العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

عام مضى على سقوط الطاغية الذي جمّد كل الطاقات الروحية والثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية المبدعة في العراق الذي كان مهد الحضارات التي أعطت الإنسان الكثير بتنوعاتها الفكرية والروحية والدينية، ولا سيما الحضارة الإسلامية التي عاشت في العراق بكل تنوعاتها وتعقيداتها وبكل عطائها في آفاق العلم فقهاً وأصولاً وأدباً وشعراً واكتشافاً وحركة، حتى بات العراق ملتقى لغير عالم من شتى أنحاء العالم جاء إليه ليأخذ من علمه ومن تجربته ومن أدبه ومن كل تطلعاته.

مرّ عام على سقوط الطاغية الذي قد لا نجد في التاريخ أكثر وحشية منه ولا أكثر غباءً وحقداً على الإنسان كله، سواء كان هذا الإنسان من أقرب الناس إليه أم من أبعد الناس عنه، بحيث شمل الناس كلهم بوحشيته، فكان شعاره أقتل تبقى وحدك الزعيم الأوحد، والقائد الذي يجتاح شعبه بالأسلحة الكيماوية ويدمر كل جيرانه طاعةً لأعداء الإسلام الذين وظفوه ليقوم بتنفيذ الخطة التي أرادوها، إن في حربه ضد الجمهورية الإسلامية في إيران لتدمير بنيتها التحتية، أو من أجل إضعاف الثورة الإسلامية، وإن من خلال احتلال الكويت الذي أُريد له أن يكون مقدمة لشرعنة الوجود الأمريكي وغير الأمريكي في الخليج على أساس حماية دول الخليج من هذا الخطر الداهم الذي يمثّله هذا الرجل الذي باع نفسه للشيطان، حتى إن الشيطان بعدما أخرجه من الكويت حماه من شعبه، فكانت المقابر الجماعية التي أقامها بفعل الدعم الأمريكية من جهة، وبفعل وحشيته الديكتاتورية من جهة أخرى.

عام مضى على سقوط الطاغية، بحيث أصبح العراقيون قادرين على التنفس من خلال الكلمة الحرة والتنظيمات المتحركة والصحافة التي تتحدث في كل شيء، وأصبح العراقي قادراً على أن يتنفس بعدما كان خاضعاً لأكثر من اختناق سياسي وديني وثقافي. لكن المسألة لا تكمن فقط في أن الطاغية سقط على أيدي القوى التي وظفته وأنهت وظيفته، وبات هذا من الماضي، ولكن ماذا عن الحاضر؟

كان الشعب العراقي يتصور أن أمريكا جاءت لتحرره، لكن النتائج أظهرت أنها جاءت لتحتله، ذلك أن إسقاط الطاغية لم يكن لسواد عيون الشعب العراقي، بل من أجل مصالحها التي أرادت للعراق أن يكون قاعدة لحركة استراتيجيتها في المنطقة وجسراً للعبور إلى المنطقة كلها، لا من أجل الحرية وحقوق الإنسان، ومن أجل إعطاء حرية للاحتلال بكل شركاته واحتكاراته في السيطرة على مقدرات المنطقة، فعندما نتطلع إلى الخطوات التي يتحرك فيها الاحتلال نلاحظ أنه دمّر الدولة كلها ولم يستطع أن يديرها، ولم يرد أن يعطي العراقيين القوة التي يحتاجونها في حفظ الأمن، وهم أكثر خبرة في حماية أمنهم من قوات الاحتلال، ولم يرد أن يمنحهم القوة الاقتصادية التي يستطيعون من خلالها تأمين حاجاتهم وخدماتهم، بل احتفظ بكل القوة الاقتصادية العراقية لخطته، باعتبار أن المطلوب هو أن تتسلم الشركات الأمريكية والبريطانية وكل شركات الدول التي دخلت الحرب هذه الاحتكارات في ما يسمى إعمار العراق من دون أن يملك الحكم في العراق الذي عيّنه الاحتلال أي قوة اقتصادية أو أمنية، بحسب اعتراف القائمين على إدارة الشؤون العراقية الآن، ممن نثق بهم ونحترمهم على رغم تحفظاتنا عن الطريقة الأمريكية في إدارة الواقع العراقي.

والمشكلة هي أن أمريكا لا تزال تمارس دور المحتل، ويصرح مسؤولوها بأنهم يملكون رفض أي قانون يصنعه العراقيون لا يتفق مع خطتهم ومع تطلعاتهم للعنوان الكبير الذي يُراد للعراق أن ينفتح عليه. وهذا ما لاحظناه في المسألة الإسلامية، إذ نعرف من خلال متابعتنا للواقع العراقي أن قوات الاحتلال تريد للعراق أن يكون دولة علمانية لا علاقة للإسلام بها إلا بما قد يرتبط بالأحوال الشخصية مع أكثر من تحفّظ حول مفردات هذه الأحوال الشخصية.

وقد صرّح الأمريكيون بأن العلمانية هي التي تحكم العراق في دستوره المستقبلي، ويؤكدون على النموذج الكردي في كردستان العراق كما لو كان الأكراد يعيشون في دولة مفصولة عن الشعب العراقي.

لذلك، فإننا نهيب بالإسلاميين سواء كانوا من المسلمين الشيعة أم من المسلمين السنّة أن يتوفروا على دراسة هذه المسألة بكل قوة وبكل وعي وبكل انفتاح وبكل إصرار وصلابة، على أن يكون العراق مسلماً بالطريقة التي يتحول فيها إلى دولة إصلاحية معارضة حضارية تنفتح على الإنسان كله في العالم وترتكز على أساس العلم والثقافة والكفاية ورفع مستوى الإنسان، لأن الإسلام هو دين العدل الذي يرفض الظلم للإنسان كله. كما نهيب بكل أخواننا أن يعملوا بالوسائل الحضارية لا بالعنف والأساليب المتعسّفة على استنفار روحية الشعب العراقي المسلم، على ألا يعيش الازدواجية بين ما هو الانتماء للإسلام وما هو الانتماء للوطن عندما يتحول الوطن إلى وطن لا يحكم الإسلام مواقعه وقوانينه وحركاته. وهي مسؤولية الشباب المسلم من أجل صنع العراق الجديد على أساس الحضارة الإسلامية التي لم تنكمش في داخل ذاتها، بل انفتحت على كل ما يلتقي مع مفاهيمها في العدالة والإنسانية والعقلانية من الحضارات الأخرى.

فالإسلام لا يشجع أي ديكتاتورية وأي استبداد مهما كان لونه، سواء كان في دائرة ما يسمى رجال الدين أو في دائرة المدنيين، وهو في قانونه يحكم أعلى شخصية في الدولة ويفرض على الناس إسقاط كل شخصية تحاول أن تستغل موقعها من أجل ظلم الناس أو إسقاط حريتهم أو ما إلى ذلك.

أما مسألة القيادة، فلا بد من أن تكون للأكثر خبرة وكفاية وإخلاصاً ومعرفة بالله وبالواقع وبالناس كلهم وبكل ما يحيط بالواقع من ظروف موضوعية وتعقيدات سياسية وأمنية. وليس من الضروري أن تكون القيادة لشخص واحد، بل يمكن أن تكون جماعية منظمة يقود الشخص الواحد مسارها على أساس تنظيمي، مع الرجوع إلى كل أهل الخبرة في هذا الحقل أو في ذاك.

والمسؤول في الإسلام ليس فوق القانون، بل هو تحته، لأن القانون هو قانون الله الذي يحكم العباد كلهم. لذلك نخاطب الشباب العراقي ليرتفع إلى مستوى المرحلة وإلى مستوى المسؤولية في صنع العراق الجديد ليكون نموذجاً للمنطقة كلها، لا على أساس النموذج الأمريكية للمنطقة، بل نريد أن يكون العراق نموذجاً للدولة الإسلامية العادلة الحضارية المنفتحة على الإنسان وعلى الواقع بكل وعي وبكل حركية تستهدي الطريق المستقيم.

فالشباب هو الدعامة الكبرى للدولة الجديدة في عراق المستقبل، لذلك عليهم بذل كل الجهد والعمل على بناء وحدة قوية لا مجال فيها للخلافات الطائفية والمذهبية والعرقية، لأن العراق الجديد لا بد من أن يصنع على قاعدة الوحدة لا على قاعدة التمزق، ولا بد من أن يكون حراً لا يخضع لأي دولة كبرى بل يتعامل مع كل الدول على أساس الاحترام والمصلحة المتبادلين.

وفي هذا السياق فالمطلوب حركة طالبية واعية منفتحة على كل حاجات الأمة تتمتع بالوعي السياسي والثقافي والتفوق العلمي، لأن العالم يتقدم بالعلم، وبالانفتاح على آفاق العلم الواسعة، سنكون حاجة للآخرين وكلما كان الإنسان حاجة للآخرين كلما استطاع أن يأخذ موقعه في الدرجات العليا في العالم وفي المجتمع، فيما إذا كان محتاجاً للآخرين، فإن حاجته قد تستعبده من قبل الآخرين، والشرق الأوسط أو العالم الثالث يعيش الاستعباد الاقتصادي والسياسي والثقافي من خلال حاجته إلى الدول الكبرى.

كما لا بد في العراق الجديد من العمل على رفع مستوى المرأة وإعطائها الدور الإنساني الذي أراد الله له أن تتحرك فيه، فالمرأة ليست مجرد إنسان ثانوي في الحياة، بل هي إنسان أصيل، تتكامل مع الرجل سواء في صنع الحياة أو في إرادة الحياة.

ونلاحظ في القرآن كله أن الله لم يقل أن المرأة هي الضعيفة، بل قال إن الإنسان هو الضعيف وأراد للإنسان رجلاً أو امرأة أن يرتفع فوق مستوى ضعفه وأن يحول نقاط الضعف إلى نقاط قوة. والإسلام لا يمنع المرأة من العلم أو العمل أو خوض العمل السياسي وحتى العمل العسكري والعمل الثقافي والاجتماعي.

وإذا كان البعض يتحدث عن الجانب الأخلاقي، فإن الأخلاق ليست ضريبة على المرأة، بل هي واجب على المرأة والرجل معاً في كل ما يأخذ به الإنسان من أمور الحياة. وهكذا، لا بد لنا من أن نتواصل مع كل الطاقات العراقية في الداخل وفي الخارج لتكون الحركة الشبابية حركة ترتكز على أساس الوحدة في المسؤوليات والوحدة في خط المواجهة لكل الذين يريدون أن يعيثوا في الأرض فساداً أو يريدون أن يسقطوا عزة الأمة ويريدون أن يصادروا حرية الأمة لتكن القوة الشبابية قوة واحدة فاعلة منفتحة متقدمة متمردة على كل عناصر الضغط التي يفرضها الاحتلال.