قال الكاتب: وأما عائشة فقد قال ابن رجب [كذا] البرسي: ( إن عائشة جمعت أربعين ديناراً من خيانة ) مشارق أنوار اليقين ص 86.
وأقول: هذا الخبر رواه الحافظ رجب البرسي مرسلاً، ورواه غيره بسند فيه: علي بن الحسين المقري الكوفي، ومحمد بن حليم التمار، والمخول بن إبراهيم، عن زيد بن كثير الجمحي، وهؤلاء كلهم مجاهيل، لا ذكر لهم في كتب الرجال.
قال المجلسي قدس سره : وهذا إن كان رواية فهي شاذة مخالفة لبعض الأصول ( 3 ).
* هامش *
( 3 ) بحار الأنوار 32/107.
480 .................................................. .................................. لله وللحقيقة الجزء الثاني
ومع الإغماض عن سند الرواية، فالخيانة فيها لا يراد بها ارتكاب الفاحشة كما أراد الكاتب أن يوهم قُرَّاءه به، لأن الخيانة خلاف الأمانة، وهي أخذ المال أو التصرُّف فيه بغير وجه حق.
ثم إن خيانة كل امرأة بحسبها، فقد تكون في المال وقد تكون في غيره.
قال ابن حجر العسقلاني في شرح حديث البخاري ( ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها ): فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك، فمعنى
خيانتها أنها قبلت ما زيَّن لها إبليس حتى زينتْه لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول، وليس المراد
بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحسَّنتْ ذلك لآدم عُدَّ ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها، وقريب من هذا حديث: (جحد آدم فجحدت ذريته) ( 1 ).
ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى عن امرأة نوح وامرأة لوط بأنهما خانتا زوجيهما في قوله تعالى ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ( 2 ).
ولا ريب في أنه لا يراد بالخيانة هنا ارتكاب الفاحشة، فإن نساء الأنبياء منزَّهات عن ذلك، حتى مَن كانت منهن من أصحاب النار.
قال القرطبي في تفسيره : وقوله ( فَخَانَتَاهُمَا ) يعني في الدِّين، لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أمَا ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذ فار التنور. فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله
* هامش *
( 1 ) فتح الباري 6/283. ( 2 ) سورة التحريم، الآية 10.
نظرة الشيعة إلى أهل السنة .................................................. ............................... 481
إنه لمجنون، ويزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور. فهذه خيانتها، وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف ( 1 ).
ومما قلناه يتضح أنه لا محذور في وقوع أمثال هذه الخيانات من أزواج الأنبياء والصلحاء.
هذا مع أن الخبر لم ينسب الخيانة لعائشة، وإنما وصف المال بأنه جُمع من خيانة، وأما الخائن فهو غير مذكور في الرواية.
فلعلّ خيانة المال ـ لو قلنا بصحّة الخبر ـ كانت صادرة من معاوية الذي كان يتصرَّف في أموال المسلمين كيفما شاء، فلعلّه وهب لعائشة بعض الأموال لتفرِّقها في أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، والله أعلم.
ولا ينقضي العجب من هذا الكاتب الذي يحاول إدانة الشيعة بهذا الخبر الضعيف الذي لم يفهم معناه، ويتعامى عن الأحاديث الكثيرة الصريحة المخزية التي رواها أهل السنة في مصادرهم
المعتمدة وصحَّحوها، والتي ينسبون فيها لعائشة أموراً قبيحة، كتهمتها بالزنا التي ذكروا كل تفاصيلها في الحديث المعروف بحديث الإفك ( 2 )، وكذا روايتهم أن النبي (ص) كان يباشرها
وهي حائض ( 3 )، وأنه كان يقبِّلها ويمص لسانها وهو صائم ( 4 )، وأنه كان يغتسل معها في إناء واحد ( 5 )، وأنها كانت تحك المني
* هامش *
( 1 ) الجامع لأحكام القرآن 9/47.
( 2 ) صحيح البخاري 3/1490. سنن الترمذي 5/332. مسند أحمد 6/59.
( 3 ) تقدم تخريجه في الجزء الأول، صفحة 278-279 . اضغط هنا
( 4 ) سبق تخريجه في الجزء الأول، صفحة 174-175 . اضغط هنا
( 5 ) صحيح البخاري 1/102، 104، 106، 114، 120، 2/573، 4/1886. صحيح مسلم 1/255-257.
صحيح ابن خزيمة 1/118، 119، 124. صحيح ابن حبان 3/395، 467، 468، 476، 4/74، 75.
سنن الترمذي 1/91، 4/233. سنن أبي داود 1/20، 62. سنن النسائي 1/138، 139، 140-142، 220، 221، 222.
سنن ابن ماجة 1/133-134، 198. مسند الشافعي، ص 9.
482 .................................................. .................................. لله وللحقيقة الجزء الثاني
من ثوبه ( 1 )، وأنه كان يجامعها من غير إنزال أحياناً فيغتسل ( 2 ) ، وأنها كانت تكشف له عن فخذها وهي حائض، فيضع خدّه وصدره على فخذها، فتحني عليه فينام ( 3 ).
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف بسنده عن عائشة أنها شوَّفَتْ ( 4 ) جارية وطافت بها. وقالت: لعلنا نصطاد بها شباب قريش ( 5 ).
إلى غير ذلك مما لا يحسن ذِكره.
ولا بأس أن نختم الكلام بنقل ما قاله بعض علماء الشيعة الإمامية في تنزيه نساء الأنبياء عن فعل الفواحش.
فقد قال السيد المرتضى قدس سره في أماليه في ردِّه على من زعم أن ابن نوح لم يكن ابنه حقيقة، وإنما وُلد على فراشه : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يُنزَّهوا عن مثل هذه
الحال، لأنها تَعُرُّ وتَشِين وتَغُضُّ من القدر، وقد جنَّب الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكل ما ينفِّر عن القبول منهم ( 6 ).
وقال العلامة الطباطبائي في الرد أيضاً:
وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياء عليهم السلام ، والذوق
* هامش *
( 1 ) سبق تخريجه في الجزء الأول، صفحة 101-102.
( 2 ) صحيح مسلم 1/272. صحيح ابن حبان 3/451، 452، 456، 458. سنن الترمذي 1/181. سنن ابن ماجة 1/199.
السنن الكبرى للنسائي 1/108، 5/352. مسند أحمد 6/68، 110، 161. السنن الكبرى للبيهقي 1/164.
سنن الدارقطني 1/111، 112. مسند الشافعي، ص 160.
( 3 ) سنن أبي داود 1/70. السنن الكبرى للبيهقي 1/313. الأدب المفرد، ص 54. تفسير ابن كثير 1/259.
( 4 ) أي: زيَّنَتْ.
( 5 ) المصنف لابن أبي شيبة 4/49.
( 6 ) أمالي المرتضى 1/503.
نظرة الشيعة إلى أهل السنة .................................................. ............................... 483
المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم، وينزِّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة ولا ظهور، فليس في القصة إلا قوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )، وليس بظاهر فيما تجرَّأوا عليه، وقوله في امرأة نوح: ( امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا )، التحريم: 10، وليس إلا
ظاهراً في أنهما كانتا كافرتين، تواليان أعداء زوجيهما، وتسران إليهم بأسرارهما، وتستنجدانهم عليهما ( 1 ).
وقال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان في تفسير قوله تعالى ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) :
قال ابن عباس: (كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما زنت امرأة نبي قط) ، لما في ذلك من التنفير عن
الرسول وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحداً من زوجات النبي إلى الزنا فقد أخطأ خطأً عظيماً، وليس ذلك قولاً لمحصِّل ( 2 ).
* هامش *
( 1 ) الميزان في تفسير القرآن 10/235.
( 2 ) التبيان في تفسير القرآن 10/52.