في أول وظيفة لي في هذا البلد النائي كنت أعمل تحت "إمرة" مدير المشاريع ، و هو رجل كبير و مخضرم في مجاله ، حرت باديء الأمر .. بماذا أناديه؟ مستر؟ أستاذ؟ دكتور؟ مولانا ؟ سيدي المدير؟ حتى أراحني الرجل و قال سمني ((كَرانت)) ! هكذا حاف بدون ألقاب! تصورت أنها مكرمة و تواضعاً من عنده ، لكن اتضح أنه العرف السائد في هذه البلاد ، حيث البساطة و العملية هي السمة المميزة لهم ، و كنت أظن أننا نحن أمة التواضع و البساطة ! على كبر سنه و مركزه ، لكنه كان إذا أرادني في مسألة ما أتاني بنفسه و لا يطلبني عن طريق الهاتف أو يرسل أحداً بطلبي ، و إذا لم يجد كرسياً بجنب مكتبي جلس على الأرض و أفترشها بأوراقه يسألني عن بعضها ، و أنا مبتديء للتو و غض على هذا العرف ! لم تكن له غرفة خاصة مكتوب على بابها "مدير المشاريع" مع ثلاث سكرتيرات و فرّاش كالخادم متخصص بتحضير الشاي! لم تكن مهمته توقيع الكتب الإدارية و شرب الشاي و تدخين السكاير كما هي الحال في بلادنا التعيسة ، بكل كان مثابراً دؤوباً و أغزرنا إنتاجاً.
ثم انتقلت إلى مكان آخر و قلت لعل الرجل كان فلتة ، و في المكان الجديد كان لي زميل آخر يعمل بنفس وظيفتي ، أقسم بالله العظيم أني لستة أشهر لم أعرف أنه يعمل أيضاً أستاذاً في الجامعة و يحمل شهادة الدكتوراه في إختصاصه لمعقد حتى وقفت على بطاقته الشخصية بتقدير الله يوماً ما ، فلم يناديه أحد ٌ يوماً ما بـ "أستاذ" أو "دكتور" كما نفعل نحن لأصغر طبيب لا يعرف من الدواء سوى الباراسيتول!
و الحالة تستمر عندنا لتشمل المهندس و الطبيب و الضابط ، و بطل الألقاب كلها بدون منازع ... " السيد" ! فنجد أن هذه الظاهرة – النداء بالألقاب – مستفحلة في مجتمعنا بشكل كبير بحيث يحس أحدهم بالحرج إذا ذكر شخصاً ما بدون أن يأتي على ذكر إحدى ألقابه المسبغاة عليه ، و هذه هي عقدة الدونية ، و قد يحس صاحب اللقب بالمهانة إذا تجاوز أحدهم لقبه إلى إسمه مباشرة ، و هذه عقدة التفوق و التعصب النرجسي. وصلت حد مناداة أصغر شرطي مرور بـ "سيدي" !
تتبع كتبنا و منتدياتنا و "مفاخرنا" ! و ستجد أننا أكثر أمة تستخدم ألقاباً بألفاظٍِ رنانةٍ أكثرها فارغ و في غير موضعه ، مثل الجهبذ العلامة و الحبر الفهامة و العبقري وارث علوم الأولين و الآخرين و آية الله و المرجع و شيخ الإسلام ...الخ ، حتى ليخيل للمراقب أننا أمة يتفجر العلم من جوانبها و تنطق الحكمة من نواحيها و جمعت الفضل من أطرافه!!
مجتمعنا هذا تنخر في نفسه الطبقية و يقيم بعضه بعضاً بالماديات ، فالدكتور و المهندس و العلامة و السيد هي الألقاب التي يهيم بها و تهيم به و تنتشر في مفردات كلامه ، و بها يُقيّم الشخص ، لا بسلوكه و كفاءته!