مجلة الآداب » 4-5-6 /2009 » مقابلة مع السيّد محمد حسين فضل الله
مقابلة مع السيّد محمد حسين فضل الله
عدد 4-5-6 /2009
(أجراها: يسري الأمير، مندوبُ الآداب في بيروت)
سماحة السيّد العلاّمة، أودّ أن أبدأ معكَ بتعريف مصطلح "الإصلاح الدينيّ." فهذا المصطلح كثيرًا ما يمرّ على ألسنة المثقفين والعلماء من دون تدقيقٍ ومساءلة. وما الفارق بينه وبين مفهوم "التجديد الدينيّ"؟
عندما نفكّر في الدِّين، في مفهومه الأصيل الذي ينطلق من خلال القاعدة التي تحْكم مفاهيمَه وشرائعَه وحركيّتَه وأسلوبَه وأهدافَه، فإنّ علينا أن نقفَ عند مسألة الأصالة الدينيّة. من الطبيعيّ أنّ الدين، وخصوصًا الدين الإسلاميّ، انطلق من القرآن الذي يراه المسلمون كتابًا معصومًا ﴿لا يأتيه الباطلُ من بين يديْه ولا من خلفه﴾ لأنّه كلامُ الله؛ ومن هنا يأتي بقداسته التي تضفي عليه الحقيقةَ المطْلقة. لكنّ القرآن كلمات، وللكلمات حركيّةٌ في المعنى؛ فالكلمة حروفٌ تختزن المعاني. وعندما يتحرّك القرآنُ في علاقة اللفظ بالمعنى،
فلأنّ اللغة العربيّة التي نزل بها تمثِّل حركةً فنيّةً لا تتجمّد عند المعنى اللغويّ،
بل هناك الإيحاءاتُ القرآنيّة: إيحاءاتُ الكلمة التي يمكنها أن تنطلق بكَ إلى آفاقٍ واسعةٍ تتحرّك في كلّ الأجواء التي يمكن أن يُطلَّ عليها المعنى اللغويّ. بل إنّ هناك مصطلحًا في الأبحاث العلميّة الفقهيّة اللغويّة، هو مصطلحُ "الذوق العرْفيّ." إذنْ، الكلمة لا تأخذ معناها من المصطلح اللغويّ الجامد، وإنما من خلال حركة الكلمة في ممارسة المجتمع؛ فالمجتمع يوسِّع الكلمةَ إلى أبعد من معناها اللغويّ. ولهذا، عندما نريد أن ندرس النصّ، فلا بدّ أن ندرسَه في المعنى اللغويّ، وفي مسيرته التاريخيّة أيضًا، أيْ في ما يستوحيه الناسُ منه، وفي ما يستعملونه.
ولذلك فإنّ المسألة، بالنسبة إلى التأصيل الدينيّ، هي أن ننطلق إلى المصادر الأساسيّة. والكتاب هو الكلماتُ المقدّسةُ التي أوحى بها اللهُ سبحانه وتعالى، والتي لا يمْكن الرسولَ نفسَه أن يتصرّفَ بها زيادةً أو نقصانًا. لكنّ معنى الكتاب هو من الأمور البشريّة التي تتّصل بوعي الإنسان لامتدادات الكلمة في استعمالاتها، وفي حركيّتها. ومن هنا رأينا أنّ المفسِّرين اختلفوا في تفسير هذه الآية أو تلك، وربما دَخَلَ بعضُهم في أجواء التخلّف لأنه حاول أن يفسّر الكلمةَ في خلفيّاته الثقافيّة التي قد تكون متخلّفةً في هذا المجال. لذا عندما نَدْرس السُنّةَ، وهي نتاجُ أحاديث النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم، والتي أكّدها القرآنُ بقوله تعالى: ﴿ما آتاكم الرسولُ فخُذوه وما نهاكم عنه فانتهُوا﴾، فلا بدّ أن نصحِّحَ نسبةَ الحديث إلى النبيّ؛ ذلك لأنّ الكثيرَ من الوضّاعين وضعوا الأحاديثَ على لسان النبيّ، إمّا لأسبابٍ ذاتيّة، أو بسبب خضوعهم لبعض السلطات التي تريد أن تعطي لنفسها قداسةً معيّنةً من خلال ربط هذه السلطة بالحديث النبويّ (وهذا كثيرٌ في التاريخ الإسلاميّ). لذلك لا بدّ من أن نؤصِّل (نوثّق) الحديثَ النبويّ من خلال السَّنَد، ومن خلال النصّ في معناه أيضًا (كيف تكلّم به النبيّ؟ وفي أيّ ظرف؟...). ولذلك فإنه من الطبيعيّ جدّاً أنّ الذهنيّةَ التي تؤصّل النصّ، عندما تكون محدودةً متخلّفة، فإنّها تَمْنحنا نصّاً متخلّفًا محدودًا لا علاقة له بالتأصيل الدينيّ الحقيقيّ]. وهذا جَعَلَ التفكيرَ الدينيّ تفكيرًا مثيرًا للتساؤلات وللجدل، بل مؤكِّدًا للتخلّف في بعض الحالات، بسبب الفهم الضيّق الذي ينطلق منه بعضُ الناس الذين يعيشون في زنزاناتهم الثقافيّة التي وَرِثوها من مصادرَ جاهلةٍ أو لا تمْلك الوعيَ الأدبيّ. ولهذا، فإنّ عمليّة إنقاذ الدين من الإفساد الثقافيّ والحركيّ تحتاج إلى جهد كبير جدّاً في مجال تأصيل الفكر الدينيّ، بحيث يكون وعيُنا للدِّين منفتحًا على أفضل القواعد الفنّيّة في اللغة العربيّة، ومنفتحًا على الجانب التاريخيّ الذي نزلتْ فيه الآيةُ أو انطلق منه الحديثُ الشريف.
ومن هنا فإنّ مسألة "الإصلاح الدينيّ" قد توحي بمفهومٍ غير دقيق؛ ذلك لأنّ الدين لا يَختزن الفسادَ في ذاته لكونه شريعةَ الله (باعتقاد المسلمين). إنّ الإصلاح الدينيّ هو ما أفتى به الكثيرُ من المسلمين، واجتَهد به الكثيرُ من المجتهدين ممن كانت اجتهاداتُهم تابعةً لحجم ثقافتهم، أو كانت التزاماتُهم تابعةً لظروفهم. لذلك لا بدّ أن نَدْخل إلى واقع الثقافة الدينيّة التي تَجْمع كلَّ هذا الركام من الفتاوى الفكريّة، سواء على مستوى الفقه، أو على مستوى علم الكلام، أو على مستوى حركة المفاهيم التي تتّصل بالإنسان والحياة. ولذلك كنتُ أحاول دائمًا أن أدرسَ الدينَ على أساس ربط معنى الكلمة بالإيحاء: فعندما تنفتح على المعنى الذي تعطيه الكلمةُ لغويّاً، فإنّ عليكَ أن تدرس إيحاءاتِ الكلمة كي لا يكون القرآنُ مجرّدَ كتابٍ يتحدّث عن التاريخ [الماضي]، بينما هو في الحقيقة كتابٌ يمتدّ إلى الحاضر، ويَدْخل في التكوين الحركيّ للإنسان (وهذا ما نصطفيه من قوله تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب﴾). إننا حين نَدْرس القضايا التاريخيّة للأنبياء ولأممهم لا نريد أن نستغرقَ في التاريخ، بل نريد أن ننقل التجربة التي عاشها الأنبياءُ، ونأخذ خصوصيّاتِها التي لا تموت بموت الزمن، وإنّما تمتدّ إلى الحياة، لأنّها خصوصيّاتُ الإنسانيّة. ولهذا كان تفسيري، من وحي القرآن، يحاول أن يستوحي الآيةَ لما نعيشه الآن في الواقع، بحيث نَشْعر بأنّها تتحرّك في واقعنا، في الحركة الميدانيّة، وفي الصراعات الإنسانيّة.
لذا أتصوّر أنّ القضيّة هي إصلاحُ الفكر الدينيّ لا الإصلاح الدينيّ؛ إنها قضيّةُ إصلاح الاجتهاد الدينيّ. وهذه من العمليّات المعقّدة الصعبة، التي قد تثير الفتنةَ عندما تنْقض خطّاً متخلّفًا في الفهم الدينيّ هنا، أو خطّاً منحرفًا في الفتوى التي تصدر من هناك (وهو ما لاحظناه في استغلال الآخرين للهوامش المذهبيّة التي تدور بين المسلمين أنفسِهم). الإصلاحُ الدينيّ في فهمنا هو أن نؤصِّلَ الفهمَ الدينيّ من خلال التعمّق في النصّ الدينيّ، وفي امتداد هذا النصّ، حتى يكون النصُّ الدينيُّ للحياة كلّها، لا أن نحبسَه في زنزانةٍ ضيّقةٍ من خلفيّاتنا الضيّقة، التي قد تكون ممّا نعيش معه في الماضي أو نسقط بسببه في وحول الواقع!
استخدمتم كلمة "تأصيل." ومن مشتقّات التأصيل مصطلحُ "الأصوليّة" التي تُستخدم الآن، وهي مفهومٌ مناقضٌ تمامًا لما تَطْرحونه.
المقصود بـ "التأصيل" إرجاعُ الفكرة إلى جذورها الثقافيّة التي انطلقتْ منها، وعاشت في ظروفها، وامتدّتْ في حركيّتها، بحيث تجسِّد الفكرةَ بكلّ عناصرها، فتواجهها كما لو كانت شيئًا حيّاً تخاطبه ويخاطبكَ. لذلك فإنّ المسألة التي نواجهها هي: ما الجذورُ الدينيّة؟ فنحن نلاحظ أنّ في الأوساط الاجتهاديّة الشيعيّة أو السُّنّيّة نوعًا من التخلّف في فهم الفكرة وفي الانفتاح على جذورها، إذ إنّ الكثيرين يأخذون النصّ فلا يتدبّرونه (﴿أفلا يتدبّرونَ القرآنَ أمْ على قلوبٍ أقفالُها﴾). هؤلاء لا يمارسون التدبّرَ الذي يجعل من النصّ كونًا ينفتح على قضايا الحياة؛ فالنصّ قد ينطلق من حادثة معيّنة، لكنّ هذه الحادثة تمثّل النموذجَ الذي ينفتح على الامتدادات، التي تلتقي بخصوصيّة النموذج وبعناصره.
ولهذا فإنّ مسألة الأصوليّة تختلف عن مسألة التأصيل. فالأصوليّة في مفهومها اللغويّ هي رجوعُ الناس إلى الأصول، لكنّ السؤال هو: كيف نفهم الأصول؟ المسألة هي الخطأ في فهم الأصول. فالذين يتحدّثون عن الأصوليّة مطالبين بأن نرجعَ إلى ما قاله الرسولُ، أو ما أَخذ به المسلمون من الكتاب، لا يخوضون في الظروف التي أحاطت بكلام الرسول، وهي ظروفٌ قد تجعل لكلامه امتدادًا أوسعَ من طبيعة الحادثة التي انطلق منها. وكذلك الأمرُ بالنسبة إلى القرآن؛ فالقرآن هو كتابُ الحركيّة الإسلاميّة، لأنّه كان يلاحق الدعوةَ الإسلاميّة: عندما ينتصر المسلمون أو ينهزمون، أو عندما يَدْخل الإسلامُ في صراع مع أهل الكتاب أو المنافقين أو المشركين، أو عندما يتحدّث عن الخطوط الأخلاقيّة أو السلوكيّة، وما إلى ذلك. لهذا لا بدّ أن نفهم الظروفَ التي منها انطلقتْ كلُّ هذه المفردات، وأدّت إلى النصّ القرآنيّ. وهذا يعني أن ندرس ما صَحّ من أسباب النزول في القرآن حتى نستطيعَ أن ننفتحَ على الآفاق القرآنيّة في هذا المجال، أيْ على الآفاق الممتدّة التي يمْكن بموجبها أن تحملَ العناصرَُ الخاصّةُ في داخلها العناصرَ العامّةَ.
حين تكون "أصوليّا" فإنّ عليكَ أن تفهمَ ما هي الأصول. فمن الطبيعيّ عندما نكون مسلمين أن نرجعَ إلى الإسلام في أصوله العقائديّة والمفاهيميّة والشرعيّة؛ لكنّ السؤال هو: كيف نفهم هذه الأصول؟ هل الإسلام دينُ العنف أمِ الرفق مثلاً؟ أهو دينُ التخلّف أمِ التطوّر؟ دينُ الانفتاح أمِ الانغلاق؟ دينُ الحرب أم السِّلم؟ ما هي أساليبُ الإسلام في الدعوة، وفي إدارة الصراع؟... وما إلى ذلك من المبادئ التي يمْكنها أن تؤسّس "الإسلامَ الحضاريّ." ولهذا لا نعتبر أنّ "الأصوليين" ـ ممّن يروْن العنفَ أساسًا في الإسلام، ويكفّرون مَن يختلفون معهم في الرأي ويستحِلّون دماءهم ـ يفهمون الإسلام، وإنما عاشوا في بيئاتٍ حاولتْ أن تسجنَهم داخلَ بعض المفاهيم التي استوردوها عن طريق دراساتٍ معيّنةٍ أو فهمٍِ معيّن.
ولعلّ إطلاقَ كلمة "الأصوليّة" على "المتطرّفين المسلمين" هو اصطلاحٌ غربيّ، باعتبار أنّ الغرب هو الذي عاش الأصوليّة. فالغرب كان يمثّل العنفَ في كلّ تاريخه، وبين أفراده أنفسهم. ونحن نَعْرف أنّ هناك حروبًا عاشها الغربيّون حتى وصلوا إلى دَور المؤسّسات. ولا يزال الغربُ يختزن هذا العنفَ ولكنْ بطريقةٍ أخرى، يُبرِّر بها العنفَ لحماية مصالحه الإستراتيجيّة، كما حدث في احتلالاته في القرن الماضي وفي احتلالاته في هذا القرن؛ كما نلاحظ هذا العنفَ أيضًا في المافيات الموجودة في الغرب، بل في حرب الحملات الصليبيّة أيضًا التي كان يقودها الباباواتُ من أجل السيطرة على الأماكن المقدّسة في القدس وغيرها. لذلك نقول إنّ مفهوم "الأصوليّة" لا يتّفق مع مفهوم هؤلاء: فالمسلمون أصوليّون يرجعون إلى الأصول، لكنْ ليس كلُّ المسلمين مؤمنين بأنّ أصوليّتهم تَفْرض عليهم العنفَ في أيّ مقام. فالثقافة الإسلاميّة قائمةٌ على الرفق، والعنفُ فيها إنما هو عنفٌ وقائيٌّ ودفاعيّ: ذلك لأنّ مَنْ أَطْلق عليك صاروخًا لا يمكن أن تقدِّمَ له ضمامةَ ورد!
هنا نجد أنفسَنا في المأزق نفسه يا سماحة السيّد. ففي معرض تفسيركم لظاهرة "الأصوليين" أو الحركات العنفيّة، قلتم إنهم لا يتدبّرون النصَّ، ولا يتفاعلون مع العنصر التاريخيّ الكامن فيه. لكنّ المشكلة هي أنهم يعتمدون في ما يقومون به من قتلٍ للأبرياء ـ المسلمين قبل غير المسلمين ـ على فتاوى واجتهاداتٍ تجيز ذلك، بل توجبه. فما هي معاييرُ ذلك "التدبّر"؟
المعايير الأساسيّة هي ما جاء في القرآن الذي يؤكّد أنه لا يجوز أن تَقتل مسلمًا ولا مسالمًا. فالله تعالى يقول: ﴿ومَنْ يَقْتلْ مؤْمنًا متعمِّدًا فجَزاؤهُ جهنّمُ خالدًا فيها﴾؛ ويقول أيضًا: ﴿ولا تقتلوا النفسَ التي حَرّم اللهُ إلاّ بالحقّ﴾. كما أكّد النبيّ أنّ المسلم، كلّ مسلم، حرامٌ في دمه وعِرْضِه ومالِه وأهلِه. وبالعودة إلى الآية السابقة فإنها تؤكّد أنه لا يجوز لك أن تقتل المسلمَ ﴿إلاّ بالحقّ﴾؛ والحقّ هو حالةُ الدفاع عن النفس، وحالةُ الدفاع عن المستضعَفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يجدون سبيلاً، وحالةُ مواجهة الذين يَقْطعون الطريقَ ويثيرون الفسادَ في الأرض بحيث يَختلّ نظامُ المجتمع كلّه. كما أننا نقع في القرآن الكريم على الآية: ﴿لا ينهاكُمُ اللهُ عنِ الّذينَ لم يقاتلوكُمْ في الدين ولم يخرجوكُمْ من ديارِكُمْ أن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إليهم إنّ اللهَ يحبُّ المُقْسِطين﴾؛ فالشخص المسالم الذي لا يقاتلكَ ولا يطردكَ من أرضك لا يجوز لك الاعتداءُ عليه. وثمة آيةٌ أخرى: ﴿إنما ينهاكُمُ اللهُ عنِ الّذينَ قاتلوكُمْ في الدين وأخرجوكُمْ من ديارِكُمْ وظاهَروا على إخراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَن يتولَّهُمْ فأُولئكَ هُمُ الظالمون﴾. فالمسألة، إذنْ، ليست أن يكون كافرًا لتقتلَه أو لتقاتلَه، بل أن يكون محاربًا فتدافع عن نفسك إذا قاتلكَ أو طردكَ من أرضك أو تحالفَ مع الآخرين على إخراجك منها (على ما نلاحظ مثلاً بالنسبة إلى إسرائيل التي يعاونها فريقٌ من الغرب على إخراج الفلسطينيين من ديارهم). نحن نقول إنّ أصحاب الفتاوى [المذكورة في السؤال] لم يَفهموا القرآنَ ولا السّنّةَ جيّدًا؛ ذلك لأنّ مجرّد اختلافي مع أحدٍ في الرأي المذهبيّ، أو في تفسير آيةٍ أو حديثٍ نبويّ، لا يجعلني كافرًا، وإنّما مجتهدًا، قد أُخطئ أو أصيب، تمامًا كما قد يكون هو مخطئًا أو مصيبًا. والله يقول: ﴿فإنْ تنازعتُمْ في شيءٍ فرُدّوهُ إلى اللهِ والرسول﴾.
المسألة في الإسلام ليست أن تقتل الكافرَ بل أن تقتل كفرَه، وليست أن تقتلَ المجرمَ بل أن تقتل إجرامَه. ولهذا نقول إنّ المسألة هي قتلُ المحارب لا قتل الكافر؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إنّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَهُ ويسعوْن في الأرضِ فسادًا أن يُقَتّلوا أو يُصَلّبوا﴾. هناك فرقٌ بين الحرابة والكفر، والكفر وحده ليس مبرِّرًا لأن تعتدي على الكافر في هذا المقام، لأنّ الكافر إذا كان مسالمًا فلا يجوز لك أن تتعرّضَ له بسوء، لا في نفسه ولا في ماله ولا في عِرْضه. بل نلاحظ أنّ النبيّ عندما دخل المدينةَ عَقَدَ معاهدةً بينه وبين أهلها، تُمثّل فكرةَ "المواطَنة" في الإسلام، إذ أَدخلَ اليهودَ في وثيقة العقد بين الأنصار والمهاجرين واليهود؛ فلمّا نقض اليهودُ العقودَ وتحالفوا مع المشركين في وقعة الخندق أو وقعة الأحزاب، حاربهم النبيُّ نتيجةً لنقضهم العهدَ، ولاستخدامهم الحربَ ضدّ الإسلام بَدَلَ السِّلم الذي منحهم إيّاه.
(هاني عبد الله، مستشارُ السيّد فضل الله): وماذا عن فوضى الفتوى؟ مَنِ المختصُّ بالفتوى؟
من الطبيعيّ أنّ المفتي هو المجتهد الذي يمْلك الثقافةَ الإسلاميّةَ الواسعة في فهم الكتاب والسنّة، وفي تأصيل القواعد الفقهيّة التي تمكّنه ـ بحسب ثقافته وأمانته الثقافيّة ـ من استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة. ولذلك فليس من حقّ أيّ شخصٍ كان أن يفتي. ونحن نعتبر أنّ مراكزَ المفتين الرسميّة لا تجعلهم جديرين بأن يطْلقوا الفتاوى، لأنّ موقعَهم الفتوائيّ إنما انطلق من خلال الدولة لا من خلال كفاءتهم الذاتيّة!
مَنْ يقوم بإعادة التأصيل وتطوير الاجتهاد؟ أهُمْ رجالُ الدين وحدهم، أمْ بإمكان العلمانيين المختلفين فكريّاً أن يقوموا بذلك أيضًا... علمًا أنّ بعضَ هؤلاء حاولوا إعادة قراءة النصّ القرآنيّ لكنّ محاولاتهم قوبلتْ بعنفٍ شديد (نموذج د. نصر حامد أبي زيد، ونموذج د. محمد شحرور،...)؟
عندما انطلق القرآنُ، توجّه إلى الناس. وهذا يعني أنه يخاطب كلّ فكر، وينفتح على كلّ موقع من مواقع الوعي. وحين نذْكر قولَه تعالى: ﴿أفلا يتدبّرون القرآنَ أمْ على قلوبٍ أقفالُها﴾، و﴿أفلا يتدبّرون القرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ اللهِ لوَجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾، فإننا نستوحي من هذا أنّ من واجب كلّ الناس أن يقرأوا القرآن، ومن حقّهم أن يتفهمّوه، ويتدبّروه، ويدْرسوا المفرداتِ التي انطلق منها. ومن الطبيعيّ أن كلّ موقع من مواقع المسؤوليّة، أكان نصّاً ثقافيّاً أمْ مقدّسًا، لا بدّ للّذين يلتزمون به، أو يُخاطَبون به، أن يتفهّموه وأن يثيروا علامات الاستفهام. ولقد أثار المشركون علاماتِ الاستفهام، وكان القرآنُ يجيبهم من خلال النبيّ، وكانت للناس حريّةُ أن يسألوا النبيّ ما يشاؤون؛ مثلاً: ﴿يسألونكَ عن الخمرِ والميسرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمُهُما أكبرُ من نفعِهما﴾. القرآن، إذنْ، لم يَحْجرْ على أيّ إنسان أن يسألَ عمّا جاء به التشريعُ الإسلاميّ، بل حاول أن يفسّر لهم ذلك.
ومن خلال هذا العرض نعتقد أنّ من حق كلّ مثقفٍ يمتلك المعرفةَ الدينيّة من خلال أصولها، ويمتلك اللغةَ العربيّة، ويمتلك الآفاقَ التي تتحرّك فيها تلك المعرفةُ الدينيّة، أن يفسّر القرآنَ بحسب ثقافته، سواء كان مسلمًا أو غيرَ مسلم، دينيّاً أو علمانيّاً؛ إذ ليس في الإسلام كهنوت، بل إنّ القرآن نزل للناس كافّةً.
فالقرآن نصّ إلهيّ ولكنّ تفسيرَه بشريّ، ما عدا تفسيرَ النبيّ له وتفسيرَ من يعتقد الناسُ العصمةَ فيهم.
ذلك لأنّ النبيّ لم يكن دورُه أن يتلو القرآنَ، بل أن يعلّمهم الكتابَ؛ ومن الطبيعيّ أنّ التعليم ليس إعطاءَ الكلمة بل إعطاءُ الفكرة والمعنى. وهذا ما كنتُ أتحدّث به مع د. نصر حامد أبي زيد عندما زارني وجرى حوارٌ بيننا. فقد قلتُ له إنّكَ تعتبر تفسيرَ النبيّ بشريّاً، وهذا ليس دقيقًا لأنّ دور النبيّ هو أن يثقّفَ الناسَ بالقرآن، أن يعلّمهم، أن يفسّرَ لهم ما أجمله القرآن، وما كان متشابهًا من القرآن؛ ولذلك فإنّ دوره يُعتبر مقدّسًا، تمامًا كما أنّ تلاوته تُعتبر مقدّسة. أما ما عدا المعصوم، فمن الطبيعيّ جدّاً أن يكون تفسيرُه قابلاً للجدل، ويمكن أن يَخضع للخطإ والصواب. لذلك نقول إنّ القرآن هو كتابُ الله للناس كافةً؛ فمن حقّ الناس كلِّهم أن يقرأوه، ومن حقّ الناس كلِّهم أن يتفهمّوه وأن يتدبّروا فيه وأن يفسّروه. لكنْ من الطبيعيّ جدّاً أنّ التفسير البشريّ للقرآن، كما هو شأنُ اختلاف المفسّرين، يَخْضع للنقد والمناقشة والتأمّل. من هنا لا نعتبر أنّ تفسيرَ علماء الدين للقرآن يمثّل الحقيقةَ المطلقة؛ فقد يخطئون في التفسير، لأنّ تفسير النصّ يخضع للجانب الثقافيّ الذي يسيطر على ذهنية المفسِّرَ، سواء من خلال البيئة التي عاش فيها أو من خلال الدراسات التي درسها.
وأما بصدد الأسلوب الذي اتُّبع ضدّ الذين فسّروا القرآنَ، فإننا لا نوافق على العنف الذي تمثّل في ردّ فعل كثيرٍ من رجال الدين. بل إنّ المفروض عليهم، من الموقع الثقافيّ والعلميّ، أن يناقشوا الفكرةَ، كما حدث في زيارة نصر حامد أبي زيد لي، إذ كنتُ أناقشه مناقشةً علميّةً، وكان يتقبّل ذلك!
وماذا لو اعتبَرتِ المؤسّسةُ الدينيّةُ أنّ تفسيرَ العلمانيين تخطّ للحدود كما جرى؟
القرآن نصٌّ مقدّس، وهو وحيٌ من الله. لكنّه، في الوقت نفسه، نصٌّ ثقافيٌّ نزل بلغةٍ عربيّة. وهذا يعني أنه يَخْضع للقواعد العربيّة في دلالات اللفظ على المعنى.
ليست في الإسلام مؤسّسةٌ دينيّة، بل مثقفون دينيّون. بكلامٍ آخر، ليست هناك مؤسّسة مغلقة تعطي الكلمةَ الفاصلةَ التي تمثّل الحقيقةَ المطْلقة، بل إنّ المؤسسات الدينيّة (كالحوزات الدينيّة العلميّة) مدارسُ لدراسة الدين في الكتاب أو السّنّة أو ما استنبطه المجتهدون في القواعد الفقهيّة والكلاميّة. وعليه، فإنّ أيّ مدرسة علميّة، دينيّةً أو غير دينيّة، تقبل احتمالات الخطإ والصواب، ومن الطبيعيّ جدّاً أن تتقبّل النقد. وهذا ما لاحظناه في الامتداد التاريخيّ لما يسمّى بـ "المؤسّسة الدينيّة،" إذ نرى أنّ العلماء، سنّةً أو شيعةً، يناقشون بعضَهم البعض، ولذلك هناك أكثرُ من تفسيرٍ سنّيّ أو شيعيّ للقرآن. وربّما يَعتبر العلماءُ أنّ كثيرًا من الأحاديث والروايات "موضوعٌ" ولا يتناسب مع النصّ القرآنيّ بحسب ما يُفْهم منه، لأنّ كثيرين وضعوا الأحاديثَ التي تعكس تأييدَ التزاماتهم المذهبيّة المختلفة في هذا المجال. ولذلك نجد أنّ التفسير بالمأثور، وهو ما ألّفه بعضُ الشيعة وبعضُ السّنّة، يخضع للعديد من التساؤلات، ولعدم الثقة به، لأنّه لا يتناسب مع الجوّ القرآنيّ والفهم القرآنيّ.
لكنْ للأسف، هنالك مؤسّساتٌ دينيّة رسميّة تُعتبر جزءًا من السلطة، وتَعْمل معها على قمع الفكر الآخر!
عندما نتحدّث عن الثقافة القرآنيّة، أو عن الثقافة الدينيّة، فإنّنا نتحدّث عنها من حيث إنّها موقعٌ من مواقع المعرفة، بقطع النظر عمّن يستغلّ ذلك لمصالحه أو لأطماعه. ونحن نَعْرف أنّ في التاريخ الإسلامي مَنْ يُسمّى "وعّاظَ السلطان،" وهم الذين يقدِّمون للسلطان ما يتناسب مع حكمه وجرائمه وشهواته، وقد يفسّرون القرآنَ بما يتّفق مع ما يَطْلبه منهم. بل نلاحظ أنّ هناك تيّارًا كبيرًا من فقهاء المسلمين، عندما يقرؤون قولَه تعالى {أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأُولي الأمر منكم}، يقولون إنه يجب إطاعةُ وليّ الأمر وإنْ كان فاسدًا أو قاتلاً، وإنّ علينا ألاّ نثورَ على أولي الأمر بل أن نقدّم إليهم النصيحةَ والموعظة! وهناك "فقهاءُ سلطة" يحضّرون لكلّ عملٍ من أعمال السلطان فتوى معيّنةً: فيقفون ضدّ إسرائيل عندما تكون السلطةُ ضدّ إسرائيل، لكنهم يؤيّدون إسرائيل عندما تكون السلطةُ تؤيّد إسرائيل وتصالحها؛ ويُفتون لمصلحة اليمين عندما تكون السلطةُ يمينيّة، ولمصلحة اليسار عندما تنتقل السلطةُ إلى اليسار، وربما تكون مصلحةُ السلطة في الوسط فيكونون وسطيين!
لمّا كنّا نتحدث عن العلاقة بين السلطتين السياسيّة والدينيّة، فهل تعتقد أنّ هدفَ الإسلام هو إنشاءُ دولة إسلاميّة؟
لا بدّ أن ندرس أساسَ تركيبة الدولة. فمن الطبيعيّ أنّ الدولة تتمثّل في قانونٍ شاملٍ يحْكم كلَّ أوضاع الناس، اقتصاديّة أو سياسيّة أو أمنيّة أو اجتماعيّة... وعندما نضع المسألة في هذا الإطار، فإننا نتصوّر أنّ الإسلام يَختزن الدولة، باعتبار أنّ الشريعة الإسلاميّة تمثّل ثروةً قانونيّةً شاملةً لكلّ نواحي الحياة، بقطع النظر عمّا إذا كان بعضُ الناس يناقشون هذا القانونَ أو ذاك؛ فالقانون ينطلق من خلال اجتهادات العلماء، وربما تطوّر من خلال اجتهادٍ يتحرّك في زمنٍ ما، واجتهادٍ يتحرّك في زمن آخر. إنّ الاجتهاد الإسلاميّ يجعل حركةَ القانون الإسلاميّ متحرِّكًا لا جامدًا: فهو يَخضع لاجتهادات، تمامًا كما يَخضع القانونُ الوضعيُّ للاجتهادات. وقد يَصدر قانونٌ من أيّ دولة، ثم ترى الجهاتُ المعنيّةُ بإصدار القوانين أنّ المصلحة تقتضي إلغاءه وإصدارَ قانونٍ آخر. في الاجتهاد قد يختلف التوصيف؛ فقد يَجتهد المشْرفون على الدولة، إذا كانوا من المجتهدين، في تشريع قانونٍ معيّن، ثم تأتي جهةٌ أخرى (أو تأتي الجهةُ الأولى نفسُها) فتكتشف خطأ ذلك القانون في مجالٍ ما. ونلاحظ بالتجربة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، بادر إلى إيجاد نوعٍ من التكافل الاجتماعيّ أو "المواطَنة" بين الناس هناك، فعقد وثيقة المدينة كما ذكرنا سابقًا: فهناك معاهدة بين الأوس والخزرج، وهما العشيرتان الرئيستان في المدينة وكانتا تعيشان حروبًا تاريخيّة (وفي القرآن: ﴿واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّفَ بين قلوبِكُمْ فأصبحتم بنعمته إخوانًا﴾)؛ ثم حاول أن يَعْقد هذه المعاهدةَ بين المسلمين المقيمين في المدينة (الأنصار) والمسلمين المهاجرين، ثم بين المسلمين واليهود. وهناك نقطة أساسيّة يمكن أن نستوحيَ منها معنى الدولة، وتبرز في الآية القرآنيّة: ﴿لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّناتِ وأنزلنا معهُمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسْط﴾؛ فهذه الآية تبيّن أنّ كلّ الرسالات، وكلَّ الكتب المنزِلة المقدّسة، وكلَّ الموازين التي توزَنُ بها الحقوقُ والأوضاع، قد شَرّعها اللهُ من أجل إقامة العدل.
وعندما نأخذ كلمةَ "العدل،" التي تعني أن نعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فإنّه لا يمكن أن يتحقّق من دون دولة: إنه عدلُ القانون، عدلُ الحكم، عدلُ الحاكم، عدلُ الناس مع الحكْم، ومع بعضهم البعض. ولا يمكن أن تقيمَ العدلَ في مجتمع كبير من دون أن تكون هناك سلطة. والسلطة في الإسلام ليست سلطةً مطلقةً بل تخضع للقانون. يخاطب الإمامُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وكان خليفةً آنذاك، الناسَ، قائلاً: "فلا تكلّموني بما تكلّمونَ به الجبابرةَ، ولا تتحفّظوا منّي كما يُتحفَّظُ عند أهل البادرة [البادرة هي القوة، السيف]، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً لحقٍّ قيل لي، أو لعدلٍ يُعْرض عليَّ؛ فإنّ مَن استثقلَ الحقّ أن يُقال له، والعدلَ أن يُعرضَ عليه، كان العملُ بهما عليه أثقل. فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل، فإنني لستُ بفوق أن أخطئ، إلاّ أن يكفي اللهُ منّي ذلك." فالإمام الخليفة يدعو الناسَ هنا إلى أن ينقضوه، وإلى أن يتحدّثوا معه كما يتحدّثون بعضُهم مع بعض، لا كما يتحدّث المحكومُ مع الحاكم! ونقرأ النصّ النبويّ الشريف: "إنما أهلَكَ مَنْ كان قبلَكم أنّهم كانوا إذا سرق الشريفُ تركوه، وإذا سرق الضعيفُ أقاموا عليه الحدّ؛ واللهِ لو سرقتْ فاطمة بنتُ محمّد لقطعت يدَها." وفي كتاب الإمام عليّ عليه السلام لبعض ولاته الموظّفين عنده: "لو أنّ الحسنَ والحسينَ فعلا ما فعلتَ لما كان لهما عندي هوادة." إذن، الحاكمُ في الإسلام يتقبّل المعارضةَ ويتقبّل النقدَ، بل يدعو الناسَ إلى أن يَرْصدوا حكمَه وأن ينقدوه. ولذلك نقول إنّ بعض الذين يتحدّثون ]سلبًا] عن الدولة في الإسلام ربّما نظروا إلى تاريخ الحكّام المسلمين الذين كانوا يعيثون في الأرض فسادًا ويحاولون أن يَحْكموا على الناس بالقوة؛ غير أنّ هؤلاء ليسوا مظهرَ الحكم الإسلاميّ، لأنّ القرآن يؤكّد على العدل حتى مع الأعداء: ﴿ولا يَجْرِمَنْكم شنآنُ قومٍ على ألاّ تَعْدِلوا اعدلوا هو أقربُ للتقوى﴾، و﴿وإذا قلتم فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى﴾، و﴿يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامينَ بالقِسْطِ شهداءَ للهِ ولو على أنفسِكُمْ أو الوالديْن والأقربِين﴾.
بما أنّ الدولة الإسلاميّة التي تقترحها ليست يوتوبيا، فمن يَضْبط الحاكم؟
الشعب! من حقّ الشعب أن يثور على الحاكم ويسقطه.
لكنْ ما الآليّة؟
ليس في الحياة كلِّها مطْلق، سواء حَكَمَ الواقعَ الدينُ أو العلمانيّةُ أو أيُّ مبدإ من المبادئ. الحكم تجربة، وقد يخطئ الحاكمُ وقد لا يخطئ. لذا فإنّ القانون لا يعطيه السلطةَ المطلقةَ، بل يطلب من الناس أن يتابعوه ويرصدوه؛ فإنْ أخطأ قوّموه أو أسقطوه. نقرأ في القرآن الكريم قصص الأنبياء: {إنّ فرعوْنَ علا في الأرض وجَعَلَ أهلَها شِيَعًا يَسْتضعفُ طائفةً منهم يذبِّحُ أبناءَهمْ ويستحيي نساءَهُمْ﴾، و﴿قل أنا ربّكم الأعلى﴾، و﴿فاستخفّ قومَه فأطاعوه﴾. إنّ القرآن حين يتحدّث عن كلّ هؤلاء الطغاة فإنه لا يتحدّث عن التاريخ بل يقول: ﴿لقد كان في قَصَصِهِم عبرةٌ لأولي الألباب﴾. لذلك فالحاكم المسلم لا يمكن أن يدّعي لنفسه القداسةَ. النبيّ نفسُه، صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم، وهو مقدّس، لم يدّعِ لنفسه القداسةَ؛ والإمامُ عليّ والخلفاء الراشدون أيضًا. في بعض الحالات يَعترض الناسُ على الحاكم بشكلٍ طبيعيّ، وهو يتقبّل ذلك. ونجد امرأةً تقف أمام الخليفة، وتقول له أخطأتَ، فيتقبّل منها ذلك. وفي الفتنة الكبرى التي وقعتْ بقتل الخليفة عثمان مثلاً، بقطع النظر عن الحقّ والباطل في هذا المجال، نجد أنّ المسلمين ثاروا عليه عندما قَرَّبَ عائلتَه واستغلّ المالَ حسب دعواهم. لذلك أعتقد أننا عندما ندرس القوانينَ الإسلاميّة والقيمَ الإسلاميّة والنظامَ الإسلاميّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، فإننا نلاحظ أنّ الدولة الإسلاميّة، لو أُسّستْ بالخطّ الذي ينطلق من هذه القوانين، فإنها تنطلق من الدولة العادلة.
هاني عبد الله: هل الآليّة في إسقاط الحاكم تنطلق من روح العصر، أمْ هناك قواعد ثابتة؟
لا، من آليّات العصر. ففي التجربة الإيرانيّة، بقطع النظر عمّن يوافقها أو يخالفها، دعا الإمامُ الخمينيّ، وهو رجلٌ فقيه، إلى الحكومة الإسلاميّة، لكنه أجرى استفتاءً شعبيّاً يسأل فيه الناسَ إنْ كانوا يريدون الإسلامَ أمْ لا يريدونه، وهل يريدون قانونًا إسلاميّاً أمْ لا؟ ثم أسّس مجلسَ الشورى، ومجلسَ الخبراء، ومجلسَ صيانة الدستور، وأكّد أنّ من حقّ الأمة ومجلس الخبراء أن يُسقطا الوليَّ الفقيه إذا فرضْنا أنه انحرف عن الخطّ. والوليّ الفقيه نفسُه يأتي بالانتخاب؛ فالوليّ الفقيه الموجود حاليّاً في إيران حصل على سبعة وستّين صوتًا من أصل ثمانين، الأمرُ الذي يعني أنْ لا فرضَ لديكتاتوريّةٍ أو وراثيّةٍ في هذا المجال.
من أُسسِ بناء الدولة نظامُها الاقتصاديّ. والمفروض في العالم اليوم شكلٌ أحاديٌّ من ذلك النظام، سمّه رأسماليّاً، أو رأسماليّاً متوحّشًا، أو غير ذلك. فماذا عن النظام الاقتصاديّ في "الدولة الإسلاميّة"؟
ثمة نظامٌ إسلاميّ يقوم على أساسٍ واقعيّ عادل. فالإسلام ألغى الرّبا لأنّ النظريّة الإسلاميّة تقول إنّ المال لا يُنتج المال؛ إذ حين أُقرضكَ مالاً، فإنّ هذا المال لا يُنتج لي مالاً. وأما في الإسلام فهناك نظامُ المضاربة، وهو التزاوجُ بين العمل والمال: شخصٌ يَمْلك رأسمالاً ولا يملك عملاً أو خبرة، وشخص ثانٍ يملك العملَ والخبرةَ لكنه لا يملك رأسمالاً، فيتشاركان على أساس أن يكون لكلّ واحد منهما نصيبٌ من الربح إذا حصل؛ وإذا لم يحصل الربح، فالخسارة على رأس المال، لا على العامل لأنه خسر عملَه أصلاً. هذا النظام هو البديلُ عن نظام الرِّبا لأنه يوجِد للعامل حقّاً من خلال عمله في رأس المال الذي هو ملْكٌ للآخر، ويجعل لرأس المال أيضًا حقّاً لأنه قَدّم للعامل فرصةَ الكسب.
وحرّم الإسلامُ الغشّ، والنصبَ، وأكْلَ المال بالباطل، وما إلى ذلك. ثم إنّه لم يسلّط أحدًا على ثروات البلد؛ فالمعادن والبترول وغيرُ ذلك هي ملْك الأمة، ولا بدّ أن تُصرف من قِبل وليّ الأمر أو النظام الحاكم على مصالح الأمّة. ولذلك كلّه نعتقد أنّه لو طُبّق النظامُ الإسلاميّ لكان نظامًا عادلاً من الناحية الاقتصاديّة.
ما العمل عندما تتعارض الشريعةُ المنبثقةُ من النصّ مع حقوق الإنسان الفرديّة؟ من أين تأتي حقوقُ الإنسان الفرديّة؟
هل تأتي من ذاتيّاته الشخصيّة؟ المفروض أن الذاتيّات تتنوّع؛ فلكلّ إنسان ذاتيّاتُه التي تنطلق من أهوائه وأطماعه وأوضاعه الشخصيّة. ولكنّ هناك نظامًا أخلاقيّاً ينظر إلى مصلحة المجتمع كلّه، سواء من الناحية المعنويّة أو الماديّة أو من نواحي الأمن وما إلى ذلك. في مثل هذه المسألة نقول إنّ للإسلام نظامًا في حقوق الفرد، بمعنى ألاّ تطغى هذه على حقوق الجماعة.
وللإسلام أيضًا نظامٌ أخلاقيّ يُنقذ الإنسانَ من ظلمه لنفسه ومن إضراره بنفسه، إذ لا حريّة للإنسان في أن يُضرّ بنفسه: ولذلك حرّم اللهُ الخمرَ لأنّه يضرّ بالإنسان عقليّاً (فيجعله غيرَ عقلانيّ لمدة معيّنة) أو صحّيّاً؛ وحَرّم القمارَ لأنّه ليس الوسيلة الطبيعيّة للحصول على المال؛ وحَرّم المخدّرات. بل إننا أفتينا بتحريم التدخين لأنه قد يصل بالإنسان إلى حدّ التهلكة أو الضرر البالغ. وكذلك أطلقْنا فتاوى في تحريم ما يفعله بعضُ الشيعة من ضرب رؤوسهم بالسيف أو ضرب ظهورهم بالسلاسل وما أشبه ذلك. والإسلامُ حَرّم الزنا أيضًا لأنّه يَعتبر أنّ العلاقات الجنسيّة لا بدّ أن يكون لها نظامٌ داخل الحياة الزوجيّة. كما حرّم الاعتداءَ على الآخر؛ فلا يجوز للزوج أن يعتدي على زوجته مثلاً، لأنّ ما يحْكم العلاقةَ بينهما هو العقل، فليس للزوج حقّ على زوجته إلاّ بما يقتضيه عقدُ الزوجيّة. والإسلام لم يجد الحريّةَ الجنسيّةَ من حقوق الفرد مثلاً. كما لا يرى من حقّه الزواجَ المثليّ، الذي هو مخالفٌ للطبيعة لأنّ موقع العمليّة الجنسيّة لم يهيّأ في جسد الإنسان لهذا...
إذنْ هناك حريّاتٌ فرديّةٌ بالفعل، لكنْ لا بدّ أن تخضع للنظام الأخلاقيّ والاجتماعيّ العامّ، بحيث لا تُضرّ بسلامة المجتمع ولا بقيمه الروحيّة والإنسانيّة.
للاستيضاح فقط، أباح النصُّ القرآنيّ للزوج في علاقته مع زوجته أن يضربها...
هناك مسألة في العلاقة الزوجيّة يَفْرضها العقدُ الزوجيّ، وهي مسألةُ حقّ الزوج في الاستمتاع بزوجته ليحفظَ نفسَه من الانحراف الجنسيّ، أي الزنا. كما أنّه جعل للزوجة الحقَّ في الجنس أيضًا: فنحن نرى أنّ لهنّ مثلَ الذي عليهنّ بالمعروف؛ فكما أنّ للزوج حقّاً على زوجته بالجنس، فإنّ لها حقّاً في الجنس أيضًا. لكنْ لو امتنعت الزوجةُ عن منح الزوج حقَّه الجنسيّ، فماذا يفعل وقد مَلَكَ ذلك الحقَّ بالعقْد وبموافقة الزوجة بإرادتها عليه، وهو عقدٌ يرتكز على أساس المسألة الجنسيّة؟ القرآن يقول: ﴿واللاتي تخافون نشوزَهنّ فعِظوهنَّ﴾. إذنْ، حاوِلْ [أيّها الزوج] أن تبيِّنَ لزوجتك أنّ هذا النشوز يفْسد العلاقةَ الزوجيّة، وأنه قد يضطرّه إلى أن يبحث عن زوجةٍ ثانيةٍ أو عن علاقةٍ غير شرعيّة أو غير ذلك. وبعد ذلك حاولَ النصّ أن يتطوّر في المسألة، فإذا بالزوج يهْجر زوجتَه وينام في مكان آخر. لكنّ ذلك لم ينفعْ، فماذا يفعل؟ هل يرفع الأمرَ إلى المحاكم؟ هل تضع المحكمةُ في غرفة النوم شرطةً تجْبر الزوجةَ على الاستجابة لزوجها؟ هذا غير واقعيّ. إذنْ، بيْن أن نهدمَ الحياةَ الزوجيّة، فيرحلَ الزوجُ لأنّ الزوجة لا تقْبل، وبين أن نحافظ عليها، أباح النصُّ أن يضربها ضربًا غيرَ مبرّح، ضربًا "تربويّاً." فإذا انتهت المشكلة يقول النصّ: ﴿فإنْ أطعْنَكُم فلا تَبْغوا عليهنَّ سبيلاً﴾. المسألة، إذنْ، من باب الضرورة، لا من باب الحالة الطبيعيّة. وإلاّ فليس من حقّ الزوج مطلقًا أن يَضْرب زوجته لأنها لم تقم بشغل البيت (فهذا ليس حقّاً يفرضه العقدُ) أو بتربية الأولاد أو بإرضاع الأولاد أيضًا.
ومن الأمور التي قد يستغربها الناسُ أنّ للزوجة الحقَّ في أن تَطْلب أجرًا كأيّ عاملةٍ على شغل البيت، حتى في ما خصّ إرضاعَ الأولاد. لكنّ الإسلام ينصحها بأنّ الزواج غير قائم على الجانب القانونيّ (﴿فجعل بينكم مودّةً ورحمةً﴾)، لأنّ الزوج يضحّي وهي تضحّي. وقد أصدرتُ قبل مدّةٍ فتوى أثارت الجدلَ في الواقع الإسلاميّ كله، وهي أنّه إذا اعتدى الزوجُ على زوجته بالضرب المبرّح الذي يؤدّي إلى كسور وأضرار، ولم تكن لها طريقٌ للهروب أو الاحتماء، فلها أن تدافع عن نفسها بضربه ﴿فمن اعتدى عليكُمْ فاعتدُوا عليه﴾.
إنّ الضرب الناشئ من امتناع الزوجة عن إعطاء حقّ زوجها الجنسيّ هو لمصلحة الزوجة أولاً، حتى لا يسعى الزوجُ إلى إشباع رغبته الجنسيّة خارج البيت، الأمرُ الذي سيُحْدث تأثيرًا سلبيّاً في الحياة الزوجيّة. وهذا بالطبع مشروط بألاّ يكون للزوجة عذر (عذر نفسيّ فوق العادة أو عذر صحّيّ...).
لو انعكست الآية، والزوجُ هو من امتنع عن زوجته...
لها الحقّ في حال عدم اقترابه منها، إذ يُعتبر هذا خطيئةً شرعًا. لكنّ الضرب لا يفيد في هذه الحال، لكونها غيرَ قادرة على الحصول على حقّها عندما تَضرب الرجلَ (فالقضيّة تنطلق من واقعيّة المسألة). وللزوجة أن ترفع أمرَها إلى الحاكم الشرعيّ، وله ـ وهو المجتهدُ العادل ـ أن يطلّقَها إذا طلبت الطلاقَ، لأنّ زوجها لم يقم لها بحقّها الجنسيّ (أو لم ينفقْ عليها).
هل تؤيّدون التعليم الدينيّ في كلّ المدارس، ومن ثم فرز المتعلّمين تلقائيّاً خصوصًا في المدارس المختلطة؟ وما هي ضوابطُ مثل هذا التعليم؟
لعلّ المشكلة هي أنّ التصوّرات الدينيّة لدى الأجيال الطالعة، بشكل عامّ، لم تنطلقْ من وجدانٍ دينيّ متوازن في المعرفة الدينيّة. فهي كثيرًا ما تأخذ هذه المعرفةَ من بيتٍ جاهلٍ على طريقة ﴿إنّا وَجدْنا آباءَنا على أمّةٍ وإنّا على آثارِهِم مُقْتدون﴾. ومن هنا فإنّ تصوّرهم الدينيّ يتحرّك في خطّ العصبيّة، في خطّ المفردات التي تجعل من الدين مشكلة لا حلاً. وهذا ما ألاحظه في الواقع الإسلاميّ الذي يتوزّع على سبّ المذاهب الإسلاميّة، إذ أرى نموّاً في العصبيّة يجعل المسلمَ حاقدًا على المسلم، وفي قضايا التكفير أو التضليل، أو في قضايا الإساءة إلى الشخصيّات المقدّسة. وبهذا فإنّ مسألة التعليم الدينيّ في المدارس أمرٌ ضروريّ، شرطَ أن ينطلق من الخطوط العامّة للدين من أجل بيان العقائد الأساسيّة التي تَربط الأديانَ بعضَها ببعض، والتي تؤكّد المسألةَ العقائديّة في الخطّ الثقافيّ لا الغريزيّ. وعندها لن يكون الدينُ مشكلة بل حلّ.
يتبع