هذا ما كتبه المرحوم السيد محسن الأمين ردا على كتابات أحد المغرضين سنة 1908 للميلاد في كتاب أسماه الحصون المنيعة

لمقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وسلم تسليماً.

وبعد: فقد قرأت في مجلة المنار المنشأة بمصر سنة 1315 لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا الطرابلسي الشامي نزيل القاهرة في الجزء الاول من المجلد الحادي عشر الصادر في اوائل صفر سنة 1326 في صحيفة 45 رسالة تحت عنوان:

كلمات عن العراق وأهله لعالم غيور على الدولة: ومذهب أهل السنة

تعرض فيها للتنديد بالشيعة في العراق ونسبتهم إلى ما هم منه بريئون وتحريض الحكومة عليهم مع انهم لها مطيعون وقد ذيلها صاحب المنار بكلمات ندد فيها ايضاً بالشيعة بما لم يكن (فاحببت) ان ابين ما في الاصل والذيل من مخالفة الواقع والصحة والسقم نصرة للحق سالكاً في ذلك جادة الانصاف (واتممت) المرام بذكر كلمات موجزة في السنة والشيعة وما

اوجب الاختلاف بينهم وكلمات في متعة النساء التي ندد بهم صاحب المنار لاجلها وذكر طرف من الاخبار الواردة فيها وفي متعة الحج من طرق أهل السنة وذكر ما احتج به الفريقان على نفيها وثبوتها وذكر اصل مذهب الوهابية وحقيقته لامر اقتضى ذلك فجاء ما كتبته بحمد الله تعالى وافياً بالمرام وسميته (بالحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة) قال صاحب الرسالة بعد ما ذكر ان العراق من افضل الأقطار تربة وطيب هواء وعذوبة ماء وان به انهاراً عظيمة كدجلة والفرات وديالى وكارون وان اكثره خراب لعسر المواصلات ونقد الامن وحرمانه من نور المعارف والمدنية وان الحكومة فيه كما هي في غيره عبارة عن شركة سلب ونهب وفساد تعمل في خراب البلاد وهلاك العباد وانهم عن الدسائس الاجنبية عمون حتى اصبح بر العراق كله متسلحاً بالمارثين مما ترسل به انكلترا.

ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى اصبح ثلاثة ارباع اهله شيعيين وذلك بفضل جد مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم وموازرة الحكومة لهم باخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم وخفض كلمتهم وفي النجف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشر ألفاً ودأبهم انهم ينتشرون في البلاد ويجدون في اضلال العباد

ولذلك يحسب عقلاء العراق ان القطر قد انسلخ من الدولة ولم يبق لها فيه من الرسم إلا الأسم ولقد استحكمت النفرة منها في قلوب الجميع فلا يذكرونها بلسانهم وكلما يراجعونها في شؤونهم «إلى أن قال» انه لم يجد في علماء بغداد اجمع لفنون الفضل وصفات الكمال من شكري افندي وابن عمه علي افندي الالوسيين وانه رأى من سعة اطلاعهما وقوة دينهما وسلامة عقيدتهما السلفية «إلى أن قال» والتهابهما غيرة وحمية على الدين ومجاهدتهما في سبيله فريقاً من الجامدين من المقلدة وعباد القبور ما بهره وعشقه فيهما «إلى أن قال» واعداؤهما من عبدة القبور والاوهام وانصار التقليد والخرافات ينبزونهم باسم الوهابية لنفروا منهم ويحرضوا الحكومة على اضطهادهم إلى أن قال ولم ار احداً يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن القيم قدرها مثلهما ثم ذكر رد احدهما على الشيخ يوسف النبهاني البيروتي لتأليفه رسالة في تضليل ابن تيمية وابن القيم وانتقاصهما وتنديده بالشيخ نعمان الالوسي وذمه وذم عائلته إلى غير ذلك مما لا غرض لنا بنقله فنقول وبالله التوفيق:

الرد على مراسل المنار:

عجباً لهذا العالم الغيور وعجباً لصاحب المناركيف وصفه بالغيور وكان احق بان يوصف بالمتعصب الساعي في تفريق كلمة المسلمين والقاء العداوة والبغضاء بين طائفتين عظيمتين منهم في حين هم أحوج إلى الوئام والوفاق منهم

إلى الاختلاف والافتراق والمعتمد لهدم ما يؤسسه عقلاء الطائفتين في هذه الاعصار الاخيرة من ازالة الخلاف والشقاق وجمع الكلمة.

«ويا عجباً» لهذا العالم الغيور كيف خلط المسائل السياسية بالدينية فخبط خبط عشواء واختلط عليه الحابل(1) بالنابل والخاثر بالزباد(2) .

وعجباً لغيرة هذا العالم كيف ادت به إلى أن جعل من البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق وجدهم في طلب العلوم ولا ذنب لهم الا التمسك بالثقلين كما امر به نبيهم صلى الله عليه وآله وحبهم وتفضيلهم لاهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً والتجاؤهم إلى السفينة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى ودخولهم في باب حطة الذي من دخله كان آمناً وقصدهم مدينة العلم النبوي من بابها واتباعهم لقوله تعالى (قل لا اسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) .

وحقيق ان يقال ان من البلاء العظيم وجود مثل هذا الشخص بين المسلمين ووصفه بالعالم الغيور.

وأما قوله: وذلك بفضل جد مجتهدي الشيعة إلى قوله ودأبهم انهم ينتشرون في البلاد ويجدون في اضلال العباد (ففيه) ان جد علماء الشيعة وطلابهم في تشييد مذهبهم ونشره والدعاء اليه وبث علوم اهل بيت نبيهم عليه وعليهم السلام وان كان مما لا يعابون به بل هو موضع الافتخار الا ان ادعاءه كون انتشار مذهب الشيعة في العراق بسبب ذلك مخالف للواقع فان مذهب الشيعة منتشر في العراق من الصدر الاول كما هو ظاهر لكل من لاحظ التواريخ وما زال منتشراً إلى يومنا هذا (ولم نر) ولا نقل الينا وقد توطنا العراق ما يزيد عن عشر سنين ان احداً من علماء الشيعة أو طلابهم دعا احداً من السنة إلى ترك مذهبه والدخول في مذهب الشيعة ومن دخل من السنة في مذهب الشيعة لم يكن دخوله لهذا السبب.

(وعلماء) الشيعة وطلابهم المقيمون في العراق لا سيما النجف الاشرف لا شغل لهم سوى الجد والاجتهاد في طلب العلم واكثرهم يجاورون في النجف لا يخرجون منه الا لزيارة قبول الائمة عليهم السلام ويجدون في طلب العلم ليلهم

ونهارهم إلى الممات ومن خرج منهم خارج النجف فانما يحل بين الشيعة ليعلمهم معالم دينهم وما سمعنا ولا رأينا أحداً منهم حل بين السنة ودعاهم إلى الدخول في مذهبه «وان» كان ما يدعيه حقاً فهلا انتشر علماء السنة وطلابهم القاطنون في بغداد وغيرها وهم عدد غير قليل في البلاد ودعوا الناس إلى مذهبهم ونهوهم عن مذهب الشيعة الذي بني على تفضيل اهل البيت والاقتباس من علومهم لينتشر بذلك مذهب السنة في العراق ويرتفع البلاء العظيم عن هذا العالم الغيور على الدولة ومذهب اهل السنة..

«واما» اعتذاره عن ذلك بمؤازرة الحكومة لعلماء الشيعة باخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم وخفض كلمتهم فعذر غير مقبول فان الحكومة قد اعطت الحرية لجيمع الاديان حتى غير المسلمين فكيف لا تعطي الحرية لمن يشاركها في المذهب وما رأينا ولا سمعنا انها منعت احداً من علماء السنة عن نشر مذهبه وبيان انه على الحق فلابد ان يكون المانع لهذا العالم الغيور واعوانه من الجد في نشر مذهبه ودعوة الناس اليه اما الكسل وقلة الغيرة الذين عوفي منهما علماء الشيعة او عدم علمه بنجاح مساعية فجعل يتشبث بهذه الاعذار.

«وان كان مراده بمؤازرة الحكومة لعلماء الشيعة واخذها على يد اهل السنة عن مقاومة سعيهم انها قد اعطت الشيعة

الحرية في دينهم وحافظت على حقوقهم المدنية لكونهم بعض رعاياها وبذلهم الطاعة لها كغيرهم او اشد مع اعتقادهم وجوب المحافظة على بيضة الاسلام فشكواه من ذلك قلة انصاف منه وتمسك بذيل العصبية «فكأنه» لا يرضيه عن الحكومة إلا ان تلقي الفساد والفتنة بين رعاياها وتجبرهم على ترك اديانهم واظن انها لو كانت الحكومة بيد امثال هذا العالم الغيور لهلك الحرث والنسل «وهلا» شكا من انتشار دين اليهود في حاضرة بغداد واشتهار مقالة الدهرية في جميع البلاد وبث النصارى دعاتهم المسمين بالمرسلين في انحاء المعمور وطلب إلى الحكومة ان تخالف نص الكتاب المبين لا اكراه في الدين فتردهم عن اديانهم ولا تأخذ على يده ويد امثاله من العلماء الغيورين على الدولة ومذهب أهل السنة عن مقاومة سعيهم «وهلا» شكا من انتشار مذهب الوثنية في اقطار الارض الذين يربو عددهم على سائر أهل الاديان ان كان صادق الغيرة على المذهب الحق «وهلا» شكا من انتشار المنكرات بين السملمين وتعطيل الحدود واندراس الاحكام «وهلا» حركته الغيرة على الألوف من الأعراب الرحالة كعنزة وغيرها الذين هم على مذهب اهل السنة بالاسم ولا يعرفون شيئاً من احكام الاسلام ولا يعملون عملاً دينياً قليلا ولا كثيرا ولا يطيعون الله ولا الحكومة ودأبهم سلب العباد ونهب البلاد «وهلا» عد من البلاء العظيم انتشار مذهب الوهابية في بادية

نجد وما والاها وفي غيرها الذين ابدعوا ما ابدعوا في الدين وكفروا ما سواهم من طوائف المسلمين واستحلوا الدماء والاموال والاعراض وخالفوا ضروريات دين الاسلام وحاربوا الدولة مراراً ونهبوا البلاد واكثروا في الارض الفساد ولم يروا للدولة عليهم طاعة كما سنفصل احوالهم ان شاء الله تعالى فهم احق بان يغار على الدولة ومذهب أهل السنة من أفعالهم.

«أما» حركته غيرته إلا على اخوانه المسلمين الشيعيين الشاهدين لربهم بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وآله بالرسالة والمطيعين لسلطانهم والمتمسكين بولاء عترة نبيهم والآخذين عنهم أحكام دينهم والمحافظين على شرائع الاسلام من الصوم والصلوة والحج والزكاة وسائر أحكام الدين حتى عد انتشار مذهبهم في العراق من البلاء العظيم وجعلهم من المضلين هذا مع شهادته لهم بالجد والاجتهاد في طلب العلوم الذي هو فريضة على كل مسلم حتى اجتمع منهم في بلد واحد ستة عشرة الف طالب عدى عما في غيرها من مدن العراق وبلاد ايران وتركستان والافغان وبخارى والشام والهند والبحرين والقطيف والاحساء وسائر الاقطار ما هذا إلا قلة انصاف منه وقلة غيرة على الدين.

«ولو» كان صادق الغيرة على الاسلام لدعا علماء المسلمين

وزعماء الدين إلى الائتلاف والاتحاد الذي امرت به الشريعة الغراء ودل على حسنه العقل وحثهم على الاجتماع وبسط المسائل الخلافية على بساط البحث والانصاف ليرتفع الخلاف ولم يسع بينهم بالفساد.

واما قوله ولذلك يحسب عقلاء العراق ان القطر قد انسلخ من الدولة الخ فان كان اشارة إلى الدسائس الاجنبية فله وجه لكن لا وجه لذكر انتشار مذهب الشيعة بين العلة والمعلل بل كان اللازم ذكر هذا بعد كلامه الاول وان كان اشارة إلى انتشار مذهب الشيعة أو الامرين معا كما هو ظاهر كلامه.

«ففيه» ان نفوذ الدولة في العراق يزداد يوماً فيوماً وسلطتها الآن اشد منها في العصور السابقة بكثير والشيعة في العراق ليسوا باقل خضوعاً واطاعة للدولة من غيرهم فيها «نعم» قد كان انتشار مذهب الوهابية الذين قام هذا العالم يدعو إليهم متستراً بلباس الغيرة على الدولة ومذهب اهل السنة موجباً لانسلاخ الاقطار التي اشتهر فيها هذا المذهب عن الدولة.

____________

(1) الحابل السدا والنابل اللحمة وقيل المارد بالحابل صاحب الحبالة وبالنابل صاحب النبل أي اختلط الصائدون (منه).

(2) الخاثر ما خثر من اللبن والزباد بالضم والتشديد الزبد قاله الميداني عن الاصمعي وفي اللسان زباد اللبن بالضم والتشديد ما لا خير فيه والزباد الزبد واختلط الخاثر بالزباد أي الخير بالشر والجيد بالردي والصالح بالطالح انتهى وفسره في الجمهرة بما لا يكاد يصح (منه).