المضمــــــون العاشورائي
أشرنا فيما سبق إلى ضرورة التنبه لعنصر المضمون الذي يطرح في عاشوراء، سواء على المستوى الشعبي التقليدي، أو من خلال بعض التجارب المتناثرة في الإنتاج المسرحي أو السينمائي أو التلفزيوني. وهذا الأمر ينبع من أن طبيعة الذهنية التي يعيشها قارئ العزاء أو الشاعر الحسيني أو المخرج أو كاتب السيناريو وما إلى ذلك قد تلعب دورا في تشويه المفاهيم الأصيلة للقضية الحسينية، خصوصا عندما يتم التغاضي عن الجانب الفكري لمصلحة الجانب العاطفي المأساوي الذي يطلب استنزاف الدمعة بأي طريقة. ونحاول في هذا المجال تقديم بعض النماذج من هذه المفاهيم التي يقدمها الخطباء للجمهور من حيث يشعرون أو لا يشعرون، نطرحها في عناوين:
1- التصادم مع المفاهيم الإسلامية
يستوقفنا في هذا المجال بيت من الشعر لقصيدة حسينية للسيد حيدر الحلي (رحمه الله) وهو يستنهض فيها الإمام المهدي (عج) فيقول:
واستأصلي حتى الرضيع *** لآل حرب والرضـــــيــــعــــــة
حيث نجد أمامنا دعوة صارخة مثيرة لاستئصال بني أمية، حتى الرضع منهم ذكورا وإناثا. وهذا الأمر يمثل مصادمة واضحة مع القيمة الإسلامية الإنسانية في خط العدالة التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) كما لايتناسب مع السيرة الحسينية فيما تنقله أحاديثها من اللفتة الإنسانية لبعض الجنود في جيش بني أمية وهو يواجه امتناع جيشه عن سقي الطفل ارضيع للحسين عليه السلام: (إن كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الطفل الرضيع؟!)
كيف يمكن أن يستمع الجمهور المسلم لمثل هذا النداء العدواني الصارخ الذي تطلقه القصيدة نحو الأطفال الذين لا ذنب لهم، ولا سيما إذا كانوا من الرضع، مما يزيد الإحساس الإنساني شعورا بالألم، في الوقت الذي تتحرك فيه كل ذكرى عاشوراء من أجل إثارة المشاعر الإنسانية المضادة لكل الواقع الذي صنع مأساة الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، حتى يتبلور الرفض الإسلامي لأمثال هذا الواقع، فيقف في مواجهة كل الذين يريدون أن يصنعوا مأساة الإنسان في الحاضر والمستقبل.
ونلتقي بنموذج آخر في قول الشاعر حاكيا عن لسان أهل البيت عليهم السلام:
سادة نحن والأنام عبيد *** ولنا طارف العلى والتليد
وأبونا محمد سيد الناس *** وأجدر بولده أن يسودوا
إن هذا المفهوم بظاهر الكلام يتنافى والذهنية الإسلامية التي ترفض عبودية إنسان لإنسان، في عمق الخط الإسلامي، كما ترفض نظرة أي شخص لنفسه بهذا المقياس، وقد درج الأنبياء والأولياء على الإبتعاد عن هذا الأسلوب في حديثهم عن الناس، كما درج القرآن على الحديث عنهم بغير هذه الطريقة. فلم نلاحظ في كل التراث الديني عموما والإسلامي خصوصا مثل هذا التعالي على الناس بحيث تكون النظرة إلى الناس أنهم العبيد وهم السادة، في الوقت الذي نعرف فيه من خلال الحقيقة الدينية أنهم الفئة المميزة في الدرجات العليا عند الله بحيث يرتفعون عن الناس في قربهم إليه سبحانه، كما نعرف أن طاعتهم واجبة على الخلق في موقع رسالة الله التي يحملونها، ولكن الطاعة شيء والعبودية شيء آخر، لأنها (أي الطاعة) تلتقي بالمسؤولية لا بالتقويم الإنساني.
وإذا كان الأسلوب الأدبي يبرر للإنسان أن يتواضع لإنسان آخر رفيع القدر ليقول له: إني عبدك، فإن التربية الإسلامية لا تتناسب مع كلام الشخص الكبير عن نفسه بهذه الطريقة، ولذلك فإن تصوير أهل البيت عليهم السلام للناس أنهم يتحدثون عن أنفسهم وعن الناس بهذا الأسلوب لا ينسجم مع روحياتهم الرفيعة في التواضع لله في علاقتهم بالناس.
2- تحجيم القضية الحسينية:
نلتقي في هذا الإطار بنماذج من الشعر الحسيني يتركز فيها الحديث على إعطاء الصورة في الصراع في نطاق الدائرة العائلية، تماما كما لوكانت المسألة مسألة نزاع عائلي بين بني هاشم وبني أمية على الطريقة التي أثارها أبو العلاء المعري في قوله:
عبد شمس قد اضرمت لبني
هاشم حربا يشيب فيها الوليد
فابن حرب للمصطفى، وابن
هند لعلي، وللحسين يزيــــد
هذا نموذج من كثير من نماذج الشعر الحسيني العامي والفصيح والذي لا يزال يتلى في مجالس العزاء مما أدى إلى تكوين ذهنية شعبية تستغرق في مشاعر العصبية للعائلة الهاشمية ضد العائلة الأموية بعيدا عما هي المسألة الإسلامية، حتى أن البعض يتصور الدين في المسألة كخصوصية من خصوصيات العائلة، لا كحالة رسالية تنفتح على الوعي الإسلامي لدى الإنسان المسلم وتلتقي برموز الإسلام وقياداته في ساحاتها، ليكون الإرتباط من خلال الإسلام لا من خلال الخصوصية العائلية.
ولعل مثل هذا التأثير العاطفي الذي يتحول إلى تعصب للعائلة قد ترك آثاره على حركة الوعي الشعبي السياسي في بعض المراحل السياسية القلقة من حياة الأمة، فقد لا حظنا أن بعض الملوك قد حصلوا على كثير من الدعم العاطفي لدى بعض علماء الدين والفئات الشعبية الطيبة انطلاقا من انتسابهم للعائلة الهاشمية، من دون أي تدقيق في التزامهم الإسلامي، ومن دون نظر إلى لونهم المذهبي في الساحة التي ترى للمذهبية معنى كبيرا في التقويم الفكري والعاطفي.. الأمر الذي أدى إلى إرباك الواقع السياسي في أكثر من بلد إسلامي وسمح للخطط الإستعمارية أن تأخذ مكانها فيها.
ونحن عندما نثير هذه المسألة لا نريد أن نجعل القضية الرسالية شيئا يتحرك في المطلق بعيدا عن الرمز، لأن للشخصيات القيادية خصوصية في عمق حركة الرسالة، الأمر الذي يفرض الإرتباط العضوي بالقيادة فيما يمثله الإرتباط بالرسالة، لتكون العلاقة رسالية لا شخصية بحتة، وبذلك لا يبقى هناك دور للعائلة بعنوانها الكبير. ومن هنا فإن علاقتنا بأهل البيت عليهم السلام لا تنطلق من هاشميتهم، بل تنطلق من رسالتهم، كما أن الهاشمية لا تكتسب قداسة من خلال انتماء رموز القداسة الرسالية بالنحو الذي يجعل من كل هاشمي يقترب من القداسة حتى لو كان بعيدا عن قيمها.
إن التراث الأدبي من الشعر والنثر قد يحتاج إلى بعض الخيال، وإلى بعض اللفتات الفنية في حركة العاطفة في المأساة وفي تأثير المأساة في الوعي الداخلي للإنسان المسلم، ولكن الخيال لا بد أن ينطلق في أجواء المضمون الذاتي للقضية، فلا يخلق لها أبعادا بعيدة عنها، ولا ينتج لها فكرا يختلف عن فكرها، كما أن الجانب الفني (في لفتاته الإيحائية أو الإيمائية والتعبيرية) لا بد أن يعطي الفكرة بعضا من معنى الجمال الحقيقي الذي تختزنه مفرداتها، فلا يفرض عليها جمالا من خارج معناها، أو يمنحها خصوصية بعيدة عن خصوصياتها.
ولذلك فإننا ندعو إلى نتاج أدبي حسيني يتغذى من المفردات الإسلامية للحركة الحسينية فيما هو البعد الروحي والفكري والحركي للإمام الحسين عليه السلام، لتكون الذكرى في خدمة القضية من خلال الإيحاء المستمر بامتدادها في خط الزمن، لتكون الصورة البارزة هي أن عاشوراء هي المنطلق وليست النهاية، وبذلك فإنها تريد أن تنتج جمهورا جديدا لمفاهيمها في كل زمان ومكان من خلال تأكيد العناصر الحية فيها في وعي المستقبل الذي يطل على الإنسان في عملية تجدد ونمو واستمرار.
3- تشويه صورة النماذج العليا:
من خلال دراستنا لما تنقله كتب السيرة، مما اختلط به الصحيح بغير الصحيح عندما تم إعطاء الأولوية للجانب العاطفي على الجانب الواقعي في القضية الحسينية، نجد صياغة لصورة مشوهة لرموز كربلاء، وخصوصا فيما يتصل بالإمام الحسين وبالسيدة زينب عليهما السلام. فهناك (على سبيل المثال لا الحصر) عدة صور نثرية تقدم لنا صورة الحسين عليه السلام وهو يستغيث ولا يغاث، ويستجير فلا يجار، ويستسقي القوم جرعة من الماء فلا يستجاب له، حتى تنتهي القصة إلى اللحظات التي كان الإمام الحسين عليه السلام في حالة الإحتضار فشاهده شخص اسمه حميد بن مسلم فيلفت نظره أنه يحرك شفتيه، فيقول الرجل في نفسه: لو كان الحسين يدعو علينا هلكنا ورب الكعبة، فيدنو منه فيسمعه يقول: (ياقوم اسقوني جرعة من الماء فقد تفتت كبدي من الظمأ) ويضيف بعض الرواة إلى ذلك قوله: (وحق جدي إني لعطشان) .
إنها صورة من الصور التي توحي بالضعف، ولا توحي بالقوة، مما لا يتناسب مع الصورة التي تمثل فيها الإمام الحسين عليه السلام إنسانا كبيرا متمردا على كل نوازع الضعف وعناصر الألم في مواجهة القوى الضالة الطاغية التي حشدت ضده كل تلك الجموع لتسقط موقفه، ولتهز ثباته، ولتدفعه بعيدا عن موقفه الصلب المميز، ولتفرض عليه الخضوع لحكم يزيد، فرفض التراجع والتنازل والخضوع، وتحمل كل النتائج القاسية من أجل أن يجسد القيم الإنسانية الكبرى التي أرادها الله للإنسان في الحياة، لأن المسألة ليست مسألته الشخصية، بل هي مسألة الرسالة في تحدياتها وفي حاجتها إلى التماسك والتوازن في المواقع الصعبة التي تزدحم في أعماقها الزلازل، وهذه المواقف تمثلت فيما طرحه من شعارات، وفيما جسده من مواقف، خصوصا عندما ذبح ولده الرضيع، حيث تنقل السيرة أنه قال: (هون ما نزل بي أنه بعين الله) .
إننا لا ننكر أن الإنسان حتى لو كان نبيا أو إماما قد يخضع للضعف البشري في مضمون بشريته، ولكن الحسين عليه السلام قد اتخذ قراره في المواجهة الصعبة بعد دراسة طويلة عميقة لكل النتائج المترتبة عليه، وعرف طبيعة الوحشية الهمجية المتمثلة في عناصر الشخصية الطاغية لهؤلاء، ورأى في ساحة المعركة، كيف تتجسد القسوة في مواقفه حتى بالنسبة للطفل الرضيع، فكيف يمكن أن يستغيث بهم ويطلب منهم جرعة من الماء في الوقت الذي كان جسده مثخنا بالجراح بأبشع الصور؟!
إن الصورة الحقيقية للإمام الحسين عليه السلام هي تلك الصورة التي عبر عنها أحد أعدائه من جيش يزيد:
(فوالله ما رأيت مكسورا قط قد قتل ولده وأهل بيته أربط جأشا ولا أشد بأسا من الحسين، فلقد كانت الرجالة تشد عليه فيشد عليها فتنكشف من بين يديه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب) .
وهكذا نقف عند صورة السيدة زينب عليها السلام، ولا سيما بالشعر الشعبي، فلا نجد فيها صورة البطلة القوية المتحدية التي وقفت في قوة وصلابة وثبات في مجلس ابن زياد لتتحدى سلطانه، وفي مجتمع أهل الكوفة لتواجه انحرافهم وخذلانهم، وفي مجلس يزيد لتهاجم مواقعه، بل نجد صورة البدوية التي تتحدث بالأسلوب الضعيف الواهن الثاكل الذي يبحث عن العشيرة فلا يجدها، وعن النصير فلا يلتقي به، ويواجه القضية بلسان الدعوة إلى الثأر على الطريقة العشائرية.. إنها صورة الضعيفة المنكوبة المسبية التي تعيش هم آلامها وهم الأطفال والنسوة من حولها (على أهمية ذلك) دون أن تكون للقضية الكبرى أية انطلاقة في اهتماماتها، في الوقت الذي يؤكد فيه التاريخ أن زينب كان لها الدور الكبير في استمرار القضية في الوجدان، وحمل لوائها على أساس القيم الإسلامية والمبادئ الصافية الأصيلة.
وقد يخيل لبعض الناس أن الحديث عن المأساة في خط القضية (حتى في مثل ما أثرناه) يمثل لونا من ألوان التعبئة النفسية ضد الذين صنعوا المأساة أو الذي يصنعون ما يماثلها، مما يحقق للقضية الكثير من عوامل القوة في وعي الجماهير عندما تنفتح مشاعرهم على الثورة من خلالها، ونحن نقول: صحيح ذلك فيما أكدناه من أهمية العاطفة في عاشوراء إلا أن ذلك يفرض نوعا من التوازن بين حركة العاطفة وصورة النموذج الأعلى للقضية فيما تتكامل فيه عناصر الثورة في خدمة القضية. ولذلك فإننا لا نرفض إثارة العاطفة فيما هي العناصر الحقيقية للمأساة، بل نرفض بعض المضمون الذي يبتعد بالمأساة عن جو القضية في مواقع القوة والعنفوان، كما نرفض الأسلوب الذي لا تتناسب فيه الإيحاءات بين الجو والفكرة.
وفي ضوء ذلك فإننا ندعو إلى صياغة المضمون العاشورائي (سواء فيما يطرحه قراء العزاء أو ينتجه الشعراء وغيرهم من الكتاب) من خلال ملاحظة القضية الحسينية في أهدافها الكبيرة والذي يلاحق أحداثها من خلال النقد الواعي الذي يأخذ في حسابه كل الظروف المحيطة بها من شخصية البطل، ونوعية الإنتصار، وطبيعة العدو، وصورة المرحلة، ليجتذب ذلك كله للواقع الذي تعيشه الأمة في عملية إيحاء بالثورة وحركة للتغيير على أساس الإسلام، لنستطيع أن نحرك الذكرى في امتداد الزمان، لتكون خيرا وبركة للحاضر والمستقبل، كما كانت بركة للماضي.