[mark=FFCC00]الفصل الثاني:[/mark][mark=FFCC00] الأعمال الطبية وجراحة التجميل[/mark]
الفقرة الأولى: العمل الطبي ومشروعيته
قال ابن منظور (ت 711هـ): "الطب: علاجُ الجسم والنفس، ورجل طَبُّ وطبيب: عالم بالطب"(55).
ويقابلها في النص الفرنسي كلمة (medecin)، وفي الإنكليزية (medicine)، وهي مشتقة من الكلمة الفرنسية القديمة ومن اللاتينية (medecina)، ومعناها فن العلاج(56).
وقد عرَّفت دائرة المعارف البريطانية الطب بأنه: "مجموعة المعارف والإجراءات التي تتعلق بالمرض وعلاجه في الإنسان والحيوان"(57).
وقد عُرِّف العمل الطبي عند القانونيين بعدة تعريفات، إذ عرَّفه البعض بأنه: "ذلك العمل الذي يقوم به شخص متخصص من أجل شفاء الغير، طالما كان هذا العمل يستند إلى الأصول والقواعد الطبية المقرَّرة في عالم الطب"(58).
وعَرَّفه آخر بأنه: "ذلك النشاط الذي يتفق في كيفيته وظروف مباشرته مع القواعد المقرَّرة في علم الطب، ويتجه في ذاته - أي وفق المجرى العادي للأمور - إلى شفاء المريض، والأصل في العمل الطبي أن يكون علاجياً، أي يستهدف التخلص من المرض أو تخفيف حدته أو مجرد تخفيف آلامه، ولكن يعد كذلك من قبيل الأعمال الطبية ما يستهدف الكشف عن أسباب سوء الصحة أو مجرد الوقاية من مرض"(59).
وقد اعترض بعض القانونيين على التعريف المشار إليه آنفاً بأنه وإن كان أكثر سلامة من التعريفات الأخرى، إلاّ أنه أغفل أهم عنصر قانوني، وهو عنصر مشروعية العمل الطبي، ولذلك فضَّل البعض تعريف العمل الطبي بأنه: "كل نشاط يرد على جسم الإنسان أو نفسه، ويتفق في طبيعته مع الأصول العلمية والقواعد المتعارف عليها نظرياً وعملياً في علم الطب. ويقوم به طبيب مصرّح له قانوناً به، بقصد الكشف عن المرض وتشخيصه وعلاجه، لتحقيق الشفاء أو تخفيف آلام المرض أو الحد منها، أو منع المرض، أو يهدف إلى المحافظة على صحة الأفراد، أو تحقيق مصلحة اجتماعية شريطة توافر رضا من يجرى عليه هذا العمل"(60).
وقد حاول هذا التعريف أن يكون شاملاً لعناصر العمل الطبي، بحيث يشمل عنصر العلاج من الأمراض وما يتصل به، وعنصر الوقاية منها.
ولذلك حرص آخرون في تعريفهم العمل الطبي على أن يكون شاملاً للعنصرين معاً، فعرَّفوه بأنه: "كل عمل يرد على جسم الإنسان أو نفسه، من فحص أو تشخيص أو علاج أو وقاية، يقوم به طبيب وفقاً للقواعد والأصول العلمية المقررة والمتعارف عليها في علم الطب. وذلك بهدف تحقيق مصلحة المريض أو مصلحة اجتماعية، بشرط توافر رضا من يجرى عليه هذا العمل أو من يمثله"(61).
ولذلك فإن العمل الطبي يشمل(62):
- الفحص الطبي.
- التشخيص.
- العلاج.
- التذكرة الطبية.
- الرقابة العلاجية.
- الوقاية.
وبذلك يتجاوز العمل الطبي العلاج كما كان سائداً، حيث أصبح شاملاً لما ذكرناه آنفاً، وهي أعمال طبية، ويتوقف العمل الطبي عليها.
وأظن أن التركيز على العلاج في بعض التعريفات لكونه: "الوسيلة التي تؤدي إلى الشفاء من المرض أو الحد من أخطاره أو التخفيف من آلامه الناتجة عنه بتسكينها أو بالقضاء عليها"(63) فيكون الأبرز من عناصر العمل الطبي.
وتبدو المراحل الأخرى - عندئذٍ - مقدمات أو مكملات، إذ إن الفحص الطبي والتشخيص مقدمات للعلاج، والرقابة العلاجية من مكملاته.
بل يمكن القول: إن بعض ما ذكر في مراحل العمل الطبي كما هو في (التذكرة الطبية) لا يعدو كونه إثباتاً للعلاقة بين الطبيب والمريض(64)، ولا يدخل في صميم العمل الطبي.
ويشترط لإباحة العمل الطبي توفر ما يلي(65):
1- الترخيص بمزاولة مهنة الطب: إذ إن حصول الطبيب على الترخيص الذي يخوّله مزاولة مهنة الطب وفق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القوانين المنظمة لمزاولة مهنة الطب - هو الذي يبيح له مباشرة الأعمال الطبية.
2- رضا المريض: حيث يتطلب المشرِّع لإباحة الجراحة الطبية وأعمال التطبيب أن تتم برضا المريض أو النائب عنه قانوناً صراحةً أو ضمناً، إذ لا يجوز أن يُرغم الشخص على تحمل المساس بتكامله الجسدي ولو كان ذلك من أجل مصلحته.
3- قصد العلاج (الشفاء): إذ يجب لإباحة العمل الطبي أن تتجه إرادة الطبيب إلى العلاج لا إلى غاية أخرى، أي أن يكون غرضه مما يقوم به من أعمال مهنته الوصول إلى علاج المريض بتخليصه من الآلام التي يكابدها أو التخفيف من حدتها.
4- عدم وقوع إهمال من الطبيب: لأنه مع حصول الخطأ يكون مسؤولاً عن إهماله.
النبذة الأولى: الاختصاص الطبي
إذا كان العمل الطبي مشروعاً لكونه عملاً نبيلاً يسهم في حماية النفس الإنسانية، فإنه لا يُشرع إلاّ إذا كان ممارسه عالماً وعارفاً به، ولذلك لم يكتف المشرّع لإباحة العمل الطبي برضا المريض وإذنه - أو من يقوم مقامه - لتبريره، بل اشترط أن يكون ممارسه طبيباً حائزاً على شهادة في الطب معترفٍ به، علاوة على الترخيص الذي يتطلبه القانون للممارسة ومزاولة هذا العمل.
ولذلك نصّت المادة /30/ في فقرتها الأولى من قانون العقوبات الكويتي على أنه "لا جريمة إذا وقع الفعل من شخصٍ مرخصٍ له في مباشرة الأعمال الطبية أو الجراحية كان قصده متجهاً إلى شفاء المريض، ورضي المريض مقدماً صراحةً أو ضمناً بإجراء هذا الفعل.."، وهو ما يعني أن المشرِّع الكويتي يتطلب لإباحة الأعمال الطبية أن يكون ممارسها حاصلاً على شهادة في الطب معترفٍ بها من قبل السلطات المختصة في دولة الكويت، سواءً أكانت صادرة من دولة الكويت أم من الخارج ما دامت قد تمت معادلتها والاعتراف بها(66).
ولهذه الجهة اعترض بعض القانونيين على صياغة الفقرة /2/ من المادة /186/ من قانون العقوبات اللبناني؛ لأنه خلا من الإشارة إلى صفة الطبيب الذي يمارس العمل الطبي، واكتفى بتضمين شرطين، أحدهما رضا المريض، وأن يُجرى العمل وفقاً لأصول الفن الطبي، مع أنه لا إشكال ولا خلاف في أن القانون إنما أجاز هذا العمل لفئة من الناس قدَّر أنهم تتوافر لديهم عادة الخبرة المتطلبة للقيام بهذا العمل على النحو الفني المطلوب(67).
وتَطَلُّب الاختصاص الطبي معروفٌ قديماً حيث عرف المصريون القدماء فن الطب وتخصصوا فيه أيضاً، إذ تخصص بعضهم بطب العيون وآخرون بطب الرأس والأسنان، وقسم ثالث في الأمراض الباطنية(68).
وهو ما يؤكد اشتراط العلم بالعمل الطبي والإحاطة به، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن النبي (ص): "من تطبَّب ولم يُعرف منه طب فهو ضامن"(69)، لأنه يتطفل على عملٍ لا معرفة له به، ويتطاول بذلك على حياة الناس وأرواحهم، فيكون ضامناً لتعديه على الجسم البشري.
ولأنه يلزم في ممارسة العمل الطبي الاختصاص والمعرفة فقد عمد المشرِّع لتنظيم هذه الممارسة، وقيل إن اليهود هم أول مَن اشترط في ممارسة الطب أن يحصل الراغب في الممارسة على ترخيصٍ عن طريق الحصول على إذن مـن مجلس القضاء المحلي(70).
وفي العام 319 هجرية أمر الخليفة العباسي (المقتدر) محتسبه (إبراهيم بن بطحا بن أبي أصيبعة) بمنع جميع الأطباء من المعالجة إلاّ من امتحنه رئيس الأطباء في ذلك العهد وهو (سنان بن ثابت بن قرة)، وقد امتحن في بغداد وحدها وقتذاك (800) طبيباً عدا الذين لم يدخلوا الامتحان لشهرتهم في الطب(71).
وإذا كان الوضع متأرجحاً في أوروبا، بين مزاولة العمل الطبي بأدنى مستوى علمي وبين فرض مستوى عالٍ للمزاولة، فإنه قد اتجهت غالبية الدولة الأوروبية شيئاً فشيئاً إلى قصر ممارسة المهنة على أشخاصٍ مؤهلين رسمياً(72).
أما اليوم فإنه لم يبق ما يثير الخلاف حول هذا الشرط، فإنه يُشترط لمزاولة العمل الطبي الاختصاص الطبي المطلوب، ولم يعد كافياً أن يكون الممارس حائزاً على شهادة في الطب العام في وقتٍ يحتاج فيه العمل الطبي إلى اختصاص فيه، مثل الاختصاص في الجراحة أو الطبابة النفسية وغير ذلك.
وفيما نحن فيه من البحث حول عمليات التجميل الجراحية فقد تتطلب خبرة واسعة لا تقل عن ثلاث سنوات من العمل في الجراحة التجميلية فضلاً عن سنتين خبرة في الجراحة العامة كما تفيد جمعية الأطباء الأمريكية، وعليه فلا تكفي الطبيب الشهادة الحاصل عليها ولو كانت شهادة البورد الأمريكي(73).
النبذة الثانية: المستند القانوني والشرعي للعلاج
في معرض الحديث عن العمل الطبي وحدوده ومشروعيته، فضلاً عن البحث عن مسؤولية الطبيب، فإنه يلزم البحث عن المستند القانوني والشرعي له، وما هي مبرراته ومسوغاته من وجهة نظر القانون والشريعة.
وفي هذا الصدد تُذكر عدة نظريات:
أولاً: نظرية العادة
وتقوم هذه النظرية على أساس ما اعتاده الناس في موقفهم من العمل الطبي حيث: "دأب الناس منذ القديم على عدم مساءلة الطبيب، كما عند المصريين قديماً والرومان والقانون الكنسي، فيما لو أعطي تصريحاً بالعلاج وفقاً لأصول المهنة، وإن لحق المريض ضرر أدى به إلى الموت، وكذلك هو الموقف الفقهي عند المسلمين(74) حيث لا ضمان عندهم على الطبيب الحاذق الذي عالج مريضه وفقاً لأصول الطبّ المتعارفة"(75).
وعليه تستند مشروعية العمل الطبي وانتفاء مسؤولية الطبيب إلى ما اعتاده الناس منذ القديم، من عدم مساءلتهم الأطباء عن الأضرار التي تلحق المرضى طالما راعوا الأصول الطبية المتعارفة.
ويراد بالعادة في الاصطلاح القانوني: "القاعدة القانونية التي تنشأ وتثبت باستمرارها مدة من الزمن، وتتحول هذه القاعدة إلى عرف له قوة القانون، إذا كانت قديمة وعامة وثابتة وظاهرة ونافذة بين الناس، ولا تتعارض مع التشريع القائم"(76) وهو ما يتوفر في هذا العرف السائد بين الناس قديماً - كما يدّعى - على عدم تضمين الطبيب، والذي أخذ من ثبات هذا العرف واستقراره.
وذُكر (الختان) عند اليهود مثالاً لانتفاء المسؤولية عن الأطباء، وتبرير العمل الطبي كونه أمراً معتاداً، وهـو عملية جراحية، كما ذهبت (لجنة المراقبة القضائية) في مصر إلى عدم اعتبار الحروق الحادثة من الكيّ الذي يجريه الأقارب بعضهم للآخر - ولم تفضِ إلى عواقب سيئة - جروحاً غير عمدية فضلاً عن كونها جروحاً عمدية، لكونها أفعالاً اعتاد الناس على اعتبارها أمراً مشروعاً(77).
وقد اعترض على هذه النظرية "بأن العادة إذا كانت أول مصادر القانون فهي قد فقدت تأثيرها في العصر الحالي، وحلّت محلها السلطة التشريعية التي تقوم الآن بسنّ القوانين اللازمة، وليس للعادة على وجه الخصوص من تأثير على قانون العقوبات، فإن من المبادئ المقرَّرة في القوانين الحديثة أن لا جريمة إلاّ بقانون ولا عقوبة بغير نص… ولذلك فلا يمكن أن تنشأ جريمة ولا نوع من العقاب بالعرف، كما أن قانون العقوبات لم ينص على أن العادة من أسباب الإباحة وموانع العقاب، حتى يصح القول بأنها يمكن أن تكون سنداً قانونياً لإعفاء الطبيب من المسؤولية"(78).
بل شكك بعض الباحثين في صحة الأمثلة التي ارتكزت عليها نظرية العادة لتبرير العمل الطبي واعفاء الأطباء من المسؤولية في ضوئه، لأن نفي المسؤولية عن الطبيب في المزاولة العادية - في الختان وغيره - لم يكن مستنداً بالضرورة إلى العرف وما اعتاده الناس، بل إنه يمكن أن يكون مبرراً لاقترانه بشروط أخرى، منها إذن الشارع وإذن المريض وقصد الشفاء وغير ذلك(79)، مما يعني أن هذه النظرية لا تجد أساساً من الصحة من حيث المبدأ، فضلاً عن أن تلك الأمور كانت أمراً متعارفاً يومذاك، ثم فقدت أساسها القانوني باعتبار التطور القانوني.
ثانياً: نظرية الضرورة
وبمقتضاها يُبرّر العمل الطبي كونه حالة ضرورية، ولذلك أعفي الطبيب - بتسالم - منذ أقدم العصور، فضلاً عن كون الضرورة قاعدة شرعية تفيد "أن الضرورات تبيح المحظورات"، ولذلك نصت معظم القوانين الحديثة على حالة الضرورة كسببٍ من أسباب انعدام المسؤولية.
ويمكن أن يبرر اعتبار حالة الضرورة سنداً لإباحة العمل الطبي بأن خسارة البعض أفضل من خسـارة الكل، ولذلك فإنه أفضل للمرء أن يخسر عضواً من أعضائه من أن يخسر حياته(80). وربما يدرج هذا الأمر فيما يعرف عند فقهاء المسلمين بـ (باب التزاحم)، فيكون العمل الطبي مشروعاً كونه تطبيقاً لهذا المبدأ، حيث تتزاحم المصالح والملاكات في تحديد ما هو المهم والأهم، وعندئذٍ يتقدم الأهم على المهم من الأفعال.
وفي مقام تحديد الضرورة العلاجية وضعت عدة ضوابط يجب على الطبيب مراعاتها في تحديد هذه الضرورة، وهي(81):
1- أن يكون العمل الطبي مطابقاً للمبادئ الأولية في العلم.
2- أن تكون الضرورة مؤسسة على مجموعة من المعارف الإكلينكية والنفسية والمعنوية المتعلقة بالمريض.
3- وجوب فهم الضرورة بمعنى خاص عندما تكون عمليات التجميل ضرورية بسبب ما تسببه التشويهات والإصابات من آلام نفسية للمريض قد تدفع به إلى الانتحار، مع وجوب الاعتداد بالمقارنة بين مخاطر العلاج والنتائج المترتبة عليه.
وعليه فإنه لا يسوغ للطبيب أن يقوم بأي عمل طبي لا يُعدُّ ضرورياً للمريض.
وقد اعترض على هذه النظرية بعدة اعتراضات منها:
1- أن "حالة الضرورة يمكن أن تعفي حتى غير الطبيب من المسؤولية عن الأعمال الطبية التي ترغمه الظروف على إتيانها. وقد حكم بأنه لا مسؤولية على الزوج الغريب عن مهنة التوليد إذا ولَّدَ زوجته في مثل تلك الظروف"(82).
2- أن "الاعتداد بهذا الرأي فيه إهدار لإرادة المريض، وهي من المبادئ التي لا شك فيها، والتي لا يُسمح بالتغاضي عنها"(83).
3- أن نظرية الضرورة لا تصلح سبباً عاماً لإباحة الأعمال الطبية كلها، وإنما تصلح سبباً للإباحة على نحو الاستثناء، كما في حالات الاستعجال خروجاً على شرط توفر رضا المريض مثلاً، أو في حالات انتشار الأوبئة التي لا يشترط فيها رضا المريض أيضاً(84).
ولذلك فإن حالة الضرورة لا يمكن أن تعفي الطبيب من المسؤولية إلاّ في الأحوال المحدودة التي تتوفر فيها الشروط اللازمة قانوناً لقيام حالة الضرورة المانعة من العقاب(85).
ولهذه الجهة يعفى الطبيب الذي منع من المزاولة مؤقتاً أو دائماً من المسؤولية لو قام بهذه الأعمال الطبية من باب الضرورة. وهو إعفاء سلّم به قانون سنة 1892م في فرنسا، فنصَّ في نهاية الفقرة الأولى من المادة /16/ على استثناء الحالات المستعجلة من حكم المزاولة غير المشروعة للمهنة. كما نصّ على مثل ذلك كثير من قوانين الولايات المتحدة الأمريكية(86).
ثالثاً: نظرية رضا المريض
وبموجب هذه النظرية فإن الطبيب يعفى من المسؤولية طالما أنه قام بالعمل الطبي برضا مريضه.
وتقوم هذه النظرية على وجود عقد يربط بين المريض وبين الطبيب، ومقتضاه أن يقوم الطبيب بالعلاج لما تقضي به الحكمة والأصول، فإذا نفَّذ الطبيب التزامه من غير خطأ ولا تقصير فلا مسؤولية عليه، ولو ترتب على المعالجة ضرر بالمريض.
ويعتقد بعض الباحثين أن لهذه النظرية جذوراً نجدها في القاعدة الرومانية التي تقرر "أن لا ضرر لمن رضي بهذا الضرر"، وفي الشريعة الإسلامية التي جعلت لرضا المريض بالعلاج أثراً في تخفيف العقاب على الطبيب، ونفي القصاص عنه، وعدم تحميله الدية أو تعويض التلف إلاّ في الحالات التي يكون فيها الطبيب جاهلاً أو مهملاً(87).
وقد تبنى القضاء المصري القديم هذا الاتجاه، فقضت محكمة النقـض في عام 1897م ببراءة شخص لم يكن طبيباً اتهم في قضية لإجرائه كياً على رجل برضاه وبناءً على طلبه وبقصـد شفائه من مرضٍ اسـتناداً إلى أن الرضا يعتبر مانعاً من العقاب(88).
وقد نوقشت هذه النظرية بعدة مناقشات:
1- إن هناك أحوالاً كثيرة لا يكون لرضا المريض أو رغبته أي وزن في إجازة العلاج، فقد يحدث العلاج على الرغم من إرادة المريض دون أن تترتب على الطبيب أية مسؤولية، وإلاّ لاضطررنا أن نعتبر غيرَ جائز عمل الطبيب الذي يقوم بمعالجة رجل شرع في الانتحار فأصيب بجراح ولم يمت(89).
2- إن حق المريض في الإذن بالعلاج ليس مطلقاً، ولذلك قيدَّ فقهاء المسلمين رضا المريض بأن يستهدف المعالج من عمله صيانة صحته، ولذلك فإن رضا المريض يقتصر أثره على الجانب الفردي للحق، ولا يبرر المساس بالجانب الاجتماعي الذي يتجسد في حق الله(90).
3- إن رضا المريض لا يعدُّ سبباً لإباحة العمل الطبي، ولذلك فإن الأعمال الطبية لا يبيحها رضا المريض، وإنما هو شرط لممارسة هذه الأعمال، وهو مقيَّد بعدة قيود، منها أن لا يخالف هذا العمل النظام الـعام والآداب(91).
رابعاً: نظرية انتفاء القصد الجرمي
وتفيد هذه النظرية أن السبب في اعتبار الطبيب غير مسؤول أنه ليس يقصد من الإصابات بالمريض إلاّ شفاءه، على خلاف المتهم الذي يحدوه الحقد أو الغضب أو غير ذلك من الدوافع الجنائية للإضرار بالمجني عليه(92).
وقد أخذت بهذه النظرية طائفة من الأحكام الفرنسية(93)، كما أخذت بها محكمة النقض المصرية في 24 أبريل 1897م حين حكمت بتبرئة شخصٍ اتهم بإحداث إصابة نتيجة كيِّه شخصاً بناء على طلبه وبقصد شفائه استناداً إلى انتفاء القصد الجنائي لديه(94).
وقد أخذ بهذه النظرية بعض الفقهاء الألمان(95).
وقد تراجع الفقه والقانون عن الأخذ بهذه النظرية، ويكفي في الاعتراض عليها أنها: "لا تعد بذاتها سبباً لإباحة الأعمال الطبية، والقول بغير ذلك لا يمكن التسليم به، ويفتح الباب على مصراعيه بإباحة الأعمال الطبية والتعرض لأجسام المرضى وغيرهم من البشر ممن هم ليسوا بأطباء، مما يهدّد النظام القانوني لهذه المهنة"(96).
خامساً: نظرية إجازة القانون
ويرى أصحاب هذه النظرية أن الأطباء بنفس وصفهم كأطباء يستمدون من الدولة الحق في استعمال جميع الوسائل المسلَّم والجاري العمل بها للعناية بالمرضى وعلاجهم، فليس حسن القصد هو الذي يعفي الطبيب من المسؤولية عن الأضرار التي يمكن أن تحدث منه في أثناء مزاولته لمهنته، بل هو التصريح الضمني من الدولة(97).
وعليه فإن "العلة في إباحة عمل الطبيب والجراح وانتفاء مسؤوليتهما هو ترخيص القانون؛ لأن القانون إذا رخّص للطبيب أو الجراح اعتماداً على شهادته الدراسية بمزاولته مهنة الطب قد خوَّل له بذلك حق علاج المرضى والتعرض لأجسامهم ولو بإجراء عمليات جراحية"(98).
وعليه "فالطبيب الذي يجري العملية أو يوصف الدواء إنما يأتي الفعل بنية سليمة عملاً بحقٍ مقرر بمقتضى القانون"(99).
وقد رجحّ بعض الباحثين أن الرأي الراجح في الفقه الإسلامي في أساس عدم مسؤولية الطبيب أو الجراح هو إذن الشرع وإذن المريض، وعليه فإن عدم تضمين الطبيب راجع إلى الجواز الشرعي، وهو ينافي الضمان، واعتبر أن إذن الشرع هو الذي ينشئ للطبيب رخصة استثناءً من المحظور، فكأن إذن الشرع هو الـذي أنشأ سبب الإباحة من الناحية التجريدية، ولا يعدو إذن المريض أن يكون العامل المباشر الذي يمكّن الطبيب من العمل بالرخصة التي خوّلها له الشرع على جسم المريض(100).
وقد تبنّت معظم التشريعات العربية والأجنبية هذا الرأي فنص عليه التشريع المصري واللبناني والسـوري والعراقي والأردني والكويتي من التشريعات العربية، ونص عليه من التشريعات الأجنبية التشريع الفرنسي والبلجيكي والسويسري(101).
وفي مقام تقييم هذه النظرية فإنه يشرع التساؤل عن الفرق بين ترخيص القانون وإذنه وبين إذن المريض، وما إذا كانا شرطين لابد منهما كما هو المقرر لانتفاء مسؤولية الطبيب؟ وهو ما يجعل من ترخيص القانون شرطاً لممارسة العمل الطبي، لا سنداً لإباحة العمل الطبي. خاصة وأن ترخيص القانون بمزاولة مهنة الطب يُعدُّ كاشفاً لحق الطبيب في ممارسة المهنة، لا منشئاً لهذا الحق، لأن أساس منح الترخيص لمزاولة مهنة الطب هو الإجازة العلمية التي يحصل عليها الطبيب(102).
ويمكنني التساؤل حول سبب إجازة القانون وترخيصه، وهو ما يَعني إعادة النظر في اعتباره سنداً للإباحة، إن كان هناك ما يدفع القانون والمشرِّع للإجازة والترخيص لمثل هذه الأعمال.
سادساً: نظرية المصلحة الاجتماعية
وتستمد هذه النظرية من المبادئ العامة للدين والقانون؛ إذ تنظر هذه المبادئ إلى وظيفة الطبيب كونها تحقق غاية إنسانية، وهي المحافظة على صحة وحياة أفراد المجتمع؛ للقيام بأعباء وظائفهم الاجتماعية التي يفرضها عليهم المجتمع تحقيقاً للمصلحة العامة(103).
ويمكنني تسميتها بالحاجة الإنسانية، لأن حاجة التطبُّب عند الإنسان إن لم تكن أهم من حاجاته الأخرى للغذاء والجنس.. فإنها لا أقل تساوي هذه الحاجة؛ لأنه يستهدف بالتطبّب الإبقاء على حياته أو المحافظة على صحته وتوازنه النفسي.
وإذا كان القانون يُجيز للأطباء التسلط على أجسام البشر فهو يُجيزه تحقيقاً لهذا الغرض، مع مراعاة الشروط الموضوعية التي تكشف عن مصداقية هذه الحاجة، وكونها حقيقة لا وهماً، والتي في مقدمتها الترخيص القانوني، ورضا المريض، ومراعاة أصول الفن وقواعده وضوابطه.
ومن وجهة نظري فإن هذه النظرية هي الأكثر سلامة من غيرها، وهي تستجيب - كما سيأتي الحديث عنه - للمتطلبات الطبية الحديثة، التي فرضتها حاجة الإنسان إلى العمليات الجراحية الحديثة من زرع أعضاء وعمليات تجميل…
يتبع /