جنازة الشاب غير المتزوج
كان المجتمع الريفي التقليدي يعتبر موت أي شاب غير متزوج انقطاعا مفاجئا و غير طبيعي لدورة حياة الإنسان على الأرض التي تبدأ بالولادة وتتواصل بالزواج والإنجاب وتنتهي بالموت ... لذلك كان نبأ موت أحد الشبان ينقض كالصاعقة على أهل القرية ويغرقهم في أسى شديد .. ليس لأن المنية حصت روحه وهو في عنفوان شبابخ جاء فحسب بل وأيضا لأنها منعتهمن مواصلة دورة الحياة من خلال الزواج حالت دون أدائه المهمة الأساسية لوجوده الدنيوي ألا وهي الإنجاب ..فمثل هذه الحادثة لا يمكن إلا أن تكون نذير شؤم في نظرة المجتمع الريفي الشديد الالتزام بنظام الحياة الطبيعي سرعان ما حاول إعادة الأمور لى مسارها الطبيعي ولو بشكل رمزي فقط . ارتأى أن أمثل السبيل إلى ذلك هو أن يعتبر أن جنازة الشباب غير المتزوجين هي مبمثابة حفل زفافه وذلك أصبح يستعد لجنازة أولئك كما لو أنه يستعدو لحضور حفل زفافهم
بعد موت أحد الشبان كانت نساء أسرته يخرجن من مخزن الملابس الأزياء التي كان الشاب يرتديها في أيام العيد و في الاحتفالات الشعبية و التي كانت والدته وأخواته قد صنعنها له ليوم زفافه .. وكن يخترن من بينها قميصا جديدا مطرزا ويحرصن على أن يكون بالجمال الذي يستحقه أي عريس في يوم زواجه وكن يلبسنه إياه ثم كن يضعن على رأسه القبعة المزينة بزهور أو بريش طاووس كقبعة العريس تماما .. أما الفتاة غير المتزوجة فكن يلبسنها أزياء التي ترتيدها أية فتاة في يوم زواجها كما كن يفككن ضفائر شعرها و يزينه بزهور و يضعن على رأسها تاجا من الزهور أو من أوراق اللبلاب ثم كن يغطين رأسها بحجاب رقيق و يلبسنها القميص الأبيض المطرز الطويل و التنورة المزركشة . وأخيرا كن يزينها بكل حليها و يضعن حول عنقه سلسلة النقود التي تتيزن بها الفتيات في يوم زفافهن .. أثناء حضوره جنازة فتاة عير متزوجة في إحدى القرى التي زارها في مطلع القرن العشرين اندهش الباحث سيميون من كثرة الأشياء الثمينة و الحلي التي كانت الفقيدة تدفن بها و سأل أحد القرويين لماذا يفعلون ذلك فقال له إن الأشياء الثمينة والحلي هي المهر الذي كان مخصوصا لها لتأخذه معها إلى بيت الزوجية فلتأخذه معها الآن إلى حيث هي ذاهبة ..
في تشييع جنازة الشباب غير المتزوجين تزين شجرة الصنوبر التي تعد للفقيد كشجرة الزفاف التي يحملها أحد مساعدي العريس أو وكيله في الأعراس وهي مزينة بمناديل مطرزة و أشرطة من القماش الملون و قطع الخبز المضفر. ويقول الخبراء إن شجرة الصنوبر تصبح في الطقوس الجنائزية رمزا إلى شريك الحياة التي لم يتح للفقيد الزواج منه .. فبعد وفاة الشاب أو الشابة يشكل أصدقاءه وصديقاته من شباب القرية موكبا مثل موكب مساعدي العريس أو العروس ويذهبون إلى الغابة في الصباح الباكر ليجلبوا الشجرة وبعد قطعها يحملها أربعة شبان على أكتافهم بينما تصطف الفتيات خلفهم و في طريق العودة إلى القرية يترنمن أغنية تقول كلماتها أيتها الشجرة لا تحزن لأن هؤلاء الشبان سيغرسونك عند رأس شاب وسيم وأن دموع والدته لن تدعك تجفي . وبعد وصولهن إلى البيت يدخلن الغرفة التي يرقد فيها صيدقهم ويترنمن أغنية رثاء عميقة الدلالة لأنها تعبر نيابة عنه عن عدم إعجابه بالزوجة التي جاءوا له بها من الغابة لأنها كما تقول كلمات الأغنية طويلة و هزيلة و لان ثوبها مصنوع من قماش خشبي خشن .
وفي مجالس العزاء يجتمع أصدقاء الفقيد الشاب من الشبان والفتيات في مواكب ولو كأنهم يجتمعون لتشكيل مواكب العريس و العروس ويذهبون إلى بيته حيث تبدأ الفتيات بالندب و البكاء عليه . وهن يفعلن ذلك يؤدين أيضا بعض الأغاني التي تختلف تماما عن تلك التي تؤدى رثاء للمتزوجين أو المسنين لأنها توجه إلى القيد الشاب الدعوة للاستعداد لعرسه وتقول كلمات إحدى الأغاني التي سمعها سيميون ماريان في مراسم جنازة شاب غير متزوج : انهض يا صديقي لا ترقد فهذا عرسك وقد جاءك أصدقاؤك .. انهض و اخرج لتختار من بينهم وكيلك .. وهذه طبعا إشارة إلى الوكيل الذي يختاره العريس من بين أصدقائه ليساعده على القيام بجميع الاستعدادات اللازمة لحفل الزفاف
و في يوم تشييع الجنازة يرتدي شباب القرية من الفتيان و الفتيات أزياء العيد لكن الشبان لا يضعون قبعاتهم على رؤوسهم في حين أن الفتيات يفككن ضفائرهن و يتركن شعرهن ينسدل على أكتافهن ثم يجتمعون في بيت صديقهم الراحل لمرافقته إلى المقبرة .. فيمشي الشبان في مقدمة موكب المشيعين بجانب العربة التي تقله إلى المقبرة كما لو أنهم يرافقون عريسا إلى الكنيسة لعقد زواجه إذ يحمل أحدهم شجرة الصنوبر المزينة كشجرة العرس ويحمل كل واحد منهم منديلا مطرزا مثله مثل مساعد العريس تماما ولكن الكآبة والأسى يرتسمان على وجوههم بينما يؤدي العازفون الذين يصاحبونهم ألحانا حزينة ..في أيامنا هذه لا تزال جنازة الشباب غير المتزوجين تجري وفقا للطريقة التقليدية لاسيما في الأرياف
إن نظرة المجتمع الريفي التقليدي إلى موت أحد الشبان على أنه عرسه تتجلى أيضا في الأدب الشعبي الذي يصفه مجازيا بأنه حفل زواجه من ملكة العالم . في قصيدة النعجة راعي غنم شابا يعلم أن رفاقه يريدون قتله للاستحواذ على قطعانه ويطلب من نعجته الساحرة القادرة على النطق بلغة البشر أن تخفي حقيقة موته عن والدته المسنة وأن تخبرها بأن ابنها تزوج من ملكة العالم و أن القمر كان اشبينه في حفل زواجه وأن الشمس كانت وصيفته وأن الجبال الشامخة كانت ضيوفه و أن أشجار الصنوبر الخضراء عزفت ألحان العرس له ..