الذكرى الأولى لرحيل الفقيه المجدّد المرجع السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله عليه
في زمن أحوج َما نكونُ فيه إليه.. رحلَ هذا الكبيرُ زارعاً في قلوب المحبّين أحزاناً جمعت كلَّ أحزانِ التاريخ... رحلَ الأبُ القائدُ الفقيهُ المرجعُ المجدِّدُ المرشد والإنسان... رحلَ والصلاةُ بين شفتيْه وذِكْرُ الله على لسانه وهمومُ الأمة في قلبه.. وأخيراً توقّف نَبْضُ هذا القلب على خمسةٍ وسبعين من الأعوام... قَضَاها جهاداً واجتهاداً وتجديداً وانفتاحاً والتزاماً بقضايا الأمة ومواجهةً لكلّ قوى الاستكبار والطغيان.. رحل السيّدُ وهمُّه الكبير، هو الإسلامُ فكراً وحركةً ومنهجاً والتزاماً في جميع مجالات الحياة مردّداً على الدوام: هذه هي كلُّ أُمنياتي، وليس عندي أُمنياتٌ شخصيّةٌ أو ذاتيّة، ولكنَّ أمنيتي الوحيدة التي عشتُ لها وعملتُ لأجلها هي أن أكونَ خادماً لله ولرسوله (ص) ولأهل بيته (ع) وللإسلام والمسلمين... لقد كانت وصيّتُه الأساس حِفْظَ الإسلام وحِفْظَ الأمّة ووحدتَها، فآمن بأنّ الاستكبار لن تنكسر شوكتُه إلاّ بوحدة المسلمين وتكاتفهم. وبعقله النيّر وروحه المشرقة كان أباً ومَرجعاً ومرشداً وناصحاً لكلّ الحركات الإسلامية الواعية في العالم العربي والإسلامي التي استهْدت في حركتها خطَّه وفكرَه ومنهجَ عمله...
ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف الأشرف جنوب العاصمة العراقية بغداد في تشرين الثاني( نوفمبر) من عام 1935.
ترعرع السيد فضل الله في أحضان الحوزة العلمية الكبرى في النجف الأشرف، وبدأ دراسته للعلوم الدينية في سنّ مبكرة جداً.. ففي حوالي التاسعة من عمره، بدأ بالدراسة على والده، وتدرّج حتى انخرط في دروس الخارج في سنّ السادسة عشرة تقريباً، فحضر على كبار أساتذة الحوزة آنذاك، أمثال: المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي ، والمرجع الديني السيد محسن الحكيم ، والسيد محمود الشاهرودي، والشيخ حسين الحلي (قدّهم)، وحضر درس الأسفار عند الملاّ صدرا البادكوبي.
وقد كان سماحة السيد فضل الله من الطلاب البارزين في تحصيلهم العلمي في تلك المرحلة، ويُذكر في هذا المجال أن السيد الشهيد محمد باقر الصدر (ره) قد أخذ تقريرات بحث السيد فضل الله إلى السيد الخوئي لكي يُطلعه على مدى الفضل الذي كان يتمتع به سماحته، هذا الأمر الذي انعكس فيما بعد ثقة كبيرة من المرجع الخوئي تجاه السيد فضل الله، فكانت وكالته المطلقة له في الأمور التي تناط بالمجتهد العالم.
وقد أثر عن سماحة السيد فضل الله أنه كان من الأوائل البارزين في جلسات المذاكرة، حتى برز من بين أقرانه ممن حضروا معه، فتوجّهت إليه شرائح مختلفة من طلاب العلم في النجف آنذاك، فبدأ عطاءه العلمي أستاذاً للفقه والأصول.
بدأ التدريس العلمي كأستاذ للفقه والأصول في النجف، ومن ثم شرع في تدريس بحث الخارج منذ ما يقارب العشرين عاماً ويحضر دروسه طلاب من شتى أنحاء العالم الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص وتخرج على يديه كثير من علماء الشيعة البارزين.
في العام 1966 عاد إلى لبنان ليؤسس حوزة المعهد الشرعي الإسلامي وجمعيات خيرية ومبرات للأيتام، وكان دائم التواصل مع جمهوره والقنوات الاعلامية والندوات الفكرية والاجتماعية ، كما ان لديه عدة اصدارات شعرية.
وبعد سقوط نظام صدام, دأب على فتح الكثير من المراكز والمكاتب التي تعنى بكفالة الايتام في العراق, وهي منتشرة في العشرات من المدن العراقية.
في عام 1996 أنشأ مسجدا أطلق عليه اسم مسجد الإمامين الحسنين (ع) الذي يتسع لأكثر من ثلاثين ألف مصلٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت ومنه واصل فضل الله إلقاء خطبه وعظاته الدينية ومواقفه السياسية، وعرف بفتاواه المتنورة أمتلك العلامة المرجع السيد فضل الله الجرأة العلمية على طرح نظرياته الفقهية . ويعد من أكثر العلماء الشيعة انفتاحاً على التيارات الأخرى . وتتميز فتاواه وأفكاره بمناقشة المسلمات خصوصا في الفكر الشيعي .
اشتهر المرجع الشيعي الراحل بآرائه الاجتماعية والدينية المعتدلة ، حيث أصدر عدة فتاوى أو آراء دينية بارزة ، من بينها تلك التي تحظر على الشيعة عادة ضرب الرؤوس بآلات حادة أثناء مراسم عاشوراء إحياء لمقتل الإمام الحسين (ع) وكان أوّل من دعا إلى إثبات هلال شهر رمضان من خلال الأرصاد وعلم الفلك. كما أصدر عدة فتاوى ضد جرائم الشرف ، وكان يقول إن النساء اللواتي يتعرضن لسوء معاملة على أيدي أزواجهن يمكنهن ضرب أزواجهن دفاعا عن النفس . وأصدر السيد فضل الله فتوى شرعية بحرمة سبّ الصحابة وأمهات المؤمنين ، ويعتبر السيد فضل الله أول فقيه أفتى بطهارة كلّ إنسان ، وكذلك أعتبر أن كلّ صيد البحر حلال إلا ما كان مضرّاً وساماً ،وأعتبر كذلك أن الغروب يتحقق بمجرد سقوط قرص الشمس ولا يشترط الأنتظار إلى ذهاب الحمرة المشرقية وبذلك يجوز أن تصلي المغرب وأن تفطر عند أذان أهل السنة .
ويعتبر المرجع الراحل بأنه مرجعية دينية مستقلة عن المرجعيات الشيعية في مدينة قم الإيرانية والنجف العراقية.
لم يكن سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله يؤمن بوظيفة عالم الدين التقليدي الذي يجلس في بيته وينتظر الناس أن يأتوا إليه ليسألوه فيجيب، بل كان يحاول أن يستهدي حركة النبي (ص) والأئمة الهداة من أهل بيته(ع) في حركتهم المتنوعة في المجال الفقهي والأخلاقي والسياسي والثقافي والاجتماعي، حيث كانوا يجيبون على كل سؤال، وكانوا يناقشون الملاحدة والزنادقة، وكانوا يبدأون بالكلام من لا يسألهم، ويقتحمون كل ساحة ليقدّموا الإسلام إلى أصحابها، فكراً وعملاً وسلوكاً، ليرى الآخرون في الإسلام قاعدة للحياة كلها.
کان السيد يرافق الناس في صلواتهم وصيامهم وحجهم، ويتقرب إليهم كما يتقربون إليه، ويحشر نفسه معهم كما حشروا أنفسهم معه وانفتح سماحته على الإنسان كلّه في كلّ مشاكله وقضاياه
وأخذت الأبعاد الأخرى للدين، غير العقيدة والشريعة، مساحة كبرى في حركة سماحة السيد، فنظر إلى قضايا المسلمين بلحاظ البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني .
تميّز سماحة السيّد (رضوان الله تعالى عليه) بتجربة فقهية وأصولية متميّزة جعلت منه مجدّداً في هذا العالم، متابعاً لمسيرة السلف الصالح من الفقهاء، وممهّداً الطريق نحو اجتهاد أصيل في فهم الكتاب والسنّة، وقد ساعده على ذلك فهمه العميق للقرآن الكريم، انطلاقاً من تفسيره "من وحي القرآن"، وذوقه الرفيع في اللغة العربية وآدابها، والذي يُعتبر الركن الأساس في فهم النصّ.
كان السيِّد فضل الله عملاقاً في قلبه الّذي ينبض بالحبِّ، فلا يملك إلا أن يحبَّ كلّ النّاس، ولذا أحبّه كلّ من التقى به وحاوره وعرفه عن قرب، أو عرفه من خلال كتبه الغزيرة وفكره الثّرّ...
كان صاحب القلب الكبير والصّدر الرّحب الّذي يتّسع للنَّاس جميعاً، حتى لأولئك الذين أعمى الحقد والحسد قلوبهم، فكذَّبوا فيما كتبوا، وإن كانوا قد أعجبوا فيما أسرّوا وكتموا، وهذا سرّ حلم سماحة السيِّد عنهم، حيث عرف أنّهم يكيدون ويمكرون ويبهتون، ففضَّل - مع ألمه – أن يجعل خاتمة مكرهم إلى الله عزّ وجلّ، فكبر وصغروا، وعزَّ وذلّوا ...
كان عملاقاً في فكره الَّذي انطلق من البحث الحرِّ عن الحقيقة التي جعل الحوار أرضاً طيبةً لها، يعمل على استنباتها ورعايتها كي تثمر حباً ومعرفةً وانفتاحاً...
لم يجعل لفكره حدّاً وقيداً، بل أطلقه من عقال القداسة والخرافة والمألوف، فالفكر الحرّ يأبى أن يخضع لتقديس ما لا قداسة له، وأن يركن إلى أحاديث التَّخريف والتَّحريف التي ليست من الإسلام في شيء، وأن يسير خلف ركب فكر الآخرين ورأيهم من دون حجَّة أو دليل.
وأحسب أنَّ هذا الفكر المطلق الحرّ الواقعيّ، هو ميزة سماحة السيّد(رض)، وبه تنسّم المعالي الفكريّة والمواقع العلميّة الاجتهاديّة، لأنَّه رفض أن يكرِّر وينسخ ما لدى الآخرين من الفقهاء والعلماء الأقدمين والمعاصرين، بل آمن بالدّليل والحجّة واحترم بذلك عقله، ولطالما سمعناه يقول: "هم رجال ونحن رجال، وكم ترك الأوّل للآخر" .
إنَّه فضل الله الّذي منّ به الله على هذه الأمّة الإسلاميَّة، حيث فتح لها باباً على جرأة العلم وحريّة الكلمة، في زمنٍ بات يخشى الكثيرون من إطلاق الكلمة التي اقتنعوا بها.
لا زالت الأمَّة يوماً بعد يومٍ، تقدّر لسماحة السيّد(رض) حلمه وعلمه وفكره، وترى أنّها مدينة له في حريّة الفكر وانطلاقة الإبداع، ولن يخبو ذكر هذا العالم الكبير ما دام في الأمَّة عقول تفكّر وعيون تقرأ...
رحمك الله أيّها "السيِّد" المصلح، رحمك الله وأسكنك الفسيح من جنانه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا للسّير على خطاك، خطى الأنبياء والأئمّة والشّهداء، والسّلام عليك يوم وُلدت ويوم تُبعث حيّاً.