الامام الحسن العسكري ع وطواغيت الظلمة
الامام الحادي عشر العسكري الحسن بن علي الهادي
بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين سيد الشهداء بن امير المؤمنين علي بن أبي طالبصلوات الله تعالى عليهم اجمعين.
لُقب بالعسكري كأبيه الامام الهادي ع, لأنه سكن محلة عسكر في سر من رأى ( سامراء).
ولد عليه السلام في المدينة المنورة في أواخر أيام الواثق العباسي سنة 232 هجرية على القول المشهور في ولادته , ورحل وهو طفل مع أبيه الامام الهادي عليهما السلام إلى سامراء في أيام المتوكل العباسي الذي أمر بدعوتهما الى سامراء والاقامة فيها ليكونا تحت مراقبته ومراقبة جلاوزته.
الامام علي الهادي يٌعلم خاصته بإمامة الحسن العسكري :
عن علي بن عمر النوفلي ، قال :
( كنت مع أبي الحسن العسكري في داره ، فمرّ عليه أبو جعفر ، فقلت له : هذا صاحبنا ؟ فقال : لا ، صاحبكم الحسن (يعني به الامام الحسن العسكري)..
( الغيبة للطوسي ص 198.)
عن علي بن مهزيار ، قال :
( قلت لأبي الحسن ( الامام الهادي ع) : إن كان كون ـ وأعوذ بالله ـ ( يعني إذا وافتك المنية)- فإلى من ؟
قال : عهدي إلى الأكبر من ولدي )
(الامام العسكري لعلي الكعبي عن الكافي ج1 ص 326)
والامام الحسن ع هو أكبر أولاد الامام الهادي ع.
أن تهيأة الامامة من أمام للأمام الذي بعده مهمة صعبة في ظروف القهر السياسي , فالأمام لايصرح إلا لخاصته وشيعته حفظا على حياة الامام من بعده, لأن تصريحه بأمامته ونشر خبر ذلك يؤدي إلى مطاردة السلطة للأمام واغتياله, ومن جهة اخرى عدم تصريحه بأسمه يعني عدم تعريف الناس بالأمام ولا خلاص بين الحالتين سوى تعريف الخاصة والشيعة المقربيين فقط , فتجهل السلطة من هو الامام حتى حين.
نيطت الإمامة الى الامام العسكري ع بعد استشهاد والده الهادي ع في سنة 254 هجرية وذلك في أيام المعتز العباسي لعنه الله وهو قاتل الامام الهادي ع, فيكون عمر الامام الحسن العسكري عند إمامته أثنا وعشرون عاماً.
عاصر الامام العسكري ع ستة من خلفاء بني العباس وهم : الواثق, المتوكل , المنتصر , المستعين , المعتز, المهتدي, وأربع سنين من حكم المعتمد ليستشهد عليه السلام بالسم سنة 260 هجرية وله من العمر ثمان وعشرون عاماً, وعاصر في فترة إمامتة (باتفاق المصادر) ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم : المعتز (251-255 هجرية), المهتدي ( 255-256 هجرية ), والمعتمد (256-279 هجرية).
بين الائمة وخلفاء الجور صراع لاينتهي إلا بالموت!
بعد استشهاد الامام علي الهادي ع بالسم في عهد المعتز العباسي, سعى المعتز كذلك إلى قتل الامام الحسن العسكري ع ! فقد أمر المعتز أحد جلاوزته وهو سعيد الحاجب بإخراج الامام الحسن العسكري ع من سامراء إلى الكوفة ثم ضرب عنقه في الطريق, عن ( سلسلة أعلام الهداية عن كشف الغمة للاربلي ج3 ص206,),
وكتب أبو الهيثم وهو أحد أصحاب الامام ع يسأله مستفسراً عن أمر المعتز بإبعاده الى الكوفة :
(جُعلت فداك بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منا، فكتب الإمام العسكري ع إليه : بعد ثلاث يأتيكم الفرج ! فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل)
( سلسلة اعلام الهداية عن الخرائج للرواندي ج1 ص 461) ,
تم الامر كما قال الامام ع , ومثلما تحقق وتم بهلاك المتوكل العباسي لعنه الله قبل ذلك عندما دعا عليه الامام الهادي ع.
نعم , قُتل المعتز العباسي شر قتلة بعد ثلاثة أيام كما قال الامام , روى ابن الاثير في هلاك المعتز:
(دخل إليه جماعة من الأتراك فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه ، وأقاموه في الشمس في الدار ، فكان يرفع رجلاً ويضع اُخرى لشدّة الحر ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتّقي بيده وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه ، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان ، وسلّموا المعتز إلى من يعذّبه ، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيّام ، فطلب حسوة من ماء البئر فمَنَعَه ثم أدخلوه سرداباً وسدّوا بابه ، فمات)
( الكامل لابن الأثير ج5 ص 356).
بعد هلاك المعتز نصب العسكر التركي خليفة جديدا وهو المهتدي (ابن الخليفة الواثق , والواثق أخو المتوكل أي أن المتوكل عم المهتدي) , لم يكن المهتدي بخير ممن سبقه فقد أمر بحبس الامام الحسن العسكري ع ,وكأن الاقامة الجبرية في بيته لم تكن كافية! روي أن الأمام كان يأتي في كل أثنين وكل خميس لقصر الخلافة لإثبات وجوده في المدينة
(كان يركب إلى دار الخلافة في كل إثنين و خميس و كان يوم النوبة يحضر من الناس شيء عظيم)
( المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص434) ,
أما رواية سجنه عليه السلام :
(قال أبو هاشم الجعفري: كنت محبوساً مع الحسن العسكري ع في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي عليه السلام : في هذه الليلة يبترالله عمره، فلمّا أصبحنا شغب الأتراك وقُتل المهتدي وولّي المعتمد مكانه)
( سلسلة اعلام الهداية وعن مناقب آل بني طالب لابن شهر آشوب ج2 )
روى السيوطي في كيفية مقتل المهتدي لعنه الله تعالى أنه أمر بقتل بعض أمراء جنده من الاتراك للتخلص من نفوذهم , وندب لقتلهم أحد قادته وهو تركي أيضا واسمه بكيال :
(فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحاً أحد أمراء الأتراك أيضاً أو يمسكهما ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم فأوقف بكيال موسى على كتابه وقال إني لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا فأجمعوا على قتل المهتدي وساروا إليه فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأسروسنية وقتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف ودام القتال إلى أن هٌزم جيش الخليفة وأمسك هو فعُصر على خصيتيه فمات وذلك في رجب سنة ست وخمسين 256 هجرية, فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يوما)
( تاريخ الخلفاء للسيوطي ج1 ص232 ) .
بعد مقتل الخليفة نصب العسكر التركي خليفة آخر وهو المعتمد , والمعتمد هو ابن المتوكل وكان الخليفة المهتدي قد سجنه في سجن الجوسق فأخرجه الاتراك ونصبوه خليفة , تأمل الفوضى في نظام حكم دولة المسلمين وما جرى ويجري فيها !
كيف اتصل الامام بشيعته؟
إن الاقامة الجبرية التي فرضتها السلطات على الائمة وأحيانا حبسهم لم تفعل فعلها كما ظن الطغاة , فالائمة ع اصحاب كرامات ربانية كثيرة منها قدرتهم على الخروج من القيود والسفر بكرامة طي الارض وغيرها ,وهي كرامات يجدها الباحث في سيرتهم المباركة ,وكذلك استعمل الائمة عليهم السلام العوامل الظاهرية للاتصال بأنصارهم ! فرتبوا عليهم السلام نظاماً سرياً للأتصال بالاتباع والمؤيدين, فكان للائمة ع وكلاء في كافة مناطق الدولة , وكان أولئك الوكلاء يتصلون بهم عن طريق المكاتبة او عن طريق اللقاء سرا بهم ع. وروي ان محمد بن علي السمري كان يحمل الاموال والرسائل في جرة السمن وينتحل صفة بائع ليدخل على الامام العسكري ع ثم يخرج بالاجوبة والتوجيهات , وكانت رسائل الإمام وأجوبته إلى شيعته تحمل تواقيعه , وجاء في الروايات أن أصحابه كان يدققون في خطه ويتأكدون من توقيع الامام تحسبا من التزوير!
قال احمد بن قاسم
(دخلت إلى أبي محمد ( الحسن العسكري) ع فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطّه فأعرفه إذا ورد ، فقال : نعم. ثمّ قال :
يا أحمد ، إن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكّن ، ثم دعا بالدواة )
(الامام العسكري لعلي موسى الكعبي عن المناقب ج4 ص 466, وعن بحار الانوار ج50 ص286) ,
وكذلك كان الأمر إذا حملوا له الأموال والحقوق والرسائل فكانوا يوصلونها بالسر عن طريق خاصته المقربيين, ثم يوزعها الإمام بنفس الطريقة السرية. وقد فصلت كتب تراجم الرجال في وكلاء الامام الحسن العسكري وأنصاره المقربين مثل (كتاب الرجال للنجاشي) كما دونت كتب تلك المكاتبات والمراسلات السرية بين الإمام ووكلاءه مثل كتب (مسائل الرجال ومكاتباتهم للحميري) (مسائل لأبي الحسن للعمري) وورد ذكر اسماء الوكلاء وترجماتهم في معاجم كتب الحديث.
ان مراجعة التاريخ تبين السرية التي اتبعها الامام ع وأعوانه في تجنب مواجهة السلطة الطاغوتية . قال الامام الحسن العسكري ع لأحد أنصاره:
(إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي امرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ،
أو تعرّفه من أنت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء )
( الامام العسكري لعلي الكعبي وعن المناقب لابن شهر آشوب ج4 ص461)
وكان عليه السلام يوصي أصحابه بالكتمان وعدم التصريح بأمامته حيث يقول:
(إنّما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك )
(الامام العسكري للكعبي وعن إثبات الوصية للمسعودي ص251,
كشف الغمة للأربلي ج3 ص 302, البحار ج50 ) .
وبلغت الحيطة عند الامام عليه أنه أوصى بعض أصحابه أن لا يسلّموا عليه حفظاً عليهم من جور السلطة:
( ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم )
( الامام العسكري لعلي الكعبي وعن الخرائج للرواندي ج1 ص 439,
البحار ج50 ترجمة الامام العسكري) ,
وقال لأحد شيعته يوما بحضور السلطان
( لاتدن مني , فإن علي عيوناُ وأنت خائف !!)
( الامام العسكري للكعبي وعن الثاقب في المناقب للطوسي )
لقد مر الائمة عليهم السلام جميعاً بهذا الحصار والمراقبة بتفاوت في شدة التضييق وحسب طغيان الخلفاء وشرهم ,
( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله
إلا أن يتم نوره ولم كره الكارهون)
( التوبة 32).
يتبع....
.