النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1

    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - حسين درويش العادلي

    الحلقة الأولى

    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    حسين درويش العادلي
    SWEDEN
    abuhabib1@hotmail.com

    توطئة

    ضمن الرؤى التأسيسية المؤمّلة للنهوض النوعي بالذّات الوطنية العراقية وفق مرتسمات وتجارب مغايرة للتجارب الكارثية التي حلّت ببلدنا منذ عام 1921م ، يأتي تناول موضوع المجتمع المدني كأحد أهم التأسيسات التي نهدف إلى تأكيدها والبناء عليها في تشكيل الأُمّة العراقية الجديدة .
    ويدخل هذا الموضوع في صلب مهامنا الوطنية التغييرية الهادفة لإعادة هيكلة الحياة العامة العراقية وجملة الأنشطة والعمليات المرتبطة بها والمتفرعة عنها لإنجاز طبيعة ودور ومستقبل بلدنا ومجتمعنا .
    ولا يخفى على أحد : أنَّ الواقع العراقي بشقّيه الرسمي والأهلي ومنذ تأسيس دولتنا العراقية عانى ويُعاني من ثغرات قاتلة أخلّت بالتوازنية المطلوبة بين ماهية ودور الدولة وبين ماهية ودور المجتمع .
    إنَّ ظواهر الإستبداد والهيمنة ومصادرة الحقوق والتسلّط على مرافق الحياة كافة ، قد ضحّت بشكلٍ خطير بكافة مرتكزات النمو والتناغم والتطور المجتمعي ، وبدل أن تتعاضد الدولة والمجتمع لخلق حالات الرُشد المتقابل والتقويم المتبادل والتعاون المشترك لتحقيق أهداف الأُمّة العراقية .. بدلاً من ذلك ، أخذت الدولة بالتفرّعن والمجتمع بالتمرد ليدخلا نفق الصراعات المزمنة والذي أفقد الحياة رونقها واتجاهها التصاعدي والمُنتج !! والسبب الأساس في ذلك يعود إلى انعدام الأُسس الصحيحة للعلاقة بين الدولة والسلطة والمجتمع ككل ، فهذه العلاقة لم تجد أنظمة بُنيوية تستندها في النشوء والتكامل ، وهي جزء من مشكلة افتقاد الذّات الوطنية العراقية للمركّب البُنيوي الذي تعتمده في إنجاز ذاتها الحديثة بعد الإستقلال ،.. وهنا فإنَّ انعدام المضمون البُنيوي الواضح والمُحدد ، أفقد الحياة العراقية على تعدد مستوياتها وتجلياتها الأُسس في تنظيم شبكة العلاقات وتحديد دوائر المسؤولية وتشخيص أدوار الوجودات المُشكّلة للبُنية الإجتماعية . لقد تم اختزال الدولة بالسلطة ولم يعد للدولة من وجود ، وتم مصادرة المجتمع بالكامل كدور وسيادة وفاعلية ليُلحق بالسلطة كمادة لتنفيذ سياساتها وخططها ، وبالمقابل لم ينهض المجتمع بأدواره الأساسية دفاعاً عن كيانه وحقوقه ، وتمثّل فشله بفشل نُخبه وحركاته وأوساطه في إعادة صياغة منظومات بديلة ومنفصلة عن السائد من جهة ، والتصدي لمواجهة الأنظمة السلطوية في معترك تجاربي بديل مُؤسس على الأرض بحكمة وقوة من جهةٍ ثانية .
    وهنا نقول : أنَّ الفشل في إعادة إنتاج الذّات الوطنية أسقط الدولة والسلطة والمعارضة والمجتمع في مستنقع التفرّعن والتمرد والدموية والتقلبات المتذبذبة في الرؤى والطروحات والتجارب !! لذا لا نرى إمكانية حقيقية في خلق أية تجربة مجتمعية نوعية جديدة إلاّ بإعادة النظر بالبُنى التحتية لمنظومات التقنين والتنظيم للبُنية الوطنية ككل ،.. وهنا تأتي مفردة التأسيس لتجارب المجتمع المدني وتدعيمها التدريجي والهاديء والمتناسق مع الأنظمة العامة للتجربة العراقية القادمة ، كإحدى التطبيقات التحوّلية في البُنية الوطنية لمجتمعنا بما يُعزز من إجراء التغيّرات المطلوبة .
    ما هو المجتمع ؟

    لابد لنا ابتداءاً من التعرض بإيجاز إلى المراد من المجتمع بصيغته الكلية قبل الشروع ببحث المجتمع المدني ، وسنوجزها على هيئة ملاحظات مضغوطة دون الإستدلال عليها تماشياً مع طبيعة البحث :
    1)) كلمة المجتمع مشتقة من فعل جمعَ يجمع ، والمجتمع : الهيئة أو الحالة الحاصلة من اجتماع مجموعة من البشر يعيشون في بيئة واحدة ويتألف بينهم الترابط من جهة القيم والأنظمة والقوانين والتقاليد والآداب والحوائج والأشغال والمصالح المشتركة لتنتج عنهم حياة إجتماعية .
    2)) إنَّ الحياة الإجتماعية من الأمور الفطرية المودعة في كينونة المخلوق البشري ، فالإنسان إجتماعي ومدني بالخلقة ، أي أنها ميزة خَلقيّة طبيعية لا تتولد عن الإضطرار أو الإختيار أو التعاقد ، فالإنسان إنسان بالقوة على حد التعبير الفلسفي ، أي استعداد إنساني محض ، وإنما تخرج إنسانيته إلى الفعل والتحقق من خلال المجتمع .
    3)) مع أنَّ وجود المجتمع كوجود يُعتبر اعتبارياً حيث أنَّ الموجود في الخارج هم الأفراد على سبيل التحقق ، إلاّ أنَّ وجود المجتمع وجود حقيقي بالتبع ، لأنَّ الناتج من التفاعل القائم بين أفراد المجتمع إنما هو ناتج حقيقي وهو الروح أو الطبيعة الجماعية . وهذه الروح الجماعية هي في الحقيقة ناتج جديد حقيقي هي بمثابة نفس جديدة ناتجة عن النفوس الفردية الداخلة في التشكيل الإجتماعي ، فالأفراد وحين انخراطهم في الهيئة الإجتماعية فإنهم يتفاعلون كوجودات حقيقية فيما بينهم من جهة الأفكار والمشاعر والأحاسيس والحاجات والمصالح المتبادلة ، وهنا فالناتج من تفاعلهم الحقيقي هذا هي الروح الجماعية أو النفس الإجتماعية التي هي وجود حقيقي بدوره ، فيكون للمجتمع وجود حقيقي وإن كان إعتبارياً من حيث الأصل .
    4)) للمجتمع أصالة كما للفرد أصالة ، فأصالة الفرد متحققة بذاته وعلمه وعمله وثقافته .. الخ ، وأصالة المجتمع متحققة من الروح الجماعية والشخصية والإدراك والإرادة الإجتماعية العامة التي يؤلفها اجتماع الأفراد وما ينتج عنهم من تفاعل ، فالحياة وموت ورقي وتخلف المجتمعات حقيقة واقعية ، فيمكنك أن تحكم على مجتمعٍ ما بالتخلف مع أنَّ صفة التخلف لا تصدق على جميع أفراده ففيهم الواعي والمتعلم والمثقف ، وهنا فحكمنا جاء على المجتمع باعتبار أنَّ له وجوداً أصيلاً إلى جانب أصالة أفراده . من هنا كان للمجتمعات سُننها التأريخية الخاصة رقياً أو انحطاطاً مجداً أو ذلةً قوةً أو ضعفاً ، وأنَّ لها أجلاً ومصيراً مشتركاً واحداً .
    5)) أنَّ الأساس في التغيير والتحوّل رقياً أو انحطاطاً يبدأ من داخل النفس الإنسانية ، وعلى ضوء طبيعة هذا التغيير ستتغير الأوضاع والعلائق والروابط الإجتماعية التي هي بمثابة البناء الخارجي التي تستند البُنى الذاتية للعقل والنفس .. على أساس أنَّ الإنسان هو الصانع للتأريخ ، وتمتعه بقوى العقل والإرادة والإختيار يترتب عليه بناءاته الخارجية وما يُنتجه من تجارب تمثل الروح الجماعية التي تُنتج إرادة عامة تقع عليها بالتبع مسؤولية النهوض بذاتها إنطلاقاً من كونها جماعة أو أُمّة تمثل ضميراً ووعياً ونفساً مشتركاً .
    6)) إنَّ العلاقة بين المجتمع أو الأُمّة وبين تأريخها هي علاقة تبعية ، فالأُمّة هي التي تصنع قدرها ومصيرها ، من هنا كان عليها إعداد ذاتها والإرتفاع بمحتواها والرقي بمضامينها ومُثلها وأخلاقياتها واستعداداتها في القوة والمنعة والعلم والعمل لضمان خلق مجدها ، وخلافه فستكتب تأريخ اندحارها بيدها لُتشطب من سجل التأريخ كأُمّة فاعلة مؤثرة شاخصة بقوة وعنفوان .
    أقول هذا كي نُدرك حجم مسؤوليتنا التأريخية في النهوض المجدد بأُمتنا العراقية لصناعة مجدها وعزّها وتقدمها ، فالأمر يدعو لإنبعاث وطني شامل لا مكان فيه للقيم الهابطة والإرادات الرخوة والنوايا السقيمة .


    :=

  2. #2

    الحلقة الثانية

    -------------------------------------------

    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    الحلقة الثانية

    التجاذب المصطلحي

    كثُر تناول اصطلاح (( المجتمع المدني )) منذ سبعينات القرن المنصرم ، وشهدت وما زالت الساحة العربية والعراقية تجاذباً مدرسياً حول طبيعة هذا الإصطلاح وأُسسه الفلسفية والسياسية ، لذا طرحوا بديلاً له تحت عنوان (( المجتمع الأهلي )) .
    ولسنا هنا في معرض التّدليل على أهمية المصطلح في البناء المدرسي لأية أمّة ، فهذا ما نؤكد عليه ونُطالب به انسجاماً مع مقومات الأصالة والخصوصية الذاتية لكل أمة ،.. ولكن يجب أن لا يكون ذلك مُبرراً للإنغلاق بحجة الأصالة أو للإنعزال بعنوان الخصوصية أو للتضحية بمضامين المصطلح وما يستهدفه من بناءات وتجارب على الأرض بحجة التماسك المدرسي ، ونعتقد أنَّ الفيصل في الحُكم على أي مصطلح هو طبيعة الثقل المضموني والمفهومي المراد توظيفه على أرض تجربتنا ، وأن لا نحكم على المصطلح انطلاقاً من خلفياته الفلسفية أو التأريخية فحسب ، بل يجب أن نلحظ حركيته وتجلياته المعاصرة فيما تُنتجه من مفاهيم ورؤى ،فإنَّ للمصطلح حركية دائمة تتعدد مضامينها بتعدد القراءات والأفكار والتجارب التي يخوضها تأريخياً وفي كل دورة حضارة .. ليستقر عند مفهومٍ محدد قد يُخالف كلياً أو جزئياً نشأته التكوينية التأريخية ، وهذا ما نراه منطبقاً بدرجة كبيرة على اصطلاح (( المجتمع المدني )) ، لذا على الباحثين والبُنيويين ملاحظة ذلك وعدم الوقوع في شَرَك الجمود إنطلاقاً من دواعي الأصالة ،.. وعموماً فالمدلول البنيوي لكِلا الإصطلاحين يُنتجان مفهوماً دلالياً واحداً سواء مدنياً كان أم أهلياً .

    الجذر التأريخي للمصطلح

    نشأ مصطلح (( المجتمع المدني )) في أوج أزمة العصور الوسطى إبان القرن السابع والثامن عشر الميلادي ، فكان عنواناً لقطيعة واضحة مع خصائص النظام الأوربي القديم ، ولافتة جديدة تُعبّر عن قوى فكرية ومجتمعية صاعدة وأُخرى مُندحرة ،.. من هنا جاء هذا المصطلح مُثقلاً بأزمة الصراع بين بين مراكز القوى الإجتماعية والسياسية والدينية .
    من جهة أخرى ، صاحب تشكّل ونمو الدولة القومية في القرن السابع عشر ، تضخّماً واسعاً لقدراتها وسلطاتها على حساب مراكز نفوذ الفكر والمال وسلطة الكنيسة والملوك والنبلاء ،.. ومثلما كان للدولة القومية الدور الأساس في توحيد القوميات المتباينة ، فأيضاً كان لها الدور الأساس في خلق ثقافة المركزية السلطوية التي تستجمع كافة نقاط القوة في الدولة والمجتمع بيدها لتحتكرها دون أية مشاركة شعبية .
    لقد أحدثت هذا النقلة النوعية في مراكز السلطة إلى خلق الإختلال البنيوي في العلاقة بين الدولة والمجتمع ، إذ تضخّمت الدولة في سلطاتها على حساب المجتمع كسلطة ودور وفاعلية ، وهذا ما أفرز صراعاً جديداً كان المجتمع المدني أحد أهم إفرازاته .
    من هنا نكتشف أنَّ استقرار مفهوم المجتمع المدني كان مصاحباً بدرجة كبيرة لتطور الفكر السياسي وبالذات الفكر السياسي الليبرالي الذي تبلور مع نهايات النظام الأوربي القديم القائم على الحُكم المطلق البابوي والملكي المستند إلى الحق الإلهي في الحكم .
    لقد وضعت الثورة الإنكليزية 1689-1714م الحجر الأساس للعصر الجديد القائم على السيادة القومية وحقوق الإنسان ..الخ ، وجذّرتها الثورة الفرنسية 1789م بقوة إثر امتدادها الواسع في أوساط الشعوب الأوربية ،.. وهكذا نرى أنَّ ولادة مفهوم ومبدأ المجتمع المدني هو قرين التكوين البنيوي السياسي المعتمد على الليبرالية التي تطورت إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة ، وهو الأساس الذي أنتجها كمرتسمات للتجربة الأوربية الجديدة التي أخذت بالتكامل تدريجياً وفق هذه الأُسس .
    وعموماً ، فقد استقرت العلاقة بين المجتمع المدني والدولة على مبدأ الإعتماد المتبادل بعد أن كانت العلاقة بينهما تقوم على مبدأ الصراع تأريخياً ، وهذا الإستقرار هو تعبير آخر عن الإستقرار السياسي في الحياة العامة وللمكونات الداخلة في تكوين الجماعة السياسية أي للمجتمع المدني السياسي .

    :=

  3. #3

    Thumbs up الحلقة الثالثة

    ----------------------------------------------
    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    حسين درويش العادلي
    SWEDEN
    abuhabib1@hotmail.com

    الحلقة الثالثة

    التجاذب المصطلحي

    كثُر تناول اصطلاح (( المجتمع المدني )) منذ سبعينات القرن المنصرم ، وشهدت وما زالت الساحة العربية والعراقية تجاذباً مدرسياً حول طبيعة هذا الإصطلاح وأُسسه الفلسفية والسياسية ، لذا طرحوا بديلاً له تحت عنوان (( المجتمع الأهلي )) .
    ولسنا هنا في معرض التّدليل على أهمية المصطلح في البناء المدرسي لأية أمّة ، فهذا ما نؤكد عليه ونُطالب به انسجاماً مع مقومات الأصالة والخصوصية الذاتية لكل أمة ،.. ولكن يجب أن لا يكون ذلك مُبرراً للإنغلاق بحجة الأصالة أو للإنعزال بعنوان الخصوصية أو للتضحية بمضامين المصطلح وما يستهدفه من بناءات وتجارب على الأرض بحجة التماسك المدرسي ، ونعتقد أنَّ الفيصل في الحُكم على أي مصطلح هو طبيعة الثقل المضموني والمفهومي المراد توظيفه على أرض تجربتنا ، وأن لا نحكم على المصطلح انطلاقاً من خلفياته الفلسفية أو التأريخية فحسب ، بل يجب أن نلحظ حركيته وتجلياته المعاصرة فيما تُنتجه من مفاهيم ورؤى ،فإنَّ للمصطلح حركية دائمة تتعدد مضامينها بتعدد القراءات والأفكار والتجارب التي يخوضها تأريخياً وفي كل دورة حضارة .. ليستقر عند مفهومٍ محدد قد يُخالف كلياً أو جزئياً نشأته التكوينية التأريخية ، وهذا ما نراه منطبقاً بدرجة كبيرة على اصطلاح (( المجتمع المدني )) ، لذا على الباحثين والبُنيويين ملاحظة ذلك وعدم الوقوع في شَرَك الجمود إنطلاقاً من دواعي الأصالة ،.. وعموماً فالمدلول البنيوي لكِلا الإصطلاحين يُنتجان مفهوماً دلالياً واحداً سواء مدنياً كان أم أهلياً .

    الجذر التأريخي للمصطلح

    نشأ مصطلح (( المجتمع المدني )) في أوج أزمة العصور الوسطى إبان القرن السابع والثامن عشر الميلادي ، فكان عنواناً لقطيعة واضحة مع خصائص النظام الأوربي القديم ، ولافتة جديدة تُعبّر عن قوى فكرية ومجتمعية صاعدة وأُخرى مُندحرة ،.. من هنا جاء هذا المصطلح مُثقلاً بأزمة الصراع بين بين مراكز القوى الإجتماعية والسياسية والدينية .
    من جهة أخرى ، صاحب تشكّل ونمو الدولة القومية في القرن السابع عشر ، تضخّماً واسعاً لقدراتها وسلطاتها على حساب مراكز نفوذ الفكر والمال وسلطة الكنيسة والملوك والنبلاء ،.. ومثلما كان للدولة القومية الدور الأساس في توحيد القوميات المتباينة ، فأيضاً كان لها الدور الأساس في خلق ثقافة المركزية السلطوية التي تستجمع كافة نقاط القوة في الدولة والمجتمع بيدها لتحتكرها دون أية مشاركة شعبية .
    لقد أحدثت هذا النقلة النوعية في مراكز السلطة إلى خلق الإختلال البنيوي في العلاقة بين الدولة والمجتمع ، إذ تضخّمت الدولة في سلطاتها على حساب المجتمع كسلطة ودور وفاعلية ، وهذا ما أفرز صراعاً جديداً كان المجتمع المدني أحد أهم إفرازاته .
    من هنا نكتشف أنَّ استقرار مفهوم المجتمع المدني كان مصاحباً بدرجة كبيرة لتطور الفكر السياسي وبالذات الفكر السياسي الليبرالي الذي تبلور مع نهايات النظام الأوربي القديم القائم على الحُكم المطلق البابوي والملكي المستند إلى الحق الإلهي في الحكم .
    لقد وضعت الثورة الإنكليزية 1689-1714م الحجر الأساس للعصر الجديد القائم على السيادة القومية وحقوق الإنسان ..الخ ، وجذّرتها الثورة الفرنسية 1789م بقوة إثر امتدادها الواسع في أوساط الشعوب الأوربية ،.. وهكذا نرى أنَّ ولادة مفهوم ومبدأ المجتمع المدني هو قرين التكوين البنيوي السياسي المعتمد على الليبرالية التي تطورت إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة ، وهو الأساس الذي أنتجها كمرتسمات للتجربة الأوربية الجديدة التي أخذت بالتكامل تدريجياً وفق هذه الأُسس .
    وعموماً ، فقد استقرت العلاقة بين المجتمع المدني والدولة على مبدأ الإعتماد المتبادل بعد أن كانت العلاقة بينهما تقوم على مبدأ الصراع تأريخياً ، وهذا الإستقرار هو تعبير آخر عن الإستقرار السياسي في الحياة العامة وللمكونات الداخلة في تكوين الجماعة السياسية أي للمجتمع المدني السياسي .

    =X:

  4. #4
    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    الحلقة الثالثة والرابعة

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    ما هو المجتمع المدني

    المجتمع المدني : هو ذلك المجتمع المتمتع بحرية التنظيم الذاتي وفق أنساق من التشكيلات المؤسساتية الطوعية المتنوعة ذات الصفة والهدف السياسي والإجتماعي والثقافي والفكري والقيمي ..الخ ، بعيداً عن هيمنة الدولة ، والملتزم بالأنظمة الدستورية والقانونية في البلاد .
    من هنا يقوم المجتمع المدني على عدة ركائز :
    1- التطوع الإختياري في العمل المجتمعي على تنوع حقوله الهادفة .
    2- العمل الجماعي القائم على تجميع الطاقات الفردية وزجها في المشاريع المختلفة .
    3- النمط المؤسسي في العمل القائم على التنظيم والإدارة بشكلٍ بسيط أو مُعقّد .
    4- الإستقلالية في العمل والنشاط والحركة بعيداً عن هيمنة الدولة .
    5- الإلتزام بمنظومة القوانين المرعية في البلاد والتقيّد بها .
    6- الحريات كحق إنساني وقانوني تقوم على أساسه بُنى الحركة والتنظيم المجتمعي .
    7- تحقيق الذات الفردية والجماعية من خلال الأنشطة المجتمعية ذاتها .
    إنَّ الفارق الجوهري بين المجتمع المدني والمجتمع التقليدي يتلخص بالهدفية والحركية والنتاج الحيوي ، وهذه الميزات النوعية هي التي تؤسس لحالات المسؤولية تجاه الإنسان والمجتمع والدولة ، إذ تخلق جواً من الوعي الناهض لإدراك المهام والأزمات واستنتاج الحلول من خلال المشاريع المتنوعة التي تتصدى لها تنظيمات المجتمع المدني .
    لذا فالمجتمع المدني هو المجتمع المتفاهم ذاتياً والمنتظم في تشكيلاته الهادفة لإقرار المصالح العامة التي تعود على مؤسساته وأفراده بالنفع المباشر ، وهو المجتمع الممتليء أصالةً وسيادةً ووعياً لذاته وأدواره ومسؤولياته ، وهو المُنتج للدولة والسلطة والمشرف والمراقب لها من خلال قواه ومؤسساته وتنظيماته الفاعلة والمتخصصة بألوان العمل المدني الشامل .


    المجتمع المدني والديمقراطية ، علاقة ضرورة


    مع فشلنا في إعادة إنتاج ذاتنا السياسية وفق فروض آليات المنهج الديمقراطي في تنظيم الحياة الإجتماعية - السياسية العامة ، يصبح الحديث عن مجتمعٍ مدني حقيقي لا قيمة له من الناحية العملية ، وذلك باعتبار أنَّ العلاقة بين الديمقراطية وقيام المجتمع المدني هي علاقة تكوين وضرورة تتحد في جوهرها من حيث المغذّيات والنتائج ،.. من هنا تجب المباشرة في إنتاج الأنظمة والمناهج الديمقراطية بشكلٍ بنيوي في تجاربنا المعاصرة والمستقبلية لضمان قيام تجارب مجتمعية مدنية ، وبالمقابل فإنَّ أداءنا الجيد في تعاطينا مع أية تجربة مدنية مجتمعية سيقودنا ذلك إلى نجاح تجاربنا الديمقراطية حالياً ومستقبلياً .
    إنَّ الديمقراطية هي قضية ومسألة مجتمعية قبل أي اعتبار آخر ، لأنها تعبير عن إنتاج الأُمّة لذاتها سياسياً ومجتمعياً ، فهو إخراج للذّات من حيزّها الضيّق في معاييره العِرقية أو الطائفية أو العشائرية أو العائلية إلى رحاب الأنا الكلية المُنظمة لأُطر التعايش الوطني الكُلي ، فالديمقراطية هنا هي إنتاج للمعايير المشتركة الجامعة للكُل الإجتماعي الوطني ، فهي مسألة إجتماعية تُخرج الذّات المجتمعية الكُلية إلى حيز الوجود والتأريخ ، وأي استلاب لهذه الذّات المجتمعية عن طريق سطوة واحتكار وتفرد فرد أو شريحة أو طائفة بالسلطة ، سيقضي على هذه الذّات ، وهنا فالمتحكم بضبط الذّات الكُلية إنما هي المعايير العامة والمشتركة التي تُنظّم العلاقة بين الأنا والنحن ، وهي الديمقراطية هنا ،.. لذا فلا وجود لأية حركية اجتماعية حقيقية دون مشاركة شعبية حقيقية فاعلة وثابتة ، إذ مع شيوع الإستبداد والشمولية فلا وجود معها لأدنى تعددية واعتراف بآخر .. تمنح المجتمع حرية الحركة والتشكيل والإنتظام .. أي لا وجود لمجتمع مدني بالتبع .
    وبالمقابل لا تجد الديمقراطية نفسها إلاّ في مجتمعٍ مدني فاعل وحيوي ، فالأحزاب والمنظمات والنقابات والجمعيات والأندية .. من مؤسسات المجتمع المدني هي عامل وجود يهب الحياة لديمقراطية حقيقية قادرة على التجذّر .
    وفي الوقت الذي تُعتبر فيه التعددية إحدى أهم سمات الديمقراطية سواء كان تعدداً حزبياً أو مؤسساتياً ، فإنها تُشكّل روح المجتمع المدني ، فمدنية المجتمع لا تتقوم إلاّ بتعددية المؤسسات المُعبّرة عنه في الواقع الخارجي ، وهذه المؤسسات هي التعبير الكُلي عن تعدد المكونات السياسية والإقتصادية والثقافية .. التي يتشكّل بها ، وهي الأساس الموضوعي للتعددية الديمقراطية ذاتها ، فالتعددية المجتمعية هي الأساس في التعددية السياسية .
    إنَّ الديمقراطية وفق هذا الفهم هي إنتاج المجتمع المدني لذاته السياسية والمجتمعية وفق علاقة ضرورة أحدهما يُنتج الآخر في النشوء والإستمرار والقوة والضعف .

    :=

  5. #5
    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    الحلقة الخامسة

    حسين درويش العادلي
    SWEDEN
    abuhabib1@hotmail.com

    مجتمعنا المدني في ظل الدولة المُستبدّة

    لا وجود حقيقي لمجتمعٍ مدني مع دولة مستبدة ، والتأريخ يشهد بحلقات صراعٍ متصلة بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع ، وكلما تضخّمت الدولة واتسعت سلطاتها ونفوذها وهيمنتها كلما ضعفت بُنية المجتمع المدني وانحسرت ،.. ولعل دولتنا العراقية خير مصداقٍ على ذلك ، فالإستبداد المطلق قابله غياب مطلق لأية تجربة مجتمعية مدنية .
    إبتداءاً ، قامت أنظمة دولتنا الحديثة وبعد مخاضات تشكّلها على شرعية تلفيقية هي خليط من رغبة وإرادة إنكليزية وبُنى ومخلفات عثمانية ونُخب تقليدية في الفهم والتجربة الوطنية وأخرى من ذوي الثقافات المستوردة ،.. ولم يكن للدولة مشروعها البُنيوي المتناسب والتركيب الحديث للمجتمع والدولة العراقية ، بل انحازت وراء البُنى والمعايير الضيّقة في إقرار التجربة الرسمة وتجارب المجتمع ككل ، ورغم بعض المحاولات البدائية في إقرار الحقوق العامة وشيوع الحياة البرلمانية .. إلاّ أنَّ التجربة طُبعت ككل بسمات المعايير الضيّقة والتشتيتية .
    لقد انساقت الدولة (( وحتى نهايات العهد الملكي )) في بلدنا تدريجياً وراء ضرورات التكامل العسكري والإقتصادي والتعليمي ، فتضخمت سلطاتها تدريجياً لتهيمن على مساحات أوسع في الحياة العامة التي احتكرت تمثيلها شيئاً فشيئاً ، ولم نلحظ محاولات جادة لتنمية وتقوية البُنية الإجتماعية من خلال مدّها بمقومات الأصالة والسيادة والحرية لتنشأ بالتبع الحركية المطلوبة لتشييد المجتمع المدني في تنوعاته المختلفة .
    وكحال أغلب دول منطقتنا ، دخل الجيش العراقي الحياة السياسية من أوسع أبوابها وبالذات بعد نجاحه في القضاء على العهد الملكي ، لتتعسكر الحياة العراقية برمتها ، ولتنشأ رويداً رويداً الدولة العسكرية – البوليسية – المخابراتية المهيمنة على الدولة والسلطة والمجتمع والإقتصاد والتعليم .. إنَّ دخول الجيش على خط الحياة العامة يشي بعجز المجتمع عن حماية ذاته الإجتماعية والسياسية ، ويفيد بفشلة النخبوي في تأمين قواعد بُنيوية تمنع من تدهور الحياة إلى منـزلقاتها الكارثية .
    ولعل تجربة حزب البعث خير دليلٍ على ذلك ،.. وهنا فإنَّ الحزبية أضافت بُعداً آخر للسلطة العسكرية – المخابراتية ، وهو بُعد الشمولية واحتكار التمثيل الوطني داخلياً وخارجياً ، فتكونت لدينا الدولة الحزبية العسكرية المخابراتية ذات البُعد والسياسة الشمولية التي لا تعترف بالآخر بل تنفيه وتقتلعه من الساحة فكراً وخطاً وتجربةً !! ثم ليتطور حال هذه الدولة إلى ما يختزل ويبتلع حتى الدولة الحزبية والعسكرية لتتحول إلى دولة الفرد والعائلة المحمية مخابراتياً ، وليكون الحزب ميليشيا تجوب الشوارع لإلتقاط المخالفين ، أو ليتحول إلى كتائب شبه عسكرية لتثبيت النظام في حروبه الداخلية والخارجية ، بينما تمت الهيمنة الكلية على الجيش وإلحاقه كجثة هامدة بالمؤسسات الإستخبارية قيادةً وقراراً !! وهكذا تم إنتاج الدولة الفرد والتي جسّدها نظام الطاغية صدام حسين منذ بواكير تجربته عام 1968م وليومنا هذا .
    لقد ابتدع هذا النظام - الفرد أبشع مثلث تدميري عرفه العراق مما أشلَّ كافة مقومات وعوامل النهوض المجتمعي سواء التقليدي أم المدني ، وكانت أضلاع هذا المثلث هي : السلطة الشمولية : التي أنتجت الإلغاء الكامل للحياة السياسية العراقية ، فلم يعد للتعددية والمشاركة في الحُكم من وجود ، ولم يعد للحقوق الإنسانية والدستورية والمدنية للمواطنين من معنى ، ولم يعد للقوانين والأنظمة والتشريعات حتى تلك التي تُصدرها السلطة المستبدة من شرعية ، فالدولة والسلطة والدستور والقانون هو الحاكم الفرد الذي تتلون الأنظمة بلون مزاجه وتُفصّل على أقيسة رغباته سلماً أو حربا !! فغدى القرار والخطة والبرنامج الوطني حكراً أُحادياً على الفرد - السلطة دونما منازع ، فنجم عن ذلك أبشع صور الإستبداد في إدارة تجارب الدولة السلطة والمجتمع ككل .
    أمّا ضلع الثاني والذي حكم وطبع الحياة العراقية وما زال ، فهو : الإرهاب المُنظّم ، والذي امتاز بالبرمجة والشمولية والإرتكاز كأحد أهم الثوابت لديمومة الحُكم ،.. ولتتحول الدولة من خلاله إلى دولة المخابرات والتقارير السرّية ، يمتطي صهوتها زوّار الليل من كل طالحٍ كفاءته الوحيدة نحر الأفكار والأبدان لجعل الإرهاب سيد الموقف في النفس قبل البيت والشارع والجامعة والمعمل !! فليس مستغرباً بناءاً على هذه السياسة أن يُشرّع قطع الآذان ووشم الجّباه وجذع الأنوف وبتر الأعضاء وهتك الأعراض ، لأدنى مخالفة يُبديها المواطن العراقي .. ناهيك عن إذابة أبدان الخصوم بالأحماض وإطعام الكلاب أجساد المعارضين ،.. فهذه وتلك ثوابت السياسة التوطيدية لنظام حكم الدولة الفرد التي امتدت لتأصيل الخوف والريبة والحذر بين أفراد العائلة الواحدة والعشيرة الواحدة والمدينة الواحدة والبلد الواحد ، وامتدت لتشمل إرهاب الفكر والعمل والأمل والأمن .
    أما الضلع الثالث من مثلّث حكم الدولة المستبدة ، فقد تمثّل : بالحروب المستديمة ، داخلياً وخارجياً ، كسياسة ثابتة هي الأُخرى لم تعرف تراجعاً أو هدنةً في عملية عسكرة شاملة للمجتمع والدولة في الأنظمة والخطط والبرامج والأخلاقيات ، فسياسة السلطة تقضي بزج المجتمع بأكمله في طاحونة حرب ودونما استثناء طيلة العقود الثلاثة الماضية !! في سلسلة بدأت ولم تُختم من الحروب العبثية التي أنتجت الهزائم والكوارث والإنتقاص من السيادة والوحدة والأمن وانتجت الموت والهجرة والتراجع في التعليم والصحة والتنمية وعموم مرافق وأنظمة ومستويات الحياة العراقية !! .. لقد حطّم هذا المثلث المُرعب أغلب بُنى وتكوينات ومؤسسات مجتمعنا التقليدي ، فهل يمكن الحديث بعدها عن مجتمعٍ مدني مع وجود هكذا تجربة ؟!!
    وهنا ننتـزع الأهم ، وهو : أنَّ من أهم مقومات قيام مجتمع مدني في بلادنا تتمثل بالرفض الكلي والقاطع لأية تجربة تسلّطية جديدة تقوم على احتكار الشرعية لتصادر الدولة وتبتلع السلطة وتُعطّل مرافق الحياة تحت أي إدعاء كان ، وعلى نُخبنا وحركاتنا العمل المكثّف لإنضاج الطروحات والتجارب الداعية لقيام حياة سياسية سليمة تقوم على إرادة الشعب واختياره ، ووفق منظومة حقوق وواجبات وطنية دستورية غير قابلة للتعطيل والإستثناء والتجاوز ، فأية حركية مجتمعية مدنية مُنتجة وفاعلة وحقيقية لا يمكنها أن تقوم دون اعتماد دولة وسلطة تُجذّر حقوق المواطنة وشعور الإنتماء إلى الأرض والوطن ، وهنا تبرز مهام الإنجاز التام للذات الوطنية في بُعدها الرسمي المُنتج للدولة والسلطة وعموم الأنظمة والمؤسسات الدستورية والوطنية التي تُقنن وتُشرّع وتحرس تجربة مجتمعية نوعية يمكن لها أن تتجذّر وتنمو كتجارب مدنية تؤسس لحركية زاخرة بالعطاء .


    (:

  6. #6
    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    الحلقة السادسة

    حسين درويش العادلي
    SWEDEN
    abuhabib1@hotmail.com

    المجتمع المدني والقوى السياسية والمجتمعية

    مع بواكير عهد الإستقلال الشكلي لبلدنا ، ومع تنامي الوعي السياسي وبروز قوى ونُخب اجتماعية جديدة ، أخذت بعض التكوينات الفكرية والسياسية العراقية بالتشكّل الميداني ، وباشرت في طرح ذاتها على المجتمع ،.. وهو ما يمكن اعتباره التكوين الأول في إنشاء تجارب المجتمع المدني في العراق الحديث . من هنا شهدنا قيام حركات سياسية ومؤسسات نقابية واتحادات طلابية وجمعيات دينية ..الخ ، وهي تعبير عن الحركية المجتمعية والسياسية التي شغلت ساحتنا العامة ضمن رؤى المدارس العراقية المتعددة لطبيعة البناء المضموني والتجاربي للعراق الحديث .
    ولسنا هنا بصدد تقييم فعلها ونتاجها لمجتمعها ووطنها سلباً أو إيجابا ، بقدر ما يعنينا هنا تلمّس تعاطيها في مجال العمل المجتمعي كخطوط كلية ضمن أنشطتها العامة ،.. إذ يؤخذ عليها :

    1- أنها لم تؤسس لتجارب مجتمعية تزاوج بين الأصالة والحداثة في منظوماتها الفكرية والبرامجية ، وهذا يشمل مدارس الأصالة والحداثة بشكلٍ وآخر ، فلم تلحظ خصوصيات الواقع العراقي في أنظمته القيمية والوطنية والتأريخية ، بل عمدت إلى الجمود على منظوماتها الذّاتية دون أن تُباشر بعملية هيكلة شاملة لمتبنياتها بما يتلائم والواقع الحديث للعراق ،.. وهذا مما أضرّ بخلق توازنية مجتمعية على مستوى وعي الذّات ووعي الواقع ووعي المستقبل ، وساعد في تعويم منظومات الإرتكاز القيمي والحداثي المطلوب توافره لأية تجربة مجتمعية ناجحة يمكن البناء عليها لتأسيسات جديدة .
    2- أنها غالباً ما اعتمدت الرؤى والطروحات العامة على حساب التجربة المجتمعية العراقية ، أي أنها شدّت الفكر والعاطفة والحركة صوب الخارج العراقي أكثر من تأكيدها على أولوية الداخل في إنجاز ذاته القيمية والوطنية ، وهي بذلك انطلقت من الأطراف إلى القلب ، أومن العام إلى الخاص ، وكان الأولى بها الإنطلاق من الخاص إلى العام ، لضمان وعي الذّات العراقية وإنجاح تجارب الوطن العراقي قبل الحديث عن ذات أُممية أو قومية أو إسلامية .
    3- أنها غالباً ما اعتمدت المعايير الضيّقة في خطواتها العملية بعيداً حتى عن المنظومات البُنيوية التي تتبنّاها نظرياً ، فمعيار العِرق والطائفة والقبيلة والحزب والعائلة والفرد ..كانت هي المؤسِسة للثقل التجريبي على أرض الواقع ، فاندفعت تتعاطى مع التجارب الإجتماعية والوطنية انطلاقاً من هذه النافذة ولم تشفع لها متبنياتها النظرية من الخروج عن أُطر المعايير الضيّقة عملياً .
    4- انها لم تنجح في الإتفاق على مُركّب بنيوي وطني جامع يمثل الممكن والمشترك للمدارس البُنيوية والسياسية العراقية ، وطرح هذا المركّب كقاعدة وطنية عامة تستندها كافة تجارب المجتمع العراقي على تنوعها ، بل مارست الوقفية عند رؤاها ومتبنياتها بعيداً عن صياغة جوهرية لمنظومة مشتركة يمكن من خلالها توحيد الجهد الوطني في المواجهة أو البناء ، مما أضر بوحدة وتناغم وإيجابية العمل العراقي برمته .
    5- أنها استغرقت جهدها ووجودها ورسالتها في البُعد السياسي كأولوية ، ولم تلحظ ضرورة العمل المجتمعي على صعيد إبداع تجارب مجتمعية خالصة في أُسسها وأبعادها ورسالتها ، وحتى بعض مشاريعها المجتمعية فإنها قد سُيّست أو حُوّلت إلى واجهات لمشاريع سياسية معينة وكان المطلوب احترام مهنيتها ورسالتها كقاعدة أساسية وإن تعاطت مع الشأن السياسي . لقد أضرَّ ذلك بمبدأ التنمية المجتمعية والتي تُعتبر الأساس في إبداع التجارب الوطنية برمتها ، حتى تلحظ ضعف النَفَس الجمعي في التخطيط والعمل والمواصلة في الثقافة المجتمعية العراقية .
    6- أنها لم تلحظ ضرورة تحويل تجاربها النُخبوية والسياسية وبعض التكوينات المجتمعية المتفرعة عنها إلى نماذج تأسيسية نموذجية مُصغّرة يمكنها الإرتقاء بخطاب ووعي وممارسة الساحة والأوساط العامة ، أي أنها افتقدت إعطاء الإنموذج والمثال الفعلي ولما يمكن أن تقوم عليه تجارب الغد من تنظيمات وفاعليات .. وهي النُخبة التي يتطلع إليها المجتمع كرائدة في إجراء التحوّلات المجتمعية والسياسية والحضارية لبلدها .
    وعليه نرى : ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين فاعلياتنا المدرسية والخطّية وبين عموم مجتمعنا العراقي ، والتي نرى أهمية قيامها على مباديء :
    1- الإتفاق على مُركّب بنيوي جامع ومشترك (( وهو لدينا يرتكز على الأصالة والحداثة والتنمية )) ينبثق عنه مشروع وطني شامل .
    2- خصوصية التجربة العراقية التي تلحظ واقع وميزات وخصائص مجتمعنا في جوانبه كافة .
    3- اعتماد المعايير الوطنية العامة بعيداً عن الأُطر الضيّقة ، وتركيز العمل وتخصيصه بالعراق فقط لضمان قيام تجربة وطنية حقيقية .
    4- العناية بالرؤى والتجارب المجتمعية الصّرفة كبُنى تحتية صُلبة تستندها التجارب الأُخرى ، لضمان خلق ثقافة وقيام نماذج عملية تُساعد الواقع المجتمعي على خلق حركية باتجاه تفعيل أنشطته المدنية .


    :=

  7. #7
    الأُمّة العراقية والمجتمع المدني

    الحلقة السابعة والأخيرة

    حسين درويش العادلي
    SWEDEN
    abuhabib1@hotmail.com


    مجتمعنا في مواجهة ذاته

    إنَّ أي نقد أو إشارة إلى واقعنا المجتمعي السلبي لا نود من خلاله جلد ذاتنا الإجتماعية والوطنية بسوط اللّوم ، أو أن نمارس النقد انطلاقاً من حسرة المنهرم لنـزيد من جُرح كرامتنا وعظيم مُصابنا بأنفُسنا وأهلنا ووطننا ،.. أبداً ، فمجتمعنا وعراقنا هو شأننا به ومن خلاله نترسم آيات العزّة ومرتسمات السؤدد ،.. ولكن حجم وثقل وشمولية كارثة الكوارث الصّدامية تُجبرنا على تلمس طريق النجاة من مستنقع التيه واللا متوقع الآتي ، وذلك من خلال عرض ذاتنا على مرآة النقد لترى مكامن خللها فتُبصر سُبُل الرفعة .
    نقول : أنَّ أية تجربة مجتمعية مدنية قادمة لا يمكنها أن تستقيم مع استمرارية الركائز السلبية في شخصيتنا الإجتماعية ، فالشخصية إنما تُنتج وتُبدع من خلال بناءاتها التحتية التي تمثل الأُسس التي تعتمدها تجاربها الخارجية ، ولن يستقيم البناء أو تُدرك التحولات الجوهرية في مسيرتنا ما لم نُعيد قراءة ذاتنا بشيءٍ من الوعي والجرأة لإجتثاث نقاط الخور ومكامن الفشل الذاتية التي تعصف بالمنجزات المؤمّل تشييدها على أرض تجربتنا المجتمعية والوطنية .
    إنَّ القاريء لذاتنا المجتمعية الفعلية سيكتشف جملة من الصفات السلبية التي تتطلب تغييراً جذرياً بما يُناقضها من صفات الإيجاب لنضمن خلق حركية اجتماعية جوهرية ومتصاعدة ، ولعل أهمها : استسلام مجتمعنا لذاكرته التأريخية التي تستدعي كل نقاط الإختلاف والتشتت بفعل أزمات الأنا العِرقية والطائفية والثقافية دون أن يعمل على إدراك تنوعها بحكمة ويُعيد تمثّلها وتوظيفها ببصيرة على أساس النحن الوطنية ،.. إضطراب منظوماته البُنيوية دون أن يُبادر لحسم مُركّبها الجامع لشروط الأصالة والحداثة وفق تجربة وطنية تُشكّل ذاته المعاصرة ،.. ضعف ثقافته وقيوده الذاتية التي تمنع من اختراق هويته وذاته وأرضه وكيانه العراقي من قِبَل الأغراب ،.. تعصبه للأُطر الضيّقة وتساهله تجاه الإطار الوطني العام ،.. طغيان الروح الفردية وضعف الوعي والإلتزام الجماعي لديه ،.. شعوره الحاد بالإحباط واليأس وفقدان القدرة على المواصلة والأمل بالتغيير ،.. تشاؤمه الدائم وتوقع الأسوء في كل تجربة جديدة مما يقضي على جذوة الإندفاع عنده ،.. فقدانه للواقعية لحساب مثالية مفرطة أو حالمة .
    إننا نأمل من مجتمعنا أن يُعيد إنتاج مجتمعنا ، وبالذات في أُسسه الثقافية لضمان قيام حياة مدنية حقيقية وجادة ، وهنا فإننا نحاول تسليط الضوء كإشاراتٍ عامة تحاول إثارة الوعي الشعبي والنخبوي تجاه خطورة بعض أنماط الحالة الثقافية لمجتمعنا المعاصر .
    أي إننا نأمل من خلال مرآة النقد هذه : سحب نقطة الضوء بُغية شروع الكل العراقي لتأسيس ثقافة عملية جديدة تمتلك القيمة والمعيار والسلوك الأمثل ، بدل ثقافة مجتمعية قائمة في كثير من مظاهرها على حالات عشوائية لا يمكنها الصمود تجاه تحديات البناء والبقاء ، والشروع في منحى تأسيسي يأخذ على عاتقه إنتاج ثقافة نوعية يتعاضد من خلالها التنظير والبرنامج لإبداع ما هو ممكن من حالات بُنيوية وثقافية شاملة تمثل البنى التحتية لتجاربنا المجتمعية والوطنية .
    وغني عن التأكيد ؛ أنَّ أي مشروع تقدم وبرنامج نهضة إنما يعتمد الإنسان والمجتمع ويستهدفهما كوسيلةٍ وغاية لإنتاج الإرتقاء ، فكما أنهما هما الهدف من برامج النهضة كذلك هما الوسيلة لتمكينها وبلوغها ، فإذا ما أخفقنا في إعدادهما وفق أنساق مجتمعية ثقافية إيجابية مسؤولة وهادفة ، فلا أمل عندها في نيل أية غاية وبلوغ أي تقدم وإحراز أية نتيجة في معركة البناء والتقدم .
    ومهما قيل ويُقال عن شروط الحضارة ، سواء تمثلت بالنهوض الشامل والسير المتناسق في عوامل التقدم ، أو كانت باعتماد الثورة العلمية والإعداد التكنولوجي اللازم ، أو نادت بتغيير البُنى السياسية من خلال اعتماد آليات العمل الديمقراطي والتعددي والإنفتاح والحياة المدنية ،.. وما إلى ذلك من ألوان الرؤى لإجراء التغيير وإدراك النهضة في الواقع العراقي القادم ،.. فإنها لا تعدو أن تكون سوى بناءات فوقية لا حظ لها في الحياة والصمود إن لم تعتمد حالة مجتمعية مُبدعة ومسؤولة وخلاّقة تستبدل كافة عوامل التخلف والخور بعوامل الوعي والإلتزام والمبادرة في عمق وجداننا الوطني .
    إنَّ ما نطمح إليه من خلال هذه الإشارات ، هو إيجاد الجو والمناخ العام لإشاعة هذه الرؤى التأسيسية لصنع البديل المجتمعي الحضاري المطلوب ، وذلك لن يتم إلاّ بثورة تغييرية يتعاضد فيها الكُل العراقي لتمكين : ثقافة الإلتزام لا ثقافة التحلل ، ثقافة الأصالة لا ثقافة الهجانة ، ثقافة العقل لا ثقافة العاطفة ، ثقافة الوعي لا ثقافة التخلف ، ثقافة الحقيقة لا ثقافة الخيال ، ثقافة العلم لا ثقافة الجهل ، ثقافة الواقع لا ثقافة المثال ، ثقافة العمل لا ثقافة الإدعاء ، ثقافة النظام لا ثقافة العشواء ، ثقافة الحوار لا ثقافة الإنغلاق ، ثقافة الريادة لا ثقافة التبعية ، ثقافة المبادرة لا ثقافة الإنتظار ، ثقافة الرحمة لا ثقافة العنف ، ثقافة الثقة لا ثقافة النكوص ، ثقافة الحسم لا ثقافة التردد ، ثقافة الصمود لا ثقافة الإندحار .. الخ .

    وكلنا أمل أن تنبعث أُمتنا العراقية لإعادة صياغة ذاتها ومنظوماتها وثقافتها بقوةٍ وتصميمٍ ومثابرة ،.. ونرى أنها ستنطلق من عمق آلامها لإعادة إنتاج ذاتها الجديدة بعون الله وبإرادتها لتصلب تأريخ الكوارث ، وتنفي ذاكرة التراجع ، وستحيا بعيداً عن أغوار الفناء وكهوف النسيان ،.. فعِراقنا لم ولن يمُت ، ومن ركام الكوارث سينبعث ، ولن يرضى بغير مطارح الشموس مكانةً ومجدا .. ومركبنا لن يغرق ، ولن يفقد بوصلة الإتجاه رغم عناد اللُّجج .. لن ينخرهُ سوس اليأس وصديد لُعاب الأقزام ،.. وسيمزق كفن الظُلمة .. وسينسج من بشائر فجر الخلاص جدائل الإنقاذ .

    ** ** **

    (:

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني