بقلم:موسى الرضا
العقيدة ألوهّابية: من إستئصال العقل الى عقل الإستئصال [line]-[/line]شهد التاريخ الإسلامي في أروقته العتيقة نقاشات وسجالات متتابعة عبر العهود. وكان العقل موضوعا دائما للطرح والنقاش الذي استعر في زمن الأمويين وامتد الى العصر العباسي . فنشأت الفرق وراح المتكلّمون يكيلون المدح للعقل أو الإنتقاص منه.
وارتفعت اللهجة فقال الأشاعرة: إن الهداية للشرع ....متذرعين بالآية: لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
وخالفهم المعتزلة : لا بل إن الهداية للعقل... محتجين بالنصوص القرآنية التي تحث وتستنكر على الناس عدم استخدام عقولهم : أفلا يعقلون.
وظل الحوار دائرا وقائما فكان يشتد حينا ويخفت أحيانا الى أن حصل ما يشبه المساكنة والتعايش بين الفكرتين ودعاتهما من اصحاب المدرستين.
في القرن الرابع للميلاد ظهر "عقل خاص" قام بهندسته ابن تيّمية مستعينا بإرث جدالي كبير لم تحسم نتائجه في أوساط الأمة الإسلامية. فموضوع أيهما أفضل علي أو معاوية وبالرغم من تقادم السنين لم يكن قد حسم بعد بين الجماعات الدينية الموحّدة لله , إلا انه ظلّ في إطاره الحماسي الثقافي بعيدا عن الطعن والتكفير ودون أن يؤدي بالمتنافسين بين الحزب الأموي من جهة و الدوحة المحمدية من جهة اخرى الى شحذ سيوفهم وسرج خيولهم وإتهام بعضهم بعضا بالخروج من عقيدة التوحيد.
بناء على ما تقدّم ظل الجدال محصورا بالسلطة وأحقية الحصول عليها ومن أخطأ ومن أصاب. ولكننا مع ابن تيمية سنشهد مادة جديدة غير مسبوقة للصراع.
مع ابن تيمية سيعاد الإعتبار الى نظرية " الكفرة الصلعاء" الذي يرتكبها كل من يجرؤ على الجهر بمخالفة معاوية والتي أوردناها في شهادة الشهود الأربعة الذين إختلفوا في إسلام حجر بن عدي من عدمه ولكنّهم إتفقوا على حق معاوية بن أبي سفيان المطلق في وضع حد فوري لحياة حجر دون أن يكون لإبن عدي أدنى حد في المرافعة أو المدافعة عن نفسه في محكمة الخليفة.
مع ابن تيمية إتخذت تلك الإندفاعة العاطفية العمياء وراء معاوية وسلطته هيئتها الجديدة من مجرد كونها مشاعر وشهادات في الحب والبغض الى مصطلحات ومفاهيم وأحكام شرعية تترتب على آثارها مصائر الشعوب وتدق لأجلها الأعناق وتباد بسببها الممتلكات.
لم يعد مهما في النقاش حول علي ومعاوية من أصاب منهما ومن أخطأ , بل أصبح السؤال: من هو المسلم الحقيقي؟ ومن هو المشرك "الخفي"؟
بعد ثورة بن تيمية الكودية الإصطلاحية في القرن الرابع الميلادي, لم تعد تسري مقولة أن للناس في ما يعشقون مذاهب. صار الإختلاف قرين الكفر إنتقل معه المسلم المخالف بالرأي آلياً وتلقائياً من درجة مسلم مختلف ومعارض فكري الى مرتبة مشرك خفي يلبس لبوس المسلمين.
هنا تعالى النزاع على مستوى الحقوق الى مستوى الوجود وأخذ مداه الأقصى على طريقة كن أو لا تكون.
" العقل الخاص" الذي أسسه ابن تيمية سيصبح أكثر مأسسة مع تلميذه ابن القيم ثم سيكتمل نموّه ويصل الى سن الرشد مع ابن عبد الوهاب الذي زاوج حركته العقلانية الإصلاحية الدينية مع الدولة السعودية الوليدة فوق حطام الخلافة العثمانية مطلع القرن الماضي حين باشر مدعوما بالسلطة النجدية الجديدة بتجريف القبور والمقامات كونها تخالف عقيدة التوحيد الصحيحة وحارب المتصوفة بضراوة شديدة بإعتبارها عقيدة باطلة مبتدعة .
وعلى نهج بن عبد الوهاب سار من بعده أتباعه ومريدوه فهمّشت المدارس الشافعية الحجازية وانتشرت الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي السني مدعمة بالمال السعودي الغزير على حساب باقي المذاهب الأربعة المعروفة.
من الجدير ذكره في هذا المورد هو أن الطفرة الوهابية وتمددها كان على حساب شقيقاتها من المدارس السنية دون الشيعية. لا بل إن تلك الطفرة زادت من التجاذب المحوري الذي أدى الى تقوية الشيعة وتصليب عودهم في مناطق انتشارهم المختلفة من العالم.
لم يستطع ذلك " العقل الخاص" أن يهضم الخرافات الشركية لبعض الفرق الضالة المخالفة طارحا نفسه حلا ً كاملا وشاملا لهزيمة الكفار وإستئصال شأفتهم ولكن... أولا بعد الإنتهاء من القضاء على الفرق الدينية المنافسة والمذاهب الإسلامية المخالفة.
هنا تصبح النظرية السلفية شبيهة بالشيوعية الثورية التي كانت تنادي في سبعينيات القرن الماضي بالإعمار ولكن أولا بعد تهديم البناء القائم وإزالته تماما.
من المثير للحيرة كيف وائم هذا "العقل الخاص" بين عقلانيته التوحيدية الخالصة المستنكرة للبدع والتبرك بالأولياء كون أنهم بشر ليس لهم قدسية ولا ينفعون ولا يضرون وجوّز لنفسه من جهة أخرى التمسك بآراء أوليائه ومفتيه الوهابيين بقداسة أكثر رديكالية رغم أن هؤلاء المفتين مجرّد بشر .. ورغم أن آرائهم الغريبة العجيبة مخالفة لمنطق العلم والعصر حيث يزعم مفتو الوهابية بضلالة من يعتقد بكروية الأرض وبأن إعتقاد المسلم بذلك مروق من الدين يوجب إقامة الحد عليه بالموت قتلا.
وبناء على منطق ذلك " العقل" يصبح تبرك أحد المسلمين بقبر النبي بدعة بعينها, أما قتل مسلم آخر وإدخاله الى القبر لأنه اعتقد بدوران الأرض حول نفسها , فمن السنة المؤكدة والصنعة الحسنة.
لذا يكاد يشابه المستحيل إمكان مقاربة ذلك "العقل الخاص" بناء على قواعد وثوابت عقلائية.
علينا أن نبحث عن المبررات الكامنة بغض النظر عن مقبوليتها وعقلانيّتها من عدمها. ولعل معرفة الأسباب هي الخطوة الأولى في الطريق الى فهم الدوافع والمبررات.
في هذا الصدد يبرز الفيلسوف الألماني شبنهاور سبّقا الى التفريق بين العقل والتفكير حين إعتبر العقل علاّقة الثياب التي تحمل الثوب أي التفكير. ولن نفهم الثوب إلا في سياق فهمنا لعلاّقة الثياب التي تحمله.
في بحثنا لابد لنا من أن نجهد في فتح الخزانة المغلقة بعد قرون طويلة لننظر الى العقول المعلقة ثم لنحاول تلمّس "البصمات السلطانية" التي علّقتها في خزائن الإيديولوجيا المظلمة تلك المدّة بغض النظر عن الأثواب المتدلية منها و روعة زركشاتها التراثية البديعة .
العقل الوهابي : لغته وإسقاطاته الأيديولوجية
قلنا في مقالنا السابق أن العقل السلفي عصي على الفهم بوسائل الإستدلال أو الإستقراء العقليين. لذا لابد من مقاربته ذرائعيا لفهم أسبابه وظيفيا ومبرّراته ومراميه عمليا. وأولى وظائف ذلك العقل الأيديولوجية تتركز في الإنغلاق على مخزونه الثقافي. وإعتبار المخالف له خارجا من كل ذمّة. فإن تمكّن السلفي من تعميم رأيه بالقهر والغلبة, بطش وأمعن بطشاً وإلاّ لجأ الى الإنكار والتبرير.. ثم الى التجريح والتأويل أي "أنك أيها المخالف منحرف مدّلس وأنا قصدت كذا" أو الى التأويل والتجريح أي " كان قصدي كذا ولكنك ضال مفسد حملت كلامي على غير ما أردت".
هذا العقل الممجد لذاته المنكر لما عداه يقوم على إرثه الخاص مبيحا لحراسه المقدّسين كل وسيلة ممكنة لأجل الديمومة والبقاء بدء بتكذيب الآخر وتكفيره.. وانتهاء بشتمه وتسفيهه. وأبلغ مثل لما تقدم هو تبرير ابن باز لفتواه القائلة بكفر المعتقد بدوران الأرض. فلما قامت قيامة الصحافة الخليجية عليه وعلى ما قال, أنكر فتواه مع أنها مثبتة في كتابه المطبوع بعنوان : الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض. الطبعة الثانية صفحة 23 .
ثم زعم أن كلامه قد أوّل فهو لم يقل بكفر من إعتقد بكروية الأرض وإنما قال بكفر من إعتقد بسكون الشمس. يقول في ردّه بالحرف الواحد: (كما أني قد أثبت في المقال فيما نقلته عن العلامة ابن القيم رحمه الله ما يدل على إثبات كروية الأرض، أما دورانها فقد أنكرته وبينت الأدلة على بطلانه ولكني لم أكفر من قال به، وإنما كفرت من قال إن الشمس ثابتة غير جارية ). هنا يصاب المرء بالدهشة بصرف النظر عن فساد رأي بن باز ونظرياته الغريبة في حركات النجوم والكواكب. فكيف أباح سماحة المفتي لنفسه بأن يهرف بما لا يعرف ثم زاد على ذلك بأن ظاهر واحتج بابن القيم؟ وكأن ابن القيم كان عالما فضائيا وفلكيا منجما؟؟
نترك الشيخ بن باز يستريح من عناء الفتاوي التي عجزت وكالة الفضاء الأمريكية- ناسا على أن تأتي بمثلها ونعود الى البحث في محاولة جديدة لمقاربة اللغة الدينية للعقل السلفي والتي ستكون طريقنا الى مزيد من الفهم فيما لو قمنا بأخذ عيّنات وراقبنا تفاعلاتها الإصطلاحية وانماطها ومآلاتها "الكيميائية":
من خلال الملاحظة العميقة لبعض المفاهيم الدينية الفقهية والمصطلحات السياسية للعقل السلفي يتبين لنا أن كثيرا من المفاهيم والمصطلحات قد تقاربت وتباعدت في مرور السنين. وقد مرت تلك الكوكبة من العبارات الإصطلاحية المفاهيمية بأطوار متعددة أدت في الختام الى أن تأخذ هويتها الراهنة. ويمكن أن نعدد بعض أنماط ( (Typusتلك العمليات التفاعلية وثمراتها الإصطلاحية:
1. عملية الإستحواذ حد الإندماج (Fusion)
من ثمرات تلك العملية ظهرت كلمة سلطان بمعناها المستجد. فكلمة سلطان تعني في الأصل سلطة, إلا أنها لاحقا وفي فترات متأخرة أي ما بعد زوال الدولة العباسية أصبحت تعني صاحب السلطة . وبعملية رياضية بسيطة تكونت المعادلة على الشكل التالي: الحاكم + السلطة = سلطان
من الواضح أن دمجا قد جرى بين مصطلحي السلطة وصاحبها بفعل الإستحواذ والجنوح الشديد من الحاكم نحو سلطة مطلقة فصار هناك تماثل وتطابق ومن ثم إندماج بين كلمة حاكم من جهة وكلمة سلطة من جهة أخرى فبرزت كلمة سلطان لا بمعناها الأصلي أي السلطة وانما بمعناها المستجد أي الملك وصار السلطان هو نفسه الدولة ( لاحظوا لقب دولة الرئيس) وفي ذلك تفوق سلاطين العرب على لويس الرابع عشر وسبقوه بقرون عديدة.
2. عملية التسلسل التصاعدي ( :(aufsteigende Kette
هذا النمط التصاعدي في العملية التفاعلية المركّبة بين التاريخ واللغة وسط جنوح كبير من الحاكم سوف يصل الى مستويات غير مسبوقة. فأبو بكر كان ينظر لنفسه كأمير للمؤمنين خليفة لرسول الله.
لاحقا صارت كلمة خليفة تستخدم بشكل مجرد دون مضاف إليه.
عندما استوثق الأمويون من استقرار دولتهم راحوا يجاهرون بفهمهم الخاص للخلافة بما هي ظل إلهي على الأرض . فالخليفة أو الحاكم ليس خليفة لرسول الله فقط كما كان الأمر في زمن الراشدين وإنما أصبح الخليفة خليفة الله وظلّه في الأرض وله من الصلاحيات في الأرض ما يعادل تقريبا صلاحيات سلطة السماء. ويمكن أن نتتبع أثر ذلك في زماننا الحاضر عبر الألقاب الملكية المعاصرة :" جلالة الملك", "صاحب الجلالة" حيث تتقاطع الجلالة الملكية مع الجلال الإلهي . وهذه المقاربة اللقبية هي أبلغ اثر ثقافي أموي معاصر لدى الملكيات العربية.
فبعد أن كان الحاكم يملأ مكان النبي ويحكم باسمه , أصبح لاحقا " يملأ مكان" الله ويحكم باسمه في جنوح شديد وهائل نحو سلطة مطلقة مطبقة لا يحدّها حدّ ولا يجرؤ على القدح في مشروعيّتها أحد.
3. الحذف والإضافة والإختيار الرغبي((selektive Wahrnehmung
من أفضل ما يمكن تقدّيمه في هذا الصدد مفهوم ومصطلح الجهاد الذي يحمل في جذوره الأولى وشكله الأول معاني الجهاد الأكبر أي جهاد النفس بما يعنيه من مقاومة لرغبات النفس وأهوائها. إذن لقد حذف جزء أساسي من مضامين المصطلح لإسباب سياسية أيدولوجية وتحول الجهاد الى مجهود عضلي مجرد من خلفيتة الأخلاقية التربوية.
هنا يبرز أبن تيمية كأحد المنظّرين المتحمسين لحذف البعد الروحاني التربوي عن مصطلح الجهاد معتبرا حديث النبي ( عدتم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر) موضوعا ولا أساس له من الصحة. لا بل إنه ذهب الى القول أن هدف ذلك الحديث الموضوع هو توهين عزيمة المسلمين في قتال المشركين.
وبذلك جرت توأمة سياسية نفسية لغوية واعية وحتى لا واعية بين الجهاد والسيف فلا يذكر الأول إلا ويحضر الثاني في تلازم غريب أحكمه بن تيمية في تركيزه على الجانب العنفي دون سواه انغرست على أثره في وعي العامة بعض مضامين وأبعاد المصطلح مبتسرا ومنتقصا بل ومتلازما مع تجاهل تام للمضامين والأبعاد الجوهرية الأخرى المتمّمة له.
ختام : السلفيون وآلة الزمن
إذن "العقل السلفي الخاص " ذو الطبيعة العنفية والذي لا يحتاج الى اي تخريجات عقلية أو مسوّغات عقلانية ما هو في المحصلة سوى ثمرة مبررات دينية-إجتماعية سلطوية أخذت تبني لنفسها عبر الدهور أدواتها المعرفية العصبية الخاصة مشفوعة بمبررات ودوافع حزبية سياسية عسكرية أيديولوجية ,دوافع راحت تتراكم وتتلازم ثم صارت تتابع تراكمها لكي تشكّل أخيرا العقل الأصولي المعاصر للسلفية بأشكالها المختلفة العلمية منها والجهادية.
بل لعل تلك النزعة العنفية الأصولية المتوترة لدى بن تيمية قد أصّلت وركّزت ميلا إلغائيا لدى دعاتها السلفيين المعاصرين تمثل في محاولاتهم راهنا التعبير عن أنفسهم بطريقة جذرية قهرية عبر السعي الى طمس و إلغاء أكثر من عشرة قرون من عمر التاريخ والرجوع سريعا بالحياة – على الأقل عبر شكلهم وملبسهم- من القرن الخامس عشر للهبوط فورا في القرن الهجري الأول طلبا للعيش مع الصحابة والتماهي معهم وإعتبار القرون الواقعة على امتداد أربعة عشر قرنا ملغاة بناسها وتراثها وعلمائها واسهامات أهل زمانها.
ومع التسليم بعبثية المحاولة إلا أن هذه النوستالجيا الدوغمائية تكشف إذ تتستر في زيها الرومانسي عن نزعة إلغائية كامنة لا تستند إلا الى ذاتها المؤدلجة.
من المؤكد أنه لو قيض للسلفيين بتياراتهم المختلفة أن يبتكروا آلة للسفر عبر الزمن والعودة الى عصر الرسول , فلن يتمكّنوا – كما يتخيلون- من قضاء ساعات ولقاءات سعيدة هانئة بصحبة النبي وأصحابه والسبب ببساطة هو اختلاف العصور وما يستتبع ذلك من اختلاف المعايير وتباعد المفاهيم الدينية واللغوية بشكل أساسي. و لو قدّر لهم فعلا أن يحطّوا في القرن الأول للهجرة, فسيفاجأون بأنهم غرباء ومختلفون عن مجتمع يثرب "البدائي". وسيكتشفون أن قراءاتهم وفهمهم للإسلام ما هو إلا نتاج مفاهيم وليدة وجديدة لقراءات وآراء عديدة تراكمت عبر عصورمتأخرة جدا عن زمن الدعوة بحيث أن نصوصهم تلك قد تجاوزت "بحداثتها" المصطلحات والمواد "الخام" للقرآن كما عرفها النبي والمسلمون الأوائل.