سلسلة السيد والتراث – الجزء الثاني "التراث الشيعي"
سلسلة السيد والتراث – الجزء الثاني "التراث الشيعي"
التراث الشيعي
20. إننا نتصور أن هناك مشكلة كبيرة في تاريخ الشيعة، لأنه لم يكتب بلغة علمية موضوعية، تراعي موازين الصحة والخطأ والصواب في هذا الاتجاه. إننا نلاحظ أن هناك نوعا من أنواع الخلل في هذا التاريخ.
21. عندما ندرس تاريخ الأئمة (ع) فإننا نجد أن الذين كتبوه كانوا يتحدثون عن المواقع الغيبية في شخصية الأئمة (عليهم السلام) في ما هي المعجزات التي ينقلونها أكثر من الخصائص الذاتية لهم، وأكثر من الجوانب الحركية التي تحكم مسيرتهم وعلاقتهم بالأحداث والأوضاع أو الذين كانوا يعيشون في ساحات الأئمة قريبا منهم.
22. مثلا، عندما ندرس تاريخ الزهراء (ع) فإننا نجد كتابا في "بحار الأنوار" يفرد لموضوع زواجها وزفافها في السماء والأرض حجما كبيرا في الصفحات، وعندما ننطلق إلى حياة الزهراء مثلا كيف كانت مع النبي في المدينة أو مكة، وكيف كان نشاطها؟ فإننا لا نجد إلا أحاديث صغيرة وصغيرة جدا.
23. وهكذا عندما نواجه أحاديث كثيرة عن الأئمة (عليهم السلام) في تاريخهم الشخصي وفي تاريخهم الحركي والعملي. وهذا ما نلاحظه في محاولتنا لدراسة حياة الأئمة المتأخرين، كالإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام) فإننا نجد نقصا فوق العادة في المعطيات، بحيث أننا لا نستطيع أن نتمثل الصورة التفصيلية لشخصياتهم من خلال ما يكتب في التاريخ.
24. عندما ندرس تاريخ الأئمة فإننا نجد فيه ركاما هائلا لا يميز بين القضايا التي تمثل الصورة المضيئة المشرقة للأئمة (ع) في ما هي خصائصهم الحقيقية، وبين الصورة الأخرى التي تسيء إلى شخصياتهم.
25. عندما ندرس مثلا بعض مواقف الأئمة مع بعض الخلفاء – ولاسيما العباسيين- فيما تمثله سيرة الإمام الصادق أو الإمام الكاظم (عليهما السلام) فإننا نجد أن هناك أحاديث لا تتناسب مع مقام الأئمة ولا تتناسب حتى مع أسلوب التقية؛ لأن للتقية كما علمنا الإمام مواقع معينة.
26. إننا ندعو إلى تنقية التراث الشيعي بالطريقة التي يختفي فيها التنافر بين ما يحمله الشيعة عن الأئمة (ع) من عقائد وأفكار، وبين ما يتمثل في حياتهم من قضايا وأوضاع، ثم نحاول أن نلاحق القضايا التفصيلية الحياتية في حياتهم التي تعطينا صورة حقيقية عما هي شخصية الإمام (ع) في ذاته بعيدا عن الجانب الغيبي.
27. نحن لا نريد أن نتحدث عن إهمال الجانب الغيبي، ولكننا نتصور أن الجانب الغيبي ليس الجانب الأساس في هذه الشخصيات، ولذلك نجد أن القرآن لم يتحدث عن شخصيات النبي (ص) والأنبياء (عليهم السلام) من الناحية الغيبية، بل تحدث عن شخصياتهم من الناحية العملية الواقعية في ما كانوا يفكرون به، وما كانوا يتحركون فيه، وما كانوا ينطلقون فيه من خلال الدعوة.
28. إننا ندرس القرآن كله الذي نزل على رسول الله (ص)، وهو معني بأن يؤكد شخصية رسول الله (ص) في ذهنية الناس، باعتبار أنه يمثل الرسول الذي أقام دعائم الإيمان بالرسالة على عناصر شخصيته من خلال علاقته بالله، فإننا لا نجد أي شيء غيبي في هذا المجال.
29. نحن لا نريد أن نهمل الغيب، كما قلنا، فنحن قوم نؤمن بالغيب، ولكننا نعتبر أن الله أعطى الغيب هامشا صغيرا، حتى في حياة الأنبياء والأئمة، وليس الهامش الشامل المستغرق في ذلك كله. هذه النقطة لابد أن نلاحظها بشكل دقيق.
30. قد يقول قائل: ماذا نفعل؟ فالتاريخ لم يترك لنا سوى هذه القضايا المحدودة في حياة الأئمة، ولم يعطنا فكرة، ربما لأن المؤرخين كانوا يهتمون بهذا الجانب، ولم يهتموا بالجوانب الأخرى. لأن المؤرخين - خصوصا من الشيعة – كانوا يهتمون بتأكيد مسألة الغيب في حياة الأئمة لتأكيد إمامتهم، باعتبار تلاقيها مع ذلك الخط.
31. إن علينا أن ندرس كل كلمات الأئمة الفقهية والفلسفية والأخلاقية إضافة إلى أحاديثهم الخاصة مع الناس، مما تمثله كتب الحديث الأربعة وغيرها من الكتب التي استطاعت أن تنقل لنا كل تراث الأئمة والفقهي والفكري وما إلى ذلك. إننا نلاحظ أن هذه الأحاديث لم تدخل في الوعي التاريخي الشيعي، بحيث تمثل نقاطا تعالج شخصيات الأئمة (ع).
32. إننا عندما نريد أن ندرس مثلا، أحاديث الإمام زين العابدين (ع) فإننا نجد أن تاريخه (ع) يتحدث عن المأساة في كربلاء وعن الدعاء وعن بعض النقاط الأخلاقية، وعن قضية عتقه للعبيد، وتنتهي القضية عند هذا الحد.
33. الإمام زين العابدين كشخصية استطاعت أن تدخل تاريخ الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة من خلال دراسة أسماء الذين درسوا على الإمام زين العابدين وتتلمذوا عليه. إننا نستطيع أن نخرج من خلال دراسة هؤلاء فنجد أن الإمام زين العابدين (ع) كان أستاذ المرحلة الإسلامية في ذلك الوقت.
34. عندما ندرس مثلا تاريخ الإمام الباقر (ع) فإننا نجد أن الذين يكتبون هذا التاريخ مثل الشيخ المفيد وغيره، يتحدثون عن الإمام الباقر كمصدر أوسع من مصادر التاريخ، فحين نقرأ تاريخ الطبري مثلا، نرى أن كثيرا من الأحداث التاريخية التي كان يرويها الطبري عن المرحلة التي سبقت الإمام الباقر (ع) كان ينقل فيها الأحاديث عن الإمام الباقر، باعتباره مصدرا تاريخيا من أوثق المصادر، بينما لا يشير الناس إلا إلى الطبري ولا يشيرون إلى مصادر الطبري.
35. إننا نستطيع أن ندخل كلمات الأئمة (ع) في تاريخهم، باعتبار أنها تمثل فكرهم ونظرتهم إلى الأمور، وتفسر كثيرا من تصرفاتهم ومواقفهم مع كل الناس، الذين كانوا يتحركون في عصرهم. هناك نقاط نستطيع أن نلتقطها عندما نريد أن ندرس كلمات الأئمة وأحاديثهم في كل المجالات، لنعتبرها في مضمونها مجسدة للخصائص الفكرية التي تمثلها شخصية الأئمة، ولا مانع أن تكون هذه الخصائص خصائص الرسالة.
36. عندما نقول إن الأئمة ينطلقون من الله وينطلقون من الغيب هذا لا يعني أن لا خصائص فكرية لديهم، غاية ما هنالك أنهم يختلفون عن الآخرين في أن خصائصهم الفكرية هي خصائص الإسلام، وليس فيهم شيء غير الإسلام، ولكن هذا لا يمنع أن تكون لهم خصائصهم الفكرية والشخصية الذاتية.
37. إننا في دراسة واسعة لكلمات الأئمة (عليهم السلام) وأحاديثهم نستطيع أن نكمل بها تاريخهم، هذا من جهة، وعندما نريد أن ندرس أيضا التاريخ الشيعي في هذا المجال فعلينا أن ندرس حركة التشيع، وكيف انطلقت، وما المؤثرات التي استطاعت أن تترك تأثيرها في تكوين شخصياتهم ونظرتهم للأمور؟
38. عندما نريد أن ندرس تاريخ الشيعة وأحاديث الأئمة (عليهم السلام) مثلا، حتى في مسألة الحديث عن آخر الزمان، نستطيع أن نأخذ من ذلك الانطباع بأن هناك نوعا من الانفعال الشيعي، الذي كان يسيطر على بعضهم، فيحاولون أن يثوروا قبل نضوج الثورة ويشعرون باليأس في بعض الحالات وبالإحباط في حالات أخرى.
39. نستطيع أن نفسر كلمات الأئمة (عليهم السلام) التي كانت تتحدث عن الإمام القائم قبل ولادته وعن آخر الزمان وعن الانتصار بأنها تمثل نوعا من أنواع الأسلوب السياسي والعملي الذي كان يريد أن يرفع الروح المعنوية عند الشيعة.
40. إننا نعتقد أنه لابد من كتابة تاريخ إسلامي شيعي جديد نحاول من خلاله أن ندرس معنى التشيع في حركة هذا التاريخ، حتى لا يكون التشيع مجرد عنوان يوضع في الواجهة، ونجد كل الواقع بعيدا عنه، حتى في تأثير التشيع سلبا أو إيجابا في وعي الشيعة من خلال السلبيات التي تواكب تاريخ كثير من المجتمعات الشيعية في العالم، التي ربما انطلقت في مسيرتها التاريخية في الأحداث، على أساس أن يكون التشيع مجرد انفعال بمآسي أهل البيت أو بفضائلهم بعيدا عن الإسلام، وبعيدا عما هي الحركة الإسلامية والواقع الإسلامي.
يتبع القسم الثالث والأخير ...