تشرق فينا سيرةً وحركةً وخطّ حياة
أنت فينـا ولستُ أعلـمُ حقّاً *** من يُعـزّى بأهلـه يا أبانا
أنت فينا النبي والنـّاسُ آذتـه *** اتّـهامـاً وأوسعتـه طِعانا
أنت فينا الإسلامُ، والغربُ يحـ *** ـدونا اغتراباً ويعترينا لسانا
أنت فينا الإنسانُ والوحشُ يُقـ *** ـصيه امتهاناً وينتضيه سنانا
الآن أقف بين يديك.. سيّدي راثياً، أستعير من وهج كلماتك ما يخفّف وطء الخسارة، متسائلاً: هل نحن هنا لنكرّمك؟.. يا من كرّمت الأمّة من طنجا إلى جاكرتا.. يا من كرّمت الإنسانيّة بفكرك وسيرتك اللّذيْن تلازما حتى لا انفكاك بينهما ولا فواصل..
أفبلساني هذا الكالّ أقوى على نسج كلمات التّكريم.. يا من تختفي خلف كلّ لفظةٍ وفكرة ومفردة.. أشهد أيّها الوالد، الأب، المربّي، الحاضن، أنّك كنت عنوان التّكريم الأكبر حيّاً، كما أنت اليوم في طوافك الأبديّ المهيب..
ما بعد يومِك في الحياة مثـالُ *** عقَم الزّمانُ وشاخت الأجيالُ
بلغ الولوعُ بك المدى فلو أنّه *** مقـدارُ أنملـةٍ ربـا فضلالُ
لقد كنت أتطلّع إليك في تلك المراحل الصّعبة، المثخنة بجراحات الآخرين، وكأنّك عليٌّ الذي توسّد فراش رسول الله، وسيوف القبائل مشرعة إليه في اللّيل الأليل.. ووميض الحقيقة في عينيه أقوى من سيوفهم وظلامهم.
ثم أعود إلى خطوات المسيرة كلّها التي كان عنوانها كلماتك الخالدة: منذ أكثر من خمسين سنة وأنا أحمل خشبة الإسلام على ظهري لأجد من يصلبني عليها.. وأتساءل: كيف تجرّأ هؤلاء على الهامة المتسامية علماً وعطاءً وحبّاً ودعاءً.. ألقاً وبكاءً.. فكراً وسناءً.. ولكنّني كنت ألمح في طول الطّريق مسحة التّواضع الكبرى، ووداعة الحبّ الفضلى، حتى لأولئك الذين تجرّؤوا ورجموا ومرّوا مرور السّهم في منعرجات المسيرة، فكتبوا الخمود، وكتبت الخلود.. أشاروا إلى ماضٍ لم يفهموه، وأشرت إلى مستقبلٍ كرهوه.. كانت البيانات والكتب.. والرّصاصات تأتي من كلّ الاتجاهات والجبهات، وكنت تقول للجميع بلسان عليّ(ع): "أما والله إنّي أعلم ما يصلحكم، ولكن لا أرى صلاحكم بفساد نفسي".. وكنت تقول لي في آخر الأيّام معك، إنّك جسّدت كلمات عليّ هذه في كلّ حياتك.. أمّا أولئك الّذين أخذتهم الرّجفة، وأصبحوا أمام مشهد الحقيقة الدّامغة في يوم الرّحيل، فكان لسان حالك يقول لهم: .. "وإنما كنت جاراً لكم، جاوركم بدني أيّاماً.. غداً ترون أيّامي، ويُكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلوّ مكاني وقيام غيري مقامي..".
سيّدي، أنت أعجوبة في كلّ هذا الارتقاء الأخلاقيّ إلى مستوى نكران الذّات، حتى في أبسط حقوق التّعبير عنها، وفي السّموّ الرّوحيّ إلى مستوى الذّوبان في حبّ الله، وفي التواضع الإنساني الكبير الذي جعلك تغيّب نفسك فأمعن الآخرون في تغييبك.. وفي البعد الرّساليّ الّذي جعلك تلغي كلّ خصوصيّاتك لمصلحة الرّسالة ولمصلحة النّاس، لتقول على لسان الشّاعر:
صرت كأني ذبالة نضبت *** تضيء للنّاس وهي تحترق
سيّدي، أيّها الحامل لواء الإصلاح على خطّين: الخطّ الإطفائيّ، حيث كنت المصلح الإطفائي الذي يهبّ لإطفاء النائرة بين المسلمين، وبين المتخاصمين.. وكنت حرباً على الفتنة وسيفاً مسلطاً على الباطل، أينما نعر الباطل، وحيث نجم الممزّقون..
وكنت مصلحاً في الخطّ الإيحائيّ عندما عرفت ببعد البصيرة النّافذة، أنّ إصلاح النفوس يبدأ ـ أوّل ما يبدأ ـ من إصلاح نظرتنا إلى النصوص، ومن طريقة فهمنا للنّصوص، حيث كنت تصرّ على التعامل معها بشكلٍ مباشر، بعيداً عن كلّ الشّروح التي أثقلت كاهل النصوص، وصارت عبئاً على الأمّة ومستقبل أجيالها.. فخرجت من كلاسيكيّة دينيّة، ومن فقه هندسيّ، إلى فضاء الدّين وروحه العابقة بالعلم والتّسامح والتطوّر.. لتصوغ عالماً يضجّ بالإسلام الحركيّ المنفتح، ويتسامى قرآناً عاملاً: فالقرآن لا يفهمه إلا الحركيّون كما كنت تقول..
سيّدي، أيّها المقدّس في تقديس النّقد.. يا من نزعت الهالة القدسيّة عن رجال الدّين فأعدتهم إلى النّاس.. إلى الأرض.. إلى الواقع.. وُدعاء سُمحاء، كما كنت تتطلّع إلى أولئك الّذين "قرضوا الدّنيا على منهاج المسيح(ع)"..
سيّدي، يا من رسمت خطّ التّواضع في الاجتماع والعلاقات والسياسة، وكنت تدعو دائماً إلى أخلقة السياسة كما جسّدتها في كلّ سيرتك، ويا من رفعت الصّوت: لا بدّ لكلّ مصلحٍ من أن يكون مستعدّاً لضربات التيّار.. ويا من قلت لنا: "هدِّئوا من روعكم جميعاً، لا تذهبوا صوب الأمكنة التي تُسقط روحيّتكم.. حدّقوا دائماً بالمستقبل"..
ها نحن نتطلّع إليك، فإمّا تأتي إلينا.. أو نسافر إليك.. وكيف تأتي ثانيةً وأنت لمّا تغادر، وكيف نسافر وفي تهاويل الرّحلة "ما يُتعب الضّحى في المآقي".. وكيف نرنو إليك وأنت في الشّمس توقظ الصّحو في العيون "نوراً يموج في الأحداقِ".
سيّدي، يا لثقل الخسارة البيضاء في الزّمن الأسود!
سيّدي، أيّها الملامس للرّوح الكليّة..يا بطل الخطّ.. نلوذ بخطّ البطل.. نعود إليك منك، فلأنت تشرق فينا سيرةً ونهجاً وحركةً وخطّ حياة.. ونردّد معك على مسامع الدّنيا:
حسبي سموّاً أن أعيش ضراعة الأبـ *** ـرارِ فـي درب الحيـاة الضّاحـي
أن ألتقـي بهـداك وحيـاً سابحـاً *** بالنّور في وعي الضّمير الصّـاحـي
أن أستريـح إلـى نعيـم حقيقـةٍ *** أحيا بـها فـي موكـب الأرواحِ
إنّي أودّع فـي هـداك متاعـبي *** وأذيـب فـي أحـداقِهِ أتراحـي..
الحاج هاني عبد الله
التاريخ: 23 شعبان 1431 ه الموافق: 04/08/2010 م