[line]-[/line]
بقلم:الشيخ حيدر محمد حـــب الله
فقه الحج..الضرورات والحاجـات
تعدّ فريضة الحج من الفرائض الكبرى في الإسلام، وهي أحد الأركان الخمسة التي بني عليها هذا الدين، فقد جاء في الرواية التي تعدّدت طرقها عند السنة والشيعة: «بني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية...» .
أو «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» .
ومهما اختلفت صيغ هذا الحديث عند السنّة والشيعة، وهو الحديث المعروف بحديث دعائم الإسلام، فإن الحج إلى بيت الله الحرام، يمثل القاسم المشترك بين صيغه إلى جانب بعض الفرائض الأُخرى، وهذا ما يعطي للحج أهمية إضافية، إذ يجعله بمثابة العمود الذي يقوم عليه البناء، كما يقوم على الشهادتين وغيرهما.
ومن منطلق الأهمية التي يحظى بها الحج في النصوص الإسلامية والتراث الإسلامي، يبدو من الضروري أن يكون للفقه الإسلامي دوره في الاهتمام بهذه الفريضة العظيمة، وأن تكون للفقه مساهمة تعطي هذه الفريضة مكانتها الطبيعية التي يخبرنا عنها حديث الدعائم، كما نفهمها قبل هذا الحديث من ذيل الآية الكريمة التي تشرّع هذه الفريضة، حيث قال تعالى: ﴿ ... وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾ .
وكأنني أريد هنا أن أضع ميزاناً لقيمة فقه الحج الذي يمارسه الفقيه المسلم؛ فإذا قدّم الفقه حجاً مفرّغاً من كلّ قيمة يساعد على تهاوي الإسلام والمسلمين، ويعزّز من تخلّف الأمة الإسلامية؛ فلن يكون هذا الحج هو الحج الإبراهيمي المحمدي؛ لأن هذه الحالة التي يعاني منها لن تضعه في مصاف العبادات التي يقوم عليها الإسلام الذي قدّم الإنسان وحرّره، وصنع منه حضارةً كبرى في تاريخ الإنسانية؛ وهذا ميزان ومؤشر لصواب حركة الفقه الإسلامي في نتائجه.
ونحاول هنا أن نتحدّث عن حاجات الدراسات الحجية المعاصرة؛ ونقدّم بعض الملاحظات العابرة، رغبةً في المساهمة بتفعيل دور هذه الدراسات لخدمة الأهداف الكبرى للشريعة الإسلامية.
الحج وفقه النوازل والمستحدثات
يواجه الفقه الإسلامي على الدوام طوارئ ومستجدات تحصل في الواقع؛ وتلحّ عليه أن يجيب عنها، وتسمّى هذه المستجدات في الفقه الشيعي بمستحدثات المسائل، فيما يغلب في الفقه السنّي تسميتها بفقه النوازل، وفي العصر الحديث ونتيجة التحوّلات الكبرى في العالم على مختلف الصعد والمجالات، ظهرت مستجدات كثيرة، ولكثرتها تكاد تكون أرهقت الفقه الإسلامي وأتعبته، ففي المجال الطبّي تظهر كلّ سنة وقائع جديدة تطالب الفقهاء بالجواب عنها، وفي المجال الاقتصادي لا تكاد تقف كرة الثلج المتدحرجة لتكبر يوماً بعد يوم في حجمها وإيقاعها وهكذا...
ولم يكن الحج والعمرة بمعزل عن هذا الواقع الجديد، فالكثرة السكانية في العالم فرضت واقعاً جديداً عن الحج، وحاجات حماية الحجيج استدعت هي الأخرى جملة من الأحداث التي لم تكن من قبل وهكذا... من هنا دخل فقه الحج إطار المستحدثات وظهرت فيه مسائل من نوع الجمرات، وحدود الذبح، والإحرام من الطائرة، وغير ذلك الكثير.
ولا يعني ذلك أن يقوم الفقيه بالجواب عن الاستفتاء في هذا المستجدّ الحادث أو ذاك فحسب، بل الأهم من ذلك أن تقدّم دراسات حقيقية تكشف عن اهتمام جاد بهذه الموضوعات، وإذا قلت: «اهتمام جاد» فقد أكون تسامحت في التعبير، حيث كان المقصود ما هو أزيد من ذلك، وهو منح هذا النوع من الموضوعات الأولويّةَ الأولى في الأبحاث الفقهية المتخصّصة، فإذا استجدّ أن وسّع المسعى كان من المطلوب التسارع لتوجيه دعوات إلى الفقهاء والفضلاء كي يلتقوا لتقديم دراسات تستعين بوثائق التاريخ والجغرافيا كي ينجم عن تضارب الآراء في هذه الجلسات وعن عصف الأفكار شيء مركّز مدروس، ولا يكتفى بأن يقوم فقيه واحد أو عالم واحد هنا أو هناك بكتابة دراسة في كتاب أو مجلّة، فإذا كان هذا العالم جزاه الله خيراً قد قام بواجبه فإن المطلوب أن تشكّل لجان تتابع مستجدات المسائل في فقه الحج، كي تعرضها بشكل دوري متواصل على الفقهاء والمختصّين ليساهموا في بحثها بشكل جماعي؛ لأن هذا الشكل يساعد على تنضيج الأفكار ورقيّها.
ما هي أهمية أن أجلس عشر أو عشرين سنة أدرّس فقه الحج وفي داخل هذا الدرس التكرار للماضي والبحث في قضايا لا تأخذ أولويةً اليوم؟! فلماذا لا تكون دروسنا قائمة على مستجدات المسائل، ليكون هناك الجواب العلمي المدروس لكل نازلةٍ في أقرب وقت ممكن؟ فلو سرنا اليوم في الكثير من الأبحاث الفقهية عند المذاهب الإسلامية سنجد حجماً لا يستهان به من الدراسات المكرورة، فيما دراسات هامة ما تزال غائبة أو حجم المساهمة فيها أقلّ.
لو أخذنا مسألة ذبائح منى، وهي مسألة هامة جداً اليوم، وصرفنا النظر عن الفتاوى، فكم دراسة جادة قدّمت في هذا المجال؟ فربما تجد ما كتب في حج الصبي أضعاف ما كتب في هذا الموضوع!
من هنا الحاجة إلى تشكيل حلقات دائمة تعرض عليها المستجدات في فقه الحج مستعينة بالخبراء، وتكون وظيفتها ـ وفي أقرب فرصة ممكنة ـ إصدار مجموعة دراسات في هذا الأمر المستجدّ، وخلق جوّ فكري وعلمي يضاعف من الاهتمام بهذه الموضوعات؛ علّنا بهذه الطريقة نستطيع أن نعطي للفقه بحقّ وجدارة صفة المواكبة للعصر في بعض أشكالها.
الحج بين النظرية التجريدية والمعايشة الميدانية
كثيراً ما يجلس الباحث حول الحج ـ سواء على صعيد فقه الحج أم غيره ـ يجلس في بيته ويبدأ بدراسة تطال هذا الموضوع أو ذاك فيما يخصّ مكة أو المدينة أو الحج أو العمرة أو الزيارة أو... ويبدأ يغوص في النصوص أو الوثائق التي بين يديه، دون أن يعايش المناخ الميداني لهذه النصوص، وهذا ما قد يورّطه في أحكام تجريدية ومواقف غير واقعية ناتجة عن غيابه عن مسرح الأحداث، ولو أنّه اقترب قليلاً من أرض الواقع لربما تبلورت لديه تصوّرات مختلفة أو تراءت له احتمالات في تفسير النصوص ما كان ليلتفت إليها لولا ذلك.
وفي هذا السياق، يتناقل أن بعض الفقهاء الكبار غيّر رأيه في بعض الموضوعات الفقهية والنتائج الاجتهادية التي كان توصّل إليها بعدما سافر إلى الحج بنفسه، لأنه رأى على أرض الواقع بعض المعطيات التي تركت أثرها في تعديل فهمه للنص أو لظرف صدوره.
والسبب في هذه الظاهرة في كثير من الأحيان أن الباحث أو الفقيه يحاول تصوّر النصوص كما لها من تطبيق في عصره بحسب طبيعة المحيط الذي يعيشه؛ فيعمّم هذه الصورة إلى سائر الأماكن والأزمنة بظنّ التشابه أو عدم وجود عنصر إضافي قد يغيّر الصورة، أما عندما يعايش النص في المناخ نفسه الذي جاءت فيه النصوص أو يحاول الاقتراب منه قدر الإمكان فإن رؤيته للحدث أو الصورة ستكون أقرب للواقع.
ولكي أقترب من طرح الموضوعات، آخذ الفكرة التي كان يتحدّث عنها سيد قطب «1967م» لاسيما عند تفسيره لآية التفقه في الدين: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ .
إن سيد قطب يرى أن الجهاد ساحة تفقّه حقيقي؛ إذ في الجهاد يرى الإنسان العناية الإلهية، أي بهذا السبيل يفهم الدين ويرى التجليات الإلهية فيه، لهذا لا يقدر على تفسير القرآن عند سيد قطب والعلامة فضل الله إلا الحركيون ، أي أولئك الذين عايشوا الواقع وخاضوا التجارب واقتربوا من طبيعة الحياة بألوانها وتمظهراتها ليفهموا المناخ الذي جاء هذا النص أو ذاك ليحلّ مشكلةً فيه أو يرفع التباساً ما حوله.
إنّ هذه الفكرة صحيحة إلى قدر كبير؛ فالإنسان الذي لا يفهم معنى السياسة ولا يعرف طبيعة الملك والإدارة لا يقدر على فهم النصوص السياسية في الكتاب والسنّة كما يفهمها الفقيه والمفسّر الذي يعايش واقع الحياة السياسية وإدارة البلاد أو يقترب من ذلك إلى حدّ بعيد، أما الفقيه الذي يريد أن يضع حلولاً للاقتصاد ويدير بالفقه الحياة الاقتصادية للناس، ويظنّ أنّه بجلوسه في البيت وتشقيقه الشقوق الافتراضية للمسائل والإجابة عن كلّ افتراض بشكل تجريدي... يستطيع أن يقدّم أجوبة الفقه الإسلامي لأعقد القضايا، فهو غير مصيب في تصوّراته، والتجربة كفيلة بتصويب أخطائه.
إذن، فالذي يبدو لنا أن فقه الحج وفقيه الحج يجب أن يقتربا من الواقع ويدرسا الحج والواقع الجغرافي والمناخي والتاريخي والعرفي و... للمنطقة هناك؛ لأن ذلك يساعد على اقتراب الفقه من أرض الواقع، ولتتسم أجوبته بالواقعية لا تتصادم مع الواقع وحقائقه.
حج فقهي أم حج روحي؟!
قد يوحي هذا العنوان بأن الفقه يناقض الروح والروحانية، أو يختلف عنهما، فهناك حج فقهي وهناك حج روحي، ولكن الذي نريده هنا أن نثبت أن الحج الفقهي يجب أن يكون روحياً تربوياً تطهيرياً، وأن الحج الروحي والتطهيري الذي يعيد الإنسان إلى وطنه كيوم ولدته أمه... هذا الحج لا يتجاوز الضوابط الفقهية والشرعية ولا يستهين بها، ولا يتخطاها.
إننا نجد على أرض الواقع ظاهرتين نعتقد أنه يجب تصحيحهما:
الظاهرة الأولى: أشخاص يذهبون للحج والعمرة ويحاولون الاقتراب من المدرسة الروحية لهذه الفريضة العظيمة، فيملؤون أوقاتهم بالدعاء والصلاة والتوبة والتطهّر، صادقين مخلصين يهدفون بفعلهم هذا أن يرتقوا في مدارج الروحانية أو أن يشطبوا على تاريخ حياتهم السابق المليء بالذنوب والمعاصي، وكثير من عامّة الناس يعيشون قدراً من هذا الجو الروحي في رحلة الحج، ويحاولون أن يعيشوا معاني الحج الروحانية، لكن المشكلة أنهم لا يراعون ـ لسبب أو لآخر ـ الأحكام الشرعية للحج، فبعضهم يعيش حالة جهل حقيقية بفقه الحج؛ ولهذا ربما يقع هؤلاء في أحيان كثيرة في أُمور توجب بطلان الحج نفسه، أو يترتب عليها كفارات شرعية يجب أداؤها، من هنا كان من الضروري ترشيد عمل الناس من خلال نشر ثقافة التفقه في أحكام الحج، كي يضمن هؤلاء أن يكون الحج صحيحاً مجزءاً وفي الوقت عينه مقبولاً عند الله تعالى.
الظاهرة الثانية: وفي مقابل الحالة الأولى المتقدمة نجد الكثير من الناس سيما من المتشرّعة والمؤمنين الملتزمين بخط الإسلام يغرقون في متابعة الجانب الفقهي لقضايا الحج حتى تراه يغيب عن روح الحج وعن رسالته المعنوية الكبرى؛ ففي الطواف تجده يعيش عقدة أخذ الكعبة على يساره، ويركّز كلّ همّه وطاقته على أن لا ينحرف كتفه الأيسر عن الكعبة الشريفة، ولا يخرج من هذا الهم والغم إلا في الشوط السابع؛ حيث يكون قد أتم أعمال الطواف، ليبتلي بهمّ آخر حيث يصارع في عدم الالتفات المخل عن الصفا أو المروة أثناء السعي، وهكذا في سائر المناسك.
إن هذا الاستغراق في البعد الفقهي للحج على حساب البُعد الروحي، يشبه ما يتحدّث عنه علماء الأخلاق والعرفان عن الاستغراق في مسائل تجويد القرآن والاهتمام بمخارج الحروف في الصلاة على حساب حضور القلب، وكأن عمود الدين يكمن فقط في التلفظ الصحيح بالكلمات وفي جعل تركيز الإنسان كلّه في كيفية إخراج الألفاظ من مخارجها وما شاكل ذلك، وقد أشار الإمام الخميني «1410ﻫ» إلى هذا الأمر في إفاداته الأخلاقية والعرفانية .
وإذا أردنا أن نتعمّق أكثر في هذه النقطة، نحاول أن ندخل إلى الهيكلية التي جاءت في الفقه الإسلامي لأداء فريضة الحج؛ ففي الفقه الإسلامي بمذاهبه اليوم، وعلى غالب الآراء، يمكن للإنسان أن يذهب إلى الحج دون أن يتزوّد روحياً ومعنوياً منه؛ فلا يجب حضور القلب في أيّ فعلٍ من أفعال الحج، ويمكن للحاج أن ينام طيلة الوقت في عرفة والمزدلفة ومنى؛ بل بإمكانه أن يقضي وقته بالمسامرات والضحك واللهو واللعب والتسوّق دون أن يبطل حجه أو حتى أن ينخدش... إن خلوّ العديد من الكتب الفقهية من البُعد الروحي للحج ومن ثم عدم تحرّك الرسائل العملية لتنشيط هذا البعد الهام، ترك ويترك الكثير من الأثر على أن يصبح المتشرّعة والمتديّنون مستغرقين في قضايا من نوع وضع الكعبة على اليسار دائماً وأمثال ذلك.
بينما لو نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا التركيز على ذكر الله تعالى في الحج كذكرنا آباءنا أو أشدّ ذكراً، وقد استعرضنا في هذا الكتاب ـ والحمد لله ـ هذا الموضوع في دراسة فقهية مستقلة متواضعة؛ لتأكيد أن الذكر الكثير لله تعالى في الحج فريضة وواجب، وعلى الإنسان أن يعيش الذكر الإلهي في هذا السفر العظيم إلى الله تعالى... دون أن يكلّف الناس ما لا يطيقون أو أن نطلب منهم أن يصبحوا عرفاء وفلاسفة في عيشهم للحج ودركهم لرسالته ومعانيه السامية.
من هنا، تكمن الضرورة في إعادة ترتيب البحث الفقهي والرسالة العملية الفقهية بما يخدم مقاصد الحج ورسالته المعنوية الكبرى، وأن لا نضع هذه المسؤولية فقط على عاتق الوعّاظ وعلماء الأخلاق الذين لم يقصّروا في محاولاتهم العديدة لاستخراج المدلولات المعنوية للحج، بل هذه وظيفة الجميع لأنها تمثل المقصد الأساس لفريضة الحج إلى جانب مقاصده الأخرى الهامة على الصعد السياسية والاجتماعية و...
فقه الحج القرآني
من أهم الملفات البحثية في فقه الحج، فتح ملفّ الفقه القرآني للحج، ونقصد بذلك أن تجمع الآيات القرآنية حول الحج والعمرة وأمثال ذلك لتدرس بشكل مستقل، وتتحدّد الأطر التي وضعها القرآن الكريم في هذا المجال، وفائدة هذا النوع من الدراسات أن يقدّم لنا تصوّراً علوياً للخطوط التي طرحها القرآن الكريم في مسألة الحج، حتى إذا حملها الفقيه معه إلى البحث الفقهي التفصيلي استطاع أن يعتبرها بمثابة المبادئ القرآنية الحاكمة على مجمل النصوص والقواعد والتفصيلات الجزئية لقضايا الحج.
ولا نطرح هذا الموضوع في فقه الحج وحده، وإنما نأخذ الحج أحد تطبيقات هذا الموضوع؛ وذلك أنه من المؤسف غياب الفقه القرآني، كما يشير إليه العلامة الطباطبائي في الميزان، حين يستنكر غياب الدرس القرآني عموماً فيقول: «وذلك أنّك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى أنه يمكن لمتعلّم أن يتعلمها جميعاً؛ الصرف والنحو، والبيان، واللغة، والحديث، والرجال، والدراية، والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلّع بها ثم يجتهد فيها وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمسّ مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان، فاعتبر إن كنت من أهله» .
إذن، فالمطلوب تنشيط فعل الاستنتاج الفقهي من القرآن نفسه حتى لو كانت بعض النتائج التي نحصل عليها من البحث القرآني موجودة في الأدلة الأخرى، فالمفترض إذا اشتركت الأدلّة في إيصالنا إلى نتيجة أن نأخذ بأقواها وأوّلها وهو كتاب الله الذي يتمتّع بالقطعية السندية على أقلّ تقدير.
ولأخذ شاهدٍ ومثال، ننظر في بحث المحقق النجفي «1266ﻫ» لمسألة الإيلاء، فإنّه يصرّح في مطلع الحديث بأن الأصل في الإيلاء هو الآية القرآنية المعروفة الواردة في سورة البقرة؛ ثم يقول: «بل منها يستفاد الوجه في جملة من أحكامه الآتية» ، إذاً فبعض أحكام الإيلاء يمكن أخذها من هذه الآية الكريمة التي هي الأصل في هذا الموضوع الفقهي، لكن لما نواصل مطالعتنا لبحث الإيلاء في كتاب «جواهر الكلام» لا نجد حضوراً لهذه الآية في عمليات الاستدلال، بل الحاضر هو سائر الأدلّة كالروايات وغيرها، فما دامت الآية قادرة على أن تعطينا أجوبة عن بعض أحكام الإيلاء فلماذا غابت في البحث الفقهي حول هذه الأحكام؟
هذا هو الواقع الذي نحاول هنا الإشارة إليه، وهو الذي يستدعي إعادة إحضار الفقه القرآني للحج، ليشكّل الأساس في دراسة موضوع الحج في الفقه الإسلامي بأدلته المتنوّعة.
إننا بحاجةٍ إلى تكوين ثقافة قرآنية حجية مهيمنة، تحرّك رؤية الفقيه لأحكام الحج وتشكل المفاصل الأساسية التي يتحرك عبرها ويتنقل، ولا نقصد تفسيراً تجزيئيّاً بجمع الآيات القرآنية فقط وإنما بحث موضوعي متكامل يكوّن الصورة القرآنية لهذه الفريضة العظيمة .
فتاوى الحج والحاجات العملية
وفي سياق الحديث عن فقه الحج نركّز على نقطة جوهرية، وهي مسألة فتاوى الحج؛ فتعدّد المرجعيات الدينية وحصول حالة تحوّل في الرأي عند بعض الفقهاء ـ وكلاهما أمر غير معيب بل هو حالة صحيّة في الجملة ـ يؤدي إلى تذبذب الناس أحياناً وضياعهم في أمر الفتاوى؛ فلو أردت أن تطبع كتاباً جامعاً لفتاوى أبرز المراجع المعاصرين لوجب عليك أن تعيد طبعه كلّ عام؛ لأن قسماً من الفتاوى سيتغيّر ويتبدّل، من هنا من الضروري وضع حلول عملية لتسهيل هذا الأمر ميدانياً، ولا نقصد تغيير الفقه أو آراء المجتهدين دون استناد إلى دليل والعياذ بالله، لكن فلتؤخذ هذه المشاكل الميدانية بعين الاعتبار.
ومما يتصل بهذا الشأن ظاهرة الاحتياط الوجوبي في فقه الحج، فالحج ليس كالصلاة يتمكّن الإنسان من إقامتها مجدّداً دون عناء كبير، وإنما هو تكلفة مالية وجهود بدنية واستعداد نفسي وتنظيم للأوقات و... لهذا من العسير أن نكثر من الاحتياطات الوجوبية في بحث كفارات الإحرام، أو في إعادة الحج أو ما شابه ذلك، لذلك يرجّح أن تسعى الجهات المعيّنة لبت أمر الفتوى ورفع حالة الاحتياط الوجوبي قدر الإمكان والتخفيف على الناس في حجها حيث يمكن، دون تجاوز قيد أنملة للخطوط الشرعية والأدلّة المعتبرة في هذا المجال.