وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وقال في محكم كتابه: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾...
إن المستفاد من هاتين الآيتين الشريفتين، أن واحدة من أهم فوائد ومنافع البحار التي سخرها الله للإنسان، هي أن يأكل منها لحماً طرياً، وهذا التسخير بإطلاقه شامل لكل حيوانات البحر وما فيه من أسماك وحيتان وغيرها، فكل ذلك محلل ومباح للإنسان.
حكم حيوان البحر من غير السمك:
يستعرض سماحة السيد الأدلة الموجودة في هذا المقام ليخلص الى انه ليس هناك دليل تام على حرمة الحيوان البحري الذي لا يكون من جنس السمك. ويناقش سماحته الادلة التي تورد للدلالة على الحرمة ليلاحظ إن تحقق الإجماع على الحرمة غير محرز..كما يشير الى أنّ كلاً من المحقق الأردبيلي في "الشرح"، والمحقق السبزواري في "الكفاية"، والفيض الكاشاني في "المفاتيح"، والمحقق النراقي في "المستند"، يظهر منهم التشكيك في حرمة غير السمك والطير من أنواع الحيوان...
السمك الذي لا فلس له:
المشهور هو حرمة أكل حرمة السمك الذي لا فلس له، بل ان البعض ذهب الى أن حرمته من ضرورات المذهب، ولكن سماحة السيد يتحفظ عن ذلك، لأن المسألة ليست من المسائل الضرورية، بل من المسائل الاجتهادية النظرية والناشئة من مدارك وأدلة معروفة وموجودة بين أيدي الفقهاء، ولا يكفي أن يتسالم جيل أو أكثر على مسألة معيّنة حتى تدرج في لائحة ضرورات المذهب، ولا سيّما مع وجود من يفتي من الفقهاء بحلّية ما لا فلس له من السمك.
و يستعرض سماحة السيد بعض أقوال الفقهاء في المسألة، حيث يتضح أنها ليست من الضروريات كما يظهر من الشيخ الطوسي في حدود النهاية، وإنما هي مسألة خلافية، وهذا ما جعل بعض المتأخرين يوافقون الشهيد الثاني والمحقق في تحفّظاتهما، ويرون أن الحكم ظاهر في الكراهة دون الحرمة.
كما ان الروايات المتعرضة لحكم السمك الذي لا فلس له، يمكن تقسيمها إلى طائفتين أساسيتين: إحداهما ظاهرة في الحرمة، والأخرى تدل على الإباحة.مما يعني وجود تعارض في الروايات ينبغي حله. ولدى استعراض طرق الأصحاب في حلِّ هذا التعارض وعلاجه، يتبين لنا أنّ هناك ثلاث نظريات لعلاج هذا التعارض وحلّه، والنظريات الثلاث هي التالية:
الاولى نظرية الحمل على التقيّة، حيث تطرح الروايات الدالة على الحلية لموافقتها للعامة..
والثانية، نظرية الجمع العرفي والحمل على التحريم، وهو ما ذهب إليه صاحبُ المستند المحقق النراقي، حيث جعل القول بالحرمة هو مقتضى الجمع بين الروايات.
أما الثالثة فهي نظرية الجمع العرفي والحمل على الكراهة، وهي مذهب صاحب الشرائع وصاحب المسالك ومن تبعه، كالمحقق السبزواري والكاشاني وغيرهما..
الوجه المختار في الجمع:
وبعد مناقشة النظريات الثلاث لا يبقى لدى سماحة السيد إلا نظرية الجمع العرفي بحمل روايات التحريم على الكراهية، وهو جمعٌ قريب ووجيه، ولكن تبقى الشهرة الفتوائية العظيمة على التحريم التي تجعل الفقيه يتوقف في المقام، ولذا فقد يقال: إنَّ الاحتياط سبيل النجاة؛ لكن المسألة هنا من المشكلات على حد تعبير المقدس الأردبيلي (قده).
بالإضافة إلى ذلك، فأنّ ثمة ارتكازاً في أذهان الشيعة على الحرمة، حتى غدت ا متسالماً عليها ومفروغاً منها. اللهـم إلاّ أن يقـال: إنّ الشهرة المذكـورة ـ فضلاً عن عدم حجيتها ـ ليست تعبدية، وإنما مستندة إلى ترجيح أخبار الحرمة على أخبار الحل؛ لموافقة الثانية للتقية، لكن ذلك الترجيح يبقى ضعيفا لمخالفته العموم القرآني، الذي يكون قرينة على ضرورة التصرف في ظاهر الروايات المخالفة له، حيث يتم حمل روايات التحريم على الكراهة، وبذلك تنسجم مع القرآن.
كما ان الارتكاز على الحرمة ليس بحجة أيضاً، لأنّه انطلق من فتاوى الفقهاء في العصور المتأخّرة الذين أجمعت كلمتهم على القول بالحرمة، والارتكاز إنما يكون حجة إذا كان ممتداً إلى زمن الأئمّة ، والامتداد إلى ذلك العصر غير ثابت، بل إنّ سؤال بعض أقرب أصحاب الإمام الصّادق (ع)، مثل محمد بن مسلم وزرارة عمّا ليس له قشر من السمــك، يوحي بأنّ التحريم لم يكن معروفاً وواضحاً أو متسالماً عليه في زمن الإمام(ع)، فلو كان السائل غير زرارة وغير محمد بن مسلم، لأمكن القول عندئذ بخفاء ذلك بالنسبة إليه؛ لاحتمال كونه بعيداً عن مجتمع الشيعة والأئمّة، وأما سؤال من هو بمثابة عمدة الإمام، فإنّه يعطي انطباعاً بأنّ المسألة لم تكن بهذا المستوى من الجزم الذي ادّعاه بعض العلماء من الأجيال اللاحقة..
ويشار في المقام الى ملاحظة مهمة على مستوى الذوق الفقهي العرفي، وهي أن مسألة ابتلاء المسلمين بالسمك من حيث إنه طعام شبه ضروري لهم، ولا سيّما في المناطق البحرية، مما يستبعد معه الفقيه صدور التحريم عن النبي (ع)، لأنّ ذلك قد يثير ضجة لديهم، لما قد يلزم منه من الحرج الشديد العام، وخصوصاً أنّ القرآن ـ في آية ﴿قل لأ اجد فيما أوحي إليّ محرما على طاعم يطعمه...﴾، وكذلك الحديث عن حل صيد البحر من دون تقييد ـ قد يوحي بذلك، بالرغم مما ذكروه من الإشكالات بأنّها ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة.