كيفية فهم الأحداث السياسية رؤية في آلية فهم الموقف الدولي
أضواء على الفهم السياسي
يلاحظ أن هناك خطأ في فهم الحوادث السياسية اليومية ناتجا عن خطأ في ربط هذه الحوادث بالأصل الذي ينبغي أن تربط به، نعم إن الخطأ في فهم الحوادث السياسية أمر لا بد أن يقع من بعض الشباب وقد يقع من الحزب نفسه، لأن الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، فإن كل من يعمل لا بد أن يقع في الخطأ حتما لأنه إنسان ناقص ومحدود، ولكن الخطأ في الربط لا بد من علاجه ذاتيا لما يترتب عليه من بُعد عن خط السير في الفهم فضلاً عن البعد عن الصواب، ذلك أن الصواب في الفهم مع الخطأ في الربط قد يؤدي إلى البعد عن الأصول، وبالتالي البعد عن السير، أما الخطأ في الفهم مع الصواب في الربط فإنه وإن كان يعطي رأيا خاطئا في المسألة ولكنه يظل في إطار الفهم الصحيح وفي نفس خط السير في الفهم. ولذلك فإن الخطأ في الفهم مع الصواب في الربط لا يضر ولا يشكل أية إساءة مطلقاً، ولكن الصواب في الفهم مع الخطأ في الربط يؤدي إلى الإساءة إلى الشخص نفسه كما يؤدي إلى الإساءة إلى الحزب نفسه وإلى الأمة في تثقيفها التثقيفَ السياسيَّ، ومن هنا كان لا بد من الحرص الكامل على الربط بالأصل ببذل الجهد للالتزام بالربط بالأصل بغض النظر عن الخطأ والصواب في الفهم .
معلوم لدينا أن هناك أسساً أو أصولاً في الفهم السياسي للسياسة الدولية والسياسة المحلية، وهناك فرعيات قد تكون مرتبطةً بهذه الأسس وقد لا تكون مرتبطةً بها، فربط الحوادث اليومية بغير الأسس سواء أكان بالفرعيات أو بغيرها لا يصح أبداً، بل لا بد من ربط الحوادث اليومية بالأسس ووضع حاجزٍ كثيفٍ بين هذه الحوادث وبين غير الأسس بحيث لا يصح أن تلاحظ مجرد ملاحظة فضلا عن اعتبارها أو الربط بها.
واليكم بعض الاسس التي يمكن ان نطلع عليها وهي كما مبين في ادناه :
الأساس الاول :
فمثلاً من الأسس أن الموقف الدولي منذ حرب الخليج الثانية وحتى الآن قائمٌ على تفرد أميركا وهيمنتها، وأنه لم يعد لغيرها من الدول سواء روسيا أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين، أو من الأحلاف العسكرية كحلف الأطلسي، أو من التكتلات الاقتصادية كمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى وروسيا أي تأثير ذي بال في الموقف الدولي أو في رسم السياسة الدولية.
الأساس الثاني :
ومن الأسس أن الموقف في الشرق الأوسط هو هيمنة أميركا عليه هيمنةً تامةً وأن الصراع الإنجلوأميركي على المنطقة قد انتهى، وأنه لا يبرز لأي متتبع للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط وجود خطة تعمل لندن لتحقيقها، ولا يبرز من سير عملائها ما يدل على وجود خطة من هذا القبيل، بل البارز على هؤلاء العملاء السير في خطط أميركا، إن لم يكن التحول عنها أصلاً.
الأساس الثالث :
ومن الأسس كذلك أن المنطقة مقبلةٌ على صياغةٍ جديدةٍ تستلزم الانتهاء من حل "قضية الشرق الأوسط"، وخاصةً جوهر هذه القضية المتعلق بالفلسطينيين، وهذه الصياغة ستأخذ أشكالاً متعددةً سواءٌ على صعيد الشعوب أم على صعيد والدول.
الأساس الرابع :
ومن الأسس أيضا أن خطة أميركا للسلام في منطقة الشرق الأوسط تقوم على إقامة كيانين، كيان لليهود يسمى " دولة إسرائيل "، وآخر للفلسطينيين ويسمى " الدولة الفلسطينية".
ومن الأسس أيضاً أن أميركا تعامل إسرائيل كدولةٍ ديموقراطيةٍ وصل رؤساؤها إلى سدة الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، وليست دولةً كسائر دول المنطقة المستبدة، وأن هناك خطوطاً حمراء قي عملية السلام لا تسمح لإسرائيل ولا لغيرها من الدول بتخطيها أو القفز عنها.
الأساس الخامس :
ومن الأسس أن إسرائيل لا تستطيع معارضة أميركا أو الوقوف ضد مخططاتها في المنطقة بأي حال من الأحوال، لأنها الدولة الوحيدة التي تضمن لها التفوق العسكري النوعي على العرب وتساندها عسكرياً واقتصادياً ومالياً وكذلك لإدراكها القاطع أن أميركا هي الدولة الأولى في العالم المتفردة في الموقف الدولي مما يعني أن التصدي لسياساتها أو مصالحها يعرضها للخطر.
الأساس السادس :
ومن الأسس أيضا أن احتلال العراق إنما كان من أجل إعادة صياغة المنطقة، بنشر ما يسمى بالديموقراطية وفرض الإصلاحات الأميركية، وهو كذلك لإحكام قبضة أميركا على منطقة الخليج الحيوية بالنسبة لأميركا. ومن أجل ذلك كان احتلال أفغانستان ثم العراق، والضغط على سوريا والسعودية ومصر.
الاساس السابع :
ومن الأسس أن أميركا تعمل بشتى الأساليب لإبقاء دول أوروبا مفككة وتشعر بضعفها وحاجة كل منها لأميركا، وما حرب البلقان وتوسيع حلف شمال الأطلسي والإبقاء عليه مع زوال مبرر وجوده إلا دليل على ذلك.
الاساس الثامن :
وكذلك من الأسس أن الولايات المتحدة الأميركية أبقت على روسيا وريثاً شرعياً للاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن والمحافل الدولية، وأبقت عليها عملاقاً نووياً وعملاقاً في ارتياد الفضاء، حتى تكون قوةً توازن قوى أوروبا الغربية وبخاصة بعد أن سارت أوروبا في طريق الاتحاد.
الأساس التاسع :
ومن الأسس أيضا أن أميركا عملت على استمرار بقاء حلف شمال الأطلسي بعد زوال سبب وجود هذا الحلف بانهيار الاتحاد السوفييتي، وهي تعمل لتوسيع نطاق هذا الحلف حتى شمل دول أوروبا الشرقية وحتى يشمل سائر دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بل وتعمل لإدخال روسيا نفسها في الحلف لتقود دول العالم جميعها عسكرياً وسياسياً لتنفيذ سياساتها وتحقيق مصالحها تحت شعار (الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين) وما المشاركة العسكرية التي يقوم بها حاليا حلف شمال الأطلسي في أفغانستان إلا مثال على ذلك.
الأساس العاشر :
ومن الأسس أيضا أن هيئة الأمم المتحدة وما انبثق عنها من منظمات _ وبخاصةً مجلس الأمن الدولي _ تسير حسب الرؤية الأميركية بما يتناسب مع مصالحها أو مصالح حلفائها أو عملائها.
ومن الأسس أيضا أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية منظماتٌ أنشأتها أميركا ودعت دول العالم إلى الدخول فيها لكي تتحكم من خلالها بالاقتصاد العالمي.
الاساس الحادي عشر :
ومن الأسس أيضا أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية منظماتٌ أنشأتها أميركا ودعت دول العالم إلى الدخول فيها لكي تتحكم من خلالها بالاقتصاد العالمي.
كذلك من الأسس أن دول أميركا اللاتينية كلها دولٌ تابعةٌ للولايات المتحدة وذلك بموجب مبدأ مونرو الذي أعلنه الرئيس الأميركي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادي فلا تستطيع أية دولة التدخل في شؤونها غير الولايات المتحدة الأميركية
.
الاساس الثاني عشر :
ومن الأسس أيضا أن أميركا تهيمن على إفريقيا كلها ولكنها ليست متفردةً في إدارة كافة الأزمات الأفريقية إذ لا زال هناك بعض الوجود لبريطانيا، ووجودا لفرنسا وبخاصة فيما يعرف بالدول الفرنكفونية.
ومن الأسس أن سياسة أميركا في جنوب وشرق آسيا تقوم على إيجاد التوازن بين بلدانه، الهند وباكستان والصين.
هذه بعض الأسس السياسية، فإذا وقعت حوادث يومية وأريد فهمها فينبغي ربطها بالأساس الذي يتعلق بها، ثم فهمها على ضوء هذا الربط، وسواء صح فهم الحادثة أو كان خطأ، فإنه لا يهم ما دام الربط صوابا
تطبيقات على الفهم السياسي :
فمثلا لا يصح أن يربط بقاء بعض الدول تحت النفوذ البريطاني أو الفرنسي بأي صراع دولي بين أميركا وهذه الدول، وإنما أبقت أميركا لهذه الدول هذا النفوذ حتى لا تستطيع التفريط بها بمعاداتها لأمريكا، كما أن المساعي الأوروبية في عملية السلام في الشرق الأوسط لا يصح أن تربط بمحاولات أوروبا منافسة الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، وإنما تربط بسير أوروبا في تنفيذ المخططات الأميركية لتحقيق بعض المكاسب السياسية أو الاقتصادية. كما لا يصح القول أنه بعد تفرد الولايات المتحدة الأميركية في الموقف الدولي، تحولت جميع الدول التابعة إليها، بل إن أميركا أبقت على حكام هذه الدول رغم ارتباطهم بالدول الاستعمارية الأخرى لتسخيرهم لخدمتها وكنسهم حال عدم جدوى بقائهم لها.
كما لا يصح أن تربط محاولات إسرائيل بتحقيق مكاسب أمنية وسياسية واقتصادية من العملية السلمية في المنطقة بسيرها في خطٍ معارضٍ لسياسات أمريكا، بل تربط هذه المحاولات في مخطط الولايات المتحدة لإنهاء مشكلة الشرق الوسط، وإعطائها مزايا تفوقية على دول المنطقة في حل المشكلة.
كذلك لا يصح أن يعتبر أي تحرك من قبل كلٍ من فرنسا والصين وبريطانيا وروسيا تحركاً مؤثراً في السياسة الدولية كبديل أو كمنافس للسياسة الأميركية، وإنما لابد أن تفهم في ضوء ربطها بمحاولات الولايات المتحدة تخفيف آثار تفردها على العالم بإفساح المجال لبعض الدول التي كانت تسمى دولاً كبرى للعب دورٍ محدودٍ يهدف في النهاية إلى تعزيز مصالحها وتقوية مكانتها في الموقف الدولي.
وكذلك لا يصح أن تربط الأعمال التي يقوم بها الرئيس الليبي معمر القذافي في إفريقيا بأنها صراع بين أميركا والإنجليز على القارة السوداء، بل تربط هذه الأعمال بسياسات أميركا للسيطرة على القارة السوداء سيطرةً تامةً وإلغاء أي نفوذ دولي آخر عليها، لأن البارز على الرئيس الليبي أنه ينفذ مخططات أميركا في المنطقة فهو يلعب دوراً مهماً في بسط النفوذ الأميركي على كامل القارة السوداء، فهو الذي أنشأ جبهة البوليساريو وقام بتسليحها وتدريبها لكي تستنزف الطاقة المغربية، وهذا ما صرح به القذافي نفسه في 21/ 6 /99 م (أنا من أنشأ البوليساريو وقام بتدريبه وتسليحه…. ) بالإضافة إلى دعمه المستمر للحركات الانفصالية في أفريقيا، وكذلك محاولته لعب دور وسيط في حل المشكلات المتفرقة العالقة في إفريقيا.
ولا يقال كذلك أن أهداف وغايات أميركا ودول أوروبا وعلى رأسها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا واحدة، أو أنهم يعملون ككتلة واحدة في حفظ الأمن والسلم الدوليين والمشاورة والمشاركة في حل القضايا الإقليمية والدولية، وأن الدول الأوروبية هي الشريك الأول لأمريكا، بحجة أنها دافعت عن مصالح القارة إبان الحرب الباردة في منتصف القرن المنصرم حتى انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991م، وبحجة أنها أشركتهم معها في حرب الخليج الثانية، وكذلك أعطتهم دوراً في عملية سلام الشرق الأوسط، ،
وبحجة أنها دائمة الدعم لحلفائها الأوروبيين وأنها ساعدت أوروبا في الوقوف في وجه يوغسلافيا السابقة في قضية البوسنة والهرسك وقضية أقليم كوسوفا، بتدخل القوات الأوروبية والأميركية تحت لواء حلف شمال الأطلسي. لا يقال ذلك كله؛ لأن أميركا تنظر إلى أوروبا الغربية على أنها المؤهلة حضارياً، وسياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وتقنياً، وديموغرافياً، لتكون نداً لها في المستقبل، ولذلك فهي وإن تظاهرت بدعم
التوجه الاوربي نحو الوحدة ، فإنها في الواقع تعمل على الحيلولة دون تحقق هذه الوحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهي من دعم الأطراف المتنازعة في شرق القارة فيما عرف باسم الاتحاد اليوغسلافي السابق وخاصة قضيتي البوسنة والهرسك، بداية التسعينات من القرن المنصرم، وإقليم كوسوفا في أواخره، وكذلك دعم الجيش الجمهوري الايرلندي، وتوسيع حلف شمال الأطلسي حيث استغلت أميركا الأوضاع السائدة أثناء الهجوم الذي شنته طائرات الأطلسي على صربيا، ليوافق الحلف على قبول عضوية دول من أوروبا الشرقية وهي بولندا والمجر والتشيك، وذلك لترسيخ قيادة أميركا وإحكام قبضتها على دول أوروبا وشؤون القارة الأوروبية وإبقاء مصير الدول الكبرى كفرنسا وبريطانيا في يدها وجعل عضويتهم على قدم المساواة مع دول أوروبا الشرقية.
ذلك لا يصح تفسير سير بريطانيا مع أميركا في القضايا الدولية، بأن بريطانيا تسعى لتوريط أميركا في مثل هذه القضايا، بل تربط هذه القضايا بطبيعة الموقف الدولي والتحولات التي طرأت عليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتربط كذلك بمحاولات بريطانيا التأثير في السياسة الدولية ولو عن طريق تأمين مصالح الدولة الأولى في العالم.
ومثلا لا يصح أن تفسر أعمال الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز على أنها تحد لأميركا وسياساتها في القارة اللاتينية، وإنما تربط بمحاولات أميركا فرض الديموقراطية على العالم بما فيه دول أميركا اللاتينية التي أنهكتها الأنظمة المستبدة التي دعمتها أميركا في السابق، وأن أميركا بحاجة إلى قادة سياسيين لهم حضور شعبي قوي يمكنهم من تنفيذ إصلاحاتها حتى ولو كان حضورهم القوي هذا يظهر بمظهر المتحدي لأميركا.
وهكذا جميع الحوادث السياسية لا بد أن تربط بالأسس لا بالفرعيات ولا بغيرها من الأسس.
إلا أن ذلك لا يعني أن كل حادث مربوطٌ بأساسٍ من الأسس، بل يعني أن يحاول ربط الحادث بأصلٍ من الأصول إن كان مندرجاً تحتها ومربوطاً بها، ولكنه إن لم يكن كذلك لا يصح أن يربط بالأسس بل يربط بما هو متعلق به من الفرعيات أو الحوادث المحلية، فمثلاً محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا كانت لإيجاد المبرر لإبعاد مصر عن العمل في إفريقيا وإبقائها في الشرق الأوسط مع فسح المجال واسعاً أمام الرئيس الليبي معمر القذافي للسير في تنفيذ سياسات أميركا، فالحادث عمل أميركي.
وهكذا كثير من الحوادث لا يصح ربطها بأصل من الأصول بل تربط بما هي منسجمةً معه أو متفرعةً عنه أو متصلةً به من الحوادث المحلية. وعلى هذا لا بد من الحرص على ربط الحوادث السياسية بما هي مرتبطة به من أصل من الأصول أو من فرعيات وحوادث محلية، فإذا وقع الخطأ في الفهم وكان الربط صواباً كان الفهم صحيحاً إجمالاً ولا ضرر من الخطأ في الفهم، ولكن إذا وقع الخطأ في الربط سواء أكان الفهم صواباً أم خطأً فإن الضرر كل الضرر يقع من هذا الخطأ، فالعبرة بربط الحادثة بما هي مرتبطة به وليست العبرة بصحة الفهم أو خطئه.
منقول