتنزل عليه في ليلة القدر و غيرها تغني عن هذا التكلف و إن كان له وجه صحة "" ( )
    وربما يتأكد اتجاه أعلام مدرسة قم والشيخ المفيد ومن على طريقته، بما دل من الآيات على الطابع البشري و إنهم بشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وإنهم لا يملكون القدرة الإلهية، و لا يتمتعون بقدرات ذاتية خارقة للعادة بمحض إرادتهم. لكن مع إمداد إلهي وعون و تسديد رباني، و هو المعبر عنه بالعصمة و اللطف و التسديد. قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ))/(إبراهيم:11) .وقال تعالى : ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ))/(المائدة:75)، وقال تعالى : ((وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا*أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا))/(الإسراء:90 – 93)

    و قد سأل رجل الإمام الرضا (ع) قال : ((بأبي أنت و أمي يابن رسول الله فإن معي من ينتحل موالاتكم و يزعم أنَّ هذه كلها صفات علي (ع) . وأنه هو الله رب العالمين.قال ( الراوي ) : فلما سمعها الرضا (ع) ارتعدت فرائصه وتصبب عرقاً ، وقال سبحان الله سبحان الله عما يقول الظالمون والكافرون علوا كبيرا ، أو ليس كان علي ( ع ) آكلا في الآكلين ، وشارباً في الشاربين ، وناكحاً في الناكحين ، ومحدثا في المحدثين ؟ وكان مع ذلك مصلياً خاضعا بين يدي الله ذليلاً وإليه أواهاً منيبا ، أفمن كان هذا صفته يكون إلهاً ؟ فإن كان هذا إلهاً فليس منكم أحد إلا و هو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كل موصوف بها . فقال الرجل :يابن رسول الله إنهم يزعمون أن علياً لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله دل على إنه إله ، و لما ظهر لهم بصفات المحدثين العاجزين لبّس ذلك عليهم و امتحنهم ليعرفوه وليكون إيمانهم به اختياراً من أنفسهم . فقال الرضا (ع) : أول ما ههنا أنهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال : لما ظهر منه الفقر و الفاقة دل على أنَّ من هذه صفاته و شاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله ، فعلم بهذا أنَّ الذي ظهر منه من المعجزات إنما كانت فعل القادر الذي لا يشبه المخلوقين ، لا فعل المحدث المحتاج المشارك للضعفاء في صفات الضعف..))
    [/align]





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي البشرية في شخصية الرسول

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]البشرية في شخصية الرسول [/mark]

    كتب الشيخ المفيد في كتابه (أوائل المقالات) : "" أنّ رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه و الأئمة من خلفائه (ع) محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام و تحدث لهم اللذات و تنمى أجسادهم بالأغذية ، وتنقص على مرور الزمان ، و يحل بهم الموت و يجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد، و قد خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض و طبقات الغلاة .. "" ( )
    وما ذكره الشيخ المفيد هو عبارة عن صدى لما دل عليه القرآن الكريم و بعض الروايات .

    لكن لم أجد من بحث المسألة هذه بشكل تفصيلي ، على نحو تتضح فيه الصورة المشرقة للأنبياء (ع) من غير مبالغة و إفراط من جهة أو انتقاص وتفريط في جهة أخرى .

    و ربما يكون أحد الباحثين الذين بحثوا هذه المسألة الشيخ محمد مهدي الآصفي في ما كتبه عن حديث القرآن الكريم عن شخصية الإنسان البشر، وشخصية الرسول في الأنبياء ، ومحاولة القراءة المتوازنة لهاتين الشخصيتين . قال: "". يعـرض القرآن هاتين الشخصيتين لأنبياء الله (ع): شخصية الإنسان البشـر، وشخصية الرســــول. أ- شخصية الإنسان البشر. (الأنا) في طبيعتها البشرية، وفي ضعف الإنسان وجزعه وحبه للراحة والعافية – في غير معصية ولا ذنب طبعاً – لا تملك من أمرها شيئاً . ولا حول ولا قوة ولا سلطان، إلاَّ بما آتاه الله. ب – شخصية الرسول ، النبي التي تتجرد عن (الأنا) ومتعلقاته بصورة كاملة ، وتتجسد في الارتباط الكامل بالله تعالى، وتتحرر من كل سلطان للأنا والهوى ، وترتبط بمحور الوحي ارتباطا كاملاً .. "" ( ) .

    وفي محاولة للقراءة المتوازنة والمتأنية لما ورد في القرآن الكريم بصدد الحديث عن الأنبياء (ع) كتب السيد فضل الله في هذه المسألة انطلاقاً من رؤية القرآن نفسه. لكن مع ذلك لم تكن دراسته لهذه المسألة تفصيلية ، نظراً للبحث المنهجي الذي يفترض عدم الاستغراق فيها في بحث خُصص – أساساً – لتفسير القرآن الكريم على نحو تفصيلي .لكن ربما يكون السيد فضل اللّه الأكثر حظاً من بين المراجع والباحثين والمفكرين في معالجة هذه المسألة وإثارتها بطريقة علمية.

    هذا مع أنَّ المسألة لم تكن – ولا تزال – متبلورة ولا زالت الأقلام تحجم عنها لأسباب وعوامل عديدة .
    [/align]





  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي نظرية السيد فضل الله

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]نظرية السيد فضل الله [/mark]

    تحدث السيد فضل الله عن الشخصية النبوية في اتجاهين :

    أحدهما الشخصية النبوية الرسالية، وثانيهما الشخصية البشرية، وذلك تبعاً لما عليه الرؤية القرآنية في معالجتها لهذه (المقولة) الفكرية .

    ففي الاتجاه الأول أكَّد السيد فضل الله تأكيداً للرؤية القرآنية ، وتحديداً في تفسير قوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) ، انَّ "" الاصطفاء يعني الاختيار الذي يوحي بالتفضيل ، انطلاقاً من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم .."" ( ) و "" كان الاصطفاء لحمل هذه الرسالة من أجل أن يكونوا رسـلاً ودعاة وهداة للعالمين … ولا بد في سبيل ذلك من أن يكونوا في تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم نماذج متفوقة في هذا المجال ليكونوا القدوة المثلى في القول والعمل ويستطيعوا أن يعطوا الناس من روحيتهم الفياّضة بالإيمان المنطلقة في خط المسؤولية روحاً جديدة عالية ترفع من مستواهم الفكري والروحي والعملي""( ).

    ولما كانت مهمة الأنبياء هي تغيير العالم وتغيير الإنسان، يقول السيد فضل الله : "" .. ومن هنا نستطيع أن نقرر أنَّ الرسول لا بد أن يكون شخصاً غير عادي في ملكاته الروحية ليستطيع القيام بهذه المهمة الكبيرة … ولن يعرف ذلك إلاَّ خالق الإنسان ، فيما أودعه في داخله من قدرات روحية وفكرية … انه البشر النموذج والرسول الإنسان بكل ما يوحي به مدلول الرسالة في عمق مدلول الإنسان .. "" ( )
    ويتأكد هذا المعنى عندما يقول السيد فضل الله : "" .. فإنَّ قضية النبوة ليست قضية إنسان عادي ، فلقد أرسله الله تعالى لكي يحكم بالحق ، فإذا كان الحق هو أساس رسالته ، وإذا كان تغيير الإنسان من الداخل أساس دعوته ، فكيف يمكن لإنسان أن يعيش الباطل في عقله ويعيش المعصية في جسده وهو الذي بدوره يغير عقل الإنسان من الباطل إلى الحق وسلوك الإنسان من المعصية إلى الطاعة "" لأن فاقد الشيء لا يعطيه "" لذلك نقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى يصوغ أنبياءه صياغة ينفتحون بها على كل الحق فلا يأتي الباطل إليهم قيد أنملة ، ويصوغهم على أساس أنهم يعرفونه معرفة لا يمكن أن يغفلوا معها في سلوكهم البتة .. "" ( ) .

    ويمكن أن نحدِّد العناصر الأساسية التي يشير إليها السيد فضل اللّه وفقاً للاتجاه الأول المشار إليه :

    1 – الشخصية النبوية شخصية غير عادية في ملكاتها الروحية والفكرية ….

    2 – بل هي شخصية لا يمكن أن تلتقي مع الباطل مطلقاً وعليه فلا يلتقي النبي مع الباطل لا في فكره ولا في جسده ، وهذا يعني ""عصمته"" .

    3 – وشخصية متميزة من هذا القبيل هي القدوة والنموذج والأسوة في القول والعمل …

    وفي الاتجاه الآخر تظهر بشرية النبي (ع) وبما لا يضر بعصمته ودوره لتغيير العالم والبشرية .

    وتبعاً للرؤية القرآنية تحدث السيد فضل الله في عدة مواضع من تفسيره (من وحي القرآن) مشيراً إلى هذه الفكرة لافتاً أنظار علماء الكلام إلى دراستها والتأمل فيها وفقاً للرؤية القرآنية أولاً ، ثم دراستها وفقاً لما ورد في الروايات .

    ويمكن أن نقتطع عدة مقاطع من تفسير (من وحي القرآن) مما ورد فيه الإشارة إلى هذه الفكرة ، ثم توضيح العناصر الأساسية التي ترتكز عليها .

    يقول السيد فضل الله :

    • "" .. إن النبوة لا تتنافى مع الضعف البشري الذي قد يعيشه النبي ويعترف به ، فيطلب إلى الله أن يقويه بإنسان آخر في أداء مهمته لا بواسطة تنمية قدراته الذاتية .. مما يوحي بأنَّ الجانب الغيبي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي على حساب بشريته العادية ، بل يترك المسألة للطبيعة البشرية لتتكامل بطريقة عادية .. "" ( ) .

    • وتعليقاً على قوله تعالى ((هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)) يقول السيد فضل الله : "" .. انه التساؤل المتخلف الذي يطرح مسألة البشرية كعنصر مضاد لفكرة النبوة .. في إيحاء يفرض النبوة غيباً لا يليق إلاَّ بالمخلوقات الغيبية المتميزة عن الناس بأشكالها الخاصة وطاقاتها المتميزة .."" ( )

    • وتعليقاً على قوله تعالى : ((وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ)) يقول السيد فضل الله: "".. فقد كانوا يمارسون كل خصوصيات البشر في وجودهم الجسدي المادي الذي يحتاج إلى الطعام والشراب ، فيفنى عندما يصل إلى نهايته الطبيعية كما يفنى أي جسد آخر ، من دون أية خصوصية تربطه بالخلود . "" ( ) .

    • وتعليقاً على قوله تعالى : ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ))، يقول السيد فضل الله شارحاً قول النبي كما ورد في الآية: "" .. فليست لي شخصية ذاتية تختلف عن شخصيتكم ، وليس لي أي سر في قدرتي الجسدية تختلف عن قدرتكم .. فإني أجوع وأشبع، وأمرض وأشفى ، وأحزن و أفرح ، وأعيش كل نقاط الضعف الذاتي في جسمي كما تعيشون .. وأحيا كما تحيون ، وأموت كما تموتون .. ولكن الفرق بيني وبينكم أني رسول الله إليكم فأنا أتلقى الوحي من الله في وعيٍ كامل لحقيقته ، وفي استجابةٍ روحية لروحيته وفي حركة منفتحة على كل مواقعه ومواقفه ثم أبلغكم إيـــــاه من موقع الوعي والإيمان والمعـــــاناة . "" ( ) .

    ويقول : "" .. وتبقى الرسالة في شخصية الرسول لتؤكد على مبدأ البشرية فيه ، فان اتصاله بالله ، وصلته بالسماء لا يعطيه أية خصوصية من خصوصيات الألوهية ، ليكون في ذاته سر الألوهية بل يبقى في موقع الإنسان الذي يتلقى الوحي فيما يملكه من روحية الرسالة في ذاته ، ومن آفاقها الفكرية في عقله ، ومن أخلاقيتها السامية الرفيعة في أخلاقه .. وتلك هي خصوصية الرسالة .. فهي لا تعبر عن أسرار عميقة غامضة في شخصية الرسول ، بل تعبر عن التناسب بين شخصيته وشخصية الرسالة ليكون التجسيد الحي لكل مضمونها الفكري والعملي والروحي ، ولتكون هي التعبير الحي عن كل صفاته وآفاقه وتطلعاته . . لتكون هي هذه الوحدة بين الرسالة والرسول .. "" ( ) .

    • وتعليقاً على قوله تعالى : ((قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى))، يقول السيد فضل الله : "" ونلاحظ في هذه الآية الإشارة إلى ما يعيشه النبي من نقاط الضعف البشري التي تتحرك في شخصيته بشكل طبيعي، حتى في مقام حمل الرسالة .. فيتدخل اللطف الإلهي من أجل أن يمنحه القوة الروحية التي تفتح قلبه بعمق ، على التأييد الإلهي في أوقات الشدة الأمر الذي يعطي الفكرة بأن النبي يتكامل في وعيه وقوته وحركته في الرسالة .. "" ( ) .

    ونلفت الانتباه إلى انَّ وجود الضعف البشري في شخصية النبي حتى في مقام حمل الرسالة الوارد في الفقرة هذه في كلام السيد فضل الله لا يعني انه الضعف البشـري المنافي للعصــــــمة والنبوة ، وذلك على الأقل – وبغض النظر عن الموارد الأخرى – لجهة السياق وان السيد فضل الله في مقام تفسير هذه الآية الكريمة التي أثبتت الخوف ووقوعه في نفوس الأنبياء وقد بينا – سابقاً – ان الخوف مما لا يتنافى مع النبوة بوجه من الوجوه .

    ويظهر مما تقدم – بتعبير السيد فضل الله - : "" انَّ القرآن دال على أنَّ الله لم يمنحهم ذلك – القدرات غير العادية – بل كانوا يتحركون كما يتحرك البشر بقدرة عادية فهم يعيشون تحت تأثير الضعف البشري في الخوف والحزن والألم والمرض والجوع والعطش وما إلى ذلك كما يعيشون تحت عناصر القوة إلا في بعض الحالات المتصلة بدورهم الرسالــــــــي في حاجتهم إلى المعجزة والآية الربانية ونحــــــو ذلك .. "" ( ) .

    وما تقدم يكفي لإلقاء الضوء على المراد من قول السيد فضل الله: ""إن الأسلوب القرآني لا يريد أن يعمق في ذهننا الإسلامي الفكرة التي تتحدث عن شخصية الأنبياء بالمستوى الذي يوحي بأن هناك أسراراً فوق العادة تكمن في داخل شخصيتهم ، فيما هي الخصائص الذاتية للشخصية .. فهناك أكثر من نقطة ضعف خاضعة للتكوين الإنساني في طبيعة الروح و الجسد .. و يمكن أن تتحرك لتضع أكثر من وضع سلبي على مستوى التصور و الممارسة( ) .

    ويمكن تحديد عناصر الوجه الثاني في شخصية النبي - أعنى البشرية وما يتصل بها من شؤون - بالتالي :

    1. أن النبي بشر و ليس من جنس الملائكة أو من المخلوقات الغيبية الغريبة عن الناس في جنسهم و طبيعتهم و إشكالهم و طاقاتهم .

    2. و لما كانوا من البشر فكان لابد أن تلحقهم الشؤون البشرية من ألم وحزن و فرح و ضيق و خوف و جوع ومرض و موت وفناء ..

    3. أنَّ النبي لا يتصف بأي صفة من صفات وخصوصيات الإله ، ولم يحل فيه جزء من الإلهة كما كانوا يتصورون .

    4. أن قدرته قدرات بشرية، وإذا كانت السماء في مقام تأييده ودعمه وتسديده فإن ذلك لا يتم وفقاً لآليات غريبة عن آليات البشر إلاَّ في حدود المعجزة والكرامة ، ولذلك كان الأنبياء يجهدون في الوصول إلى أهدافهم بوسائل بشرية و كانوا يتحملون من ذلك ما يتحملون ..
    و لذلك لخصٍ السيد فضل الله الرؤية القرآنية في هذه المسألة بالذات في نقطتين :

    الأولى: أن النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في الإنسان في أكثر من موقع، ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن المواقع الطبيعية لديه.

    الثانية: أن القرآن لا يريد أن يعطي النبي هالة مقدسة غائمة في مجال التصور، بل يريد أن يدفع بالتصور إلى أن يتحرك بشكل طبيعي في فهم الشخصية من خلال البعد الظاهري الذي يكشف عن العمق الداخلي من خلال الوسائل العادية التي يملكها الناس في معرفة العمق من مظاهر حركة السطح .. بعيداً عن الجانب الخفي الذي لا يملك الناس الوسيلة لمعرفته .. بحيث لو كان ذلك الجانب موجوداً، لما كان هناك تكليف بالاعتقاد به ( ) .

    و يتبين من النقطة الأولى أن الكمال الذي يفترض أن يتوفر عليه النبي لا يستوجب الابتعاد عن المواقع الطبيعية للإنسان من حيث هو إنسان، و لذلك لم يستوجب الكمال لدى النبي من حيث عصمته ألا يجوع وألا يمرض أو يتألم أو يحزن أو يخاف أو يموت …

    أما النقطة الثانية فيتبين منها أن القرآن لم يسبغ على الأنبياء صفة قدسية غائمة على نحو تكون الشخصية النبوية سراً من الأسرار و لغزاً من الألغاز، و لذلك فإن القدسية في شخصية الأنبياء بما هي صفة في العمق مما يمكن أن يدلَّ عليه البعد الظاهري في شخصية الأنبياء، فيكون الظاهر و السطح طريقاً إلى معرفة عمق شخصية الأنبياء بشكل طبيعي .

    ولكن التئام الوجهين و تماشي الطابعين النبوي و البشري هما المكون الأساسي لشخصية النبي ، مما يعني استبعاد أية علامة فارقه تسيء إلى شخصيته ، فيكون الكمال البشري محققاً في ظل التسديد و اللطف الإلهيين .

    يقول السيد فضل الله :

    "" و إننا ندعو إلى دراسة المسألة من جديد ، على مستوى البحث القرآني فيما صوره القرآن للناس من الملامح العامة لشخصية النبي فيما يؤكد حركة بشريته التي لا تبتعد عن الملامح العامة للبشر ، مع الإيحاء بالموقع المميز من الوحي و الانفتاح على آفاق الكمال الإنساني في مواقع القيادة .. ""( ).
    وانطلاقاً من هذه الرؤية القرآنية المتكاملة يستبعد السيد فضل الله كل العناصر البشرية الموحية بالضعف مما يؤثر على عصمة النبي أو دوره الرسالي .

    يقول السيد فضل الله تعليقاً على قوله تعالى : ((وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا*وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا*إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)) "" وفي هذه اللفتة في كلمة (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) لا بد من وقفة تأمل ، فهل التثبيت حالة طارئة بحيث كان النبي محمد (ص) خاضعاً – في قدراته الذاتية - للمؤثرات الضاغطة التي تنفتح على نقاط الضعف البشري ليفتري على الله فينسب إليه ما لم يقله مما يقترب من طروحاتهم ؟ و هل يعقل أن يبعث الله نبيه في رسالته من دون أن يملك في – ذاته – القدرة على الثبات في الإصرار عليها مهما كانت الظروف، لأن التنازل عن بعض الرسالة يعني عدم الجدية في طرحها كتجسيد للحق الذي لا يقترب إليه الباطل ، و لأنه يغري الآخرين بطلب التنازل عن البعض الآخر بحيث تفقد الرسالة شرعيتها لديهم إذا كانت قد فقدت توازنها لدى صاحب الدعوة . لذلك لابد من أن يراد بالتثبيت القوة الروحية التي أودعها الله في شخصيته من ملكة العصمة و مناعة الروح ، وثبات الفكر ، فلم تكن علاجاً طارئاً للمشكلة الجديدة في أساليب الفتنة الموجهة إليه ، بل كانت عنصراً ثابتاً أصيلاً في وجدانه النبوي ، و ربما كان الحديث عن المسألة بصيغة الماضي ما يؤكد ذلك "" ( )
    وبصدد شرحه – أعني السيد فضل الله – للتثبيت الإلهي للنبي (ص) يقول : ""… و هكذا أحاط الله نبيه الذي جاء بالصدق و صدق به بكل لطفه و رعايته وعنايته و تسديده و تثبيته في الملكات القدسية في شخصه و في الوحي المتدرج في التخطيط الدقيق لكلماته و أفعاله و مواقفه ، لتكون له العصمة في ذلك كله في تبليغ الرسالة و في شؤون الحياة "" ( ) .

    و تعليقاً على قصة أدم (ع) و ما استفاده السيد فضل الله – مما ذكرناه سابقاً – من أن : النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في الإنسان في أكثر من موقع ، ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن المواقع الطبيعية لديه، وإن القرآن لا يريد إعطاء النبوة هالة مقدسة غائمة في مجال التصور، كتب السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) : "" و ظاهر العبارة لا يأبى عن القول : إن النبي قد يقع في ما يخالف العصمة ، مما يلتقي في مواقع الضعف البشري و إرادة خلاف ذلك تحتاج إلى بيان . أما حديثه عن (الهالة المقدسة و الغائمة) فإن كان يقصد به : أنَّ القرآن لا يعطي انطباعاً عن الرسول يفيد أن لديه قدرات تفوق قدرات البشر .. فكيف يجيب عن ما يذكره القرآن من إحضار عرش بلقيس من قبل من لم يكن نبياً ، بل كان من أتباع أحد الأنبياء ؟ و ماذا يصنع بإحياء عيسى (ع) للموتى وإبراء الأكمه والأبرص؟ و بقاء يونس (ع) في بطن الحوت ؟ والإسراء و المعراج ؟ و ما إلى ذلك و إن كان يقصد به أن ليس للأنبياء أي تميز في أنفسهم فذلك معناه عدم صحة ما ذكره القرآن من أمر الله للملائكة بالسجود تحية وتكريماً له ، و كذلك ما ورد حكاية عن قول عيسى (ع) (وجعلني مباركاً أينما كنت ) الآية ، وعدم صحة ما ورد من أن النبي (ص) و الأئمة (ع) كانوا أنواراً قبل خلق الخلق ، أو في الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهرة ، أليس هذا الأمر مقبولاً و متواتراً عند الشيعة و عند السنة أيضاً ؟ !! ألا يعطيهم ذلك هالة مقدسة ، و يفرض كمالاً يبتعد عن المواقع الطبيعية لديهم ؟ فهل الاقتراب من تصور مواقع الأنبياء الطبيعية الواقعية يقتضي منا أن نكذب كل ما دلَّ على قداستهم؟! ( ) .

    ولكن ما ذكرناه من بيان لنظرية السيد فضل الله يكفي لإلقاء الضوء على المراد من الضعف البشري في حياة الأنبياء، ومع ذلك يمكن لنا أن نسجل على ما يذكره هذا البعض عدة ملاحظات :

    1. أن ما يذكره من أن ظاهر العبارة لا يأبى عن القول أن النبي قد يقع في ما يخالف العصمة، مما يلتقي في مواقع الضعف البشري ، وإرادة خلاف ذلك يحتاج إلى بيانً ليس صحيحاً وليس ظاهراً، بل أنَّ العبارة ظاهرة في ان النبوة تلتقي بالبشرية، ولا تستوجب الكمال الذي يبتعد عن الطابع البشري والجبلَّة الإنسانية.

    ولا ندري من أي فقرة استفاد هذا السيد جعفر مرتضى أن (الضعف البشري) مما يمكن ان يوقع النبي في ما يخالف العصمة ؟ خاصة وان المورد الذي وردت فيه هذه الفقرة هو قصة آدم (ع)، وقد صرَّح السيد فضل الله: ان ما صدر عن آدم ليس من المخالفة للأمر المولوي بل هو من مخالفة الأمر الإرشادي .
    أما قوله : "" وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى بيان "" فإن ذلك يشي بعدم الاطلاع أو تعمده ذلك، لأن السيد فضل الله تعرَّض إلى مسألة (الضعف البشري) في حياة الأنبياء في أكثر من موضع – مما أشرنا إليه وغيره مما لم نشر إليه – وقد تبين من مجموع كلامه أن (الضعف البشري) مما لا يضر بالعصمة ولا يمس قدسية الأنبياء بوجه من الوجوه .

    ولا ندري كيف يفسِّر السيد جعفر مرتضى الفقرة المشار إليها بما فسَّره من مخالفة ذلك للعصمة ؟ في وقت كان يمكنه فيه أن يفسِّر الضعف البشري بما ذكره السيد فضل الله وغيره من الإعلام من المظاهــــــر الإنسانية الطبيعية من خـــوف وألم وجوع ومرض وموت وفناء …

    2 – ويلاحظ على السيد جعفر مرتضى أنه يخلط بين أمرين : أحدهما : الهالة المقدسة ، وثانيهما : الهالة المقدسة الغائمة أي بقيد أنها غائمة وغير واضحة .

    والذي قال به السيد فضل الله هو : ان القرآن ينفي الهالة القدسية الغائمة، أي التصورات التي يمكن ان ينتجها المخيال الشعبي كما يتصور ان الأنبياء لا يأكلون ولا يخافون ولا يموتون أو أنهم من جنس الملائكة أو أنهم جزء من الذات الإلهية ، ولم ينف السيد الهالة القدسية للأنبياء.
    وقد نقلنا عن السيد فضل الله في بعض كلماته انه يشير إلى الملكات القدسية في شخص النبي فضلاً عن الوحي الذي يسدّده ويؤيده …

    ولذلك لم ينف السيد فضل الله الهالة القدسية بل الهالة القدسية الغائمة التي أشرنا إليها ، ولذلك لا يصح قــــول السيد جعفر مرتضى: "".. فهل هذا الاقتراب من تصور مواقع الأنبياء الطبيعية الواقعية يقتضي منا أن نكذَّب كلَّ ما دلَّ على قداستهم ؟ "".

    أما قوله : "" ان المقصود من (الهالة المقدسة الغائمة) أما ان يكون نفي القدرات النبوية التي تفوق قدرات البشر فكيف يفسِّر السيد فضل الله ما صدر من معجزات ، وأمـا ان يكون نفياً لتميَّز الأنبياء في أنفسهم ، فكيف يجيب السيد فضل الله على ما ورد من الروايات المتواترة من خلق أنوار النبي والأئمة ( ع ) قبل خلق الخلق … "" فهو من الاستنتاج الكيفي والتفسير المتعسف ، وهو مبني على ما تقدم من قراءة للفقرة المشار إليها، لأن السيد فضل الله لم ينف الطابع القدسي للأنبياء، بل نفى الهالة القدسية الغائمة، وما دلَّ عليه الدليل من عصمة وتكريم وإعجاز وشرف و .. فهو ليس من الهالة القدسية الغائمة .

    أما قوله كيف يفسِّر السيد فضل الله ما صدر عن الأنبياء من معجزات كما هو في معجز عيسى (ع) وبقاء يونس في بطن الحوت و .. فهو غير دقيق لأن السيد فضل الله لم ينف المعجز، بل في بعض الكلمات التي نقلناها سابقاً ما يكفي لإيضاح المقصود .

    أما قوله كيف يفسِّر السيد فضل الله ما يدل على تميِّز الأنبياء في أنفسهم فهو غير دقيق أيضاً – لأن السيد فضل الله – كما نقلنا عنه – قد أوضح بما لا مزيد عليه ان النبي ليس شخصاً عادياً بل انه شخص مزوَّد بالملكات والصفات الذاتية التي زوده الله بها مما يكفي للتفضيل ويجعلهم نماذج متفوقة للبشرية ..
    وعلاوة على ما تقدم، فإننا لا ندري ما هو وجه استدلاله بروايات خلق النبي والأئمة (ع) أنواراً قبل خلق الخلق، لأنه لم يبين لنا ما هو وجه استدلاله بهذا التميِّز ، وكيف يتميزون ؟ فهل يعني أنهم من جنس آخر غير جنس البشر وكيف يكون ذلك ؟ أو يعني أنهم من البشر وعليه فما هو تميزهم إذن ؟ هل يعني أنهم يتميزون بالعصمة والقدرات الروحية والفكرية و … فإذا كان كذلك فهو لم يختلف مع السيد فضل الله.
    على أننا لا ندري ماذا يريد بقوله إنهم (ع) كانوا أنواراً قبل خلق الخلق ، فهل يعني أنهم كانوا مخلوقين قبل ذلك ، أم أنهم كانوا مجرد صور لما يكونون عليه في المستقبل، أو أنَّ الله تعالى كتب أسماءهم على العرش … ولكن هل يدل هذا على تميزهم في أنفسهم وفي ذواتهم عن البشر؟!

    يقول الشيخ المفيد : "" .. وان قيل : إن أشباح آل محمد عليهم السلام سبق وجودها وجود آدم فالمراد بذلك أن أمثلتهم في الصور كانت في العرش فرآها آدم وسأل عنها فأخبره الله أنها أمثال صور من ذريته شرفهم بذلك وعظمهم به ، فأما أن يكون ذواتهم عليهم السلام قبل آدم موجودة فذلك باطل بعيد عن الحق لا يعتقده محصَّل ولا يدين به عالم، وإنما قال به طوائف من الغلاة الجهال والحشوية من الشيعة الذين لا بصر لهم بمعاني الأشياء ولا حقيقة الكلام . وقد قيل : إنَّ الله تعالى قد كتب أسماءهم على العرش فرآها آدم عليه السلام وعرفهم بذلك وعلم أن شأنهم به عند الله العظيم عظيم .

    وأما القول بأن ذواتهم كانت موجودة قبل آدم عليه السلام فالقول في بطلانه ما قدمناه " .
    [/align]





  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي نسيان الأنبياء

    [align=justify][mark=CCCCCC]نسيان الأنبياء [/mark]

    لا إشكال في عدم طرو النسيان على الأنبياء في ما يتصل بالتبليغ ، بل وبما يوجب التنفير أيضاً . إنما الكلام في طرو النسيان بما يتصل بحياتهم العادية كما في مأكلهم ومشربهم وغير ذلك مما لا يتصل بالرسالة ، ولا يوجب التنفير ، والبحث جار في الإمام كما في النبي .

    قال السيد المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء) في تفسير الآيات التي وردت فيها كلمة (النسيان) من قبيل قوله تعالى : ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)) قال : "".. وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيه ، وإذا حملناه على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه: أن النبي (ص) إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه أو في شرعه، أو في أمر يقتضي التنفير عنه، فأما فيما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان. ألاَّ ترى أنه إذا نسي أو سها في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتصل فينسب إلى أنه مغفل ، إن ذلك غير ممتنع "" ( ) .

    وعقَّب عليه العلامة المجلسي : "" ويظهر منه عدم انعقاد الإجماع من الشيعة على نفي مطلق السهو عن الأنبياء .. "" ( ) .

    وعليه فالمتحصل من كلام السيد المرتضى والعلامة المجلسي أنَّ النسيان ممتنع في :

    1 – أداء النبي للشرع والأحكام وغيره مما هو من الرسالة .
    2 – فيما هو موجب للتنفير من النبي والمعصوم .
    3 – أنَّ الشيعة يختلفون في نفي مطلق السهو عن المعصوم .

    وكتب السيد فضل الله تعليقاً على قوله تعالى في قصة موسى (ع): ((فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) قال : "" وربما يكون نسيان موسى مذكوراً للتغليب باعتبار أن أمر الحوت متعلق بهما .. من دون أن تكون هناك حالة نسيان له من قبله ، لأن المسألة متصلة بغلامه الذي كان موكلاً بحمل الحوت وحفظه مما يجعل قضية الذكر والنسيان قضيته الخاصة ، لأن قضية موسى الذي لم يكن في وارد التوجه إلى هذه المسألة ليفرض تذكره أو نسيانه لها ""( )
    وتحت عنوان (هل ينسى النبي) كتب السيد فضل الله : "" وإذا أردنا أن نتجاوز هذه الملاحظة - السابقة – فإننا لا نجد أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة ، لأن ذلك لا يسيء إلى نبوته من قريب أو من بعيد ، ولكن ربما نلاحظ – في هذا المجال – ان النبي إذا كان لا ينسى أمر التبليغ – كما هو المتفق عليه بين المسلمين – فلا بد أن يكون ذلك من خلال ملكة ذاتية تمنعه من النسيان بحيث تجعل وجدانه واعياً للأشياء ، فلا تغيب عنه عندما ينفصل عنه .. مما يجعل المسألة ةغير قابلة للتجزئة ، كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية .. ""( ). بالملكات النفسية .. " (
    وفي شقٍ من جوابه يؤكد السيد فضل الله ما نقلناه عن السيد المرتضى من جواز وقوع النسيان في حياة الأنبياء ، مما لا يتصل بالرسالة ولا يوجب التنفير.

    لكن في شق آخر من جوابه يؤكد السيد فضل الله وجهة نظر أخرى تمنع من وقوع النسيان وان كان في القضايا الحياتية الصغيرة ، وذلك بناء على الملكة الذاتية التي يتوفر عليها النبي .. غير أنه سجَّل ما يمكن أن يسجِّله البعض من اقتصار التدبير الإلهي للحفظ على دائرة التبليغ مما يعني توفر النبي على وعي غير عادي في هذه الدائرة لا يتوفر عليه في غير هذه الدائرة كما هو الحال في الأمور العادية للحياة .( ) .

    وقد سجل السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) على ما كتبه السيد فضل الله قائلاً : "" .. فهو إذن لا يجد أي دليل عقلي أو نقلي يمنع من نسيان هذه الأمور الحياتية الصغيرة ، وحين تحدث عن أن عدم النسيان في التبليغ يدل على وجود ملكة النسيان من كل شيء . سجَّل إشكالا نسبه إلى بعض مفاده : إن عدم النسيان في التبليغ لا يكشف عن وجود ملكة ، بل قد يكون نتيجة تدبير إلهي ، ثم لم يتحفظ على هذا الإشكال ولا أجاب عليه . ونتيجة لذلك فإنَّ قوله "" .. لا نجد هناك أي دليل عقلي أو نقلي يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الخ .. "" ويبقى محتفظاً بقوته وبدرجة اعتباره ""( )
    وخلاصة ما سجَّله السيد جعفر مرتضى على السيد فضل الله انه لا يرى هناك دليلاً عقلياً أو نقلياً يفرض امتناع نسيان النبي في مثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة ، وان السيد فضل الله عرض فكرة أن لا يكون عدم النسيان عن ملكة ذاتية بل لعله من التدبير الإلهي ، ولم يردَّ السيد فضل الله هذه الفكرة مما يؤكد تبنيه لهذه الفكرة .

    وقبل كل شيء نلفت انتباه القارئ إلى أنَّ البحث – تحديداً – في نسيان المعصوم في أمور الحياة الصغيرة .

    ويحق لنا أن نسأل السيد جعفر مرتضى في النقطة الأولى : فهل هناك دليل عقلي أو نقلي من وجهة نظره يفرض امتناع النسيان المشار إليه ؟ !
    وإذا كان الجواب ب(لا) فهو يتفق مع السيد فضل الله وإن أجاب ب(نعم) فما هو ذلك الدليل لماذا لا يبينه ؟ ثم إن أجاب ب(نعم) فانه يكون قد ناقض نفسه ، لأنه قال في كتابه (الصحيح من السيرة) في جواب: (أن السهو غير ممكن وينافي كون فعل النبي (ص) وقوله وتقريره حجة) ما نصه : "" ويمكن أن يجاب عن هذا : بأنه إنما ينافي ذلك لو أقُر على سهوه ، وأخذ الناس الحكم الخطأ عنه .. ولكن إذا لم يقره الله عليه بل بينه له بنحوٍ ما فإنه لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً ""( ).

    وعليه فإن هذا البعض يرى في كتابه (الصحيح من السيرة) أن لا دليل عقلياً ولا شرعياً يفرض امتناع السهو في حياة النبي ، والظاهر أنه حتى في الحكم الشرعي، لأن الممتنع هو إبقاؤه على الخطأ كما ذكر، ولذلك يزيد رأيه على رأي السيد فضل الله ، لأن السيد فضل الله يمنع منه في الحكم الشرعي وغيره ، إنما يقول لا دليل عقلاً ونقلاً على عدم النسيان في الأمور الحياتية الصغيرة كما هو رأي أعلام الطائفة كما نقلناه عن الشريف المرتضى .

    نعم ربما يتخلص السيد جعفر مرتضى عن رأيه الوارد في كتابه (الصحيح) ويدعي أنه لغيره كما أشار إلى مصدره (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) لكن يرد عليه الإشكال نفسه الذي أورده على السيد فضل الله، من أنه لم يتحفظ على ما نقله عن البعض، من اقتصار التدبير الإلهي على حفظ ما يتصل بالرسالة فيمنع من النسيان فيه دون أن يشمل ما لا يتصل بهذه الدائرة .

    ومن المعلوم أن السيد جعفر مرتضى في كتابه ( الصحيح .. ) لم يسجل أي تحفظ على ما نقله من (فتح الباري) بل إنه تبنَّاه، كما ظاهر قوله : ""ويمكن أن يجاب .. "" خاصة وانه سجَّل ذلك رداً و جواباً عن الإشكال الذي أشير إليه في كتاب (دلائل الصدق) للمظفر، وهو من أهم كتب الطائفة في هذا المجال .

    وأما بالنسبة إلى الإشكال الثاني فالذي يظهر من السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) أما أنه لا يتأمل في كلام السيد فضل الله، أو انه يتعسف قراءته، وذلك لأن السيد فضل الله هو الذي يتبنى – كما هو ظاهر كلامه بل وفي مواضع عدة من تفسيره وغيره – فكرة أن يكون عدم النسيان ناشئاً عن ملكة ذاتية ، غاية الأمر أنه يحتمل – كما يحتمله البعض – أن يكون عدم النسيان ناشئاً من وضع الهي وتدبير الهي في التبليغ وما يتصل بالرسالة دون غيره من الأمور الحياتية الأخرى .

    وعليه فما يتبناه السيد فضل الله هو الأول، وهو كافٍ لاعتباره رداً لما ذكره على سبيل الاحتمال من قبل هذا البعض وهو يرى : أن لا مانع من وقوع السهو حتى في الأحكام الشرعية، وإنما الممنوع عقلاً وشرعاً، هو إقرار الله النبي على هذا السهو وأخذ الناس الحكم الخطأ عنه ، وقد أشرنا أن السيد جعفر مرتضى لم يتحفظ عليه ولم يردَّه عندما نقله عن كتاب (فتح الباري) .
    [/align]





  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي علم الأنبياء

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]علم الأنبياء [/mark]

    من الثابت – إسلامياً – ضرورة علم الأنبياء – والمعصومين عموماً – برسالتهم و ما يتصل بها، على نحو يكون النبي هو الأعلم و الأفضل في قومه، و إلا بطل أن يكون الهادي و القدوة …
    لكن الكلام في خارج هذه الدائرة ، فهل يجب ، بالضرورة – علم الأنبياء – و الأئمة – بغير ما يتصل برسالتهم على نحو يكون المعصوم هو الأعلم في كل شيء ؟
    أما القرآن فلا يدل على أكثر من كونه الأعلم و الأفضل فيما يتصل برسالته، أما غير ذلك فلا يدل عليه. بل ربما يدل القرآن على عدم مثل هذه الضرورة، فلا يشترط في النبي أن يكون الأعلم في غير شريعته. و قد تكون قصة النبي موسى (ع) مع الخضر دليلاً على ذلك .

    قال الصدوق : "" إنَّ موسى (ع) مع كمال عقله وفضله و محله من الله تعالى ذكره، لم يدرك باستنباطه و استدلاله معنى أفعال الخضر (ع) حتى اشتبه عليه وجه الأمر فيه، وسخط جميع ما كان يشاهده حتى أخبر بتأويله فرضي ، ولو لم يخبر بتأويله لما أدركه و لو بقي في الفكر عمره …""( )
    وكلامه – رحمه الله – ظاهر في أنه لا يعلم كل شيء و ليس بمقدوره علمه كلما أراد و فيه جواب على إشكال البعض .

    وقال الشيخ المفيد في (المسائل العكبرية) جواباً على إشكالية إتباع النبي موسى (ع) الخضر فقال فيما قال : "" … و لو كان موسى عليه السلام اتبع الخضر بعد بعثته لم يكن ذلك أيضاً قادحاً في نبوته ، لأنه لم يتبعه لاستفادته منه علم شريعته ، و إنما اتبعه ليعرف باطن أحكامه التي لا يخلّ فقدُ علمه بها بكماله في علم ديانته . و ليس من شرط الأنبياء عليهم السلام أن يحيطوا بكل علم، و لا أن يقفوا على باطن كل ظاهر. و قد كان نبينا محمد(ص) و آله أفضل النبيين و أعلم المرسلين و لم يكن محيطاً بعلم النجوم و لا متعرضاً لذلك ولا يتأتى منه قول الشعر و لا ينبغي له. و كان أمياً بنص التنزيل و لم يتعاط معرفة الصنائع، و لما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق، وكان يسأل عن الأخبار و يخفى عليه منها ما لم يأت به إليه صادق من الناس، فكيف ينكر أن يتبع موسى عليه السلام الخضر بعد نبوته ليعرف بواطن الأمور مما كان يعلمه مما أورده الله سبحانه بعلمه..""( )
    لكن استدل البعض في كتابه (خلفيات) و كتابه (الصحيح في سيرة النبي الأعظم) على ضرورة، أعلمية المعصوم في كل شيء و علمه بكل شيء بالمروي وببعض الآثار التي دلت على علم النبي بلغات البشر كلها، بل ولغات الحيوان أيضاً ، و وقوفه على أسرار الخلقة و نواميس الطبيعة ، و إن المعصوم يعلم الغيب إذا أراد( )
    .
    ولذلك استشكل( ) على عبارة مقتطعة وردت على لسان السيد فضل الله قال فيها: "" أما وجوب أن يكون النبي أعلم الأمة في كل شيء حتى ما لا علاقة له بمهمته الرسالية ، ولكن الله قد يعلمه من ذلك ما يحتاجه فيه، أو إذا أراد علم، فليس لدينا دليل على هذا "".

    و استشكل – أيضاً - على عبارة أخرى للسيد فضل الله قال فيها: "".. كما أن الكثيرين يعتقدون بأنه – يعني النبي – يعلم الغيب إذا أراد من دون حدود .. ""( ) فكتب: "" و أما استغرابه – يقصد السيد فضل الله – المعبر عن رفضه للقول بأن النبي يعلم الغيب بلا حدود إذا أراد " و يلاحظ أنه أقحم كلمة بلا حدود لغرض لا يخفى و في ص 188 يلاحظ إقحامه كلمة بلا حدود، و لا يخفى على الناقد البصير سبب هذا الإقحام "" فهو عجيب منه و غريب فإنه من يراجع الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) يجد أنهم هم الذين صرّحوا بهذا الأمر ، و أعلنوه و أشاعوه ، فهو مأخوذ منهم وعنهم .. ""( ).

    ولكن اعتراضات السيد جعفر مرتضى في نفسها غريبة، فأما اعتراضه الأول فهو غريب، لأننا لا ندري ما هو مدى مخالفة السيد فضل الله لأصول المذهب في وقت يتفق فيه السيد فصل الله في رأيه هذا مع عدد من أعلام المذهب و أساطين الطائفة كما سنذكره. وما نقله السيد جعفر مرتضى من عبارة السيد فضل الله هو عبارة عن فقرة من جواب على سؤال نشر في كتاب (الندوة) كما أشار إليه هذا البعض نفسه .

    والسؤال كما ورد حرفياً: "" النبي أو الإمام إما أن يكون هو الأعلم أو لا يكون ، فإذا لم يكن الأعلم فهناك من يستحق هذا المنصب غيره لأنه أعلم وأفضل منه ، و إن كان هو الأعلم فبناء على ذلك يجب أن يكون أعلم أمته بل و أعلم السابقين و اللاحقين . و ذلك طبعاً بلطف من الله تعالى ، وهذا يعني أن يكون مستوعباً لآخر العلوم و المكتشفات ، و بالتالي يكون لديه علم الغيب ، فكيف يكون ذلك ؟ ""
    فالسائل بصدد معرفة ما إذا كان المعصوم عالماً – على علمه بالرسالة و الشريعة و ما يتصل بها – بالعلوم مما لا يتصل بالرسالة ، و الغيب .. فأجابه السيد فضل الله بما يلي حرفياً : "" نحن نتكلم استناداً إلى القرآن ، فالله أرسل الأنبياء مبشرين ومنذرين ((وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ))/(الأنعام: 48) ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا))/(الفرقان : 56 ) ، ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا))/(الأحزاب: 45- 46 ) و الله يعلم نبيه و يعلم أولياءه من الغيب و ما يحتاجونه في نبوته، وليس من الضروري أن يعلموا الغيب كله ، كما يقول السيد المرتضى، فليس من الضروري أن يعلم النبي علم الذرة و علم الكيمياء و علم الفيزياء، لأنها ليست ذات صلة برسالتهم، أما وجوب أن يكون النبي أعلم الأمة في كل شيء ما لا علاقة له بمهمته الرسالية ، و لكن الله قد يعلمه من ذلك ما يحتاجه فيه ، أو إذا أراد علم ، فليس لدينا دليل على هذا ""( )
    وقال السيد فضل الله من المصدر نفسه في الصفحة المقابلة : "" إنَّ قضية ما يهب الله الأنبياء (ع) و الأولياء من علم الغيب من القدرات إنما ذلك من خلال حاجة دورهم في النبوة و في الإمامة ، لذلك فإن الله عندما جعل لهم دورهم في الحياة لهداية الناس ، و كان هذا الدور يتوقف على بعض القدرات المعنوية و الغيبية فإنه مكّنهم من ذلك ، بطريقة غير عادية ، لأن هذه الأمور ليست تشريفية و لكنها تنطلق من خلال طبيعة الدور ""( )
    و عليه فما أثبته السيد فضل الله للأنبياء و الأئمة عليهم السلام هو العلم بكل ما يتصل بدورهم ، و نفى أن يكون من الضروري أعلميتهم في غير ما يتصل بدورهم و رسالتهم .

    و هنا يحق لنا أن نتساءل : هل تبتعد أجوبة السيد فضل الله عما عليه آراء أساطين المذهب من أمثال السيد المرتضى و الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي…
    هل يرون ضرورة أن يكون المعصوم عالماً ، بل و الأعلم في غير ما يتصل بالرسالة و الشريعة ؟ و بعبارة أخرى : هل يرون أن يكون المعصوم عالماً – و الأعلم – بالصناعات و الحرف و الاكتشافات ، بل وعلم الغيب كله .. ؟
    أما الشيخ المفيد فهو لا يرى معرفة المعصومين بالصنائع و الحرف و اللغات و الاكتشافات و نحوها ضرورياً ، و لا يرى لزوم ذلك بحكم العقل ، و إن لم يكن ممتنعاً . بل له نظر و موقف تجاه الأخبار التي وردت في لزوم معرفتهم بذلك و التي استند إليها السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) و كتابه (الصحيح) فلم يقطع بها الشيخ المفيد، بل نسب الشيخ المفيد القول بوجوب معرفة المعصومين بكل ذلك إلى بني نوبخت و المفوضة كافة وسائر الغلاة( )
    وكذلك رأيه في علمهم الغيب ، فرأى أن إطلاق القول بأنهم يعلمون الغيب قول باطل و منكر و بيِّن الفساد .
    قال الشيخ المفيد ما نصه : "" القول في معرفة الأئمة (ع) بجميع الصنائع و سائر اللغات . و أقول : إنه ليس يمتنع ذلك منهم و لا واجب من جهة العقل و القياس و قد جاءت أخبار عمّن يجب تصديقه بأن أئمة آل محمد (ص) قد كانوا يعلمون ذلك ، فإن ثبت وجب القطع به من جهتها على الثبات ، و لي في القطع به منها نظر و الله الموفق للصواب . وعلى قولي هذا جماعة من الأمامية ، و قد خالف فيه بنو نوبخت – رحمهم الله – و أوجبوا ذلك عقلاً و قياساً ، ووافقهم فيه المفوضه كافة و سائر الغلاة . ""( )
    و قد ذكرنا رأيه في المسألة فيما نقلناه عن مسائله العكبرية مطلع البحث فليراجع .

    و قال الشيخ المفيد في علم الأئمة (ع) بالضمائر و الكائنات و إطلاق القول عليهم بعلم الغيب و كون ذلك لهم في الصفات : "" و أقول : إن الأئمة من آل محمد (ص) قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد و يعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس ذلك بواجب في صفاتهم و لا شرطاً في إمامتهم ، و إنما أكرمهم الله تعالى و أعلمه إياه للطف في طاعتهم و التمسك بإمامتهم ، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنه و جب لهم من جهة السماع ، فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بين الفساد ، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، و هذا لا يكون إلا لله عز وجل. وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شــذ عنهم من المفوضـــــة ومن انتمى إليهم من الغلاة ""( ). وقال الشيخ المفيد جوابا على سؤال و رده فيه أن الإمام يعلم ما يكون بإجماع الشيعة .. قال الشيخ المفيد : ""والجواب عن قوله : إن الإمام يعلم ما يكون بإجماعنا، أنَّ الأمر على خلاف ما قال، وما أجمعت الشيعة قط على هذا القول ، و إنما إجماعهم ثابت على ان الإمام يعلم الحكم في كل ما يكون، دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث ويكون، على التفصيل والتمييز.. ولسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان الحوادث تكون بإعلام الله تعالى له ذلك . فأما القول بأنه يعلم كل ما يكون ، فلسنا نطلقه ولا نصوب قائله لدعواه فيه من غير حجة ولا بيان ""( ).

    وقال الشريف المرتضى في تأكيد نظرية شيخه المفيد في مناقشاته مع عبد الجبار المعتزلي : "" … ومعاذ الله أن يوجب له – يعني الإمام – من العلوم إلاَّ ما تقتضيه ولايته ، ويوجبه ما وَلَيِه ، وأُسند إليه من الأحكام الشرعية ، وعلم الغيب خارج عن هذا ""( ).

    وقد نفى الشريف المرتضى صريحاً ما توهمه المعتزلي من وجوب علم الإمام بغير ما يتصل بالشريعة والرسالة من الصنائع والحرف وغيرها( ).

    وقال الشيخ الطوسي مؤكداً هذه النظرية – المقالة – بقوله :

    فإن قيل: ما اعتبرتموه في أيجاب كون الإمام عالماً بجميع أحكام الشريعة يوجب عليكم أن يكون عالماً بجميع الصناعات والمهن وقيم المتلفات وأروش الجنايات، لأن كل ذلك مما يقع فيه الترافع إليه، ويلزم – على ذلك – أن يكون الأمام أفضل من الرسول . ويجب أيضاً أن يكون عالماً بسائر المعلومات بأن لا اختصاص بأن يعلم معلوماً دون معلوم . وكل ذلك فاسد ، بلا اختلاف .

    قيل له : هذا سؤال من لم يراع استدلالنا في إيجاب كون الإمام عالماً بجميع الدين ، لأنا أوجبنا كونه كذلك من حيث كان رئيساً فيها ، وحاكماً في جميعها ، ومتقدماً على الناس كلهم في عامتها، ولم نوجب أن يكون عالماً بما لا تعلق له بالأحكام الشرعية ، ولا بما ليس هو بمتقدم فيه . وجميع ما تضمنه السؤال مما لا تعلق له بما ذكرناه .

    وهذا القدر يسقط هذا السؤال ، غير أننا نبين الوجه فيه على جهة التفصيل :

    أما العلم بالصناعات والمهن ، فليس الإمام رئيساً في شيء منها ولا مقدماً فيها . ولو كان رئيساً في الصنائع لوجب أن يكون عالماً بها ، حسب ما قلناه فيما هو إمام فيه.

    فأما ما يقع من أرباب الصنائع من المتاجرات ، والترافع فيها إلى الإمام ، فتكليف الإمام أن يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة ، فما يصح عنده من قول أهل الخبرة حكم فيه بما هو عالم به من الحكم من جهة الله تعالى، ومتى اختلفت أقوال أرباب الصنائع رجع إلى قول أعدلهم ، فإن تساووا في العدالة كان مخيراً في الآخذ بأي أقوالهم شاء وكان ذلك فرضه ، وتعلقت المصلحة به.

    وكذلك القول في قيم المتلفات وأروش الجنايات. وفي أصحابنا من قال : أنه يعلم أروش الجنايات بالنص من الله تعالى . ورووا في ذلك أخباراً والذي نعتمده هو الأول .

    والذي يكشف عما قلناه : من أنه لا تعلق لهذه الأشياء بأحكام الشريعة، أن من خالفنا في هذا المذهب يقول : ان الإمام متى كان عالماً بجميع الدين كان أفضل ، ولا يقولون : انه متى كان عالماً بالصنائع كان أفضل . فما يقولون هم في كونه أفضل نقول نحن في كونه أولى وأوجب .

    وأيضاً – فلا خلاف بين من خالفنا : أن الإمام لا بد ان يكون متمكناً من العلم به ، ولا يعتبرون في ذلك كونه متمكناً من العلم بالصنائع والمهن، فعلم بذلك كله أنه لا معتبر في باب الدين بما ذكروه .
    وأما إلزامهم أن يكون الإمام أعلم من الرسول ، فطريف ! فكيف يلزم ذلك – والإمام لا يكون عالماً بشيء من الأحكام إلاَّ من جهة الرسول وأخذ ذلك من جهته .

    فأما قولهم : انه يجب أن يكون عالماً بسائر المعلومات وبالغيب ، فلا شبهة في بطلانه ، لأن من المعلوم أن جميع ذلك لا تعلق له بباب الدين ، ولا الإمام حاكم في شيء من ذلك ، فكيف يلزم ما الإمام حاكم فيه شيء ليس هو إماماً فيه ولا حاكماً ( 1_ ) .

    وقال الشيخ محمد جـــــواد مغنية في كتابــــه ( الشيعة في الميزان ): "" .. هل يعتقد الشيعة أن أئمتهم يعلمون كل شيء حتى الصناعات واللغات ؟ ثم هل علوم الأئمة ومعارفهم في عقيدة الشيعة ، كعلوم سائر الناس ومعارفهم ، أو هي وحي، أو إلهام وما أشبه ؟
    ولست أعرف مسألة ضلت فيها الأقلام ، حتى أقلام بعض الإمامية أكثر من هذه المسألة . مع أنها من المسائل الغيبية، لا المشاكل النظرية .

    وذكرنا في فصل سابق ان الحديث عن عقيدة طائفة من الطوائف لا يكون صادقاً، ولا ملزماً إلاَّ إذا اعتمدت على أقوال الأئمة ، والعلماء المؤسسين الذين يمثلونها حقاً ، لذلك اعتمدنا في هذا البحث على أقوال الأئمة الأطهار ، والشيوخ الكبار ، كالمفيد والمرتضى والخواجة نصير الدين الطوسي، ومن إليهم، أمانة وعلماً.
    قال الشريف المرتضى في الشافي ص188 ما نصه بالحرف : "" معاذ الله أن نوجب للإمام من العلوم إلاَّ ما تقتضيه ولايته ، وأسند إليه من الأحكام الشرعية ، وعلم الغيب خارج عن هذا "" . وقال في ص189: ""لا يجب ان يعلم الإمام بالحرف والمهن والصناعات ، وما إلى ذاك مما لا تعلق له بالشريعة . إن هذه يرجع فيها إلى أربابها ، وان الإمام يجب أن يعلم الأحكام ، ويستقل بعلمه بها ، ولا يحتاج إلى غيره في معرفتها ، لأنه ولي إقامتها ، وتنفيذها "" .

    وقال الطوسي في (تلخيص الشافي) المطبوع مع الكتاب المذكور ص321 : "" يجب أن يكون الإمام عالماً بما يلزم الحكم فيه ، ولا يجب أن يكون عالماً بما لا يتعلق بنظره "" كالشؤون التي لا تخصه ولا يرجع إليه فيها .

    وهذا يتفق تماماً مع قول الشيعة الإمامية بأن الإمام عبد من عبيد الله ، وبشر في طبيعته ، وصفاته ، وليس ملكاً ولا نبياً . أما رئاسته العامة للدين والدنيا فإنها لا تستدعي أكثر من العلم بأحكام الشريعة ، وسياسة الشؤون العامة .

    وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب ، وهم يؤمنون بكتاب الله ، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه ((وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ)) وقوله : ((إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ)) وقوله ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ)).

    وقال الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان) عند تفسير الآية 123 من سورة (هود) : ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))"" لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق.

    فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (ع) ورواه عنه الخاص والعام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل الإيماء إلى صاحب الزنج ، وإلى ما ستلقاه الأمة من بني مروان ، وما إلى ذلك مما أخبر به هو وأئمة الهدى من ولده ، أما هذه الأخبار فإنها متلقاة عن النبي (ص) مما أطلعه الله عليه ، فلا معنى لنسبة من يروي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى انه يعتقد كونهم عالمين الغيب ، وهل هذا إلاَّ سب قبيح وتضليل لهم ، بل تكفير ، لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير ، والله هو الحاكم وإليه المصير "" .
    وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين ، قال الإمام الرضا : ((لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا ان تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنا عن الله وعن رسوله نحدث ، ولا نقول قال فلان وفلان . فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه . إن لكلامنا حقيقة ، وان عليه لنوراً ، فما لا حقيقة له ، ولا نور عليه فذاك قول الشيطان))( ).

    وأما الاعتراض الثاني للسيد جعفر مرتضى على السيد فضل الله فهو أغرب من سابقه ، إذ لا ندري ما هو المحذور في ما أسماه بإقحام كلمة (بلا حدود)، فهل يرى ان المعصوم يجب أن يعلم الغيب بلا حدود، وما هو الوجه في هذا الوجوب واللزوم ؟!
    وقد تبين من كلمات أعلام الطائفة وفي مقدمتهم المفيد أن لا إجماع من الشيعة على أن يكون المعصوم عالماً بالغيب على نحو مطلق ، ولا إجماع منهم على انه يعلم كل ما يكون ، بل يعلم بعض حوادث المستقبل مما يطلعه الله عليه، وبذلك يرد القول بعلم الأئمة (ع) للغيب إذا أرادوا، لأن ذلك يعنى أنهم يعلمون الغيب على نحو لا يخفى عليهم ، وهو ينافي ما تقدم من أنهم يعلمون بعض الغيب لا كل الغيب .

    ولا يقال إن كلمات الأعلام ناظرة إلى نفي علمهم الغيب بلا واسطة، من دون نظر إلى علمهم الغيب بالواسطة من الوحي والإلهام ، فإنه قد يكون مطلقاً ، وذلك لأن نفي علم الأئمة للغيب بلا واسطة من تحصيل الحاصل ولا يصح نسبته إلى الشيعة ولم يقع موضع نزاع بين الأعلام ، إلاَّ ان يكون ذلك من الغلاة .

    وعليه فان المجمع عليه عند الشيعة هو علمهم بجميع الأحكام الشرعية بلا استثناء ، أما غيرها فهو موضع جدل بينهم ، تبعاً للدليل الدال على ذلك ، فان ثبت فبه وإلاَّ فلا .

    ويتحصل مما تقدم ان علم النبي والإمام الغيب لا بد أن يكون محدوداً بحدود الوحي والإلهام والإعلام الإلهي واطلاعه جل وعزَّ لهما على ما يشاء من الغيب( ).

    وبذلك تعرف مدى صحة إقحام كلمة بلا حدود في كلام السيد فضل الله لأن التحديد لا بد منه .
    [/align]





  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي معاجز الأنبياء

    [align=justify][mark=CCCCCC]معاجز الأنبياء [/mark]

    ابتداءً لا بد من تحديد موضوع البحث وانه ينحصر في المعجزة اصطلاحاً لا الأعم من ذلك ، لأن البحث يقع – تارة – في مطلق الخارق للعادة وللنواميس الطبيعية ، وأخرى يقع في الخارق للعادة الخاص ، وهو الملازم للدعوى – النبوة أو الإمامة – وشروط أخرى سيأتي الحديث عنها ، وهو المسمى بالمعجزة .
    وقد عَّرف المشهور المعجز أو المعجزة بأنه : "" أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع دعوى النبوة – أو الإمامة – مع عدم المعارضة ""( ). وربما استغنى بعضهم عن قيد "" مع دعوى النبوة "" بقيد "" التحدي ""

    ويتبين من التعريف أنَّ ثمة عدداً من القيود وهي :

    1 – دعوى النبوة أو الإمامة .
    2 – الاتيان بأمر خارق للعادة .
    3 – التحدي .
    4 – العجز عن المعارضة .
    5 – مطابقة المعجزة للدعوى .

    وبذلك يظهر الفرق بين المعجز بما هو فعل خارق للعادة ، وبين الكرامة التي تشترك مع المعجز في صفة الخرق للعادة مع عدم الدعوى والتحدي لعدمهما .

    وعن السيد عبد الأعلى السبزواري ان لا فرق بين المعجزة وخارق العادة من حيث أنهما من إيجاد الله تعالى القدرة الخلاقية - في الجملة – في من يشاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك ، لكن الفرق بينهما أن الأولى لابد وان تقترن بالتحدي ، أي الدعوة إلى المبارزة والمنازعة في الاتيان بمثلها في الناس ، بخلاف الثانية فإنه قد تصدر عن عبد خمول في فلات من الارض لايعرف ولا يعرفه أحد كخضر مثلاً( ).

    وبذلك يتبين أن من أهم ما يمَّيز المعجزة – اصطلاحاً – عن الكرامة وخارق العادة عموماً هو ما يعرف بالتحدي الذي يعني نداء الناس جميعاً، إما للاتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز والقصور، فتثبت أصول الدعوى لا محالة باعتراف الخصم .

    وفي هذا الاتجـــــاه كتب العلامة المجلســــي في حقيقة المعجـــــزة قال: ""وهي أمر يظهر بخلاف العادة من المدعي للنبوة أو الإمامة عند تحَّري( ) المنكرين على وجه يدل على صدقه ولا يمكنهم معارضته . ولها سبعة شروط :

    الأول : أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من التروك ، كما إذا قال:"". . معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون عليه ففعل وعجزوا "".

    الثاني : أن يكون خارقاً للعادة .

    الثالث : أن يتعذر معارضته فيخرج السحر والشعوذة .

    الرابع : ان يكون مقروناً بالتحدي ، ولا يشترط التصريح بالدعوى . بل تكفي قرائن الأحوال .

    الخامس : أن يكون موافقاً للدعوى ، فلو قال : معجزتي كذا ، وفعل خارقاً آخر لم يدل على صدقه ، كما نقل من فعل مسيلمة وانه تفل في البئر ليزيد ماؤه فنضب ويبس .

    السادس : أن لا يكون ما أظهره مكذباً له ، كما لو أنطق الضَّب فقال: انه كاذب فلا يعلم صدقه ، بل يزداد اعتقاد كذبه .

    السابع : أن لا تكون المعجزة متقدمة على الدعوى ، بل مقارنة لها أو متأخرة عنها بزمانٍ يسير معتاد مثله ، والمشهور أن الخوارق المتقدمة على دعوى النبوة كرامات وإرهاصات أي تأسيسات للنبوة ""( ). انتهى

    ويتبين مما ذكره العلامة المجلسي أمران :

    الأول : اشتراط التحدي في صدق المعجزة على الفعل الخارق للعادة، وإلاَّ فمع عدم التحدي فإنه يكون كرامة أو من إرهاصات النبوة ، مما يتقدم النبوة كعلامات بارزة على النبوة .

    والثاني : ان المعجزة صادرة عن الله تعالى نفسه ، ولا تصدر عن النبي أو الولي.

    وهذا الأمر – الثاني – مما وقع فيه جدل وبحث بين الفلاسفة والمتكلمين…
    وقد اختار العلامة المجلسي – كما يظهر من التعريف – ان المعجزة هي فعل الله تعالى مباشرة ، وصَّرح به في موضع آخر من (بحاره)، قال: "" … أن الله تعالى يفعل ذلك مقارناً لاراداتهم كشق القمر واحياء الموتى وقلب العصا حيَّة وغير ذلك من المعجزات، فإن جميع ذلك إنما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لاراداتهم لظهور صدقهم .. ""( )
    واختاره من غير الشيعة – الغزالي – كما نقله عنه الشيخ كاشف الغطاء قال : "" فإن قيل هل تصدر هذه من نفس النبي أو من مبدأ آخر من المبادئ عند اقتراح النبي ، قلنا : الأولى بنا وبكم إضافة ذلك إلى الله تعالى ، إما بغير واسطة أو بواسطة الملائكة ، ولكن وقت استحقاق حصولها انصراف همة النبي إليه ، وتعين نظام الخير في ظهوره لاستمرار نظام الشرع "" .

    وقد اختار ذلك من المتأخرين السيد كاظم الحائري بناء على ان ما يصدر عن النبي هو الدعاء وطلب وقوع المعجز من الله تعالى الذي يصدر عنه المعجز تصديقاً واعزازاً لموقع نبيه أو وليه( ).
    وربما يظهر من بعض كلمات السيد فضل الله ذلك( ).

    ولعل أكثر العلماء على هذه النظرية على خلاف ما اختاره الفلاسفة وغيرهم من الاتجاهات الفكرية الأخرى .

    كتب الإمام الخميني : "" .. بل يظهر من كلام العلماء وخاصة المرحوم المجلسي – رضوان الله تعالى عليه – ان الإيمان بالتفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والأحياء إلى غير الحق سبحانه كفر صريح ولا يستريب عاقل في كفر من قال به، وجعلوا الكرامات والمعجزات من قبيل استجابة الدعاء، وان الحــــق سبحانه هــــو الفاعل لكل هـذه الأمـور ""( ).

    وقد كتب السيد مهدي الصدر مقرراً هذه النظرية : "" ومن الثابت أن المعجزات ليست من صنع الأنبياء (ع) وليس في مقدورهم إحداثها ، وإنما هي من صنع الله تعالى يجريها على أيديهم تصديقاً لهم وتأييداً لرسالاتهم ""( )
    غير أنَّ هناك اتجاهاً آخر يلخصه الشيخ المطهري في كتابه (معرفة القرآن) يقول : "" .. إلاَّ أنَّ هناك عدداً من العلماء يعتقدون بأن المتكلمين لم يدركوا حقيقة المعجزة لكونهم حسبوها عملاً يحققه الله مباشرة على يد النبي بدون أن يتدخل النبي في إجراءاتها ، وأنه لم يكن سوى الواجهة الظاهرية، وأن الله هو الذي يقوم بالمعجزة على يد النبي، كأن يجلس عيسى عند الميت، ولكن الله هو الذي يُحييه ، أي ليس لعيسى أي دور في إحيائه، إنما هو مجرد وسيلة ، أي أن العمل عمل الله بصورة مباشرة، وكما إننا ، أنا وأنت ، لم يكن لنا أي تأثير في تحقيق المعجزة ، كذلك ليس للأنبياء، يد في تحقيقها. كلا، ليس الأمر كذلك، بل هو أرفع من ذلك بكثير ، إن بين المعجزة وصاحبها علاقة واقعية بحيث لا يمكن حدوثها على يد شخص آخر . المعجزة إعلان عن الكمال الروحي والمعنوي الذي بلغه (ولي) الله ، عندما يحقق ولي الله إعجازاً ، تكون قواه البشرية في اتصال بقوى الله ، أي ان الله يمنحه إرادة وقدرة فوق ما للبشر ""( )
    ومن الفقرات المتقدمة يظهر ميل الشهيد المطهري إلى هذه النظرية، وهي مختار السيد الخميني( )، والسيد عبد الأعلى السبزواري كما في تفسيره (مواهب الرحمن) قال : "" حقيقة الإعجاز : قدرة النفس الإنساني على إيجاد ما يخرق به الطبيعة والعادة والتصرف في هذا العالم بما هو خارج عن كل ذلك باقدار من الله تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيه الظروف ""( ) .

    ويظهر من الشيخ السبحاني أنها مختاره أيضاً( ). ومهما يكن من أمر ، فقد يمكن تلخيص تفسير حقيقة المعجزة بأحد الاحتمـالات التالية( ) :

    الأول : ان تكون فعل الله تعالى مباشرة كما هو مختار المتكلمين .

    الثاني : ان تكون من تدبير الملائكة ، ولعل أوضح شاهد على ذلك قصة تمثل الروح الأمين للسيدة مريم (ع) : كما في قوله ((فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا))

    الثالث : ان تكون ناشئة من علل غير معروفة لنا اطلع عليها الأنبياء بما أفاض الله عليهم من علم .

    الرابع : ان تكون صادرة من نفس النبي بما له من قدرات نفسانية أفاضها الله تعالى عليه .

    خلاصة :

    والذي يظهر من الآيات الكريمة ان بعض المعجزات ليست مما صدر من الأنبياء ، بل هي صادرة إما من الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة الملائكة ، كما عن الطوفان الذي حلَّ بقوم نوح (ع). والمعجز الذي حصل لإبراهيم (ع) وانقاذه من نار النمرود. وانقلاب عصا موسى (ع) لتلقف ما يلقيه السحرة.. وهو ما يفسِّر خوفه (ع) عندما خُيِّلَ إليه مما فعله السحرة ، ولذلك احتمل العلامة المجلسي ان يكون خوفه (ع) ناشئاً من أنه (ع) لم يكن يلقي العصا إلا بوحي ، ولما أبطأ الوحي خاف تفرَّق بعض الناس قبل أن يؤمر بالإلقاء( ).
    والأمر نفسه في نقل عرش بلقيس على بعض التفاسير حيث فسر قوله تعالى : ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ)) من جهة من القائل ؟ حيث احتمل البعض أن يكون آصف وزير سليمان أو الخضر أو جبرائيل، أو ملك أيده الله تعالى( ) أو سليمان نفسه ، وعلى فرض كونه جبرائيل أو ملكاً أيده الله بذلك تأييداً للنبي بالمعجز .

    ومن جهة نوعية العلم ، فعلى ما احتمله البعض من أن نقل السرير كان بالدعاء( ) يكون مؤيداً لما ذكرناه أيضاً .

    نعم هناك بعض الآيات ما ظاهره أن ما صدر من النبي من معجز فإنه من فعله بإذن الله ، فهو منه وبواسطته لا بواسطة ملك أو من فعل الله بلا واسطة .

    ومنها قوله تعالى : ((وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ))/(آل عمران: 49).

    وقوله تعالى : ((وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي))/(المائدة: 110).

    فإن ظاهر الآيتين ان ما وقع من الإحياء والخلق والإبراء فهو من عيسى وبإرادته بإذن الله ، على نحو تكون المعجزة مما وقع بطريقة إرادية منه(ع)( ) غير أن هذا الظهور لا ينفي احتمال أن يكون المعجز فعل الله ، لأن الآيتين لا تنفيان ان يكون ما صدر من عيسى بدعاء الله والطلب منه على نحو يجري الله الفعل على يديه وبواسطته كما هي نظرية المتكلمين وخاصة العلامة المجلسي ، وعندئذٍ فلا يثبت المطلوب في نظرية ان المعجز صادر عن نفس النبي وروحه .

    وكذلك قوله تعالى : ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ))/(الأنبياء: 81).

    فإن قوله : (بِأَمْرِهِ) ظاهرة في أن جريان الريح حاصل بإرادة سليمان نفسه ، لكن يمكن أن يقال كما ما أشرنا إليه ، من أن الآية لا تنفي أن يكون ذلك بأمره بعد الدعاء والطلب من الله تعالى . على أن عطف الآيـــــــــة على ما قبلها ربما يخفف من الظهور المدعى على قـــــــوله: ((.. وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير ...)).

    [align=center]***[/align]
    [/align]





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي قانون المعجزة

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]قانون المعجزة [/mark]

    ولأن هناك لغطاً أُثير حول آراء السيد فضل اللّه في عدد من القضايا، ومنها المعجزة، خصصناه بالبحث مقارناً بآراء أخرى. ويمكن تلخيص نظرية السيد فضل الله في (المعجزة) في عدة نقاط :

    النقطة الأولى :

    تتركز مهمة الأنبياء والرسل على أن يفتحوا عقول الناس وقلوبهم على الحق ، من مواقع المنهج الفكري الذي يقودهم إلى اكتشافه من خلال الفكر الدائب على البحث ، والوحي المتفتح على تفاصيل الحقيقة( ) .
    وعندئذ ستكون وظيفة الأنبياء مخاطبة العقل البشري و العاطفة البشرية قبل أي شيء آخر.

    أما المعجزة التي يقوم بها النبي فليست غاية في الرسالة( ) ، وليست أساساً في دعوته( ) .

    ولو قدر للباحثين أن يقوموا باستقصاء دور الحوار الفكري الذي قام به الأنبياء في مخاطبة أقوامهم ، ودور المعجزة فيما قدموه لأقوامهم ، لوجدوا دور الحوار أبلغ من دور المعجزة ، وأكثر تأثيراً واشد . بل يمكن أن يقال من غير مجازفة إن دور المعجزة كان ضئيلاً وربما لا يذكر ، فيما إذا قيس بمقدار تأثير المبادئ الفكرية والتجسيد العملي الذي كان يتركه النبي في قومه ومجتمعه. يقول السيد محمد الصدر في تأكيده هذه المقولة ".. إن طريق الدعوة الإلهية لا يقوم على المعجزات ، لأن الهدى والعدل الناتج عن المعجزات أقل وأضحل من الهدى والعدل الناتج عن طرقه الطبيعية ( ) .

    النقطة الثانية :

    إلا أن ما ذكره السيد فضل الله من قيام النبوة على المنهج العقلي والحوار الفكري في تثبيت دعائم الحركة النبوية لا يعني مصادرة دور المعجزة أو نفيها ( ) . كيف ؟ والقرآن الكريم حافل بالمعجزات التي صدرت من الأنبياء ، ونقلها القرآن الكريم لنا كتجارب نبوية.

    إن ما يرمي إليه السيد فضل الله هو التأسيس لما يمكن تسميته ""بقانون المعجزة "" ( ) ووضع الضوابط والمقاييس العلمية لمثل هذا القانون وفقا للمعطيات الإسلامية …
    ويرى السيد فضل اللّه من خلال قراءته لتلك المعطيات أن المعجزات تمثل الرد المناسب للتحدي الكبير الذي يحاول إسقاط الدعوة ودور النبوة ، وعليه فهي وسيلة للمواجهة وتدعيم مواقع القوة في الحركة النبوية ( ) . ولذلك يمكن عدها حالة استثنائية طارئة اقتضتها ظروف التحدي التي كانت تحاول إسقاط الرسالة أمام جماهير الناس البسطاء، فيما كانت تمثله القوى المضادة من إمكانات القوة الطبيعية التي لا يملكها الأنبياء ( )
    ويمكن أن تتضافر جهود النبي وتتكرس وتتعمق في مواصلة حواره الفكري مع قومه في جو تتحرك فيه المعجزة بطريقة وأخرى .. كما أشار إلى ذلك السيد فضل الله في حديثه عن حوار النبي موسى (ع) مع فرعون ومعجزته في ذلك الحين( ).

    ويمكن أن يؤسس للمعجزة قانون مفاده : " أن المعجزة إنما تحدث عند توقف إقامة الحق عليها,أما مع عدم هذا التوقف وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة فإنها لا تحدث بحال .( )
    كما انه "" متى أمكن السير نحو الهدف بدون معجزة كان الطريق الطبيعي غير الإعجازي متعينا ولا تحدث فيه معجزة .""( ) وعليه فإن " كل نتيجة يمكن تحقيقها بالطرق الطبيعية ، فإنها لا توجد عن طريق المعجزة ، بل يوكل أمرها إلى تلك الطرق مهما طال بها الزمن . لا يستثنى من ذلك إلا قيام المعجزة عند انحصار السبب بها انحصارا مطلقا ""( ) . ولا ينقض مثل هذا القانون بما يمكن أن يقال إن الله تعالى قادر على كل شيء ولا يمنع من وقوع المعجزة مانع مع الفرض المذكور ، فإن كون الله قادرا على كل شيء" لا يقتضي إيقاعه للمعجزات بعدد كبير وبدون مبرر واضح ، بل لابد من اقتصاره على مورد إقامة الحجة وتربية البشر ""( ).

    النقطة الثالثة :

    وإذا كان قد ذكر بعض الأعلام – مثل العلامة المجلسي – في شرائط تحقق المعجزة أن تكون مقارنة للدعوى أو متأخرة عنها لا أن تكون متقدمة عليها ، فضلا عن شرط التحدي وشروط أخرى ذكرناها فيما مضى من سطور ، فان (للتحدي) مفهوما واسعا عند السيد فضل الله، معه لا يشترط أن تكون المعجزة مقارنة للدعوى أو متأخرة عنها ، بل يمكن أن تكون متقدمة على الدعوى ، وبين يديها وقبلها. وهو ما يسميه السيد فضل الله بالمعجز الوقائي والدفاعي ردا على التحدي ..

    يقول السيد فضل الله في هذا الاتجاه : "" … وبذلك تكون المعجزة ردا للتحدي من ناحية وقائية أو دفاعية ، وتمهيدا لحركة الرسالة من موقع قوة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى ذلك في بدايتها ..""( ) كما في الحالات التي لا يملك النبي فيها أن يدخل إلى المجتمع إلا من خلال القوة غير المنظورة التي تجعله في خط المواجهة القوية للقوى النافذة في مواقع السلطة .."" ( )
    وعندئذ ستكون المعجزة من الوسائل التي يرد بها التحدي الكبير الذي يمنع النبوة من أن تبدأ أو تواصل حركتها .. ( )
    وعليه فقد تكون المعجزة – من وجهة نظر السيد فضل الله – المدخل المناسب للنبي لاقتحام عالم قومه ، وعالم السلطة والجبروت ، وعالم المجتمع ، لتكون دعوته قوية منذ البداية ، كما في معجزة موسى (ع) فيما قدمه أمام فرعون في المرحلة الأولى من مراحل دعوته ، ومعجز عيسى (ع) لاقتحام عالمه الذي شاع فيه الطب وسادت فيه صنعته ( ).

    وعليه سيتسع مفهوم التحدي عند السيد فضل الله فهو وقائي دفاعي يسبق الدعوى كما أشرنا إليه ، ويلازمها أيضا ويواكب حركتها ويحفظ فاعليتها في المجتمع .

    يقول السيد فضل الله تأكيدا لهذه المقولة : "" وقد يلاحظ المتأمل في القرآن أن الآيات تؤكد دائما على جانب الوحي كفارق بين النبي وبين الناس، كما تثير مسألة عجزه الذاتي عن القيام بكل الأمور الخارقة للعادة في غير النطاق المحدد للمعجزة في طبيعتها القريبة من مواقع التحدي الذي يجتذب ذلك للمحافظة على شخصية الرسالة وفاعليتها في المجتمع ..""( )

    وعليه فلا يشترط في المعجزة وقوع التحدي بشكل مباشر وصارم ، بل يمكن أن تقع المعجزة في أي وقت يمكن أن تكون الرسالة في موقع قريب من التحدي.. وهذا إن كان في بداية الدعوة وحركتها فهو أيضا لازم في عمرها كله ، بما يحفظ فاعليتها ودورها في المجتمع .

    النقطة الرابعة :

    ما ذكره السيد فضل الله من شرط (التحدي) في صدق المعجزة لا ينفي وقوع الخارق للمألوف مطلقا، فإنه مما يعرف بالكرامة. وبذلك يفترق المعجز عن الكرامة كما ذكرنا سابقا ، ويتفق معها في كونهما يمثلان خروجا على المألوف أو العادات والنواميس الطبيعية.

    وإذا كانت المعجزة ردا للتحدي الذي يستهدف الرسالة لغرض إسقاطها ، فإن للكرامة مبررها ومسوغها العقيدي أيضا ، فقد تكون _ من وجهة نظر السيد فضل الله – لغرض إظهار فضل الأنبياء على العالمين ( ) أو عونا لهم في إنجاز مشاريعهم العمرانية وحاجاتهم الإنسانية والاجتماعية ( )، أو تربية منه تعالى لأنبيائه وأوليائه ليبلغ بهم الدرجات التي لا تبلغها درجة ، ورقيا لا يبلغه رقي فوقه كما في قصة إبراهيم (ع) وطلبه من ربه مشاهدة البعث والوقوف على الإحياء بطريق حسي، وهو ما أجابه الله تعالى إليه. ( )
    وقد كتب السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) معلقا على رأي السيد فضل الله في اشتراط المعجزة واشتراط (التحدي) في صدقها ووقوعها: "" .. ماذا تعني دعوى كون هذا النبي عاجزا ذاتا عن أي أمر خارق للعادة في غير النطاق المحدود للمعجزة فيما هو قريب من مواقع التحدي . فهل معنى ذلك أن كل ما ورد من أحاديث في مناقبهم وخوارق عاداتهم في غير مواقع التحدي مكذوب ومخالف للواقع ؟ ! أو هل أن هذا البعض يرى .. أن هذه المئات من خوارق العادات التي صدرت عن النبي (ص) وعن الأئمة (ع ) قد كانت كل مفردة منها في مواقع قريبة من التحدي ؟ .. "" ( )

    ثم يأتي السيد جعفر مرتضى على ذكر بعض الكرامات التي وقعت لرسول الله (ص) ولأئمة أهل البيت (ع) مما لم يكن يقع في ظرف التحدي ..

    وفي موضع آخر وتعليقا على ما ينقله عن السيد فضل الله مما اسماه بالخدمات غير العادية التي أتيحت لسليمان (ع) يقول : "" .. هذا وأين التحدي في كل هذه الخدمات غير العادية المعجزة . فإذا كانت المعجزة لا تحصل في غير مواقع التحدي ، فلماذا حصلت كل هذه المعجزات لسليمان وداود عليهما السلام ؟! ..""( )

    ثم انه ينقل عن السيد فضل الله انه يستنتج من بعض الآيات " ان كل النصوص التي تثبت كرامات أو معجزات أو تصرفات غير عادية للأنبياء _ خارج هذا النطاق _ لا يلتفت إليها ، بل تخرج عن دائرة السيرة والتاريخ الصحيح، أو الذي يمكن أن يكون صحيحا ."( )

    ويمكننا أن نسجل على الاعتراض المشار إليه آنفا ما يلي :

    1-إن السيد جعفر مرتضى لم يتابع كما يبدو كلمات السيد فضل الله في تمام تفسيره (من وحي القرآن) على أقل تقدير, فضلا عن كلماته في غير تفسيره من كتب ومحاضرات ..

    2- ولأجل عدم المتابعة لكلمات السيد فضل الله فقد فات على السيد جعفر مرتضى ما يريده السيد فضل الله من (المعجزة) في كلماته المنقولة عنه والتي تحدث بها على هامش معجزات الأنبياء (ع) ، فإنه - كما هو واضح - يريد بها المعجزة – اصطلاحا-وهي غير الكرامة .

    ومن الواضح أيضا أن المعجزة اصطلاحاً هي الفعل الخارق للعادة بشرط التحدي كما نقلنا ذلك عن بعض العلماء في السطور المتقدمة ، بل إن بعضهم _ كما نقلناه عن السيد السبزواري _ ميز بوضوح بين الخارق للعادة المصحوب بالتحدي وهو المعروف بالمعجزة ، والخارق للعادة مع فقد التحدي وهو المعروف عندهم بالكرامة . وقد أشار إلى الفرق المذكور العلامة المجلسي فليراجع ما نقلناه عنه.

    3- ولذلك تحدث السيد فضل الله عن الكرامة التي يخص بها الله أنبياءه إظهارا لفضلهم على العالمين أو معونة لهم على إنجازهم مهامهم كما في قصة النبي سليمان (ع)
    وعليه فلا يصح الاعتراض على السيد فضل الله بما ذكره السيد جعفر مرتضى من فقد التحدي في مثل هذه المعجزات وخوارق العادة ، فإنها مما لا يسمى اصطلاحا بالمعجزة ، وان سمي فهو من باب التسامح أو على خلاف الاصطلاح.

    4- ولذلك أيضا وجوابا على سؤال قدم للسيد فضل الله نفى أن يكون إحياء الطير للنبي إبراهيم (ع) معجزة بل هو من قبيل الكرامة وللاطمئنان الشخصي .

    وقد ورد السؤال في كتاب الندوة ما نصه : "" أليست قضية الطير عندما دعاه سيدنا إبراهيم (ع) حيث جزأه أربعة أقسام ثم وضع كل جزء على جبل ثم دعاه إليه فأتاه سعيا ، معجزة ؟ "". قال السيد فضل الله في الجواب ما نصه : "" ليس هذا معجزة ، فالمعجزة هي التي يقابل بها النبي الناس ، ولكن تلك كانت تجربة شخصية لاطمئنانه الشخصي""( )
    ولذلك ميز السيد فضل الله بين المعجزات والكرامات قال : "" لي رأي في مسألة علاقة المعجزات بالنبوات ، وقبل أن أتحدث في ذلك فان علينا أن نفهم أن الغيب هو جزء من العقيدة الإسلامية، وان الله سبحانه وتعالى أجرى المعجزات على يدي أنبيائه واجرى الكرامات على يدي أوليائه ..""( )
    ولذلك لا يصح اعتراض السيد جعفر مرتضى المشار إليه وتساؤلاته عن المعجزات التي حصلت لسليمان وداود وهي ليست في وارد التحدي وغيرها من المعجزات التي ذكرها لرسول الله (ص) وللأئمة (ع) ، فانه قد تبين أن السبب في الاعتراض ناشئ من عدم التدقيق في الفرق بين الاصطلاحين ، أو عدم المتابعة والقراءة الكاملة لنصوص تفسير " من وحي القرآن" وغيره من كتب السيد فضل الله .

    5- أما ما نقله السيد جعفر مرتضى عن السيد فضل الله وانه يستنتج أن كل النصوص التي تثبت كرامات أو معجزات أو تصرفات غير عادية للأنبياء خارج هذا النطاق لا يلتفت إليها ، بل تخرج عن دائرة السيرة والتاريخ الصحيح ، أو الذي يمكن أن يكون صحيحا "" فهو نقل غير دقيق ، ولم نجد للسيد فضل الله مثل هذه العبارة _ فيما فتشنا عنه_ خاصة وان هذا البعض لم يشر إلى مصدره في كتابه " خلفيات "".

    وقد عثرنا على هذه الفقرة في بحث للسيد جعفر مرتضى بعنوان (منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية الشريفة) ( ) ويبدو أن هذه الفقرة استنتاجية علق بها على رأي للسيد فضل الله في المسألة . وقد نقلها إلى كتابه (خلفيات) ظناً منه أنها للسيد فضل الله، أو بداعٍ آخر .

    على أن جواب ما أشير إليه من إشكال في الموقف تجاه عشرات الكرامات والمعاجز التي وقعت خارج نطاق التحدي يظهر من خلال ما قدمناه في التمييز بين المعجزة والكرامة ، فكيف يصح نسبة إنكار الكرامات إلى السيد فضل الله وهو يشير إليها بوضوح كما قدمناه .

    نعم هناك بحث في الوثوق بصدور هذه المعجزة أو تلك وهو بحث إثباتي . يقول السيد فضل الله : "" .. وأما المعاجز فهي أمر ممكن أيضا، وإذا كان ثبت عندنا بالدليل القطعي أو الدليل المعتبر فإننا نؤمن بكل ما ثبت بالدليل مما لا يرفضه العقل بحسب طبيعته ، لاسيما أننا نرى أن الله أجرى المعجزة على أيدي بشر من بعض أوليائه الذين لم يكونوا أنبياء ولا أئمة ((قال الذين عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)) ولم يكن هذا نبيا ولم يكن إماماً.. وقد يعطي بعض القدرات لبعض أوليائه وأنبيائه مما يختصهم به لحكمة يراها ، لأن دورهم ورسالتهم أو موقعهم يفرض ذلك".

    [align=center]* *[/align]
    [/align]





  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي الولاية التكوينية

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]الولاية التكوينية [/mark]

    يمكن القول إن المسألة المنْويّ بحثها مما يترتب على البحث السابق - اعني المعجزة - وبالتحديد في تفسيرها وبيان حقيقتها على ما ذكرناه مفصلا، وعلى ما اختلف فيه العلماء من تفسير وبيـــــان لحقيقتها .
    وعليه فإن كانت المعجزة فعل الله لا فعل النبي، وليس للنبي نصيب من المعجزة سوى انه يطلبها من الله تعالى فتقع استجابة له ، فلا ثمرة في هذا البحث ، وليس للمسألة - عندئذ - محل .

    وان كانت المعجزة فعل النبي بإذن الله ، على نحو تصح نسبة الفعل إليه ، وانه يصدر عن نفس نبوية أفاضت عليها السماء من فيوضها فأودعها مثل هذه القدرة ، فللمسألة مكان من البحث وفيه لها محل وثمرة، إذ سيقع البحث في سعـــة هذه القدرة ومدى تسلطها على الكــــون .

    ولذلك ينصرف البحث إلى تحديد المراد من الاصطلاح المشار إليه.

    لكن يجب التذكير بأن اصطلاح الولاية التكوينية اصطلاح مُحدَث لم يرد في آية أو رواية ، وهو ما يسلمه أكثر الناس دفاعا عن فكرة الولاية التكوينية ، بل لم يحدد واضعه ، فضلا عن العمر الزمني له .
    ولذلك لا نعرف السر في استنكار السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) على السيد فضل الله ، حيث كتب يقول على هامش حديث السيد فضل الله عن قصة النبي سليمان (ع)، فكتب السيد جعفر مرتضى يقول: "" انه يسمي الولاية التكوينية لنبي الله سليمان عليه السلام بالخدمات غير العادية!( ) إذ مع فرض كون اصطلاح الولاية التكوينية من الاصطلاحات المحدثة لا يبقى محل لهذا الإشكال .

    ومهما يكن من أمر ، فلا بد أن ينصرف البحث إلى تحديد اصطلاح (الولاية التكوينية) وما هو المراد منه .
    [/align]





  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي الولاية التكوينية اصطلاحا

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]الولاية التكوينية اصطلاحا :[/mark]

    حدد البعض مصطلح الولاية التكوينية بأنه "" القدرة على التسلط على الظاهرة الكونية، من خلال آلية يفترض أن تتفاعل مع مكونات الفعل التكويني، إن على نحو التسلط عليها كما يتسلط الدواء على الداء، وان على نحو التقرب من مصدره ""( )
    وقد حـــــدد السيد جعفــر مرتضى في كتابه (خلفيات) بقـوله: ""المقصود بالولاية التكوينية هو المقدرة على التصرف والتأثير في الموجودات المحيطة إلى حد تجاوز القدرة العادية في التعامل مع النواميس الطبيعية، مثل أن يفجر للناس ينبوعا، أو أن يرقى في السماء، أو أن يكلم الحيوان، أو أن تطوى له الأرض، أو أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل ارتداد الطرف ، أو تحريك الرياح، وما إلى ذلك ""( )
    ويلاحظ على التحديد المشار إليه انه لا يبتعد عن اصطلاح المعجزة، وبذلك لا يأتي أنصار الولاية التكوينية بجديد على مستوى المضمون، وسيكون الاختلاف - عندئذ - لا يتعدى الاصطلاح، أما المضمون فلا خلاف فيه، بعد دلالة الأدلة القرآنية والروائية على وقوع المعجزة على ما بيناه .

    وفي موضع آخر من كتابه (خلفيات) حدد (للولاية التكوينية) تحديدا آخر، ففي حديثه عن المعجزات والكرامات صنفها إلى اتجاهات ثلاثة:

    الأول : المعجزات والخوارق التي ظهرت للنبي أو الوصي بهدف مواجهة الإنسان المكابر ، فتكون المعجزة عندئذ لإشاعة الوثوق والاطمئنان النفسي لدى المؤمنين والرد على مزاعم المكابرين .

    الثاني : المعجزات والكرامات التي تظهر لهم تشريفا لهم وإكراما وإعزازا لجانبهم . وقد الحق بهذا القسم ما يصدر عنهم مما تقتضيه قواهم الروحية وتعلقاتهم الغيبية ..

    الثالث : والظاهر انه المراد من الولاية التكوينية. وقد جاء في تحديده ما نصه : "" ذلك القسم الذي هو عبارة عن تجلي السنن والنواميس الواقعية التي تحكم المسار العام، فيما يرتبط بتبلور دور الشخصية القيادية الواقعية في نطاق هيمنتها على الواقع العام، من خلال تلك النواميس وعلى أساسها ، فتجسد الكرامة والمعجزة بصفتها ضرورة حياتية في نطاق الهداية الإلهية على أساس نواميس الواقع ، وتجلياتها حسب مقتضياته ، الأمر الذي يعني أن تعامل النبي والأمام مع المخلوقات من موقع المدبر والراعي، والحافظ لها، باعتبارها جزء من التركيبة العامة، حيث لا بد من التعامل معها على هذا الأساس ""( )
    ومن خلال التصنيف للاتجاهات الثلاثة يبدو هذا القسم مغايرا للمعجزة والكرامة في القسمين الأولين . ولكن مع ذلك لا يبدو مميزا بشكل يتحدد الفارق بشكل واضح ، فهل يفترض هذا البعض أن الرعاية والتدبير من قبل المعصوم تفتقر إلى التصرف بالكون بشكل مستمر ومما يقتضيه دور الرعاية والتدبير ؟
    الظاهر أنه يفترض ذلك، وهذا وإن لم يتضح من كلامه في تحديده للولاية التكوينية وما يراد منها، لكنه في مجمل كلامه السابق واللاحق، يؤكد أن الإشراف والتدبير من المعصوم يفترض أن يكون المعصوم قادرا على التعامل مع كل أجزاء الكون من جماد وحيوان وإنسان و …( )
    وما يفترضه السيد جعفر مرتضى من ضرورة الإشراف والتصرف بالكون وأجزاء الكون في عملية التدبير والقيادة الموكولة إلى المعصوم لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه. والظاهر من حياة الأنبياء انهم يدبرون رعيتهم ويسوسونهم وفقا لما عليه السيرة العقلائية وما تقتضيه أساليب الحياة على اختلافها وتنوعها ، وان كان قد تم لأحد منهم على خلاف ذلك فهو من المعجز أو الكرامة وليس شيئا مغايرا لهما ..
    كتب السيد محمد الصدر فيما يمكن توهمه من لجوء الإمام المهدي (ع) إلى المعجزات في قيادته للمجتمع والبشرية عند ظهوره قال : "".. إلا أن ذلك لا يجب أن يكون موجودا في الدولة الإسلامية، فإن قيادتها وتدبير الأمور فيها لا يعود إلى المعجزة بحال، بعد تمامية الحجة على شعبها في أول دخول الإسلام إليهم أو دخولهم في الإسلام. وعلى ذلك قامت دولة النبي (ص) وحسبنا من ذلك قوله ( ص): ((إنما اقضي بينكم بالبينات والأيمان))، وهو حديث صحيح مستفيض يراد بالحصر فيه أنه (ص) لا يستعمل المعجزة وعلم الغيب المسبق في القضاء، وكذلك الحال في سائر تدابير الدولة فيما لا يعود إلى إقامة الحجة بصلة( ).
    ويظهر هذا التعريف للولاية التكوينية في تساؤل السيد كمال الحيدري حول دور الإمام التكويني و ""هل للإمام دور يمارسه في نظام التكوين أم لا؟""( ) و ""هل أعطى اللّه سبحانه وتعالى بحسب إرادته الحكيمة وضمن النظام الوجودي الأصلح الذي أوجده، هل أعطى لهذه الوجودات المعصومة مثل هذا الدور أم لا؟""( )، ولتحديد هذا الدور يشير السيد كمال الحيدري إلى ""ضروب ثلاثة من الهداية، هي الهداية الفطرية، فالهداية التشريعية التي هي وظيفة الأنبياء المرسلين، ثم الهداية التكوينية .. ذلك أن المنهج القرآني عهد بالهداية الثالثة إلى الإمام، وإذا ما عرفنا أن الهداية الثالثة تختلف عن الاثنتين اللتين قبلهما، فسيتجلى عندئذٍ دور الإمام في النظرية القرآنية، والإنسان يسلك طريقه إلى الغاية المتمثلة بالقرب الإلهي عبر مسارات هذه الهدايات الثلاث التي تنهض كل واحدة منها بدور في سوقه اختيارياً وإرادياً صوب الغاية المنشودة""( )

    ويقول السيد كمال الحيدري في هذا الصدد: ""تتعاضد الأدلة القرآنية العقلية في التدليل على وجود الهداية، وقد أشرنا مراراً إلى أنها ثلاث هدايات، هي هداية الفطرة الموجودة في كل إنسان وتقع مسؤوليتها على الإنسان نفسه، ثم هداية التشريع، وهي من مسؤولية الأنبياء، وأخيراً هداية التكوين التي أعطيت للإمام وجعلت على عاتقه ومسؤوليته""( ).

    ويكمل السيد الحيدري: ""ثم يشير القرآن إلى أنّ من عمل بالهداية التشريعية فسيعطى هداية ثالثة تقع مسؤوليتها على الإمام، وهذه الأخيرة هداية خاصة وليست مطلقة""( ). وبتحديد أكبر يقول الحيدري: "" .. عندما ننتقل إلى الهداية الثالثة التي يشير إليها القرآن، وهي هداية الإمامة، نجدها ليست عامة، لا بالعموم الأول ولا بالعموم الثاني –يقصد الفطرة وهداية التشريع – بل هي خاصة. ما هي الهداية الخاصة؟ كأن اللّه أراد لمن عمل بمقتضى الشريعة بأوامرها ونواهيها، كأنه (سبحانه) أراد أنْ يكافئه على هذا العمل، ولا غرو فمن تقدم إلى اللّه خطوة تقدم اللّه (سبحانه) إليه خطوات، ولكن من الذي يتقدم وما هي الوظيفة التي ينهض بها؟ هذه هداية الإمامة، وهي منوطة بشخص الإمام"".( )

    ويكمل السيد الحيدري: ""من أهم خصائص هداية الإمامة التكوينية، إنها هداية خاصة، ليست شاملة – لا بالشمول الأول ولا بالشمول الثاني، بل هي أخص، كما أن من أبرز مواصفاتها أنها لا تتخلف عن المراد، أي أنها هداية تكوينية، وهذا ما دفع علماءنا أن يعبروا عنها أنها هداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب""( ).
    ولأجل عدم إضاعة القارئ، نستعجل التعليق على كلامه من حيث افتراضه هداية الإمامة خاصة للإمام، ومن حيث افتراضه في الوقت نفسه أنها دور للإمام ومسؤولية لإيصال الناس إلى المطلوب، فتارة هي مكافأة للإمام نفسه من حيث إنه عمل بالهداية التشريعية بأجلى صورها، يقول: ""إن الإمامة لا تعطى إلا لمن ابتلي وصبر، أما من لم يصبر، فلا يعطى هذه الموهبة، ولن يحظى بهذا المقام الوجودي التكويني، ثم لا يستطيع أن يضطلع بهذه المسؤولية المهمة في نظام الوجود""( ) ، وتارة هي وظيفة كما هي وظيفة النبي في التبليغ وهداية التشريع، ألا إنها وظيفة تتصل بعالم التكوين، ولذلك يقول السيد الحيدري: "".. فإن النظام الوجودي بلا هداية النبوة والإمامة هو نظام ناقص"".( ) واعتبر السيد الحيدري ان الفرق بينهما أن هداية الإمامة ""لا تخطئ الهدف أبداً، بل توصل إلى النتيجة المطلوبة التي تريد الوصول إليها""( ).

    ويقول أيضاً: ""فالأولى هداية بالأمر التشريعي، والثانية هداية بالأمر التكويني الإلهي""( ) ، ويقول تأكيداً لهذا الخلط بين هداية الإمامة كامتياز لمن صبر على البلاء، وكوظيفة للإمام في هداية التكوين: ""فالإنسان يصل إلى الهدف إذا شملته هداية الإمام التكوينية بعكس الهداية التشريعية، التي تقتصر على الإنذار وإراءة الطريق""( ).

    ويقول: ""أما الهداية بالأمر التكويني الذي لا يتخلف، ويعني الإيصال إلى المطلوب وسوق البشر إرادياً صوب الهدف، فهي تتمثل بالإمام ولا يقوم بها غيره، وهذه المسؤولية قد تجتمع مع الهداية التشريعية بشخص واحد، فيكون نبياً إماماً، وقد تفترق فيكون إماماً فقط. ولابد كي ينهض بهذه المهمة أن يقف على ملكوت السماوات والأرض ... ""( ).

    ولذلك – فمن وجهة نظر السيد الحيدري – فإن "" الإمامة كنظرية تكوينية، وبتعبير أدق جزء داخل في نظام التكوين عهدت فيه إلى الإمام مهام أساسية، منها إيصال كل إنسان إلى ما يستحقه من الكمالات المطلوبة، مع ما يمليه هذا الموقع من ضرورة أن يكون الإمام مطلعاً على الكمالات الوجودية وعلى كل درجات الوجود، مطلعاً بالكامل على الحق والباطل، وعلى الشؤون البشرية في المعاش والمعاد، وغير ذلك ..""( ).

    بل ""أن الحاجة إلى الإمام لا تقتصر على الاضطلاع بدور الهداية وحده فحسب، وإنما الهداية واحدة من وظائفه ومسؤولياته التي ينهض بها""( ).

    ولذلك ""فلو كان في الأرض إنسان واحد فقط لكان ينبغي أن يكون له دليل وموصل إلى المطلوب""( ).
    ويقول السيد الحيدري: ""وما دمنا نتحدث عن الإمام، فإنه يحتاج لكي يملأ دوره الوجودي الضخم إلى القوة الإضافية الخاصة – روح القدس – لكي يرى ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، ويتمكن من الضلوع بمهام الهداية الخاصة""( ).

    ولغرض أداء هذه المهمة، فإن السيد الحيدري يرى ""أن الأئمة زودوا بقوة تؤهلهم للقيام بالمهمة التي تم إيكالها إليهم، هذه القوة هي التي تعبر عنها الآيات والروايات ب(روح القدس)""( )
    ""فإذا ما أراد الإمام أن يكون دليلاً ومرشداً، فلابد أن يكون واقفاً على درجاتهم – العباد – الإيمانية والعقائدية والوجودية""( ).

    وتحديداً لموضوع البحث يقول السيد الحيدري: ""ينبغي أن أوضّح أن المراد بالإمام ليس أي شخص، بل المراد شخص بعينه. المراد منه الأئمة الاثنا عشر في النظرية الإمامية، وبعبارة أدق مرادي منه المعصومون الأربعة عشر في النظرية الإمامية، ابتداءً بمقام الرسالة والنبوة الرسول الأكرم محمد بن عبد اللّه (ص) وانتهاء بالإمام الثاني عشر، الإمام المهدي، مروراً ببضعته وأهل بيته وبقية الأئمة (ع)""( ).
    لأنه ""فقد يكون الشخص نبياً عليه النهوض بدور الهداية التشريعية، لكنه لا يتوفر على مقام الهداية التكوينية. تسأل: لماذا؟ أقول: لأن الهداية التكوينية جزء من نظام التكوين وليست أمراً اعتبارياً يمكن أن تُعطى أو لا تعطى، فذلك الشخص لم يصل إلى تلك الدرجة التي يبلغ بها مقام الإمامة التكوينية""( ).
    ولكن لا أدري لماذا حصرها عندئذٍ بالمعصومين الأربعة عشر؟!

    يبقى أن أشير إلى ما ذكره السيد الحيدري إذ يقول: ""وثم آيات كثيرة في القرآن تشير إلى أن للّه ولاية التشريع والتكوين، بل هي منحصرة فيه بالذات ولا توجد لغيره ولا عرضاً بنحو تكون عدلاً لولايته تعالى .. و طولا، لأنه لو كانت هناك ولاية لغيره ولو في طول ولايته تعالى للزم أن تكون ولايته محدودة ومتناهية .. نعم إذا قلنا إن هناك ولاية تكوينية أو تشريعية لغيره تعالى، فهي بنحو الظهور والتجلي، بمعنى أنهم مظاهر وتجليات للولاية المطلقة الإلهية""( ).، ولكنه مع ذلك يقول تعليقاً على الاستدلال بآية الولاية "" إن عدم تكرار الولي وجمعه وجَّهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد، هي للّه بالأصالة وبالذات، ولغيره بالعرض"".وسيأتي الحديث عن استدلاله على هذه الولاية من القرآن والروايات( ).ولكن السيد الحيدري يذكّر بان الولاية التكوينية ليست من التفويض، فيقول: "".. إن التفويض بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى قد فوَّض أمر العالم إلى عباده يفعلون ما يريدون، كما يصوِّر ذلك المفوضة أو أن اللّه تعالى فوَّض أمر هذا الكون تكويناً وتدبيراً وتشريعاً إلى الأئمة (ع) مثلاً كما يفعل ذلك بعض الملوك إذ يعتزلون عن تدبير مملكتهم ويفوضون ذلك إلى أحد وزرائهم، ولعل هذا المعنى هو المترائى – بدواً – من بعض النصوص الروائية والأدبية وغيرها، فهو ممتنع عقلاً، لأن ملك اللّه سبحانه للأشياء غير قابل للنقل والانتقال .. فالربوبية التي هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضاً ولا تمليكاً انتقالياً ..""( ).

    ولا نعرف ما هو الفرق بين ما أسماه بالولاية التكوينية وبين التفويض، وما هو الفرق بينهما؟ فإذا لم يكن المراد بالولاية التكوينية التدبير، فما هو المقصود به؟ وإذا لم يكن هو التدبير فلماذا لابد أن يرى الإمام ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى كما يعتقد السيد الحيدري من دور الإمام واضطلاعه بمهام الهداية الخاصة؟!
    وعـوداً على بدء، نشير أنّ المتتبع لسيرة النبي (ص) - على أقل تقدير - يلمس أنه (ص) كان يدير أمور دولته على المستويين الداخلي والخارجي وفقا لما عليه العقلاء وسيرتهم وأساليبهم، ولم يتوسل إلى ذلك بالمعجزات .

    هذا مضافا إلى أن السيد جعفر مرتضى نفسه وفي كتابه (الصحيح من سيرة النبي الأعظم)، وفي تعليقه على تدبير من تدابير النبي (ص) في إحدى معاركه مع اليهود - وتحديدا في حربه مع بني النضير - قال معلقا على هذا التدبير: "" إن تحويل النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله - قبته إلى السفح، حتى لا تنالها يد العدو، يعطينا: أنه - صلى الله عليه وآله - كان يتحرك من مواقع الحكمة والتدبير، وفقا لأحكام العقل وجريا على مقتضيات الفطرة .وأما المعجزة، والتصرف الإلهي الغيبي، فإنما كان في حالات خاصة، حيث تمس الحاجة لذلك وتفرضه ضرورة حفظ الإسلام ورمزه الأول، كما الحال بالنسبة لإخبار جبرائيل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وآله - بتآمر بني النضير على حياته صلى الله عليه وآله حينما ذهب إليهم يستمدهم في دية العامريين، حسبما تقدم. وكما كان الحال بالنسبة إلى الإمداد بالملائكة في حرب بدر، إلى غير ذلك من موارد فرضت التدخل الإلهي ، وحدوث المعجزة والكرامة من أجل حفظ الإسلام في منطلقاته الأساسية ، وفي رموزه الأولى والكبيرة . ولعل تحول النبي صلى الله عليه وآله إلى السفح بعد وصول النبل إلى تلك الخيمة كان يهدف إلى تعليم المسلمين هذا الدرس بالذات بالإضافة إلى دروس أخرى ..""( )
    ولذلك فمن الغريب ما يذكره السيد كمال الحيدري، إذ يقول: ""وأهل البيت (ع) لم يستعملوا التصرف التكويني دائماً، بل استخدموه للضرورة القصوى، فحيث تغلق أمامهم السبل لإثبات إمامتهم وخلافتهم الحقيقية لرسول اللّه (ص) كانوا يستعينون بالتصرف التكويني""( )
    ولا ندري متى حصل ذلك، وفي أي المنعطفات التاريخية التي اضطر إليها الأئمة (ع) فيها إلى ذلك، مما وقف عليه السيد الحيدري !!

    وبغض النظر عن مناقشتنا في صحة المدعى فإن الظاهر من كلام البعض في تحديدهم للولاية التكوينية لا يلتقي مع ما أشار إليه الآخرون من ولاية على الكون لفرض التدبير وقيادة البشرية، لأنهم يفترضون أمورا أخرى تدخل في اصطلاح الولاية التكوينية لم تؤخذ في الاصطلاح وفقا لما أشار إليه السيد جعفر مرتضى من تحديد كما هو ظاهر كلامه، ومنها الخلق والإعدام والرزق و .. وذلك لأن تدبير البشرية وقيادتها لا تقتضي على الأقل الخلق والإعدام. وبذلك لا يكون هذا التحديد الذي ذكره السيد جعفر مرتضى في كتابه (خلفيات) وافيا بالمطلوب على الأقل من وجهة نظر البعض. ولذلك نجد اصطلاح الولاية التكوينية عند آخرين يختلف عن التحديد الأول الذي يلتقي بالمعجزة، ويختلف عن التحديد الثاني الذي يفترق عن المعجزة نوعا ما، وفقا لما افترضه السيد جعفر مرتضى من كون الولاية التكوينية ضرورة حياتية …
    ولذلك عدل آخرون إلى تحديد مختلف كما قال بعضهم في كتابه (من فقه الزهراء ) : "" .. الولاية التكوينية ومعناها أن زمام العالم بأيديهم عليهم السلام .. كما أن زمام الإماتة بيد عزرائيل ، فلهم عليهم السلام .. التصرف فيها إيجادا وإعداما ..""( ) وفي موضع آخر قال: ""قد ذهب بعض العلماء إلى كونهم عليهم السلام العلة حدوثا بمعنى أن الكون منهم ككون الوفاة من عزرائيل . وعن الإمام المهدي – عجل الله تعالى فرجه الشريف - : ((نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا)).( ) . وقال : "" .. وأما كونهم عليهم السلام علته بقاء "" فلأن البقاء بحاجة إلى استمرار العلة كالمصباح حيث أن دوامه بحاجة إلى الاتصال المستمر بالقوة الكهربائية . وهم بإرادة الله وفي طوله تعالى علة كما أن الكهرباء بإرادته وفي طوله علة للإنارة .""( )

    ويتلخص مما سبق أن للولاية التكوينية تعريفين وتحديدين :

    أحدهما: أنه التصرف في الظاهرة الكونية، من دون أن يحدد أنصار هذا التحديد مدى سعة هذا التصرف ، وما هو الفرق بينه وبين المعجزة. ويلاحظ على عدد من العلماء خلطهم بين الولاية التكوينية والمعجزة .

    وقد كتب السيد محمد تقي القمي في هذا الصدد : "" لا إشكال في الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة عليهم السلام بل للأولياء المقربين . والقرآن اكبر شاهد على ذلك , حيث تعرض لموارد كثيرة من معجز الأنبياء ، كما ورد في سورة آل عمران الآية 49: ((أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ)) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الولاية التكوينية بالصراحة وأما الروايات فحدث ولا حرج ""( ) . والظاهر من كلامه انه لا يميز بين الولاية التكوينية وبين المعا جز ، بل انه يستدل عليها بما يدل على وقوع المعجز . وهو مما لا خلاف فيه . وعندئذ لا يكون ثمة فرق بين الولاية التكوينية والمعجزة .

    وهو الذي يظهر من كلمات الشيخ المنتظري إذ كتب: ""الولاية – بمعنى التصرف والاستيلاء على الشخص أو الأمر – إما تكوينية وإما تشريعية، ولا يخفى ثبوت كلتيهما بمرتبتهما الكاملة لله تعالى.
    ويوجد لرسول اللّه (ص)، بل لجميع الأنبياء أو أكثرهم وكذا للأئمة المعصومين – سلام اللّه عليهم أجمعين – بل لبعض الأولياء الكرام أيضاً مرتبة من الولاية التكوينية، بحسب ارتقاء وجودهم وتكاملهم في العلم والقدرة النفسانية والإرادة والمشيّة والارتباط باللّه تعالى وعناية اللّه بهم. إذ جميع معجزات الأنبياء والأئمة وكرامات الأولياء نحو تصرف منهم في التكوين، وإن كانت مشيَّتهم في طول مشية اللّه وبإذنه.
    قال اللّه تعالى خطاباً للخليل (ع): ((فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))(البقرة: 260).

    وقال حكاية عن موسى (ع): ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ*وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ))/(الأعراف: 107-108).
    وعن المسيح (ع): ((أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ))/(آل عمران: 49).
    وفي قصة آصف وعرش بلقيس: ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي))./(النمل: 40)
    وفي (نهج البلاغة) في آخر الخطبة (القاصعة) أن رسول اللّه (ص) أمر الشجرة أن تنقلع وتأتي رسول اللّه (ص) وتقف بين يديه، فانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير.
    إلى غير ذلك من المعجزات وخوارق العادات.

    هذا مضافاً إلى أن النبي (ص) والأئمة الطاهرين (ع) خلاصة العالم وثمرته في قوس الصعود وعلته الغائية. والعلة الغائية إحدى العلل.

    فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل أشجار مثمرة غرسها غارسها وسقاها وربّاها لتثمر أثمار حلوة جيدة. فالثمرة العالية غاية وجود الشجرة ومن عللها. فالنبي الأكرم والأئمة المعصومون ثمرة العالم في قوس الصعود وغايته وإن كان غاية الغايات هو اللّه تعالى بذاته المقدسة كما حقق في محله.
    وقد ورد: ((لولاك ما خلقت الأفلاك)).

    وفي (الزيارة الجامعة الكبيرة) خطاباً للأئمة (عليهم السلام): ((بكم فتح اللّه وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبكم ينفس الهم ويكشف الضر)).
    وأما ما نسب إلينا من الاعتقاد بكون العالم مخلوقاً للأئمة – عليهم السلام – لا للّه تعالى فبهتان عظيم.
    وأما ما في (نهج البلاغة) من قوله (ع): ((فإنا صنائع ربّنا والناس بعد صنائع لنا)) فلا يراد به الخلقة، بل الهداية والتربية، ولذا ذكر الناس فقط لا جميع الخلق. ومنه قولهم: ((المرأة صنيعة الرجل))، أي مرّباته.

    وكيف كان فأصل الولاية التكوينية بنحو الإجمال ثابتة لهم بلا إشكال وإن لم نحط بحدودها. ولكن محط البحث هنا الولاية التشريعية المستتبعة لوجوب الطاعة لهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم من هذه الجهة مضافاً إلى الأوامر الإرشادية الصادرة عنهم في مقام بيان أحكام اللّه تعالى، وللبحث في الولاية التكوينية لهم وكيفية صدور المعجزات محل آخر( ).

    وفي هذا الإطار كتب السيد فضل اللّه في تفسيره (من وحي القرآن):

    "" .. نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه اللّه للأنبياء والأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه – حسب فهمنا القاصر – ولكن يبقى – في المسألة – أن اللّه يمنح الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها""( ).

    وثانيهما : التصرف المطلق والكامل _ بإذن الله تعالى _ في الكون أما لتدبير أمور البشرية كما افترضه البعض ، فيكون التصرف في الكون مقدمة لإنجاز هذه المهمة، وأما انهم مفوضون من قبل الله في الأخذ بزمام الكون خلقا وإعداما وغير ذلك من الرزق والحساب بغض النظر عن قيادتهم لأمور البشرية .
    وقد مر بنا أن البعض يدعي أن للمعصوم مثل هذه المهمة – بتفويض من الله – كما مر في مؤلف كتاب (من فقه الزهراء)، بل كتب أحد العلماء يقول:."" .. ومن الذي قال إن الله تعالى لا بد أن يباشر بنفسه إدارة نظام الكون والحال انه يقول (والمدبرات أمرا) ، وقد جعل الله تعالى نظام العلية والمعلول وسيلة لصدور كثير من الأشياء في الكون ، وقد قيل بهذا الصدد ((أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسبابها ..))( )، وإن كان يظهر من بعض كلماته عدم الفرق بين الولاية التكوينية والمعجزة .

    [/align]





  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي الاحتمالات في المسألة

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]الاحتمالات في المسألة : [/mark]

    وبغض النظر عن التعريفات والتحديدات المشار إليها آنفاً ، يمكن أن نذكر عدة احتمالات لتفسير المصطلح والمقصود منه :

    الاحتمال الأول : أن يكون المقصود منه هو التصرف بالظاهرة الكونية على خلاف المألوف و القانون الطبيعي وعلى نحو يكون التصرف المشار إليه ، إما رداً للتحدي الذي يواجه المعصوم أو إكراماً له و إظهاراً لكرامته .. ووفقاً لهذا الاحتمال ليس ثمة فرق بين الولاية التكوينية بهذا المعنى وبين المعجزة .

    الاحتمال الثاني :

    أن يكون المقصود منه التصرف بالظاهرة الكونية على النحو المذكور أعلاه ، وبنحو سيكون المعصوم قادراً عليه دائماً وأبداً . وليس في مقام الحاجة المشار إليها بل كوسيلة من وسائل إنجاز مهمة المعصوم في تدبير أمور الكون و أمور البشرية .. وهذا المعنى وإن كان مغايراً للمعجزة إلا أنه يتفق معهما في كونه وسيلة من وسائل إنجاز مهمات المعصومين من أنبياء وغيرهم .

    وقد ذكرنا أن لا دليل على هذا المعنى ، بل الدليل عن خلافه، إذ لم يعهد - غالبا - في سيرة الأنبياء والمعصومين ومنهم النبي (ص) والإمام علي (ع) إنهم كانوا يدبرون أمور مجتمعاتهم بهذه الطريقة .

    الاحتمال الثالث : أن يكون المقصود منه تصرف المعصوم بالكون بتفويض من الله تعالى . إما على نحو يكون المعصوم هو الذي يسيّر الأحداث وفقا للعلل الغائبة عنا، و إما على نحو يكون المعصوم قد فوض من الله تعالى لأن تكون إرادته جارية ونافذة محل إرادة الله تعالى، وعندئذ كل ما يريده المعصوم سيكون نافذا ، من خلق وإعدام ورزق وأي تدبير آخر .. وقد ناقش السيد كاظم الحائري كلا الشقين من الاحتمال المذكور ، قال ما نصه: "" فان فرض الأول، وهو أن الله تبارك وتعالى ارشد الأئمة عليهم السلام إلى علل الحوادث والأحداث فيتصرفون في العالم وفق تحريك العلل ، فهذا كلام في الوقت الذي لم أجد دليلا عليه لا في كتاب ولا في سنة لا يوجد دليل مخالف ومعارض له في الكتاب والسنة ولا توجد لدينا ضرورة دينية تمنع عن القول بذلك .أما لو قصدوا المعنى الثاني ، وهو أن الله فوض إليهم الأمور . فكما أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما يشاء وبإرادته يسير العالم كذلك نفترض الإمام (ع)، وكأنه يحل محل الله تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته، فهذا في روحه يرجع إلى التفويض، أو إلى شق من شقوق التفويض الذي ننكره كما ننكر الجبر، ونقول لا جبر ولا تفويض. إن التفويض له معنيان وشقان، فتارة يفترض أن الله تعالى فوض العالم إلى عباده، وهو كأنما ترك العالم، وعباده يفعلون ما يريدون وأخرى يفترض: أن الله تبارك وتعالى فوض العالم إلى قسم من عباده فقط – وهم المعصومون (ع) . وهذا التفويض بشقيه يخالف ظاهر الآيات المباركات التي تسند الأمور – دائما ومباشرة – إلى الله تعالى .""( ) على أن الاحتمال الأخير في بعض شقوقه يتفق مع فكرة (التفويض) التي شاعت في وقت من الأوقات وفي ظل حياة الأئمة المتأخرين خاصة.

    قال العلامة المجلسي : "" وأما التفويض فيطلق على معان بعضها منفي عنهم (ع) وبعضها مثبت لهم . فالأول : التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء ، فإن قوما قالوا : إن الله تعالى خلقهم وفوض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون . وهذا الكلام يحتمل وجهين : أحدهما أن يقال إنهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقة ، وهذا كفر صريح دلت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ولا يستريب عاقل في كفر من قال به . وثانيهما أن الله تعالى يفعل ذلك مقارنا لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات ، فإن جميع ذلك إنما يحصل بقدرته تعالى مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم ، فلا يأبى العقل أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ، ثم خلق كل شيء مقارنا لإرادتهم ومشيئتهم . وهذا وان كان العقل لا يعارضه كفاحا، لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به . فيما عدا المعجزات ظاهرا بل صراحا ، مع أن القول به قول بما لا يعلم – إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم .""( ) ويتضح مما سبق أن الاحتمالات المشار إليها بعضها مما قام الدليل على جواز القول به كما هو الحال في المعجزة ، وبعضه مما لا يجوز القول به كما في التفويض في بعض شقوقه لبطلانه ، وبعضه مما لا يجوز القول به – على الأقل – لعدم الدليل عليه فيكون من القول بغير علم .
    [/align]





  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي الأدلة على الولاية التكوينية

    [align=justify]
    [mark=CCCCCC]الأدلة على الولاية التكوينية [/mark]

    وقد استدل على الولاية التكوينية بعدد من الشواهد، منها ما هو قرآني ومنها ما هو روائي .

    [overline]أولا : الدليل القرآني [/overline]

    ويمكن تصنيفه إلى شقين أحدهما : الدليل الدال على وقوع المعجزة، وثانيهما : الدليل الدال على ما يمكن تسميته بالولاية التكوينية بغض النظر عن دليل المعجزة .

    أما الدليل الأول فلا كلام فيه ، ولا يمكن أن يثبت المطلوب لأنه إن أثبت شيئا فإنما يثبت الولاية التكوينية بمعنى المعجزة وفقا للاحتمال الأول ، ولا كلام فيه .

    أما الدليل الثاني فربما يستدل بالتالي من الآيات الكريمة منها :

     قوله تعالى : ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا))/(الأحزاب: 72) .

    وقد استدل بهذه الآية على الولاية التكوينية بتقريب أن المراد من (الأمانة) هي أمانة مسؤولية الكون -كل الكون – وان المراد من الإنسان هو الإنسان الكامل وهو المعصوم( ) .

    ويرد على الاستدلال انه تفسير لا شاهد له، إذ فسرت (الأمانة) بعدة احتمالات وهي : العقد الذي يلزم الوفاء به ، أو ما أمر الله به من تكليف ، أو هي أمانات الناس والوفاء بالعهود ، أو هي العقل الذي هو ملاك التكليف ، أو هي أعضاء الجسم ، أو هي معرفة الله ، أو هي الإمامة ، أو ولاية أمير المؤمنين (ع) وولده من بعده كما في عدد من الروايات( ) .

    ولم يفسر أحد من المفسرين الإمامية ممن تقدم ومن تأخر منهم (الأمانة) في هذه الآية الكريمة بأنها مسؤولية الكون، ولا أقل من انه أحد الاحتمالات ولا معيّن له، بل الدليل على خلافه .

    أما كون (الإنسان) الوارد في الآية هو المعصوم فهو تفسير لا شاهد له من جهة، وتفسير بما لا ينبغي من جهة أخرى . وذلك لأنه وصف بالجهل والظلم ، وكيف يمكن إلحاقه بالمعصوم .

    ولذلك قال الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) لا يجــــوز أن يكون – يعني الإنسان – محمولا على آدم (ع) لقوله إن الله اصطفى آدم، وكيف يكون من اصطفاه الله من بين خلقه موصوفا بالظلم والجهل .
    وإذا كان يمكن تفسير (الأمانة) بمعنى مسؤولية الكون فذلك بمعنى (الخلافة) بما هي استئمان ، لأنها – الأمانة- تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب إذ بدونهما لا يدرك الإنسان انه مسؤول، وبذلك يكون الإنسان مسؤولا أمام الله تعالى بوصفه خليفته في رعاية الكون وتدبير أمر الإنسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية .( ) أو يمكن تفسيرها – كما عن السيد الطباطبائي – بالولاية الإلهية وكمال صفة العبودية التي تتحصل بالعلم بالله والعمل الصالح .( ) وبذلك يتضح معنى قوله (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) أي اشتمل على صلاحيتها ، (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) أي ظالما لنفسه وجاهلا بما تعقبه الأمانة لو خانها وفرط فيها ..

     ومنها قوله تعالى : ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)) هود /7 .

    وقد استدل بهذه الآية بتقريب أن الآية تفيد أن العلة من الخلق هو خلق من كان احسن عملا . والأحسن هم المعصومون وفي مقدمتهم رسول الله (ص) .

    وإذا ثبت أن الوجود الكوني معلق على وجود المعصوم عليه السلام ثبتت له الولاية التكوينية، لأنها اصغر بكثير من شأن تعلق الوجود الكوني به( ).

    ويرد على الاستدلال المذكور انه:

    أولا: خلاف ما عليه أعلام المدرسة الامامية ومفسريها. فقد فسرها الشيخ الطـــوسي في (التبيان) ، قال : "" وقوله – ليبلوكم – معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر ، مظاهرة في العدل لئلا يتوهم انه يجازي العباد بحسب ما في المعلوم انه يكون منهم قبل أن يفعلوه ..""( ) وفسرها الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان)، قال : "" ليبلوكم أيكم أحسن عملا – معناه انه خلق الخلق ودبر الأمور ليظهر إحسان المحسن، فانه الغرض في ذلك . أي ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لئلا يتوهم انه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه انه يكون منهم قبل أن يفعلوه ..""( ) . وقال الفيض الكاشاني في تفسيره (الصافي) : ""ليبلوكم أيكم أحسن عملا – أي خلقهن لحكمة بالغة وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بفنون النعم ويكلفهم ويعرضهم لثواب الآخرة، ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال ليبلوكم، أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي ..""( ) والتفسير نفسه في (البرهان)( ) وتفسير (نور الثقلين)( ) و (كنز الدقائق)( ) و (مقتنيات الدرر)( ) و (الميزان) ( ) و(الكاشف)( ) و(الأمثل) و (من وحي القرآن) .

    وثانيا : فإن الظاهر من الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض على خلق لغاية امتحان الناس واختبارهم ، وعليه فإن التعليل المذكور من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة والمصالح المتفرعة( ) ، وعليه فإن الغاية من الخلق هي الاختبار والامتحان ليميز الخبيث من الطيب والجيد من الرديء. وليس فيها ما يدل على أن الخلق إنما خلق من الله تعالى للأحسن من هؤلاء الناس، ولو كان المراد من ذلك لكان التعبير بما يقرب من القول : إن الخلق إنما خلق للأحسن والأفضل ولم يرد التعبير بما يقرب من هذه الصورة ، بل الظاهر أن الخلق غايته الامتحان . ولذلك ينسجم هذا الظاهر مع ما ذكره أغلب المفسرين ممن أشرنا إليهم.

    ولذلك لا يستقيم القول بأن غاية الخلق هو الأحسن عملاً والأفضل، لأنه خلاف الظاهر ، لأن قوله (أيّكم أحسن عملاُ) بيان للابتلاء والامتحان ، فلا يزيد قوله هذا على ما تقدم من أن غاية الخلق هي الابتلاء والامتحان .

    وثالثاً : ولو قيل إن الآية لا تخلو من إشارة أو دلالة على أن غاية الخلق والغرض المقصود من الخلقة هو الأفضل مطلقا من بين الناس ( ) فانه لا يثبت المطلوب من الاستدلال على الولاية التكوينية ، لأن أقصى ما تدل عليه الآية هو أن الأفضل والأحسن هم العلة الغائية للخلق ، ولا ملازمة بين أن يكونوا هم غاية الخلق وبين القول أن بيدهم زمام الكون وأنهم يخلقون ويرزقون وغير ذلك ، فإن ذلك معنى آخر يحتاج إلى دليل مستقل.

    نعم تكون هذه الآية على وزان ما دل من الروايات على الارتباط بين العالم والإمام على نحو لا يستقيم من دونه ، وهو ما عبرت عنه بعض الروايات ب(ساخت) الأرض ونحو ذلك مما سيأتي .

     ومنها قوله تعالى : ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا*يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا))/(الجن: 1-2).

    والاستدلال بهذه الآية على الولاية التكوينية بتقريب: أن الإنذار والتبشير الموكول إلى الرسول (ص) يشمل الجن كما يشمل الإنس كما تدل عليه الآية المشار إليها ، ومثل هذا الدور يفترض أن يكون للرسول ولاية تكوينية بواسطتها يتواصل مع عالم الجن، لأن مثل هذا التواصل لا يتم بدون قدرات الولاية التكوينية( ) .

    ويرد على الاستدلال أولا : انه خلاف ظاهر الآية ،لأن ظاهر الآية أن النبي (ص) لم يجتمع بالجن بل انه اخبر عن طريق الملك انه استمع إليه نفر من الجن، وبذلك لا يصح الاستدلال بهذه الآية على أن النبي (ص) كان لا بد أن يتواصل مع الجن بمقتضى هذه الآية ودلالتها .
    وتفاسير الإمامية( ) اتفقت كلمتها – وفقا لظاهر الآية – على أن النبي (ص) لم يجتمع بالجن بل أوحي إليه بما وقع من استماع الجن إلى كلام الله .

    بل إن عددا من مفسري الإمامية من صرح بذلك كما في تفسير (كنز الدقائق) قال "" وفيه دلالة على انه (ص) ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله( ) . وفي تفسير (الأمثل) قال : "" التعبير بـ ( أوحي إلي ) يشير إلى أن النبي (ص) لم يشاهد الجن بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي ""( ) . وفي تفسير (من وحي القرآن) قال : "" لم يتعرف النبي على إيمان الجن إلا من طريق الوحي ، لا من التجربة الحسية ""( ) نعم نقل الحويزي في تفسيره (نور الثقلين)( ) رواية مرسلة رفعها إلى بعض الصحابة تدل على اجتماع النبي (ص) بالجن لغرض التبليغ ، إلا أنها غير صالحة للاستدلال أو التعويل عليها بعد زمن إرسالها ، بل ومخالفتها لظاهر القرآن إن لم يكن صريحه .

    وقد نقل الحويزي( ) عدة روايات عن الأئمة من أهل البيت (ع) تدل على اجتماع الأئمة بالجن وخدمة الجن لهم وسؤال الجن لهم، إلا أن أغلب هذه الروايات ضعيف السند، رواه المجهول والضعيف، وإن صلحت لإثبات مضامينها، وأن الأئمة (ع) كانوا يجتمعون إلى الجن، فلا تثبت الولاية التكوينية كما سيأتي بيانه .

    ويرد على الاستدلال ثانيا : أن لا ملازمة بين أن يكون النبي أو المعصوم (ع) على اتصال بعالم الجن وبين أن يكون له الولاية التكوينية بالمعنى المراد إثباته، من القدرة على الخلق والإيجاد والإعدام والإماتة والرزق و.مما يفيد إدارة الكون نيابة عن الباري تعالى .
    نعم إذا كان ثمة حاجة في مقام التبليغ لأن يتصل بعالم الجن ، فانه سيكون قادرا على ذلك – بقدرة الله – لإنجاز مهمته الرسالية ، وإلا سيكون خلافه نقضا للغرض .

     ومنها قوله تعالى : ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ*سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ))/(القدر)
    والاستدلال بهذه الآية بتقريب: أن الملائكة والروح تتنزل في كل ليلة قدر بكل أمر من الرزق والأجل وغير ذلك مما يتعلق بشؤون الكون الأرضي على الرسول (ص) ومن بعده إلى الأئمة (ع)، وهو يعني أن للنبي (ص) والأئمة (ع) من بعده الولاية على هذه الأشياء وإلا فما هي دواعي النزول عليهم( ) .
    ويرد على الاستدلال المذكور انه تفسير بالمأثور( ) من أن نزول الملائكة والروح إنما يكون على النبي والأئمة من آله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) ، وهو ما يمكن مناقشته، إن من خلال ظاهر الآية الكريمة في سورة (القدر) حيث لم يرد فيها ما يشير إلى ذلك، أو من خلال بعض الآيات الأخرى من كتاب الله ، كما في قوله تعالى: ((حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ*أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ))/(الدخان:1-6) . مما يؤكد أن الأمر – وهو تقدير كل شؤون الكون وما فيه على بعض التفاسير – من الله تعالى وليس لأحد فيه نصيب .

    ولو تجاوزنا هذه الملاحظة فإن التفسير المشار إليه ، لا ينهض بإثبات الولاية التكوينية، لأن نزول الملائكة والروح على النبي (ص) والأئمة (ع) من بعده لا يعني أنهم يدبرون أمور الخلق ويكتبون أرزاقهم وآجالهم ، بل يمكن أن يكون ذلك تكريما لهم و حسب .

    وهذا ما يؤكده العلامة المجلسي .قال : "" وأما ما ورد من الأخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر إليهم , وانه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليتهم في ذلك ، ولا الاستشارة بهم ، بل له الخلق والأمر تعالى شأنه ، وليس ذلك إلا لتشريفهم وإكرامهم وإظهار رفعة مقامهم ""( )

     ومنها قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ))/(الرعد 43)، وذلك أن الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع)، فهو بمقتضى هذه الآية يعلم الكتاب كله، وهذا الكتاب هو الكتاب التكويني، وذلك بضم هذه الآية إلى آية أخرى في سورة (النمل) الآية 40: ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ))، فمن كان عنده العلم، كان قادراً على نقل عرش بلقيس، فكيف بمن يعلم الكتاب كله؟!( ) ولغرض إثبات أن الكتاب المشار إليه في الآيتين واحد، يتشبث السيد الحيدري بمقولة إن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ولذلك لا يمكن أن نحمل الكتاب في الآيتين على معنيين، وذلك لأسباب كثيرة منها أن مصدر الكلام واحد، وهو معصوم إلاّ إذا قامت القرينة على الخلاف( ).

    ولذلك فسّر السيد الحيدري قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ))/(الشورى: 52)، بأن المراد من علم الكتاب وعلم الإيمان هو الأمر التكويني( ).

    ولأجل أن يثبت أن الكتاب في الموضعين واحد، لجأ السيد الحيدري – أيضاً – إلى الرواية، فنقل عن (الكافي) ما رواه سدير عن أبي عبد اللّه الصادق (ع) قال: ((كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد اللّه (ع)، إذ خرج إلينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه، قال: يا عجباً لأقوام يزعمون إنا نعلم الغيب،ما يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّ وجلّ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي. قال سدير: فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له: جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك، ونحن نعلم أنك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب. قال: فقال: يا سدير ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ))، قال: قلت: جعلت فداك، قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده علم الكتاب؟ قال: قلت: أخبرني به؟ قال: قدر قطر من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب؟ قال: قلت: جعلت فداك ما أقل هذا؟ فقال: يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب اللّه عزّ وجلّ أيضاً: ((قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ))، قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك، قال: أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كله، قال: فاومأ بيده إلى صدره، وقال: علم الكتاب واللّه كله عندنا، علم الكتاب واللّه كله عندنا))( ).

    ويرد على الاستدلال: إن التسوية بين معنى الكتاب في الموردين، بل وفي غيرها مما استدل به السيد الحيدري غير صحيح، وذلك لأنه قد يطلق في الآية لفظ (الكتاب) ويراد منه معنى مغياراً لما يراد من اللفظ في موضع آخر. ويكفي أن يرجع القارئ إلى عدة آيات من سورة (الرعد) ليقف على ذلك، حيث يقول اللّه سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ*وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ*وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ*يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))/(الرعد: 36-39).

    فالكتاب ورد في هذه الآيات تارة بمعنى جنس الكتاب المنزل من اللّه عزّ وجلّ كما في المنزل إلى موسى وعيسى (ع)، وأخرى بمعنى الحكم المقضي المكتوب كما في قوله تعالى (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، وثالثة بمعنى اللوح المحفوظ.

    وعليه فالمعنى ليس واحداً بالضرورة لمجرد ان يكون المصدر واحداً والمتكلم واحداً كما ادعاه السيد الحيدري، بل أن المراد مختلف، وما ادعاه من وحدة المعنى يحتاج إلى قرينة وإلى معيّن، وليس هناك من معيّن سوى الرواية التي سنشير إليها وما فيها من إشكال.

    وعليه فالمعنى في الآية التي استدل بها على الولاية التكوينية للإمام لجهة كونه يعلم الكتاب كله، غير ما ذكره – بتعسف – السيد الحيدري، بل يعني الكتاب في قوله تعالى: ((قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) القرآن الكريم، والمعنى أن من تحمل هذا الكتاب وتحقق بعلمه واختص به فإنه يشهد على أنه من عند اللّه( ).

    وعليه ""فالمقصود ب(من عنده علم الكتاب) هم العالمون بمحتوى القرآن الكريم كما يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي""( ).

    ولذلك ورد في الرواية أنه أمير المؤمنين علي (ع) وهو من باب التطبيق والجري، حيث أنه والأئمة (ع) من أبنائه المصداق الأكمل للعالمين بالقرآن. ولذلك كتب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ""وهذه الروايات غير دالة على الحصر، وكما قلنا فإنها تشير إلى مصداق أو مصاديق تامة وكاملة""( ).

    وعليه فلا موجب لما ذكره السيد الحيدري من وحدة المعنى في هذه الآية وما ورد في سورة (النمل):

    ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ)) لأن المعنى هناك يختلف عن المعنى في الآية الأخيرة.

    ويظهر من ذلك أنه من غير الصحيح تفسير (الكتاب) في قوله تعالى: ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)) بأنه الكتاب التكويني، لأن الآية بصدد الحديث عن الوحي وعن دور هذا الوحي في الهداية، الذي لم يكن له (ص) قبل بعثته عهد به. وعليه فالآية كما عن السيد الطباطبائي مسوقة لبيان أن ما عنده (ص) الذي يدعو إليه إنما هو من عند اللّه سبحانه وتعالى لا من قبل نفسه، وإنما أولي ما أولي من ذلك بالوحي بعد النبوة. فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإن ذلك هو الذي أوتي العلم به بعد النبوة والوحي،وبعدم درايته بالإيمان عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة""( ).

    وما استدل به السيد الحيدري من روايات تأييد الأئمة (ع) بالروح وأنه أعظم من جبرئيل ومكائيل لا يدل على المطلوب، فإن الروايات لا تثبت أكثر من التأييد ولا تثبت سوى الفهم والعلم دون أن يكون ذلك بالمستوى الذي يكون لهم حق التصرف في الكون وإدارته. ولذلك ورد في جملة هذه الروايات المفسرة للآية قوله (ع): (( .. بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث اللّه الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها اللّه تعالى من شاء فإذا أعطاها عبداً علمه الفهم))( ).

    بل حاول السيد الطباطبائي تصحيح تفسير (الروح) بمعنى الكتاب، فيكون المعنى وكذلك أوحينا إليك الكتاب وما كنت تدري ما الكتاب( ).

    ولذلك لم يبق للسيد الحيدري باستفادة وحدة المعنى للكتاب في الموردين إلا الرواية التي رواها سدير،ويكفي للرد عليه انه لا يصح الاستدلال على مطالب اعتقادية بروايات آحاد ولو صحت على أنها:

    أولاً: رواية غير صحيحة، بل إنها رواية يكثر في سندها المجهول والمختلف فيه، خاصة في إثبات مطلب اعتقادي، بل وهو محل جدل كبير، فقد وقع في طريقها: (عباد بن سليمان) وهو مجهول، و(محمد بن سلمان) مجهول، بل وقع الكلام في سدير نفسه.

    وثانياً: أن الرواية غريبة في مضمونها، وهي تسيء إلى مقام الإمام الصادق (ع) وهو يتحدث بحديثين لا يجمعهما جامع.

    وعليه، فلا يصح ما يقوله السيد الحيدري من أنه يستدل بالقرآن على الولاية التكوينية، إذ ليس ما يدعيه دالاً على ثبوتها قرآنياً، كما اشرنا إليه، وذلك لظهور لفظ (الكتاب) في القرآن الكريم من قوله تعالى ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) وليس المقصود به الكتاب التكويني، ولا يصح ما حاوله من المواءمة بين مورد الآية هذه ومورد الآية التي وردت في سورة (النمل) ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ)) لاختلاف الموردين، فلم يبق له إلا الرواية، وقد بيّنا أنها غير صالحة للاستدلال.

    وبذلك يعرف قوله من أنه لا يستدل بالرواية بل يستعين بها شاهداً بعد استفادة المطلوب من القرآن، إذ يقول: ""في الحقيقة هناك مستويان للتعامل مع النص الروائي، فمرة نستعمل الرواية كدليل على المستدل فيكون الاستدلال روائياً، وهنا تنطلق مجموعة من النقاشات والاستفهامات عن سند الرواية وهل هي ضعيفة أو من أخبار الآحاد إلى غير ذلك. ولكن هناك مستوى ثانٍ نستفيد فيه المدعى من القرآن، ثم ننتقل إلى الرواية لننظر هل هناك شواهد روائية على فهمناه من القرآن أم لا، وفي الحالة الثانية لا تكون الرواية دليلاً، بل هي مؤيد وشاهد، ومن ثم لا معنى لالتزام دقائق البحث السندي على هذا المستوى. وهذا الحوار أثبت الولاية التكوينية بالقرآن لا برواية لكي يطعن فيها أنها أخبار آحاد، أو ضعيفة السند. أجل نحن نستعين بالبحث الروائي في تحديد المصداق ومن هو المعني بقوله تعالى ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ))( ).

    وذلك لأنه قد تبين أنه يستدل بهذه الرواية وغيرها أيضاً على وحدة المعنى في الآيتين، وهو ليس مستفاداً من القرآن، بل مستفاد من رواية ضعيفة بعض رواتها مجهولون..

     ومنها: قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ))/(المائدة: 55)، وتقريب الاستدلال بالآية على الولاية التكوينية بدعوى أن معنى الآية هو التصرف، لا بمعنى المحب والناصر، وولاية اللّه ولاية تكوينية وتشريعية. وبضميمة السياق يمكن أن يقال إن معنى الولاية الثابتة للرسول والإمام علي (ع) واحد للرسول والإمام (ع) – ولأبنائه المعصومين بما هم أئمة – الولاية التكوينية( ).

    ويرد عليه: إن كون الولاية الثابتة للرسول والذين أمنوا وهو أمير المؤمنين (ع) - بمقتضى ما دلّ من الروايات – هي من سنخ الولاية الثابتة للّه، لا يعني بالضرورة ثبوت كل ما هو ثابت للّه سبحانه وتعالى، بل أن (الوحدة) إنما لوحظت في مقابل المعنى الآخر للولاية، لئلا يقال إن الولاية الثابتة للرسول وأمير المؤمنين هي ولاية المحبة والنصرة، ولذلك ليست الآية متعرضة لسعة هذه الولاية لتكون ولايتهما – الرسول والإمام – كولاية اللّه، بل لا يمكن أن يقال إن ولايتهما كولايته، لأنّ الولاية التكوينية والتشريعية للّه سبحانه وتعالى ثابتة بمرتبتهما الكاملة، ولا يمكن أن يدعي أحد بثبوتهما بهذه المرتبة للرسول والإمام.
    والذي يدل على هذا الفهم ما ورد في (أصول الكافي) عن الصادق (ع) في تفسير الآية إذ قال: ((إنما يعني: أولى بكم، أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأحوالكم اللّه ورسوله والذين آمنوا، يعني علياً وأولاده الأئمة (ع) إلى يوم القيامة))( ).

    وعليه فالآية بصدد بيان الولاية بمعنى التصرف الذي يعني الإمرة والرجوع إلى الرسول والإمام (ع).

    [overline]ثانيا : الدليل الروائي [/overline]

    استدل على الولاية التكوينية بعدد من الروايات منها: مما روي في كتاب (بصائر الدرجات) وأخرى من كتاب (الكافي) وغيره. لكن يلاحظ أن الأكثر مما روي في (بصائر الدرجات)، لا طريق إليه أو على الأقل فإن الطريق إليه مما وقع فيه البحث والجدل( )، ولذلك لا يقطع بل ولا يطمأن بما روي فيه من أخبار ، هذا مع ملاحظة أن الصحيح من هذه الروايات بل وغيره ، لا يدل على الولاية التكوينية ، بل هو إما دال على وقوع المعجزة من النبي (ص) والأئمة (ع) وهو أمر لا خلاف فيه، لأنّ الخلاف في الولاية التكوينية بمعنى إدارة الكون ورعايته وتدبيره ، وإلا فلا نزاع كلية، وإما دال على انهم يعلمون أمر الدين – كل الدين – ولا يخفى عليهم منه شيء ، وانهم ورثة هذا العلم، وانهم ورثوا علم الأنبياء كله، وانهم يعلمون ما يكون .

    ويمكن أن ننقل بعض الروايات لئلا يطول بنا الحديث، ونقتصر على نماذج منها :

    1-ما روي عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) قال خلق اعظم من جبرائيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممن مضى ، غير محمد صلى الله عليه وآله ، وهو مع الأئمة يسددهم .

    2-
    عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال : كان سليمان عنده اسم الله الأكبر الذي إذا سأل أعطى، وإذا دعا به أجاب، ولو كان اليوم لاحتاج إلينا .

    3- عن عبد الله بن جندب انه كتب إليه أبو الحسن الرضا عليه السلام : أما بعد فإن محمدا صلى الله عليه وآله كان الأمين في خلقه فلما قبض كنا أهل البيت ورثته ، فنحن أمناء الله في أرضه ، عندنا علم المنايا والبلايا ، وانساب العرب ، ومولد الإسلام .

    4- عن أبي بصير قال : ""دخلت على أبي عبد الله عليه السلام أبى جعفر عليه السلام وقلت لهما : فرسول الله وارث الأنبياء علم كل ما علموا ؟ فقال لي نعم ، فقلت : انتم قادرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والأبرص ؟ فقال لي : نعم بإذن الله ، ثم قال : أدن مني يا أبا محمد فمسح يده على عيني ووجهي وأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت …""

    5- عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان علي عليه السلام محدثا وكان سلمان محدثا ، قال : قلت فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت .

    6- عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال : سئل علي عليه السلام عن علم النبي صلى الله عليه وآله فقال : علم النبي علم جميع النبيين وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة . ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي صلى الله عليه وآله وعلم ما كان وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة .


    7-
    عن أبي الحسن الأول أن الله تعالى يقول في كتابه ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى))/(الرعد: 31) فقد ورثنا نحن هذا القرآن فعندنا ما يقطع به الجبال ، ويقطع به البلدان ويحيي به الموتى بإذن الله ، ونحن نعرف ما تحت الهواء ، وإن كان في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاه الله الماضين النبيين والمرسلين إلا وقد جعله الله ذلك كله لنا في أم الكتاب . إن الله تبارك وتعالى يقول : ((وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))/(النمل: 75)، ثم قال جل وعز: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))/(فاطر: 32) ، فنحن الذين اصطفانا الله فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء


    8-
    عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال : قلت له : ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) قال : كشفت له السماوات والأرض حتى رآها ورأى ما فيها والعرش ومن عليه . قال : قلت : فأوتي محمد مثل ما أوتي إبراهيم ؟ قال : نعم وصاحبكم هذا .

    والروايات المشار – بغض النظر عن أسانيدها – لا يثبت مطلوب المستدل للولاية التكوينية . فإن أقصى ما تدل عليه – كما ذكرنا – وقوع المعجزة منهم . وانهم يعلمون علم الأنبياء . وانهم يعلمون ما يكون . وانهم انكشفت لهم السموات والأرض .. وليس في ذلك ما يدل على انهم المدبرون للكون وان رعايته وزمامه بيدهم يخلقون ويميتون ويرزقون و ….

    9 – ولعل أهم ما يستدل به ما ورد في حديث الثقلين عن رسول اللّه (ص) قوله: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).

    وتقريب الاستدلال به على الولاية التكوينية بدعوى أن علم الكتاب مختص بأهل البيت (ع)، وهم لا يفترقون عن علم الكتاب، وهو لا يفارقهم، خاصة بضميمة الآية الكريمة: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ))/(الرعد: 43)( ).

    وعدم الافتراق بينهم وبين القرآن يعني أنهم يعلمون كل صغيرة وكبيرة في كتاب اللّه، وإلا لو لم يعلموا لوقع الافتراق( ).

    ومن كان يعلم الكتاب وعنده علمه كله، يستطيع أن يؤثر في التكوين من باب الأولوية العقلية والقطعية، وذلك لأنه أولى بكل تأكيد من الذي عنده ((علم من الكتاب)) الذي لا إشكال فيه أنه يؤثر في التكوين( ).
    ولأن هناك ثغرة في الاستدلال لجهة أن الكتاب ليس واحداً في الموردين، لأن (الكتاب) المشار إليه في حديث الثقلين، هو القرآن، والعلم به لا يستدعي العلم بعالم التكوين، يضطر المستدل – وهو السيد الحيدري – إلى ضم دعوى جديدة مفادها أن للقرآن مرتبة ظاهرة، وهو كونه بلسان عربي، ومرتبة باطنية، أو بحسب تعبير القرآن ذاته أن له مرتبة ملكوتية ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ))/(الزخرف: 4)، و ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ))/(الواقعة: 77-79)، وهو يرجع إلى الكتاب المكنون، لأنه أقرب إليه من قوله ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)).

    وعليه فلا يمس هذا الكتاب المكنون إلاّ المطهرون، وهم المشار إليهم في آية التطهير، وهم أهل البيت (ع)، وعدم افتراقهم عن القرآن يعني أنهم يعلمون ما فيه ببعده الظاهري، وببعده الباطني وإلاّ لوقع الافتراق. ومن الواضح – على حد تعبير المستدل – أن من وقف على الملكوت يستطيع أن يتصرف في نظام التكوين بحكم قول اللّه سبحانه ((فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))/(يس: 83)، إذن من وقف على الملكوت يستطيع أن يتصرف من خلال ((كن فيكون)) بإذن اللّه سبحانه( ).

    ويُردّ على الاستدلال:

    إنه يقوم على وجهة نظر أرتآها السيد الطباطبائي – وقد اعتمد السيد الحيدري في معظم أبحاثه على تلخيص مطالب الميزان – في اعتبار أن للقرآن الكريم مرتبتين ظاهرة وباطنة، وهي وجهة نظر ليس في الأدلة ما يؤكدها، بل غاية ما دل عليه القرآن الكريم في الآيات الكريمة التي أشارت إلى أنه (القرآن) في كتاب مكنون، أو في لوح محفوظ، أو أنه في أم الكتاب، فإنها تدل على أنه مصون وأنه محفوظ من كل تغيير وتحريف، ولا يدل على أن له مرتبتين.

    وما يذكره السيد الحيدري من إرجاع الضمير في قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ))، غير صحيح، لأنه بحسب السياق راجع إلى القرآن نفسه، ولذلك قال ((تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، والمنزل هو القرآن لا الكتاب المكنون، بل إن السياق يدل على إرجاع الضمير إلى القرآن لجهة أن الكلام مسوق لمواجهة المشركين، والذين وصفهم القرآن: ((أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ))/(الواقعة: 81)، فهو ردّ على استخفافهم بالقرآن وتعريضهم به، فكان أن ردهم بأنه لا يمسه إلاّ المطهرون، وهم الملائكة، ولا يتطرق التحريف من الشياطين وغيرهم.

    واعجب من كل ذلك، ما يذكره السيد الحيدري من الاستدلال بقوله تعالى: ((فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))، وقوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))/(يس: 82)، فيكون من وقف على الملكوت قادراً على التصرف بالكون من خلال ((كن فيكون)) بإذن اللّه كما قيده السيد الحيدري، إذ ما الدليل على إذنه تعالى في أن يكون أمر بعض خلقه كما هو أمره تعالى، فيكون لهم القدرة على ما للّه تعالى، بفارق ما ذكره السيد الحيدري إنه بإذن اللّه. وعندها لا يبقى مجال لاستدلاله.

    نعم استدل السيد محمد الشيرازي على الولاية التكوينية ( ) بما روي عنهم : ((نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا)) بتقريب انهم (ع) وسائط الله في خلق العالم . وقوله عليه السلام : ((لو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لساخت بأهلها)) وقوله (ع) في رواية زرارة أنه قال قلت للصادق (ع) : إن رجلا يقول بالتفويض فقال : وما التفويض ؟ قلت : أن الله تبارك وتعالى خلق محمدا وعليا ففوض إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا ؟ فقال كذب عدو الله إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد ((أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ))/(الآية: 16). . وتقريب الاستدلال على الولاية التكوينية بالخبرين الأخيرين ،فذلك أما الأول فإنه يدل على أنهم مصدر الإفاضة ، وان استمرار الإفاضة منوط بهم ولولاهم لانخسفت الأرض وانتهى الكون . وأما الثاني فإن أقصى ما يدل عليه هو نفي التفويض المشار إليه في الخبر – أي الخلق والرزق وغيرهما – في عرض الله لا بالاستناد إليه ، أما التفويض لهم بالخلق والرزق في الطول فلا محذور فيه ، خاصة وان الإمام في مقام الجواب نفى التفويض بالعرض لا بالطول بدليل الآية واستشهاده بها .

    والاستدلال بما تقدم من الأخبار على الولاية التكوينية استدلال بما لا ينبغي وذلك للتالي :

    أولا : أما بالنسبة إلى الاستدلال بالمروي عنهم عليهم السلام ((نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا)) فهو يتوقف على تفسير الصنع بمعنى الخلق ، والأمر ليس كذلك ، بل الصنع في الخبر بمعنى الاختيار والتربية وما أشبه ذلك. وعلى الأقل فان المراد من الخبر مجمل لهذه الجهة فكيف يفسر (الصنع) بالخلق . ويستدل بالخبر على الولاية التكوينية ؟! يقول ابن ميثم في شرحه لنهج البلاغة تفسيرا لكلام علي (ع) في جواب له لمعاوية قال فيه ((.. فانا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا)) قال الشيخ ابن ميثم البحراني في تفسيره : "" قوله (ع) فانا صنائع ربنا هذا كلام مشتمل على أسرار عجيبة من غرائب شأنهم التي تعجز عنها العقول ولنتكلم على ما يمكننا إظهاره والخوض فيه فنقول : صنيعة الملك من يصطنعه ويرفع قدره ومنه قوله تعالى ( واصطنعتك لنفسي ) أي اخترتك وأخذتك صنيعتي لتنصرف عن إرادتي ومحبتي . فالمعنى انه ليس لأحد من البشر علينا نعمة . بل الله تعالى انعم علينا ، فليس بيننا وبينه واسطة ، والناس بأسرهم صنائعنا ، فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه . ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس نصطنعه ونرفع قدره . وقال ابن ميثم : لفظ الصنائع في الموضعين مجاز من قبيل إطلاق اسم المقبول على القابل والحال على المحل ، ويقال فلان صنيعة فلان ، إذا اختصه لموضع نعمته ، والنعمة الجزيلة التي اختصهم الله بها هي نعمة الرسالة وما يستلزمه من الشرف والفضل حتى كان الناس عيالاتهم فيها .""( )

    ثانيا : وكذلك لا يصح الاستدلال بما ورد في الخبر من انه ((لو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة لساخت بأهلها)). لأن التعبير بـ (ساخت) في هذا الخبر ونظائره ، لا يعني أن الكون بيد الأئمة (ع) وان بيدهم زمامه بحيث لو خلت الأرض منهم لانخسفت واقعا وماديا . لأن مثل هذا التعبير وارد على سبيل المجاز كما يحتمل العلامة المجلسي . قال : "" ولعل سوخها كناية عن تزلزلها وعدم انتظامها وتبدل أوضاعها وسائر ما يكون قبل قيام الساعة ""( ) ومن ذلك يظهر ضعف استدلال السيد كمال الحيدري بأمثال هذه الروايات التي تؤكد احتياج الأرض إلى إمام وإلا لساخت أو انخسفت وغير ذلك من التفاسير.

    وقد اعتمدها السيد الحيدري على ما فيها من خلل في أسانيدها، فقد روى عن محمد بن الفضيل، وهو محل طعن بعض علماء الطائفة – على أقل تقدير – إذ رمي بالغلو وأنه لا يعتمد عليه، وإن وثق في بعض المصادر، لأن توثيقه معارض بالتضعيف. وروى عن حمزة بن الطيار، وهو مجهول، ويرويها الطيار هذا عن محمد بن سنان، وهو موضع تضعيف المشهور عند علماء الطائفة.

    على أن هذه الروايات لو صحت فإنها لا تُفسَّر بما فسره الحيدري، بل هي في مقام بيان الاحتياج إلى الحجة على الناس، وهذا لا دخل له بعالم التكوين، بل يتصل بعالم الهداية والإرشاد والتبليغ.
    وقد ورد في الروايات نفسها التي ذكرها السيد الحيدري ما يشير إلى ذلك حيث ورد في بعضها (( .. وهو حجته على عباده))، وورد في رواية أخرى ((لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجة على صاحبه)).

    ولذلك ليست الرواية صريحة في كون ارتباطها بنظام التكوين، بل هي مرتبطة بولاية الأمر والهداية لا كما يدعيه السيد الحيدري.

    ثالثا : وكذلك لا يصح الاستدلال بالخبر المروي عن زرارة عن الصادق (ع) بتقريب أن النفي في كلام الصادق ( ع ) هو التفويض – في الخلق والرزق والأجل – بالعرض لا بالطول ، لأن ذلك خلاف ظاهر الخبر ، لأن ظاهره نفي التفويض بالطول – أيضا – وذلك لجهة أن مورد السؤال هو التفويض لهم بالاستناد إليه ومنه ، فيكون الجواب بالنفي عن المورد المسؤول عنه لا غيره . لذلك كان مورد السؤال كالتالي (( .. وما التفويض قال قلت : إن الله تبارك وتعالى خلق محمدا وعليا ففوض إليهما فخلقا …)) . وظاهر التفريع أن مورد السؤال عن التفويض بالطول .

    ولو صح ما يدعيه البعض من أن المنفي هو التفويض بالعرض لا بالطول ، فإنه يمكن الاستدلال على نفي التفويض بالطول أيضا في أخبار أخرى عنهم ( عليهم السلام ) كما في الخبر عن الرضا ( ع) أنه قال : "" … إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه ( ص ) أمر دينه فقال: ((وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) ، فأما الخلق والرزق فلا . ثم قال عليه السلام : إن الله عز وجل خالق كل شيء وهو يقول عز وجل ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) ( ) . وعنه أيضا انه قال : ""ومن زعم أن الله عز وجل فوضّ أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك ""( ) . وقد روي عن الإمام المهدي ( ع ) في جواب له على سؤال شيعته انه قال فيه : ""إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حالّ في جسم ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فأما الأئمة فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق ، إيجابا لمسألتهم وإعظاما لحقهم""( ).

    نعم يمكن الاستدلال بروايات التفويض بما دلّ على تفويض الله تعالى لنبيه (ص) أمر الدين بمعنى التشريع ، وان كان المورد من المسائل التي وقع فيها الجدل .

    وقد لخص السيد السيستاني المواقف الرئيسة في المدرسة الإمامية في اتجاهات ثلاث :( )


    الأول :
    أن المشرع للأحكام هو الله تعالى فحسب ، ووظيفة النبي (ص) هي التبليغ . وعلى هذا الرأي أكثر العلماء كما ذكره الوحيد البهبهاني.

    الثاني : أن المشرع هو النبي ( ص ) ، وأما الوحي فهو واسطة في إلهام المصالح والمفاسد . وقد تبناه الآخوند الخراساني . يذكر أن السيد السيستاني علق عليه ووصفه بالبطلان وعدم الصحة .


    الثالث :
    التفصيل بين الأحكام التي يمكن أن تسمى بالأحكام ذات الدرجة الأولى التي هي بمثابة القانون الأساسي بمصطلح العصر وهي مشرعة مباشرة من الله ، والأحكام ذات الدرجة الثانية حيث ترك تشريعها للنبي (ص) .

    وإذا كان ثمة اختلاف في هذه المسألة فقد اختلف – أيضا – في تفويض أمر الدين إلى الأئمة بمعنى حق التشريع، وقد اختار السيد السيستاني التوقف في هذه المسألة لجهة اختلاف الروايات وتعارضها( ) . فيما اختار الشهيد الصدر عدم التفويض لانتهاء التشريع بوفاة النبي (ص) وان الأحاديث الصادرة عن الأئمة (ع) ليست إلا بيانا وتفصيلا.( ) وعليه يستثنى من التفويض للأئمة (ع) في أمر الدين حق التشريع لتبقى عدة معان للتفويض كما احتمله العلامة المجلسي( ) . من تأديب الخلق وسياستهم وتكميلهم وتعليمهم ، أو بيان العلوم والأحكام بما يرون من المصلحة ووفقا للظروف والحاجة ، أو الاختيار بين أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما ألهمهم الله تعالى من الواقع ، أو أن لهم العطاء مما في أيديهم من الأخماس والأنفال والصفايا …

    [align=center]
    انتهى الكتاب
    * * * *
    * * *
    * *
    *
    [/align]
    [/align]





ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني