مناقشة نظرية الحمل على التقية:
عرفت أن غير واحد من الفقهاء حملوا روايات الحلية، والتي استشهد فيها الإمام الباقر (ع) بالآية لتأكيد الحلية حملوها على التقية وذلك لذهاب العامة إلى حلّية كل حيوان بحري (i)()المشهور عند العامة حلّية كل حيوان بحري، وإن خالف بعض فقهائهم، فخصوا الحليّة بما يكون سمكاً من دون فرق بين كونه ذا فلس أو غير ذلك؛ وخص آخر الحلية بما يكون من حيوان له ما يشبهه في البر حلالاً، وهكذا. وكيف كان، فاستعراض أقوال العامة على النحو الآتي:
مذهب الحنفية: جاء في بدائع الصنائع: أنّ جميع ما في البحر من الحيوان محرّم الأكل إلا السمك خاصة، فإنّه يحلّ أكله إلا ما طفا منه، وهذا قول أصحابنا رضي الله تعالى عنهم، وقال بعض الفقهاء وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى: ما سوى السمك من الضفدع والسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيره ونحو ذلك.
راجع، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر ابن مسعود الكاساني، ج 5، ص 36، الطبعة الحديثة و ج 5، ص 35، الطبعة الأولى، القاهرة 1910م.
مذهب المالكية: جاء في التمهيد لابن عبد البر، ج16، ص 223: «اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك: يؤكـل ما في البحـر من السمك والـدواب وسائـر مـا في البحـر من الحيــوان، وســواء اصطيــد أو وجد ميتاً طافياً وغير طافٍ، وليس شيء من ذلك يحتاج إلى ذكاة، لقول رسول الله: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته، وكره مالك خنزير الماء من جهة اسمه، ولم يحرمه». وجاء في شرح الخرشي: «أن المباح من الحيوان البحري كله وإن كان ميتاً، سواء وجد راسباً أو طافياً أو في بطن حوت أو طير، وسواء ابتلعه ميتاً أو حياً ومات في بطنه، ويغسل ويؤكل، وسواء صاده مسلم أو مجوسي ويشمل البحري آدمي الماء وكلبه وخنزيره وهو المعتمد، وما عداه لا يعوّل عليه». راجع شرح الخرشي على مختصر أبي الضياء، ج 3، ص 26، طبعة بولاق بمصر، 1317هـ.
مذهب الشافعية: وجاء في مغني المحتاج: «إنّ حيوان البحر ـ وهو ما لا يعيش إلا في الماء وعيشه خارج الماء كعيش المذبوح ـ منه ما ليس له رئة مثل أنواع السمك، ومنه ما له رئة مثل الضفدع، فإنّها تجمع بين الماء والهواء. أما السمك فهو حلال كيف مات، سواء مات حتف أنفه أو بسبب ظاهر، كصدمة حجر أو ضربة صيّاد أو انحسار ماء، وسواء كان راسباً أو طافياً، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ أي مصيده ومطعومه... إلى أن قال: أما غير السمك مما ليس على صورة السمك المشهورة من حيوان البحر مثل خنزير الماء وكلبه، فإنّه حلال في الأصحّ المنصوص، لإطلاق الآية والحديث المارين وقد روي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم. وقيل: لا يحل لأنّه لا يسمّى سمكاً والأوّل يقول: بأنه يسمى سمكاً، وعلى الأوّل لا يشترط فيه ذكاة لأنه حيوان ولا يعيش إلاّ في الماء.
وقيل: إنّ أكل مثله في البر كالبقر والغنم حلَّ أكله ميتاً، وإن لم يؤكل مثله في البر فلا يحل أكله مثل الكلب والحمار اعتباراً لما في البحر بما في البرّ...»، راجع مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للإمام الشربيني، ج 4، ص 273، المطبعة الميمنية، مصر 1306هـ، و ج4، ص 297، الطبعة الحديثة.
مذهب الحنابلة: فقد جاء في المغني والشرح الكبير: أن كل صيد البحر مباح إلا الضفدع... إلى أن قال، وقال الأوزاعي: لا بأس به لمن اشتهاه في مقابل من نقل أنه يدل على أنه لا يؤكل. وقال ابن حامد: لا يؤكل التمساح ولا الكوسج (القرش) لأنهما يأكلان الناس... راجع المغني لابن قدامة المقدسي، ومعه الشرح الكبير على متن الإمام شمس الدين أبي الفرج بن أحمد بن قدامة المقدسي، ج 11، ص 84، وما بعدها. الطبعة الأولى، مطبعة المنار، مصر 1348هـ.
وللمزيد من التفاصيل، يمكن مراجعة موسوعة الفقه الإسلامي المقارن، المجلد السابع، ج 14، ص 264، وما بعدها
، ولذا فالتمسك بروايات الحِلية في المقام غير تام.
ونلاحظ على ذلك:
أولاً: إنّ التقية لما كانت على خلاف الأصل، فلا بدَّ من أن يكون بيان خلاف الحكم الواقعي في موردها مقتصراً على مقدار الضرورة التي تدعو إلى ذلك، وحينئذٍ، فلا بدَّ من الاقتصار على بيان حلّية الشيء الذي يبيحه الآخرون الّذين كانت التقية لأجلهم، ومن دون تعليلٍ للإباحة بعموم الآية أو إطلاقها، لأن التعليل أزيد من مقدار الحاجة والضرورة التي تدعو إلى بيان خلاف الحكم الواقعي، بل إن الزيادة تلك تعتبر تقويةً لمذهب الخصم، حيث يقوم الإمام بتقديم المستند القرآني للرأي المخالف للواقع. ولذا، فلا يمكن المساعدة على الحمل على التقية في هذا المورد.
وربما يقال، كما عن بعض المحققين، إن التقية كما تكون من خلال بيان خلاف الحكم الواقعي، تكون أيضاً عن طريق الاستدلال بما يكون مقطوع الصدور، كالآيات القرآنية، والأحاديث القطعية، وهذا لا يوجب تقويةً لمذهب الخصم، بل إنما يكون لمزيد الاهتمام ببيان خلاف الحكم الواقعي، بحيث لا يكون الاستدلال بحدّ ذاته مما يرتضيه الأئمّة (عليهم السلام)، وهذا يعطي انطباعاً لإيهام الخصم بـأنّ المسألـة هـي لبيـان الحكـم الواقعـي لا لخلافــه؛ أعني أن الإمام أيضاً لا يريد للآخرين أن يحتملوا أنّ الحكم مبني على التقية،ولذا هو يستدلّ بالآية.
ولعل نظير ذلك ما ورد في المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيـى والبزنطـي جميعاً عن أبي الحسن (ع): «في الرجل يُسْتَكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟ فقال (ع): لا، قال رسول الله (ص): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطؤوا...»(i)() المحاسن للبرقي، ص 339؛ نقلاً عن الوسائل، ج 1، ص 429.، فإنه لا حاجة للاستدلال بهذا الحديث لمعلومية بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة، كما هو المعروف عندنا، وعندئذٍ، فكأن الإمام كان في مقام التقية من جهة الاستدلال، كما اختاره البعض.
والجواب، أنَّ الظَّاهر من أيِّ استدلال، أنَّ المستدل يكون ـ عادةً ـ في مقام تأسيس القناعات الحقيقية، ولا دليل عندنا على أن هناك تقية في التقية كما ذكره هذا البعض.
وبعبارة أخرى:إنّ الكلام السابق وإن كان ممكناً ثبوتاً، إلا أنّ إثباته مشكل مع عدم ورود دليل عندنا على اتّباع الأئمة لمثل هذه السيرة، بل نحن نمنع كون الاستدلال الوارد في الرواية لتأكيد التقية؛ فإنّ ورود دليل خاص على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة، لا يمنع من كون الأصل في الحكم هو ما ورد عن رسول الله (ص)، أو لبيان الحكم من جهة أخرى.
وعليه، فمع عدم الدليل على كون الإمام في مقام التقية، تكون أصالة الجدّ مُحكَّمة، وبالتالي لا يكون ثمة مانع من الاستدلال بآية ﴿ قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ...﴾ على حلّية حيوان البحر الذي يشك في حليته. نعم، يبقى الكلام حول التمسّك بالإجماع المدَّعى هنا.
ثانياً: إنَّ الحمل على التقية إنما يكون في طول امتناع الجمع بين الروايات المتعارضة جمعاً عرفياً، ولذا لا يصار إليها إلا بعد تعذره، ومن المعلوم أنه يمكن حمل الروايات الدالة على التحريم على الكراهة، وذلك بقرينة الأخبار الدالة على الإباحة، فإذا قيل مثلاً: «لا تقرب السمك الذي ليس له فلس...»، ثم قيل في مورد آخر: «لا بأس بذلك»، فإن مقتضى الجمع العرفي عندئذ هو التصرف بقوله: «لا تقرب»، وإرادة الكراهة منها دون الحرمة، وعندئذ يزول التعارض ولا موجب للحمل على التقية.
فإن قيل: ليس الحمل على الكراهة والتصرف في ظواهر الروايات التي تدل على التحريم، بأولى من الحمل على تغليظ التحريم واختلاف مراتبه، وذلك بالتصرف في ظاهر الروايات الدالة على الكراهة؟
فنقول: إنّ روايات الحلية نص في الإباحة، فهيتأبى الحمل على الحرمة ولو المخففة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ الأمر يمكن أن يكون كذلك لو لم يكن عندنا العموم القرآني، والذي يكون عندئذٍ قرينة على ضرورة التصرف في ظاهر الروايات المخالفة له، وليس إلا روايات التحريم، فلا بد من حملها على الكراهة، وبذلك تنسجم جميعها مع القرآن.
وإذا قيل عندئذ: بأنّ الجمع العرفي إنما يكون بعد تكافؤ الروايات المتعارضة، ومع عدم ذلك ـ كما ادَّعى صاحب الجواهر وصاحب المستند (قدهما) ـ لا يمكن المصير إليه.
فنقول:إنّ ترجيح ما يوافق الكتاب عندئذ أولى من الترجيح بما يخالف العامة؛ لما دلَّ علىأنّالترجيحبمايخالفالعامةإنما يكون بعد العجز عن الترجيح بما يوافق الكتاب؛ فتأمّل.
ثالثاً:على فرض كون التعارض بين الروايات مستقراً، واستبعاد الجمع العرفي، فإن أحكام باب التعارض تفرض، وقبل الوصول إلى الترجيح بمخالفة العامة، الترجيح بموافقة الكتاب، ومن الواضح أن الطائفة الثانية المحللة هي الموافقة للكتاب، أعني قوله: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ...﴾، فيتعين ترجيحها على الطائفة المحرّمة.
رابعاً: ومع استقرار التعارض، واستبعاد الترجيح بمخالفة العامة، لما ذكرناه من بُعد حمل الروايات المحللة على التقية، ومع استبعاد الترجيح ـ أيضاً ـ بموافقة الكتاب بدعوى عدم دلالة الآيات القرآنية على حل صيد البحر على عمومه، فيحكم بتساقط الروايات رأساً، ويرجع إلى عمومات الحل، وإن شُكِّك فيها، فيرجع إلى أصالة الحل، مما تقدم توضيحه.
ودعوى: أنه مع استقرار التعارض بين الطائفتين، فيؤخذ بروايات الطائفة الأولى لاستفاضتها وكثرة عددها وعمل المشهور بها، بخلاف الطائفة الثانية، فإنها مع قلة عددها فقد أعرض عنها المشهور. مرفوضة؛ لأن كثرة العدد ليست من مرجحات باب التعارض ما لم تصل الكثرة إلى حد التواتر، أو قريباً منه، بما يبعث على الاطمئنان بخطأ معارضها أو كذبه، وهذا غير حاصل في المقام؛ لأن روايات الحلّ تشتمل على ثلاث صحاح، وتؤيدها رواية رابعة، ويعضدها موافقتها للقرآن الكريم والعمومات المتقدمة. أمّا إعراض المشهور عن روايات الحلّ، فربّما كان إعراضاً اجتهادياً منشؤه إما موافقة روايات التحريم للاحتياط، أو موافقة روايات التحليل للعامة، أو لغير ذلك من الأسباب والوجوه التي عرفت عدم تماميتها في نفسها.
هذا كلّه بصرف النظر عن أنّ الترجيح بكثرة العدد ـ لو قيل بها ـ أو بغيرها من المرجحات، هي فرع استقرار التعارض بين الروايات، وقد عرفت أنه غير مستقر؛ لإمكانية الجمع العرفي بينهما.[line]-[/line]
...........................................
يتبع / (مناقشة نظرية الحمل على الكراهة)