[gdwl]
قصّة أم اسطورة ؟
اسرة عودة الحلفي تتكون من أحد عشر كوكبا، كل توحد بالقضية توحدا لا مثيل له، ولاجل ذاك لم يفلت أحدهم اما من الاعتقال أو السجن أو الاعدام، يعتقل فخري وهو بعد في المرحلة المتوسطة ومثله أخوه بشير، ويفرج عنهما بعد شهر وقد أخذا قسطا لا يستهان به من التعذيب الوحشي، وتصل النوبة للثالث (زكي) الا انه رحل الى ربه عاجلا، ثم أعقبهما اعتقال (ليلى) الطالبة في المرحلة الاعدادية وثلة من صديقاتها، أخيرا أكد رحيلها.
لم يعرف الاخوة جميعا ما لاقته الاسرة بعدهم، إذ تم اعتقال كل من رب الاسرة عودة وزوجته، وابنتهم رابحة وهي في الشهر الثامن من الحمل وكذلك اختها سعاد وطفليها وخيري وزوجته وهي في الشهر السابع من الحمل مع طفليها باسم ومناهل.
فتحت الاسرة عيونها ذات مساء على صراخ صغارها وهي تضج جوعا الا انها لم تنثن عما هي عليه .. التطبّع والتكيّف على المصائب مهما بلغ قدرها - تظل حيلة تلبث بها الروح البشرية للتزود من المقاومة أكثر، وحينها يسهل في عينها كل صعب شريطة أن تظل هذه النوازل بدرجة واحدة من (الواقع)، فالصعود والهبوط بمعدل نقل المصائب يقلل كثيرا من القدرة على التكيف عليها، وقد يفقدها استعادة مقاومتها من جديد، وهذا ما حصل حين وصل الى اسماع الاسرة المعتقلة صورة البطلة (الاخت الوسطى ليلى) وصديقاتها وهن يخضن معركة دامية مع مسلسلات التعذيب البشعة، مما تسبب بتعرض رب الاسرة لأزمة نفسية حادة ، إذ ان تموجات الصدمة كانت أقوى من احتماله ..
وليس بكثير على الشيخ رب الاسرة الطاعن في الوجع أن يتألم وقد (جاد) الزمن عليه وعلى اسرته بالمحن ما لم يجد بمثله على أحد، في العام نفسه ثم اطلاق سراح الام من معتقلها فواصلت وهي بعد ندية الجرح .. واصلت البحث عن ابنتها (سميرة) لكن دون جدوى، اذ قطع اليقين برحليها كل ما تبقى من خيوط الامل بالعثور عليها حية .. ذلك اليقين بتنفيذ حكم الاعدام بها شنقا حتى الموت مثلما أوصلها اليقين الى يقين آخر مفاده انها ترقد في مقبرة (محمد السكران) ..
أما الاب المفرج عنه، فلم يجد أي أثر ربما يقوده لمعرفة مصير فلذات فؤاده، بشير وفخري وزكي وليلى الذين رحلوا دون أن يعرف عنهم أي شيء، حتى وافته المنية عام 1996 .. وهكذا تواصل القرابين سباقها فداء لمبدئها وعقيدتها ولتحوز قصب السبق في خلودها، على الاخرين الذين استسلموا لسلطة الخوف ..
أول ضحية من ضحايا هذه الاسرة المجاهدة هي الشهيدة سميرة الحلفي .. التي تعد بحق اسطورة من أساطير البطولة ..
ولدت الشهيدة سميرة عام 1952، بدأت عملها الرسالي في سلك التدريس بعد تخرجها من كلية الآداب / جامعة البصرة، اقترنت بالاستاذ (عبد الامير) بعد أن اجتذبها منه تاريخه الجهادي الذي أكده باستشهاده ..
ترك لها الشهيد عبء المسؤولية الرسالية وعبء تربية صغيرته .. ظلت (سميرة) معبأة بيقينها، تعيش حالة الصفر دائما، متيقظة لانتهاز أي فرصة تمكنها من أخذ ثأرها .. وكان لها ذلك مجسدا في صيدها الثمين والمتمثل بمدير مدرستها الذي يشغل عضو فرقة في الحزب والذي يعمل في الوقت نفسه عميلا لدائرة الامن مما تسبب في قتل الكثير من الابرياء ب- (زيف تقاريره) .. وكانت الخطة ..
بدأت نسج خيوطها بيقين ثابت موظفة قدرتها على استخدام السلاح .. توجهت ذات يوم الى مدير المدرسة بعد أن تنكرت بعباءة توحي انها امرأة ريفية .. بدأت الحديث مع المدير حول قصة افتعلتها بحجة نقل ابنها من المدرسة أو اليها ووعدها بأن تأتي بالمستمسكات يوم غد ..
وكان ذلك اليوم موعدا لم يكن بالحسبان بعد أن قضت ليلتها بالعبادة والتبتل ثم ختمتها بتسجيل وصية لطفلتها على شريط كاسيت كان مفادها (ايمان استودعك الله الذي أرجو أن يلهمني الصبر على فراقك فهو أدرى بما أعاني) .. دفعت صغيرتها لأهلها مبيتة ما تنوي عليه .. وجدت نفسها في اليوم الموعود الذي انتظرته بفارغ الصبر وكأن الليلة التي قضتها لم تكن ليلة بل دهرا .. وجدت نفسها وجها لوجه أمام فريستها الذي ظل صيادا محترفا .. كل مستلزمات الخطة جاهزة .. الان بقي عليها أن تعلن المباشرة .. هكذا بدأت بتذكيره بالمستمسكات التي طلبها .. وبلمحة برق، شهرت مسدسها قائلة : هذه مستمسكاتي .. وبالفعل كانت (مستمسكاتها) التي دونت فيها نهايته ثم أردفت : كم أسرة أيتمت ؟ ثم أطلقت الرصاصة الاولى التي تلقتها رقبته، ثم حاولت أن تثني لتجهز عليه الا ان المسدس خانها فاحتبست الرصاصة فيه، فما كان منها الا أن تلوذ بالفرار، فعلت الضجة من معاون المجرم، فاحتوشوها من كل جانب لتسلم الى المدرسة ثم الى مديرية الامن في البصرة التي يشرف عليها المجرم اللواء مهدي ..
مورس في حقها أقسى أنواع التعذيب الوحشي، بعدها حكمت بالاعدام وكان ذلك في 11/6/1983 ، إذ عثر على جثمانها في مقبرة (محمد السكران) .. فعلى الشهيدة الرحمة والرضوان.. وقد نال هذا المجرم جزاءه العادل بعد سقوط النظام البعثي المقبور ، إذ قام ثلّة من المؤمنين الصابرين بإنزال القصاص العادل به ، ليعرف هو وغيره بأن الله يمهل ولا يهمل .
أما الشهيدة ليلى عودة فقد ولدت عام 1963 في البصرة، وهي طالبة في الصف الرابع الاعدادي، انتمت الشهيدة ليلى الى المجاميع الجهادية في حزب حزب الدعوة الاسلامية والتي بدأت تتكاثر مع ازدياد الهجمة الشرسة التي قادها حزب البعث ضد الدعاة للاسلام، قامت بالعديد من النشاطات منها توزيع المنشورات التي تفضح النظام البعثي ونقل الاسلحة للمجاهدين .. اشتركت في عمليات 3/10/1980 وكانت ضمن المجموعة التي هدفها السيطرة على مبنى الاذاعة والتلفزيون في محافظة البصرة، إذ تم اعتقالها في ساحة سعد مع مجموعة من المجاهدات منهن ( نجاة جواد كاظم وسهام جواد كاظم وهناء محمد ناصر وهيفاء محمد ناصر) وقد تعرضن لأشد أنواع التعذيب الاجرامي الوحشي على يد المجرم (لواء مهدي) الذي كان في وقتها ملازم أول في أمن البصرة ونفذ بهن حكم الاعدام بقرار من محكمة الثورة ولم تسلم جثتها الى ذويها، وبعد سقوط النظام العفلقي عثر على جثة الشهيدة ضمن المقابر الجماعية.
الشهيد الثالث لهذه الاسرة المجاهدة هو الشهيد بشير عودة، الذي ولد عام 1959 في البصرة، وفيها أتم دراسته الابتدائية والمتوسطة ليدخل بعدها المرحلة الاعدادية، كان الشهيد مولعاً بقراءة الكتب الدينية ومن الذين من الله عليهم بالايمان والوعي إذ بدأ بارتياد المساجد والحسينيات في شبابه مما زاده تمسكاً في وقتها بفكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره في محاربة الطاغوت أعتقل مع أخيه الشهيد فخري عودة في أحدى المرات في محافظة كربلاء عندما كانا ذاهبين لزيارة أبي عبدالله الحسين وأخيه العباس عليهما السلام وبقيا رهن الاعتقال لمدة ثلاثة أشهر تعرضا فيه لأشد أنواع التعذيب، ثم أطلق سراحهما بتعهد عدم زيارة المراقد المقدسة، بدأ نشاطه السياسي في صفوف حزب الدعوة الاسلامية في أثناء مرحلتها التغيرية، منتقلا مع الدعاة الى المرحلة السياسية ومواجهة السلطة البعثية الغاشمة، قام بتوعية الكثير من الشباب من خلال نشر الفكر الاسلامي الحركي، اعتقل الشهيد مرة اخرى مطلع عام 1980 من قبل أزلام أمن البصرة وانقطعت أخباره، وبعد فترة من الزمن تم تبليغ اسرته باعدامه، ودفنت جثته الطاهرة مع شهداء المقابر الجماعية ولم يعثر له على أثر ..
القربان الرابع لهذه الاسرة الصابرة هو الشهيد زكي عودة، الذي ولد عام 1953 في البصرة، إذ أتم دراسته الابتدائية والاعدادية في البصرة، ليتم قبوله بعدها في معهد النفط في بغداد ليتخرج فيه بعد سنتين بتفوق .. شاب مؤمن مجاهد، يعرفه الكثير في منطقة الهادي، انتمى الشهيد الى حزب الدعوة الاسلامية متأثراً بفكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر، كان الشهيد يسهل عملية هجرة الدعاة المطلوبين من قبل السلطات الغاشمة الى ايرن، ويقوم كذلك بايصال المساعدات الى اسرهم، القي القبض عليه بعد معرفة عناصر الامن بدور الشهيد بنقل المجاهدين الى الحدود، بعد فترة طويلة قضاها الشهيد في معتقلات النظام تعرض فيها لشتى صنوف التعذيب حكم عليه بالاعدام، تم ابلاغ اسرته باستشهاده وسلمت جثته الطاهرة اليهم وكانت آثار التعذيب الوحشي بادية عليها ..
الشهيد الخامس لهذه الاسرة المجاهدة هو الشهيد فخري عودة، الذي ولد عام 1961 في البصرة وفيها أتم دراسته الابتدائية والمتوسطة ليدخل بعدها اعدادية الصناعة، كان الشهيد من المؤمنين الرساليين، تعرض كباقي أفراد اسرته الى المضايقة والمطاردة من قبل أزلام السلطة المجرمة، بعد اعتقال جميع أفراد اسرته ظل الشهيد مطارداً من قبل أزلام النظام البعثي، بقي متنقلا بين بيوت معارفه ليستقر أخيرا في منزل زوج أخته الشهيد الاستاذ عبدالاميرعبد الصمد، اعتقل بعدها مع ثلة من المؤمنين في مديرية أمن البصرة، إذ تعرض لاشد أنواع التعذيب، وظل مصيره مجهولا لذويه بعد خروجهم من المعتقل، ولم يعثروا له على اسم ولا رسم حتى بعد سقوط نظام القتلة في بغداد..
من كتاب شهداء العراق كواكب تأبى الافول ج1
[/gdwl]