ميزر كمال- صحافي عراقي
سبتمبر 23, 2019
"تعرضت مناطقنا لقصف أميركي، وبعد ستة أشهر أُصبتُ بهذا المرض، وعندما راجعت الأطباء، تبين أنَّ سبب إصابتي بالسرطان هو الإشعاع، من جرّاء القصف الأميركي. لقد تركت دراستي، ولا أموال لكي أتعالج، وأنا أناشد الحكومة لمساعدتنا والذهاب بي إلى خارج العراق لأتمكن من العلاج".
تنويه: التحقيق يحتوي على صور وفيديوهات حصرية لعراقيين متأثرين بإشعاعات اليورانيوم المنضب، وقمنا بتغشية الصور الصادمة
في قرية نائية وبعيدة، لا طرق معبدة توصل إليها، وبيوتها معظمها من الطين، يذهب أحمد داود (16 سنة) كل يوم للعب كرة القدم مع أصدقائه، في ساحة ترابية قرب بستان النخيل على أطراف قرية خليل الحسيناوي الفقيرة، لكن حدث أن توقف الصبية عن اللعب لأيام في نيسان/ أبريل عام 2003 بسبب القصف العنيف الذي تعرضت له مواقع الدبابات ومضادات الطائرات التي وضعها الجيش العراقي في البستان وحول القرية (جنوب محافظة ديالى) لإخفائها عن الطائرات الأميركية.
بعد توقف القصف، عاد أحمد وأصدقاؤه للعب كرة القدم، ومنظر الدبابات المعطوبة لم يكن بالنسبة إليهم مثيراً للقلق، ما دامت الطائرات لن تعود مجدداً إلى سماء القرية، غير أنّ ما لم يكن يعلمه اللاعبون الصغار هو أنَّ الموت كامن لهم في بستان النخيل، وفي الدبابات المحترقة التي قُصفت باليورانيوم المنضب، وفي الغبار الذي يستنشقونه وهم يركضون خلف الكرة.
مرت 6 أشهر على سقوط نظام صدام حسين، تغير خلالها الكثير في العراق، وفي قرية خليل الحسيناوي أيضاً، حيث يسكن أحمد مع عائلته، وبينما كان يلعب في تلك الساحة الترابية ذات يوم، سقط أحمد على الأرض، وهذا كان آخر عهده مع كرة القدم، التي لن يكون قادراً على ركلها وتمريرها لأصدقائه مجدداً.
بعد مراجعات كثيرة إلى مستشفيات وأطباء، تبين أنّ أحمد مصاب بسرطان الغدد اللمفاوية. وفي فيديو حصلنا عليه من أرشيف دائرة الصحة في محافظة ديالى يعود إلى عام 2011، يظهر أحمد وقد تساقط شعره، وبدت عليه متاعب المرض وهو يتحدث عن حالته الصحية، التي تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، مؤكداً أنَّ الأطباء الذين راجعهم عزوا وبشكل مباشر سبب إصابته بالسرطان إلى إشعاعات تعرض لها.
“تعرضت مناطقنا لقصف أمريكي، وبعد ستة أشهر أُصبتُ بهذا المرض، وعندما راجعت الأطباء، تبين أنَّ سبب إصابتي بالسرطان هو الإشعاع، بسبب القصف الأمريكي، لقد تركت دراستي، وليس لدينا الأموال لكي أتعالج، وأنا أناشد الحكومة لمساعدتنا والذهاب بي إلى خارج العراق لأتمكن من العلاج”
بهذه الكلمات القليلة والمتعبة، وثَّق أحمد شهادته ومرضه، وقالت والدته: “إنَّه كان بكامل صحته قبل القصف الأميركي، ثم بدأت تظهر عليه أعراض التعب، وبدأت قدماه تُصابان بخدر بين حين وآخر، وظهرت أورام تحت إبطه وفي خاصرته وصدره، ولم تُشخَّص إصابته بالسرطان مبكراً لذلك لم يعد باستطاعتنا فعل أيّ شيء”.
مات أحمد بعد 8 سنوات من تشخيص إصابته بالسرطان، وظلَّ هذا الفيديو شهادة حزينة توثق نداءً ملحّاً للنجاة، لكنَّ أحداً لم يسمع، والحكومة التي ناشدها لتقديم المساعدة له، لم تمد له يدَ العون، وحجبت شريط الفيديو الوحيد له طيلة هذه السنوات، قبل أن نعثر عليه وتكون قصته بداية تحقيقنا الذي نتقصى فيه الآثار المدمرة التي نتجت عن استخدام سلاح اليورانيوم المنضب في حرب الخليج 1991 أو “عاصفة الصحراء”، ثم حرب 2003 التي انتهت بسقوط نظام صدام حسين، ودخول قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى العراق.
“تعرضت مناطقنا لقصف أميركي، وبعد ستة أشهر أُصبتُ بهذا المرض، وعندما راجعت الأطباء، تبين أنَّ سبب إصابتي بالسرطان هو الإشعاع، من جرّاء القصف الأميركي. لقد تركت دراستي، ولا أموال لكي أتعالج، وأنا أناشد الحكومة لمساعدتنا والذهاب بي إلى خارج العراق لأتمكن من العلاج”.
نعمان داود شقيق أحمد يحمّل الجيش الأميركي مسؤولية موت شقيقه، ويقول: “لقد تلوثت منطقتنا بالإشعاع بسبب القصف الأميركي، والأطفال الذين خرجوا للعب كلهم أصيبوا، لم يكن أحمد وحده، أصدقاؤه أيضاً أصيبوا بالسرطان، وكثر من أبناء القرية”. ويتابع نعمان أنّهم حين كانوا يدورون بأحمد بين مستشفيات في ديالى وبغداد، كان يسألهم الأطباء إن كانوا يسكنون قرب معسكرات للجيش أو مواقع عسكرية، لأنّ الفحوصات تشير إلى تعرّضه لمستويات عالية من التلوث الإشعاعي.
فيديو آخر حصلنا عليه من مصادر خاصة في دائرة صحة ديالى، يعود إلى قرية خليل الحسيناوي أيضاً، يُظهر مجموعة مكونة من خمس نساء مصابات بالسرطان، يتحدثن عن ظروف الإصابة. تقول سناء حمد إنَّها بعد أسبوعين من قصف الطائرات الأميركية خرجت مع نساء أخريات إلى الحقل، وبعدها بدأت أعراض غريبة تظهر عليهن، وعندما أجرين الفحوصات الطبية تبين أنهن مصابات بالسرطان.
تتبعنا كل من ظهروا في الفيديوات التي حصلنا عليها، وذهبنا إلى قرية خليل الحسيناوي، لتقصي حالة المصابين بالسرطان هناك، ومعرفة مصائرهم، لكننا لم نجد غير عائلة أحمد التي حدثتنا عن ظروف إصابته وموته. أما النساء الأخريات فأخبرنا الأهالي هناك أنَّهن نزحن مع عائلاتهن بعد نشوب الحرب الأهلية عام 2006، ولم يعد أحد منهم إلى القرية منذ ذلك الحين، غير أنَّهم أكدوا أن الإصابة بالسرطان باتت متفشية في القرية وكثيرون ماتوا بسبب هذا المرض.
أعداد المصابين بالسرطان من 1991 إلى 2018 بالاعتماد على الإحصائيات غير المنشورة التي حصلنا عليها من وزارة الصحةحرب السرطان الشرسة
منذ حرب عاصفة الصحراء 1991، صار لافتاً ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية في العراق، وتعزو منظمات دولية كثيرة، ودراسات أُجريت على آلاف العراقيين خلال الـ28 سنةً الماضية، هذا الارتفاع إلى استخدام اليورانيوم المنضب في حربي 1991 و2003 وزيادة نسب التلوث الإشعاعي في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان.
طلبات كثيرة قدمناها لوزارة الصحة من أجل الحصول على تقاريرها الإحصائية السنوية بغرض دراستها ومقارنة أرقام ونسب الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية في المدن العراقية. وفي كل مرة ترفض الوزارة طلبنا لأسباب لم توضحها، لكننا في النهاية وبمساعدة موظفين يعملون في دائرة التخطيط وتنمية الموارد في مركز الوزارة طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، استطعنا الحصول على التقارير الإحصائية السنوية غير المنشورة، للفترة بين عامي 1991 و2018.
منذ عام 1991 وحتى عام 2003 بلغ عدد المصابين بالسرطان في العراق 131072 مصاباً، فيما ارتفع هذا العدد كثيراً بعد حرب 2003 التي أطاحت بنظام صدام حسين، ومنذ عام 2004 حتى عام 2018 بلغ عدد المصابين بالسرطان 287254 مصاباً، بحسب تقارير وزارة الصحة، لكن هنالك من يعتبر أنَّ هذا الرقم أقل كثيراً من العدد الفعلي لمرضى السرطان.
عباس قاسم، 22 عامًا، مصاب بالسرطان جرّاء التلوث الإشعاعي على الحدود العراقية الكويتية، البصرة،2002في شهادته عن تأثير سلاح اليورانيوم المنضب، يقول أستاذ الفيزياء النووية والعميد السابق لكلية العلوم في جامعة بغداد الدكتور محمد الشيخلي إنَّ العدد الفعلي للمصابين بالسرطان في العراق يقترب من المليون شخص، ويضيف أنّه سلَّم وزارة الصحة والبيئة وكذلك الأمم المتحدة تقريراً مفصلاً عن التأثيرات الكارثية للتلوث الإشعاعي، حيث ترأس فريقاً بحثياً بعد أسبوعين من دخول قوات التحالف بقيادة الجيش الأميركي إلى العراق في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003. وكانت مهمة الفريق قياس مستوى التلوث الإشعاعي في المناطق التي قُصفت باليورانيوم المنضب، وكذلك المنشآت العسكرية والنووية التي تعرضت للدمار والسرقة.
يقول الشيخلي الذي يُقيم الآن في بيروت إنّه وفريق مـن مركز بحوث طب اليورانيوم تقصَّوا المواقع التي قُصفت باليورانيوم المنضب ابتداءً من شمال العاصمة بغداد، وحتى مدينة أم قصر في أقصى الجنوب العراقي، حيث المنطقة الحدودية مع الكويت، وأجروا خصوصاً مسحاً للمناطق شديدة التحصين والمنشآت العسكرية التي استهدفت بكميات كبيرة من ذخيرة اليورانيوم، باعتباره سلاحاً مخصصاً لاختراق الدروع.
“شاهدنا ونحن نعبر العراق بقايا آلاف المدرعات والعربات المصفحة المحروقة والمدمرة، من دبابات وناقلات جند وشاحنات عسكرية وقاطرات مدفعية ثقيلة وغيرها، انتشرت على امتداد ساحات العمليات العسكرية من بغداد وحتى أقصى الجنوب في أم قصر والفاو. هذه الدروع تلقت ضربات مدمرة من طائرات ودبابات أميركية بذخائر معظمها مصنوع من مادة اليورانيوم المنضب، وانتشرت هذه الدروع في الحقول والبساتين وتحت النخيل وبين البيوت السكنية”.
ويضيف الشيخلي أنَّ الاستطلاعات الميدانية والقياسات التي أجراها الفريق العلمي في العراق، أظهرت ارتفاع مستوى التلوث الإشعاعي في مناطق شاسعـة من بغداد ومناطق جنـوب العراق، حيث يزيد في هواء بعض المناطق بعشرة أضعاف عن المستوى الطبيعي. أما مستوى الإشعاع في مناطق اختراق إطلاقات اليورانيوم للمدرعات العراقية، فيزيد على 30 ألف مرة عن الحد الطبيعي، وقد لوحظ أنَّ الشظايا التي تخلفها بعض الإطلاقات المنفجرة تنتشر على رقعة واسعة، ولا سيما في مناطق الحقول، ما يهدد تلوث المياه السطحية والدورات الزراعية والغذائية، إضافة إلى المياه الجوفية مع تقادم الوقت.
في عدد كانون الثاني/ يناير لعام 1998 نشرت مجلة “ألف باء” الورقية إحصاءات وزارة الصحة العراقية لنسب الإصابة بمرض اللوكيميا في العراق، وأظهرت حينها ارتفاعاً قالت الوزارة إنّه كبير في ظل تدني الخدمات الصحية جرّاء الحظر المفروض على العراق بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 661 الذي صدر في 6 آب/ أغسطس عام 1990، نتيجة الغزو العراقي للكويت.
الإحصاءات التي شملت 6 محافظات في جنوب العراق بين عامي 1989 و1995 تظهر أنَّ نسبة الإصابة باللوكيميا ارتفعت من 3.8 في المئة إلى 10.6 في المئة في محافظة المثنى، ومن 5.4 في المئة إلى 10.3 في المئة في محافظة البصرة، ومن 4.6 في المئة إلى 8.2 في المئة في محافظة ذي قار، ومن 4.5 في المئة إلى 7.5 في المئة في محافظة ميسان، ومن 4.8 في المئة إلى 6.2 في المئة في محافظة القادسية (محافظة الديوانية الآن) ومن 5.3 في المئة إلى 8 في المئة في محافظة واسط.
عام 1998 أيضاً، أصدرت الأمم المتحدة وثيقةً كشفت فيها أن معدلات الإصابة بالسرطان زادت بستة أضعاف بعد حرب الخليج عام 1991، وجاء في الوثيقة أنَّ الزيادة بنسب الإصابة بالسرطان في عموم العراق بلغت 55 في المئة بين عامي 1989 و1994، وأنَّ أنواعاً جديدة من السرطان بدأت تتفشى في البلاد، والسرطان بدأ يظهر في صغار السن.
كابوس النظائر المشعة
بيانات الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع تشير في تقريرها المقدم لوزارة الدفاع السويدية أنَّ الولايات المتحدة الأميركية أسقطت نحو 78214 مقذوفة من اليورانيوم المنضب على العراق في حرب عاصفة الصحراء عام 1991، وارتفع استخدام الجيش الأميركي لليورانيوم المنضب في حرب 2003 ليصل وفق الوكالة السويدية إلى 300000 مقذوفة، مؤكدةً تجاهل الولايات المتحدة التحذيرات من استخدام هذا السلاح في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان.
سلاح اليورانيوم المنضب المستخدم بكميات هائلة من قبل الجيش الأميركي كلَّف العراق خسائر فادحة، وقضى على معظم قدرته العسكرية وآلياته، ففي حرب 1991 أعلنت القيادة المركزية الأميركية أنَّ الجيش العراقي خسر 3700 من أصل 4280 دبابة يمتلكها، و2400 من أصل 2880 ناقلة جنود مدرعة و2600 من أصل 3100 قطعة مدفعية.
المعدات العسكرية العراقية المدمرة تحوَّلت إلى خردة معدنية ملوثة بالإشعاع، وجُمعت في مقابر كبيرة للحديد قرب الحدود العراقية – الكويتية، وكذلك في مناطق عدة من محافظة البصرة، كما في قرية “أبو فلوس” التي تقع بالقرب منها أكبر مقبرة للخردة العسكرية الملوثة، إضافة إلى 2000 عربة مدرعة ومدنية قُصِفت على الطريق الدولي رقم 80 خلال انسحاب الجيش العراقي من الكويت عام 1991، والذي صار يُعرف في ما بعد بـ”طريق الموت”.
في حرب 2003 لا توجد إحصاءات لعدد الآليات والمواقع العسكرية التي قُصفت باليورانيوم المنضب، لكن ما هو مؤكد أنَّ الغالبية العظمى منها تم تدميره بالفعل، وما زاد الأمر سوءاً هو أنّ تلك العربات -الدبابات والدروع- ومنصات الدفاعات الجوية تم نشرها في المدن وأطرافها وفي البساتين والقرى النائية، ما جعلها عرضة للسرقة والتداول، بعد سقوط نظام صدام حسين.