هنيئاً للشعب العراقي بالسيد السيستاني
في خضم تلك الموجات من الغبار الملوث الذي عصف بالعراق حتى بلغت ذروتها وعنفوانها حتى 2007م وباتت العراق كسفينة عصفت بها الأمواج العاتية فأوشكت على الغرق الحتمي، لولا عناية الله، وبراعة كبير مهندسي هذه السفينة وبوصلتها. وهو أحد حكماء هذا العصر، السيد على السيستاني
لغرقت بما فيها.
والذي حفز تلك العصابات الشريرة للعبث بمصيرها وبمقدراتها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، هو ما تحمله في بطنها وفوق متونها مختلف الأعراق والأجناس البشرية، وفحولاً وجهابذة في مختلف العلوم الدينية والدنيوية، والتعملق في الشعر والأدب والفنون الأخرى التي قل مثيلهم في الشرق الأوسط، لتسخير هذه القدرات العلمية والأدبية ومختلف الفنون لخدمة تلك العوالم الضالة المتوحشة، ناهيك عن ثقلها الاستراتيجي، ومكانتها الجغرافية، والتاريخية التي صدح وانشد لها الأدباء والمؤرخين من داخل العراق وخارجه.
والأهم من هذا وذاك الذي جعل من هذه العوالم الضالة والجوارح آكلة لحوم البشر أمثال صدام حسين «الشهيد؟!!!» وأزلامه، ثم أيتامه اليوم والمتحالفين معهم، أن تنقض على هذه السفينة العملاقة هو ما تحمله من أطايب النفائس الثمينة من الذهب الأسود، والثروات الأخرى، والخمائل العابقة بقطرات الندى الفواح كالنخيل وغيرها من الثروات براً وبحراً والتي لا تقدر بثمن. هذه الخمائل التي تضمخ أرض بلاد النهرين بأجمل وأثمن الحلى والجلابيب النظرة، وهذا الرذاذ السماوي من النعم الهائلة قد كاد هذا القطيع من العوالم والجوارح المفترسة أن يحرقوا اليابس والأخضر في ذلك البلد عن بكرة أبيها، حيث «ابتلعوا الجمل بما حمل» وحين رمتهم هذه التحولات والمتغيرات التاريخية العالمية في مزبلة التاريخ، بدأوا من جديد مرة أخرى يحرقون بلاد النهرين بشراً وعمرانا وثروات، إذ إن هذه العصابات الشريرة قد شعرت بأنها وصلت إلى حالة اليأس القاتل، فجندت كل قواها وما تتلقاه من دعم خارجي مفتوح صممت بأن تمسح هذه اللوحة الفسيفسائية الرائعة من الوجود.
وهذا ما فعله هولاكوا المغولي 1258م المهووس بالحقد على معالم الحضارة التي بناها الفكر الإنساني على مدى عشرات القرون. وهنا تدافع الموتورون الخاسرون بدعم هذه العصابات بمختلف فصائلها من أجل وأد هذا الوليد الواعد قبل أن يحبو ويشتد عوده.. تدافعوا أيضاً ليس بالأموال وحسب، بل وبوسائل الإعلام، وبقدح الزناد في كل صباح ومساء بإشعال كير الفتنة بغطاء ديني طائفي كريه، ومن ثم كل فصيل وكل جهة لها حساباتها ومصالحها الذاتية حين يزف وقت اقتسام «الكعكة» ولكن الله قد خيب آمالهم وأحلامهم الوردية.
وتزعم بعض هذه الفصائل، شذاذ الأفاق، بأن في سلتهم مشروعاً إسلاموياً !! ولكنه لن يتحقق في نظرهم بدون قتل عشوائي فرادى وجماعي من الأبرياء. ولا فرق بين سنة وشيعة، ومسيح أو من أي طيف طالما يعارضون مشروعهم ووسائلهم في القتل في سبيل القفز على قمة الهرم السلطوية
ومن ثم على كل مفاصله وسفوحه.
والله يمهل ولا يهمل، إذ بدأت نقط من الإضاءات، وهي شحنات من المؤشرات في انتصارات الشعب المنكوب، تضيء في آخر النفق لهذه السفينة المتعثرة تبشر بتراجع موجات الغبار الملوث، بفضل الزخم المكثف من الخبرات العملية والوعي السياسي الناضج، وشدة الصلابة، والحس اليقظ في النخب المثقفة، والقيادات التنفيذية والتشريعية الشرفاء هناك. وعلى رأس هؤلاء وأولئك المخلصين لأرض العراق وشعبه وسيادته السيد علي السيستاني . هذا الأب الروحي الفذ لكل مكونات العراق ولولا حنكته ونصائحه البالغة الحكمة الإيمانية، لكافة شعبه لكانت حمامات الدم تملئ شوارع العراق وأحيائه أضعاف ما حدث. بل ربما لكانت قد امتدت تلك الفتنة الكبرى إلى خارج العراق وأمست الهيمنة عليها عصية للغاية، لولا رحم ربي.
علماً بأن الغلاة وبعض وسائل الإعلام ومحابره الدموية، وأقلامه النكرة كلها كانت مهيئة ومجندة ومستنفرة لاستقبال ذلك الضيف القادم الشرير بالدعم والأحضان والقبلات الحميمية من قبل فرسان فتاوى الفتنة بيد أن يقظة قيادة العراق المخلصة النظيفة من سنة وشيعة وغيرهم، ونصائح الأب الروحي الإمام السيد السيستاني بعدم الانتقام من الأشرار وترك ذلك للحكومة المنتخبة هي التي لها الحق وحدها في معالجة القضايا الأمنية بمساندة المجلس الوطني المنتخب جعل دعاة الفتنة يتقهقرون.
وهذا التوصيف لهذا الرجل الحكيم السيستاني، ليس توصيفاً مني ومدحاً بمعايير عاطفية أو بمعايير مذهبية. كلا وألف كلا.
وإنما هي توصيفات بمعايير موضوعية ومحايدة جاء بها ذلك الصحفيان اللذان لا علاقة لهما بالسيد السيستاني لامن قريب ولا من بعيد إلا بالتقييم الموضوعي وحسب.
وأولهما «فريدمان» وهو من أشهر الصحفيين وأبرزهم في الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس تحرير صحيفة واشنطن بوست، وهي في مقدمة الصحف الأمريكية. وهذا الصحفي الكبير المعروف عالمياً هو الذي اقترح على اللجان المختصة بمنح جائزة نوبل للسلام بأن تعطى للسيد السيستاني ذلك في عام 2005م مبرراً مقترحه بسيرة الرجل الجهادية الإيمانية النقية النزيهة والمتسمة بالروح الحيادية الأبوية لكل مكونات العراق وبامتياز إلى جانب أنه لا يهوى الأضواء بل التواضع في مسكنه وملبسه وطعامه هي التركيبة التي جبل عليها.
وعلى الصعيد السياسي، هو الرجل الذي نصح الطائفة الشيعية بضبط النفس وعدم ردة الفعل والانفعال لما يحدث لهم من كوارث يومية، وإلا غرقت السفينة بما حملت إلى جانب تبنيه قيام دولة مدنية لا دينية، بدليل تشجيعه على التصويت للدستور.
هذه الأمور وغيرها دفعت بهذا الصحفي الكبير أن يقترح ويطالب بإعطاء السيستاني جائزة نوبل للسلام. وهناك صوت آخر وهو صحفي مرموق لا يقل شأناً مهنياً عن فريدمان ألا وهو الأستاذ جمال خاشقجي. كان رئيس تحرير صحيفة الوطن الغراء. وله كتابات ذات أهمية محلياً وإقليمياً وجرأة غير عادية، ثم كان مستشاراً لدى السفارة السعودية بلندن. وقد ضم صوته لما اقترحه زميله الأمريكي توماس فريدمان – بل وأضاف إلى أبعد من ذلك، إذ طرح رأياً جريئاً، وذلك في 2 مايو 2005م في الغد الأردنية وهو أن يعطى السيد السيستاني جائزة المغفور له الملك فيصل لخدمة الإسلام، إلى جانب جائزة نوبل. والبعد الثاني في الطرح، اقترح على سماحة مفتي الأزهر، وكذلك سماحة مفتي السعودية، والشيخ القرضاوي وغيرهم، بأن يذهبوا إلى منزل السيد السيستاني في النجف الأشرف ليشدوا على يده الكريمة تقديراُ لوقفه نزيف الدم وعلى صلابته وحياده الإيجابي في ترويض الأسد الجريح، وهو الطائفة الشيعية، لكي لا تنتقم لنفسها، ولم تتحقق لهذين الأستاذين الصحفيين،، هاتين الأمنيتين لظروف لا نعلمها، ولكن الذي نعلمه تماماً بأن السيد السيستاني ليس بحاجة لهاتين الجائزتين أو لغيرها، وليس بحاجة للشهرة والأضواء الإعلامية الدنيوية. ولا يهمه غير محرابه والخير والسيادة لشعبة العراقي، وأن يسود كافة المسلمين في العالم التسامح والتآخي فيما بينهم.
ولكن الدكتور يوسف لم يرق له ذلك فرد معقباً في صحيفة الوطن السعودية الغراء على هذين الصحفيين مناهضاً لهما في هذا الرأي. وحاول عبثاً أن يفند طرحهما، بل اقترح بأن تعطى هاتين الجائزتين العالمية والإسلامية لأحد أيتام صدام «الشهيد؟!!!» وهو حارث الضاري «ربما لكي يتقاسمها مع الزرقاوي» وقد عقبت على الدكتور منتقداً طرحه الخاطئ في موقع راصد انطلاقاً من معايير أخلاقية منصفة. حيث أن هذا الرجل السيد السيستاني يمتلك بعداً فكرياً وعمقاً علمياً وسياسياً، ويمتلك شهرة بين مسلمي العالم وغير المسلمين في المشرق والمغرب في حياده وأبويته لكافة المسلمين دون تمييز، ناهيك عن تواضعه في مسكنه وطعامه، وابتعاده عن السياسة وعقدها وأضوائها. اللهم إلا إذا ذهبوا إليه السياسيون يطلبون منه النصح والمشورة .
وفي هذا السياق نفسه هناك فئة قد أثارت في وجه السيد السيستاني الغبار بطرق ضبابية إلا أنها لم تفلح، واتهمته بعد أن فقدت صوابها، اتهمته بأنه غير مبال بتواجد الأجنبي في العراق. هذه الرؤية أما أنها تقترب من المراهقة السياسية، أو أنها تتحرك بالريموت كنترول من خارج حدود العراق. حيث قيل أن «طائر الحي لا يطرب» ولكن الطائر الأجنبي يطرب؟ بل وتهتز له كل الجوارح وكل الكيان. وبذلك ابتعدوا كثيراً بأجندتهم عن تحرير العراق من شرور تلكم العوالم السائبة «آكلة لحوم البشر» المجندين للتفخيخ والأحزمة المتفجرة في الأبرياء. إن تلك الموجات من الغبار الملوث قد تجاوز حدود العراق الجغرافي إلى بلدان الخليج ولكن بنسب ضئيلة، بيد أنه شكل أثراً سلبياً في المجتمعات الخليجية، وحتى بين الطائفة الواحدة انقسم إلى عدة تجمعات، وأصبح كل يغني على ليلاه «وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بوصل» ونظراً لأن منطقة القطيف هي جزء من الخليج العربي، وسكانها يقارب المليون نسمة فقد لا مسها ريح هذا الغبار الملوث مضيفاً إلى أن أهلها لم يستطيعوا بعد أن يجعلوا منطقتهم رقماً معترفاً به لدى الطرف الأخر. مما زاد الطين بله، ومزيداً من تقزيم منطقة القطيف ومن التراكمات من التهميش أكثر فأكثر.
وأي تجمع لا يرفدُ ريعاً محسوساً لمنطقته «كرامة وعمراناً ومعنويات ملموسة» على المدى المنظور، يصبح غير ذي بال، حيث لم يرق لمستوى التعاطي مع هذه التحديات والتداعيات السلبية، بسبب تفرق كلمتنا. والبعض فينا ربما تمترسوا في ردة الفعل الآنية «ضد الفعل المفتعل» الذي يحمل في جعبته وطياتها تسويق الكراهية والفتنة والعنف بين المسلمين في الوطن الواحد. قد يتمترس هذا البعض في هذا المنحى، ويتمحورون حوله، ليكون على حساب تهميش الأمور الأخرى، وهذا ما يخشاه الجميع. إلا أن الرد الموضوعي على فرسان التحريض على البغضاء والاحتراب بين المسلمين، والتلفيق على هذه الطائفة أو تلك بأمور هي شرنقة من الكذب والافتراء من عقول متكلسة مريضة. هو أمر حيوي ومطلوب لا جدال فيه.
طالما كان بعيداً عن الانفعال وعن التموضع فيه على حساب التوعية والتنوير بحقوق المنطقة وسكانها.على أي حال. الذي يسر الجميع أكثر حين نرى ونلمس اليوم تجمعاً شبابياً نهضوياً متقد الحماس والحيوية.
والحراك النشط في أكثر من مجال كالشؤون الخيرية والثقافية والرياضية وقضايا أخرى تندرج في هموم مجتمعات المنطقة.
إلا أنه ينقصهم قوة الدعم الجمعي المناسب مادياً وأدبياً. قياساً لهذا المنعطف التاريخي الكوني ومتغيراته الفكرية والإعلامية الخ. لذا نراهم عاجزين عن تبني مشروعاً تنموياً وثقافياً جريئاً وشاملاً للمنطقة بكاملها، كمستشفى مثلاً، وجامعة تبدأ بكلية طب مثلاً، ونادياً أدبياً عاماً وما إلى ذلك.
وهذا العجز في التبني لمثل هذه المشاريع الحيوية هي حصيلة التشظي والتشرذم والانقسامات في مجتمعات المنطقة ولولا هذا التقزيم والانقسام على بعضنا بعضاً لما كانت هذه المشاريع والسعي لها شبه مستحيلة. لأننا مبتلين بعقدة «....» وتثبيط عزائم وإرادة بعضنا بعضاً. أما عن قصر نظر لدى البعض، أو عن خوف من خذلان الآخر.
وهكذا تكون المحصلة أن نراوح مكاننا ونندب حظنا التعيس ونجتر أحزاننا ونتباكى على الأطلال مثل النساء العجائز. حيث أخذنا من الآخرين الجانب السلبي من اختلافات وتكتلات منغصة، وتجاهلنا الجانب الإيجابي من تضامنهم وانجازاتهم في المناحي الأخرى، لذلك بقينا وسنبقى عقوداً طويلة قادمة نأكل الحصرم ونتجرع الحنظل، ومبروك علينا، وهنئياً مريئاً بهذه الوجبات من الشهد المصفى التي تعودنا عليها وتأقلمنا معها، ويكفينا أن ننشغل ونتلذذ بهذا الشأن ونطنب فيه، ونصفق كثيراً في المناسبات. ونحجم ذاك الشأن الجوهري في رفع شأن مجتمعاتنا ومنطقتنا «قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل» ونقول مرة أخرى هنيئاً لنا بذلك وهنيئاً للشعب العراقي بالسيد علي السيستاني وأمثاله في العراق .
وجدير بالذكر بأنه في ضوء الاختلاف على بعض بنود الاتفاقية الأمنية – السياسية – بين أمريكا والقادة العراقيين المطروحة هذه الأيام للتوقيع عليها. بات العراق يمر بمرحلة من أصعب وأخطر منعطف تاريخي سياسي مر به خلال الست سنوات الماضية العجاف، حيث تتقاذفه أكثر من ثلاث موجات عاتية وغير مسبوقة، نظراً للعجالة الزمنية للحسم فيها قبل أن «يكش بوش» وأخطرها موجتان أجنبيتان. والثالثة محلية ولكنها متعددة الألوان والتوجهات والإنجذابات.. ويبدو لي حسب تقديري أن عقلاء العراق وحكمائه من كل الأطياف، وعلى رأسهم السيد السيستاني سيتغلبون على هذا التقاطع وعلى تضاريسه وأخاديده الخطيرة لهذا المفترق الجديد. كما تغلبوا من قبل على قضايا كانت شائكة وعصية. لذا يبدو لي أن العراق الجديد سينجو من هذه النقلة النوعية والخطيرة للغاية والتغلب على كل مطباتها. حيث من البديهيات في السياسة، أنه لا صداقة دائمة بين الدول بدون مصالح دائمة. وبقد ما تكون المصالح تكون الصداقة.