رجل مرحلة بامتياز
كتب : الشيخ صلاح مرسول
"لكل عصر رجالاته كما لكل حقبة روادها، والسيد محمد حسين فضل الله إن لم نقل فيه رجل عصره، فهو من دون أدنى شك رجل الطائفة الشيعية في لبنان من دون منازع. أتى ليكمل ما قد أسس له الإمام موسى الصدر، فغدا المنظِّر الأكبر لمشروع الجمهورية الإسلامية -الشيعية- في لبنان، آملاً تحقيقه بمؤازرة حزب الله الأداة."
هكذا بدأ كتابه الكاتب المسيحي عماد شمعون حول السيد فضل الله، والذي هو بعنوان ((آية الله السيد محمد حسين فضل الله، داعية حوار .. أم ذمّيّة)).
وصاحب كتاب ((مسيرة قائد شيعي )) جمال سنكري وتعريب السفير آصف ناصر ، يقول في مقدمته لهذا الكتاب: (( يُعتبر السيد فضل الله في الدوائر الإعلامية والسياسية والأكاديمية الغربية، المنظِّر الأيديولوجي لحزب الله، الحزب الأول في لبنان في الحركة السياسية الإسلامية... هو زعيم روحي للتيارات الإسلامية كافة على الساحة اللبنانية، ومن أكثر المفكرين الإسلاميين نفوذًا وتأثيرًا في العالم العربي اليوم.
السيد فضل الله الذي يصف نفسه بأنه ((ثوري عقلاني في آن واحد، يدعو إلى استراتيجية طويلة الأمد لإحداث التحول الجذري في المجتمع )) [أنظر نشرة بينات، العدد ٩٨،لعام ٢٠٠٠ شهر أغسطس، الصادرة من مكتب السيد فضل الله في لبنان]
فهو يعتقد بأن الإنسان الثوري عقلاني بالضرورة، لكونه يستخدم ذهنه لصوغ الوسائل وتنقيحها، فالوسائل تعمل على تأسيس واستعراض الجدول الزمني لإنجاز الأهداف.
توجد مقالتان باللغة الفرنسية حول السيد فضل الله، للباحث الفرنسي أوليفيه كاريه:
الأولى: تحت عنوان ((بعض الكلمات المفاتيح لمحمد حسين فضل الله)) نشرت المجلة الفرنسية للعلم السياسي [الجزء٣٨،العدد ٤، أغسطس ١٩٨٧، ص٤٧٨-٥٠١] تحت عنوان ((الثورة الإسلامية برأي محمد حسين فضل الله)).
الثانية: تحت عنوان (( الثورة الإسلامية برأي محمد حسين فضل الله )) ، [أوريان، ج٢٩، العدد١، مارس ١٩٨٨، ص٦٨-٨٤]
ومن كتب حول النزعة الثورية الإسلامية للسيد فضل الله كثر، والواقع السياسي في لبنان والعراق يؤكد على موقعية السيد الروحية والفكرية في بناء القاعدة النضالية ذات القاعدة الاسلامية في هويتها وانتمائها.
فالمقالات والدراسات الأجنبية كثيرة جدًا، حول السيد فضل الله، خصوًا في الجانب الفكري والسياسي وأثره في واقع الأمة الإسلامية.
لذلك كانوا يلقبونه بملهم الجماهير تارة، والحكيم المتنور تارة أخرى، كونه استطاع أن يأخذ دور السلطة الأبوية لكل أبناء الجيل المتدين والمفكر والسياسي باستراتيجية أخلاقية تنظر للإنسان فوق الانتماء والحزبية، وهذا ما يعبر عنه بالذكاء العملي، بحيث أنه لا يظهر نفسه بمظهر التابع بلا قيد وشرط، أو بمظهر النصير المؤيد لسياسة معينة، بل يتحرك في ظروف صعبة تقسيمية طائفية بمظهر المفكر الإسلامي المستقل قد بعث من رحم المعاناة التي كان يعيشها المجتمع نفسه، وقد أثبت قدرته على التأثير على مستوى صناعة القرار.
ادعاء يفتقر للمصداقية والواقعية
يقول الشيخ أسد محمد قصير في مقابلة تلفزيونية له حول ما يتعلق بالمقاومة في لبنان ضد الاحتلال الاسرائيلي بأن السيد فضل الله من الذين كانوا يقولون أن المقاومة لابد أن تكون في جنوب لبنان لا في بيروت، وقال أن السيد فضل الله:(( لم يكن يُؤْمِن في ذلك الوقت بفائدة المقاومة)).
من خلال هذا الادعاء دعوني أن أوضح لكم باختصار ما كان يجري في ما كان يقصده الشيخ قصير في تلك الفترة.
بسبب دخول الجيش الإسرائيلي للجنوب اللبناني قام مقاتلي منظمة التحرير الفلسطيني بالنزوح إلى بيروت، وقامت إسرائيل بملاحقتهم ومحاصرتهم، وصلوا إلى ضواحي بيروت والقصف ينهال على أماكن مختلفة في بيروت، فقامت بصد هذا التقدم قوة مشتركة من عدة مجموعات: مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتلي أمل - لم يكن حزب الله قد أنشأ - والطلاب الإسلاميين المسلحين الشيعة.
هذه المشاركة الشيعية مع منظمة التحرير الفلسطينية قد جعل الكيان الصهيوني يعتبره نقلة نوعية على مستوى الصراع القائم، ففرض حصارًا قاسيًا ونفّذ قصفًا عشوائيًا وقطع الكهرباء عن كل المناطق.
وما جعل التكاتف يكون أقوى بين الفلسطينيين والشيعة في بيروت، هو التقارب المكاني بينهما، كانت الأحياء قريبة جدًا بينهما، وكانت ذات طابع يتسم بالفقر والاكتظاظ السكاني، فكان القصف يطال الاثنين.
وفِي هذا الجو الملتهب كان السيد فضل الله أبرز الشخصيات الدينية ذات الخطاب المعنوي والثوري الذي ندد بما فعله الجيش الإسرائيلي من دخول لهذا الجيش إلى بيروت.
أين كان السيد فضل الله!؟
كان السيد يراقب الأحداث من طهران، قبل شهرين من الأحداث كان قد سافر مع وفد كبير من علماء الدين والناشطين للمشاركة في مؤتمر عالمي لحركات التحرير في يوم المستضعفين. [سرور، العلامة فضل الله، ص٧٥-٧٨، فضل الله، الخيار الآخر، ص٨٧]
وقد استمرت المعارك أسبوعين حول مدخل الضاحية الجنوبية لبيروت (١٩٨٢م) مخلفة ٥١٨ قتيل، و٦١٩ جريح، أكثرهم من الفلسطينيين والشيعة. [سنكري، مسيرة قائد شيعي، هامش ص١٨٣ نقلا عن فيسك]
وهنا أحب أن أنوه إلى البيان الذي صدر من قبل السيد فضل الله وزملاؤه من طهران، والذي نددوا فيه بالعدوان الإسرائيلي وحثوا فيه أهالي لبنان على التضامن مع الفلسطينيين وصد المعتدين.
فكيف يدعي الشيخ قصير أن السيد كان يُؤْمِن بعدم نفع المقاومة آنذاك!؟
وهو الذي قطع زيارته سريعًا وجاء إلى بيروت لتنظيم خلايا المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي وتوجيهها من ضواحي بيروت الجنوبية !! ولا ننسى التنسيق الذي جرى مع الجمهورية الاسلامية في ايران ودعمتهم للمقاومة، وكانت النواة الأولى لهذا التنظيم الاسلامي السني الشيعي المدعوم من الجمهورية هو تأسيس "رابطة تجمع العلماء المسلمين" والذي كان لفضل الله الدور الأساسي فيها، وكانت حركة تعبئة للمقاومة الجماهيرية ضد إسرائيل، وواجهة لحزب الله في لبنان. [أنظر ماكتب خازم، تجمع العلماء المسلمين، ص٤-٥]
كان موقف السيد فضل الله واضحًا منذ السبعينيات من القرن الماضي تجاه التوسع الإسرائيلي، كان يعمل على تقوية إرادة المدافعين الإسلاميين "محرضا جماهيريا بامتياز ، ودعامة لحركة المقاومة الداخلية".[أنظر مسيرة قائد شيعي لسنكري، ص٢٨٧]
صاحب العقل السياسي
يطرح الإعلامي المعروف غسان بن جدو سؤالًا في مقدمته الحوارية مع السيد فضل الله (١٩٩٥م): لماذا الحوار مع السيد فضل الله؟
فيجيب -وألخص جوابه- :اعتبره بمثابة الأب والمعلم، التقيته للمرة الأولى عام ١٩٨٥م، وكان السيد قد برز في الإعلام التونسي كمرشد روحي لحزب الله، وكان الشباب التونسي يفتخرون بإنجازات المقاومة الاسلامية، وتشدهم العمليات الاستشهادية بشكل مذهل، كان لقائي الاول به في مسجد بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت، أذكر انني حضرت إلى المسجد قبل اكثر من ساعتين من موعد الصلاة حتى أَجِد لي مكانًا، فكان آلاف المصلين يأتون للصلاة خلف السيد، إلا أنني لم استطع الوصول للمقدمة، فكنت في صفوف متأخرة نسبيًا.
بعد الانتهاء من الخطبة كان السيد يصافح المصلين، وهذه الثواني القليلة التي اقتربت فيها من الرجل قربتني منه سنوات وشعرت أنه دخل قلبي دون استئذان، عاودت مصافحته مرة أخرى لآخذ صورة معه، ولكن السيد بالرغم من الزحمة الشديدة قد انتبه لمصافحتي الثانية له، حدّق فيّ مليًّا وتبسم، فعجبت لقوة تركيزه وشدة انتباهه.
لقد اكتشفت فيه صفات الوقار دون تصنع، وهو رجل مثقف ذكي فطن قارىء جيد متابع للأحداث المحلية والعالمية بتفاصيلها، عاشق للحوار وملتصق بالمسجد ومحتضن للشباب، وقطعًا هو صاحب عقل سياسي مميز حتى أن الكاتب المصري محمد حسنين هيكل اعتبره ((يملك عقلًا تنظيميًا يفوق عقل لينين)).
أهم ما يميز السيد فضل الله هو استيعابه لمفردات الواقع وآليات التدافع، وهو من أهم المجددين في الفكر الإسلامي المعاصر، وحسبي أنه لولا بعض المعوقات النفسية والتقاليد التي يفرضها جانب من الارث الديني، لأحدث فضل الله هزات وصدمات استثنائية يحتاج إليها العقل والفكر الإسلاميان.
كلمة أخيرة: إن المطلع على حركة السيد فضل الله الفكرية والسياسية لا يمكنه أن يتجاهل دوره الريادي في الأمة والعالم، فتجاهل هذه الشخصية والتلفيق عليها من داخل الطائفة ومن داخل الحوزة العلمية لهو دليل ضحالة العقل وجحود العطاءات والنتاجات والأسس الذي ابتنيت بها المرحلة من خلال تحريف الواقع وطمس الحقيقة.
وهذه دعوى لقراءة السيد فضل الله قراءة جديدة بعيدًا عن كل ما أثير من فتنة طالت شخصه، ونحن نعرف بأنها قد أربكت الساحة الاسلامية وخدمت الاستكبار العالمي، والسنوات التي أتت بعد رحيله اثبتت ذلك، ولازال الزمن كفيل باتضاح الحقيقة أكثر فأكثر.
فبين يدي الكثير من الكلمات والخطابات الثورية والداعية إلى مقاومة المحتل وتأييد المقاومة وذات أزمنة متعددة، لا يسع المجال لذكرها، فالسيد فضل الله كان بالفعل رجل مرحلة بامتياز، فلماذا هذا التغافل وهذه الحساسية المفرطة تجاه دوره وبصمته المهمة في واقع التاريخ الفكري والسياسي