لا يمكن لأي متابع أو معايش لأوضاع الشيعة في العراق الآن إلا أن يخرج بنتيجة محزنة و مفزعة للوضع الحالي المأساوي ، و هو وضع أقل ما يوصف بأنه فوضوي و منقسم على نفسه و متخلف. فوضوي لأنه ليس له وجهة ثابتة و منضبطة بسياسة واضحة و معلنة ، و ليس له برنامج متكامل أو متناسق مع ظرفه الذي يمر به.
و منقسم على نفسه ، و هذه أوضح من الشمس وقت الضحى ، فالشيعة ككيان لا تجمعه الآن إلا الشعارات و اللافتات و المناسبات و القتل الجماعي الذي لا يفرق بينهم ، و لكنهم في الحقيقه تيارات بدأت تتصارع و تتنافس لفرض نفوذها على حساب الأخرى ، و هذا أحد أسباب ضعفها. و لا يوجد إشكال في تعدد الإجتهادات و إختلاف الرؤى ، لكن المصيبة أن يتحول ذلك إلى صراع يقوض وحدتهم و يشرخ صفهم. و أوضح مثال على ذلك أن الشيعي العراقي أصبح ينابز أخيه الشيعي بأنه "حكيمي" أو "ًصدري" أو "سيستاني" ، و شهدت بعض مساجدهم تلاحماً و شقاقاً بسبب الإختلاف في من يقلد هذا أو ذاك من المراجع. و لأول مرة في تأريخ شيعة العراق الحديث ينقسم الشيعة في تحديد أول أيام العيد ، فيعيد هؤلاء في يوم ، و يعيد الآخرون في اليوم التالي و هم يعيشون في الحي نفسه!
و متخلف لأنه أغلق على نفسه اسطورة هيمنة "المرجع" و "العالم" و "الآية" و "المعمم" و "السيد" كطريق وحيد للتلقي عن الله و لفهم الواقع و الحياة التي يعيش و يرى في أشخاصهم رمزاً لفكره و عقيدته ، و لأنه رضي بأن يكون من العوام الذين لا يفقهون في أمور الدنيا و الدين أكثر مما يفيض عليه المستعمم ، فكان طبيعياً أن تنعكس ثقافة هؤلاء المستعممين و رؤيتهم المتخلفة و القاصرة للحياة على ثقافته و سلوكه .. هذا أولاً ، وثانياً لأنه يعيش حالة الإنفلات من الكبت الذي لاحقه لعدة عقود و الرغبة في ممارسة كل ماكان يعد ممنوعاً منه حتى و إن كان يمس بانسانيته و كرامته التي تفضل الله بها عليه. و لأن كان السبب الأخير ممكن أن يتعرض إلى الزوال حال عودة الوعي و مراجعة النفس ، فإن هيمنة الكادر "الديني" و سطوته و تعظيمه كفيلة برده القهقرى كلما أراد النهوض و التفكير خارج إطار (( إنا أطعنا ساداتنا و كبرائنا فأضلونا السبيلا )). و الملاحظ أن العلاقة بين العامي و المستعمم هي علاقة جدلية ، فلا يجرؤ العامي على مخالفة المستعمم حتى في نحنحته ، و لا يجرؤ المستعمم في تعكير مزاج و هوى العامي في ممارساته و انحرافاته عن صلب ما يدعو إليه لئلاً يفقده ذلك مركزه و سطوته.
هل هذه أسباب أم نتائج ؟
برأيي أن الأوليان – الفوضى و الإنقسام - نتيجة لغياب المرجعية و القيادة الواعية الموحدة ، أما التخلف فهو سبب و نتيجة معا و هو برأيي العصب الذي يملك التغيير في كل هذا. فالذي يجمع هذه الظواهر الثلاث هو نتيجة غياب المرجعية عن الواقع الحركي المؤثر و انهيارها تماماً. المرجعية لا تعني أشخاصاً بألقاب و كنى تقطع النفس قبل أن تصل لأسمائهم ، إنها تعني إنتماءً ، و مسؤولية ، و وجوداً حقيقياً فاعلاً ، و واقعاً ، و متابعة للأحداث ، و إحاطة كفوءة بمشاكل الناس و متطلبات الواقع ، و تسييراً حكيماً و حازماً لأمور المؤمنين ، و فوق هذا كله تعني جهاداً ، و إيثاراً ، و تضحية. إن هذا كله لا يمكن أن يأتي به شبح لا يعرف منه إلا إسمه ، و لا كاهن لا يجيد سوى هضم أموال الناس بالباطل و المتاجرة بدمائهم و التسلق على جماجمهم و المراهنة على تخلفهم و لا بصبي ليس له حظ من علوم الدنيا و الدين سوى إرث و أتباع إرث لايجيدون سوى فن الدعاية و التنفير!
هل كتب على الواقع الشيعي أن ينقسم بين قيادة لا تمثلها إلا "مرجعية" معممة و بين مقلدين لا يجيدون سوى الهتاف و التقليد ؟ أين الكادر المثقف و الواعي و المتمرس في الحياة و المتمكن من تحمل مسؤولية المجتمعات و نموها بالشكل الصحيح كما هو حال بقية الأمم و المجتمعات التي شقت طريقها و نهضت من نكباتها لتتعلم منها و تتلافى الأخطاء التي تكبها على وجوهها ، و هي بعد لا تملك رصيداً فكرياً إلهياً كما ندعي نحن؟! هل عَدِمَ المجتمع الشيعي بروز هكذا كادر قادر على أن يضع الأمور في نصابها الصحيح و يأخذ بزمام الأمور من أيدي الكهنة الذين كانوا كالسندان لمطرقة صدام التي أهلكت جيلاً من العلماء و المثقفين الأكفاء الذين كانوا مرشحين لقيادة الجماهير و توحيدها و توجيهها إلى المسار الصحيح.
إن الواقع اليوم يجعل الأمل في أو المراهنة على المراجع و المستعممين في تصحيح المسار و تلافي الإنهيار هي مراهنة خاسرة على عاجز و قاصر و معدوم الكفاءة ، و الحياة لا تتوقف باختفاء هؤلاء أو تثاقلهم إلى الأرض ، بل هنا يبرز دور الجيل المصلح و الواعي لزمنه و مشكلاته ليمارس دوره أولاً في توعية الناس لضرورة التغيير ، تغيير ملامح القيادة و سماتها في عقل الشيعي و نزع اسطورة "المعمم" و قدسيته و استبدالها بسمة الإنسان الكفوء و الواعي و المتقي ، و ضرورة محاسبته على أساس الكفاءة والعمل. و هذه تتطلب مراجعة شاملة للمفاهيم و عرضها للإختبار أمام القرآن ،و العقل و تجارب الأمم!
لقد حدثت مجزرتان كبيرتان للشيعة في العراق بعد سقوط نظام أحرق أخضرهم و يابسهم ، فماذا قدمت هذه "القيادة" المتمثلة بالمرجعية للضحاياً و ماذا عملت من تدابير من أجل تلافي هذا الجرم من جديد ؟ لاشيء ! ماذا قدمت أمام الدستور الذي صمم لإهدار حقوقهم و تهميشها ؟ لا شيء ، بلا .. قدمت لنا عرضاً مسرحياً في تذبذبها و تخبطها و طفولة تفكيرها! هذه قيادة غير موجودة و مرجعية منهارة و فاشلة.
إن القيادة الناجحة لأي مجتمع اليوم لا يقوم بها شخص واحد و ليس في مستطاعه ذلك ، بل لابد من وجود مؤسسة من ذوي الخبرة و الإختصاصات المختلفة المتعلقة بكل مفاصل الحياة السياسية و الإجتماعية و العلمية و غيرها تقوم بخدمة الناس – و لا يخدمها الناس – و تثبت هي ولائها لقيم الدين و المجتمع و ليس المجتمع هو من يقوم بتقديم ولائه لها.