وجه آخر لحرب الأفكار: قصة شعب يحاكم جلاده.. ويحاكم نفسه..!
توماس فريدمان*
خلال الأشهر الستة المقبلة سيرى العالم محاكمتين مذهلتين في بغداد وستكون أمام جميع الشاشات مع قسمة الشاشة الواحدة على مشهدين، فمن ناحية سنشاهد محاكمة صدام حسين، ومن ناحية أخرى سنشاهد محاكمة الشعب العراقي. أجل، فالشعب العراقي سيواجه محاكمة أيضا بشأن قدرته على العيش موحدا بدون القبضة الحديدية للرجل الذي يظهر على الجزء الثاني من الشاشة.
وقد يكون هذا مشكوكا في صحته، غير انه يفترض ان صدام أبدى ذات يوم ملاحظة ما تقول ما يشبه: كونوا حذرين، اذا ما تخلصتم مني فستحتاجون الى سبعة رؤساء لحكم العراق. وهذا هو السبب الذي سيجعل محاكمة الشاشة المنفصلة هذه محاكمة في غاية الأهمية. فإما ان صدام سيضحك علينا وعلى العراقيين قائلا «لقد أخبرتكم»، بينما العراقيون يتنازعون ويقتلون بعضهم بعضا في الجانب الآخر من الشاشة.أو اننا والشعب العراقي سنضحك عليه عبر البرهنة على امكانية اخراج شيء معين نادرا ما رآه العالم العربي: حكومة عربية مستقلة، متعددة الأعراق، ودستورية تقبل حقوق الأقليات والانتقال السلمي للسلطة، من دون ديكتاتور عسكري أو ملك أو رجل دين يجلس فوق الجميع ملوّحاً بعصاه.
لا بد انكم لا تريدون اضاعة فرصة مشاهدة هذا العرض. انه تاريخ يقدم على طريقة نظام الاشتراك في القنوات التلفزيونية. واذا ما وجد الأكراد والسنة والتركمان والمسيحيون والآشوريون والشيعة سبيلا لاعتناق التعددية فان ذلك سيكون تعزيزا هائلا لموقف المعتدلين في حرب الأفكار عبر العالم الاسلامي. ان أولئك الذين يسخرون من فكرة نظرية الدومينو الديمقراطية في العالم العربي لا يعرفون عم يتكلمون. ولكن أولئك الذين يعتقدون ان هذه هي صفقة محكوم عليها بالاخفاق لا يعرفون العراق.
واذا ما كان للعراق ان يكون دولة مستقلة تعددية لائقة، فانه سيتعين على جميع الأطراف الرئيسية هناك، كما لاحظ الخبير بشؤون العراق أماتزيا بارام من معهد السلام الأميركي، قبول ان يكونوا «غير راضين الى حد ما». وسيتعين على الجميع اللجوء الى التسوية من أجل تحقيق حلمهم الثاني في الترتيب لكي يتجنبوا كابوسهم الأول في الترتيب: الفوضى أو العودة الى الطغيان.
فالاسلاميون سيتعين عليهم قبول ان يكونوا غير راضين بأن النظام لا يفوض العمل بالشريعة الاسلامية كدستور للبلاد، ولكنهم غير راضين «الى حد ما»، لأن الاسلام سيكون الدين الرسمي للدولة وسيُحترم كأساس مهم للتشريع والحكم. وسيتعين على العلمانيين قبول ان يكونوا غير راضين بأن القانون الأساسي الجديد في العراق يمنح الاسلام مكانة رمزية مهمة في الحكم، ولكنهم غير راضين «الى حد ما» فقط، لأن هذا القانون العلماني والقضاة العلمانيين سيشكلون أساس حكم القانون الجديد. وسيتعين على الأكراد قبول ان يكونوا غير راضين تماما بعدم تحقيق حلمهم بكردستان المستقلة، ولكنهم غير راضين «الى حد ما» فقط، لأن وضع الحكم الذاتي الخاص سيتجسد في القانون العراقي.
وسيتعين على السنة قبول ان يكونوا غير راضين بانهم لم يعودوا يحكمون العراق ويتحكمون بثروته النفطية، ولكنهم غير راضين«الى حد ما» فقط، لانهم سيكتشفون انه ما زال لديهم دور في البرلمان، وحصة في ثروة نفط البلاد في محافظاتهم، بفضل الفيدرالية العراقية الجديدة. وسيكون الشيعة غير راضين، في ظروف الاعتراف بوضعهم السياسي كأغلبية، بأن السلطة والموارد ستوزع عبر نظام فيدرالي وستوضع قيود على سلطة الأغلبية، ولكن سيتعين عليهم ان يكونوا غير راضين «الى حد ما» فقط، ذلك انه سيكون هنالك، في خاتمة المطاف، رئيس حكومة شيعي، وستمكن الفيدرالية ذاتها، التي توزع السلطة والموارد، المحافظات الشيعية التي ترغب في تبني شكل من الحكم أكثر اسلامية من القيام بذلك.
وقد كتب كاتب العمود العربي العميق التفكير حازم صاغية في صحيفة «الحياة»، «لنضع جانبا العبارات الأدبية. نحن أشقاء ولكن الآخرين يقسموننا. نحن في العراق وفي دول أخرى لسنا أشقاء، فهناك مشاكل ورثناها عن تاريخنا وتكويننا الاجتماعي اللذين لم تساعدهما الانظمة القمعية الحديثة... لنكن صريحين: فالشيعة اليوم يخشون من السنة، والسنة والشيعة يخشون، معا، من الأكراد، والأكراد يخشون من الأقليات الأخرى... وكل الجماعات الاثنية في العراق تتحمل مسؤولية وضع بناء الدولة فوق حساباتها الضيقة والمتصارعة».
وبايجاز، فان عدونا الأكثر خطورة على المدى البعيد قد لا يكون المقاومون العراقيون وانما الشعب العراقي. هل يمكنهم العيش معا غير راضين الى حد ما في البداية، ثم يتحولون الى اناس راضين وسعداء الى حد ما؟ اذا ما كانوا قادرين على ذلك فاننا سنكون قابلة العراق المؤقتة، نساعد على ولادة ديمقراطيته. واذا ما كانوا غير قادرين فسنكون حاضنة العراق الجديدة، غير الراضية دائما، وستضحك الحاضنة القديمة، صدام حسين، علينا طوال الطريق نحو المشنقة.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»