(( آه ما أتعسني إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي منذ أجيال لم أر زهرة )) - محمد الماغوط
ملاحظة :كتبت هذا الموضوع قبل عدة سنوات تحت عنوان ( إلى الجحيم أيها الوطن ) ، ويبدو أنّ الوضع المزري الذي آل إليه حال المواطن العراقي حتى بعد مرور أكثر من ثمان سنوات على سقوط أبشع طاغية في تاريخنا المعاصر ، جعلني أفكر بإعادة نشره مرة ثانية .
أتذكر أنني قرأتُ قبل سنوات ، مقالاً لأحد الكتاب ، يقارن فيه بين أوطاننا العربية ، وأوطان الآخرين في أوربا وأمريكا وغيرها ، حيث ذكر بأنّ المواطن لدينا هو من يحمل الوطن ، ويتحمـّل أعباءه ومشاكله وأمراضه ، بصبرٍ ووفاء لامثيل له ، بينما نرى أنّ الوطـن في ( الغرب ) هو من يحمـل المواطن ، ويسهر على تلبية احتياجاته ، والتخفيف عن همومه ، ويحرص على التأكيد على حقوقه التي ينبغي أن يتمتع بها .
هذه الحقيقة المؤلمة ، صفعت بكفها الأبرية ، عين ، ووجدان كل ( عراقي ) هاجرَ ، أو لجأَ إلى ديار الغرب الأوربي والأمريكي ، بعد أن رأى الفرق بين نظرة الوطن لأبنائه في ( الغرب ) ، وهي نظرة أبوية رحيمة ومسؤولة ، تعبّر عن طبيعة ومتانة العلاقة بين الدولة ومواطنيها ، التي يكون البعد الإنساني والوطني والتربوي من أهم أركانها ، فضلاً عن تأكيد تلك العلاقة على أهمية الإنسان - المواطن ، باعتباره محوراً أساسياً للحياة والتطور والحضارة ، وهدفاً نهائياً لمسيرة البناء والإعمار والكفاح والنهوض العلمي والتكنولوجي والثقافي . . وبين نظرة الوطن لدينا ، التي تختلف كليّاً عن نظرة الوطن الآخر .
فأبناء الوطن عندنا ، وعلى النقيض من الأبناء المدللين هناك في أوربا وأمريكا ... يُعاملون بقسوة واحتقار ، ويُساقون بلا رحمة في دهاليز البؤس والقهر والخوف والذل والجوع والتجهيل والتضليل ، ويُقذَف بهم في أتون الحروب والسجون والمقابر والمنافي والإرهاب ، وتُنتزَع منهم الكرامة والإرادة والحقوق ، ويُسلب منهم العقل والحلم والحرية والأمل والفرح والحب والأمان !!.
وفوق كل ذلك ، يُطلب منهم أن يكونوا مواطنين صالحين ، وأوفياء مضـّحين يكتمون ألمهم وبؤسهم وذلّهم ومهانتهم ، ويعضـّون على جرحهم ، وينزفون ويحترقون ويموتون من أجل الوطن .. فكل شيء يهون من أجل عيون الوطن ، وكل الناس فداء للوطن !!.
في ( الوطن الغربي ) يجري الحديث دائماً عن الإنسان وعن حريته وعن الحقوق التي ينبغي أن يمنحها الوطن لأبنائه ، وهي حقوق كثيرة جداً ، منها :
حقهـم في التأمين الصحي ، والضمان الإجتماعي ، والعيش الكريم .. وحقهم في السكن في بيت نظيف ومؤثث يأويهم ويصون كرامتهم .. وحقهم في التعليم والدراسة ، والسفر ، والتدرّب على مهنة معينة ، والحصول على فرصة عمل .. وحقهم في تقديم النصيحة والمعونة لهم لتطوير أنفسـهم ، وبناء مستقبلهم .. وحقهم في رعاية أبنائهم قبل الولادة وبعدها .. وحقهم في الأمن والأمان ، وحمايتهم من المجرمين ، والعابثين .. وحقهم في عدم الإعتداء على حريتهم الشخصية ، أو إهانة مشاعرهم ، أو منعهم من الإحتجاج أو التظاهر ، أو التعبير عن قناعاتهم .. وغيرها الكثير من الحقوق والخدمات التي لايتردّد المواطن من المطالبة بها ، والتمتع بمميزاتها بعيداً عن دنَس المنـّة ، وعَفـَن المَكرُمة ، وسوط الجميل ... ولذلك ترى الناس هناك يحبون أوطانهم ، ويحرصون على سمعتها ، ويحترمون تقاليدها ، ويقدسون القانون والنظام والنظافة والطفولة والطبيعة والفنون والمكتبات والجامعات والمسارح والأسواق والعمل .. ألخ .
بينما في ( الوطن العراقي ) تنعكس الآية ، ويكون الحديث فقط عن قائمة الواجبات والتضحيات الطويلة التي يجب أن يؤديها المواطن وهو يلبس رداء الطاعة والإستقامة ، وكفن الشهادة ، وقناع السعادة ، نحو وطن لم يقدّم له غير الفقر والمرض والوساخة والفساد والحزن والرعب والموت والتشرّد !!.
الوطن لدينا يريد من أبنائه أن يؤدوا حقوق الوطن عليهم ، بينما هو يحرمهم من أبسط حقوقهم !.
ويريد منهم أن يموتوا من أجله ، بينما هو ينتهك حريتهم وكرامتهم ، ويُسمـِّم حياتهم !.
ويريد منهم أن يُنتجوا ويبدعوا ، بينما هو يسجن عقولهم ويمسخ نفوسهم !.
ويريد منهم أن يخدموه ويخلصوا له ، بينما هو يذلّهم ويقمعهم ويذبح أحلامهم !.
ويريد منهم أن يغنـّوا ويرقصوا على أنغام ِ أمجاده وبطولاته وإنجازاته ، بينما هو يدفعهم لـ ( الموت ، جوعاً ، أو قتلاً ، أو إغتراباً ) !.
لكن .. بالرغم من كل هذا الظلم والحرمان والتربان والوجع والعذاب .. ترى الناس في أوطاننا يذوبون عشقاً بالوطن ! ، وتخفق قلوبهم وتهتز مشاعرهم عندما يُذكر إسمـَه أو ترتفع رايته ، ويذرفون الدموعَ السخية عندما يستمعون إلى قصيدة أو أغنية أو قطعة موسيقية تلهج ُ بجماله أو حزنه أوصموده ، ويُزمجرون من الغيظ ، وتخرجُ عيونهم من محاجرها عندما يجرؤ أحد على النيل منه ، ويحلمون بالعودة إلى أحضانه ( الباردة ) ، وهم ينعمون بالدفء والأمان والحرية والعيش الرغيد ، في أحضان الغربة !.
أليست هذه معادلة مرّة ، وعسيرة على الفهم ، وثقيلة على القبول ؟
أم أنّ ضرب الحبيب لايؤلم ، مع أنّه وللحق يؤلم كثيراً ، على قول ( الحـلاّج ) المصلوب ، الذي أخذ يتأوّه ويبكي عندما ضربه صديقه ( الشبلي ) مضطراً بباقة ورد ، بعد أن أمره الشرطة برجم الحلاج . ولما سأله الشبلي وهو يرتعد من الحسرة والنشيج على صديقه : ياحلاج ياصديقي الناس يضربونك بالحجارة والقاذورات ، وأنت تبتسم ، غير مبالٍ بقطع يديك ورجليك ، وتعليقك على الصليب ، والدماء التي تسيل منك ، وأنا قذفت بالورد ناحيتك مرغماً ، فصرختَ وبكيتَ ! . فقال له الحلاج : إنّ ضرب الحبيب ليؤلـم ياشبلي ! .
وشتان بين ورد الشبلي ، وبين هذا الذي يفعله الوطن الحبيب بأبنائه المخلصين ، من قهر وقتلٍ وعذاب وتشريد !! .
فارس الطويـل