|
-
روائع نهج البلاغة لجورج جرداق
الباب الأول - في أدب الإمام
الفصل الأول- حدود العقل والقلب
وكان شديداً، قاصفاً، مزمجراً، كالرعد في ليالي الويل!
والينبوع هو الينبوع لا حسابَ في جرْيهِ لليلٍ أو نهار!
من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي أو غربي، ولا قديم ولا محدث، أدرك ظاهرةً لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف. فهم بين منتج خلاّق، ومتذوق قريب التذوق من الإنتاج والخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع دنيواته ومعانيه وأشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم.
فنظرة واحدة إلى الأنبياء، مثلاً، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود وسليمان وأشعيا وأرميا وأيوب والمسيح ومحمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم. وهذا نابليون القائد، وأفلاطون الفيلسوف، وباسكال الرياضي، وباستور العالم الطبيعي، والخيام الحسابي، ونهرو رجل الدولة، وديغول السياسي، وابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله. فلكلٍ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدده الطبع والموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.
هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى، وآيته في ذلك "نهج البلاغة" الذي يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيّدها في نطاقٍ من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل عليُّ سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحاداً لا يجوز فيه فصل بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه "دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق".
ولا عجب في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبدالله، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة، أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبة العظيمة، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعاً.
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من "نهج البلاغة" عملاً عظيماً. وهو ذكاء حي، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بُعداً فما يفلت منه جانب ولا يظلم منه كثير أو قليل، وغاص عليه عمقاً، وقلبه تقليباً، وعركه عركاً، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمنعها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشد القرب، وما بعد أقصى البعد.
ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت. وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كلٌّ منها نتيجةً طبيعية لِما قبلها وعلة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو، لاتساع مداه، لا يستخدم لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقاً وراءها آفاق.
فعن أيّ رحبٍ وسيع من مسالك التأمل والنظر يكشف لك قوله "الناس أعداء ما جهلوا" أو قوله "قيمة كل امرئٍ ما يُحسنه" أو "الفجور دار حصنٍ ذليل".
وأي إيجاز معجز هو هذا الإيجاز:"من تخفف لَحِق" وأي جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلً ، بل قل أنزلت تنزيلاً.
ثم عن أي حدة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك، يشف هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله:"ما رأيت ظالماً أشبه بمظلومٍ من الحاسد: نفسٌ دائم وقلبٌ هائم وحزن لازم، مغتاظ على مَنْ لا ذنب له، بخيل بما لا يملك".
ويستمر تولد الأفكار في في "نهج البلاغة" من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي، وهي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق ويتربت بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي وما يلقيه ارتجالاً، فالينبوع هو الينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم. وإنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام والضبط العميقين، حين تعلم أن علياً لم يكن ليعدّ خطبه ولو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنتَ ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبرَ يأخذه أو يعطيه قبل وميضه، وكالصاعقة إذ تزمجر ولا تهيء نفسها لصعق أو زمجرة، وكالريح إذ تهب فتلوي وتميل وتكسح وتنصب على غاية ثم إلى مَدَاورها تعود ولا يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلا قانون الحادثة ومنطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد.
ومن مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيّج في نفسه وتعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.
ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث والوصف فأحكم في كل موضوع ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء. ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين. ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود. وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الذكاء القوي الذي حُرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان علي يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعية الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً، لا يمر في مخيلة علي إلا وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمده بالحركة والحياة.
وقد تميز على بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع. وقد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي خياله المبدع، فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حية، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع وأغصان، ذات أوراق وأثمار.
ومن ثم يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون، لشدة واقعيتها واتساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها. ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلاً:"لَتَغْرِقَنَّ بلدتكم حتى كأنني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ(1) طيرٍ في لجة بحر"، أو في مثل هذا التشبيه الساحر:"فتنٌ كقطع الليل المظلم"، أو هذه الصورة المتحركة:"وإنما أنا كقطب الرحى: تدور عليّ وأنا بمكاني"، أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور:"ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم الفيلة".
ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. والتمثيل في أدب الإمام وجهٌ ساطع بالحياة. وإن شئت مثلاً على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر، فهو وإن أخافَ بمركوبه إلا أنه يخشى أن يغتاله:"صاحب السلطان كراكب الأسد: يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه".
وإن شئت مثلاً آخر فاستمع إليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول:"إنما أنت كالطاعن نفسَه ليقتل رِدْفَه". والردف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب:"إياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب: يُقرب عليك البعيد ويُبعد عنك القريب".
أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفن، فهي إن صحت فإنما الدليل عليها قائم في كلام علي في وصف من فارقوا الدنيا، فما أهولَ الموت وما أبشع وجهه، وما أروع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقعه. فهو قولٌ آخذٌ من العاطفة العميقة نصيباً كثيراً، ومن الخيال الخصب نصيباً أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت وهوله لوناً ونغماً وشعرا.
فبعد أن يذكّر علي الأحياء بالموت ويقيم العلاقة بينهم وبينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقولٍ فيه من الغربة القاسية لونٌ قاتمٌ ونغمٌ حزين:"فكأنّ كل امرئٍ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة"، ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون، بعبارات متقطعة متلاحقة وكأن فيها دوي طبول تُنذر تقول: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!". بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتُشعلها العاطفة، ويجسم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة وهي بين عيونٍ تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئنّ، قائلاً:"وإنما الأيام بينكم وبينهم بواكٍ ونوائحُ عليكم". ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
"ولكنهم سُقوا كأساً بدلتهم بالنطق خَرَسَاً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سُبات(2)! جيرانٌ لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون، بَليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلهم وحيدٌ وهم جميعٌ، وبجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، ولا لنهارٍ مساءً. أي الجديدين(3) ظَعَنوا فيه كان عليهم سرمداً(4) ".
ثم يقول هذا القول الرهيب:"لا يعرفون مَن أتاهم، ولا يحفِلون مَن بكاهم، ولا يجيبون مَن دعاهم !".
فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هَوْل الموت ووحشة القبر وصفة سكّانه في قوله: "جيرانٌ لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون !" ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي: "أي الجديدين ظَعَنوا فيه كان عليهم سرمداً !".
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخيةً حارة. وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمده العاطفة بالدفء. وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب وسائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذا الأثر، ذلك أن المركب الإنساني لا يرضيه، طبيعياً، إلا ما كان نتاجاً لهذا المركب كله. وهذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. وإنك لتحس نفسك مندفعاً في تيار جارف من حرارة العاطفة وأنت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر .
أفلا يشيع في قلبك الحنان والعطف شيوعاً وأنت تصغي إلى علي يقول: "لو أحبني جبلٌ لتهافت" أو "فقْد الأحبة غربة" أو "اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وقالوا: ألا إنَّ الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌ ولا مساعدٌ إلا أهل بيتي".
وإليك كلاماً له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمه الرسول: "السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك. قَلَّ، يا رسول الله، عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك. إنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استُرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم".
ثم إليك هذا الخبر: روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال: خطَبَنَا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، فقال عليه السلام، في جملة ما قال: "ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً، وأزمع الترحال عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى. ما ضرّ إخواننا الذين سُفكت دماؤهم وهم بصفّين أنْ لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغَصَص، ويشربون الرَّنِق؟ قد، والله، لقوا الله فوفّاهم أجورَهم وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم. أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمّار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية؟". قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء.
وأخبر ضرار بن حمزة الضابئ قال: فأشهد لقد رأيته –يقصد الإمام في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وهو قائمٌ في ظلامه قابضٌ على لحيته يتململ ويبكي بكاء الحزين ويقول: " يا دنيا يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضتِ؟ أم إليّ تشوقتِ؟ لا حان حينُكِ، هيهات، غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتكِ ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر وعظيم المورد".
هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أنّى اتجه في نهج البلاغة، وحيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب والسخط، كما تواكبه في ما يثير العطف والرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل ويحيطونه بالسلاح والأرواح، تألم وشكا، ووبّخ وأنّب، وكان شديداً قاصفاً، مزمجراً، كالرعد في ليالي الويل. ويكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: "أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمَّ الصِّلاب... إلخ"، لتدرك أية عاطفة متوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة وجيَشَانها.
وإنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام، فهي في أعماله، وفي خطبه وأقواله، مقياسٌ من المقاييس الأسُس. وما عليك إلا أن تفتح هذا الكتاب –نهج البلاغة-كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة والعمق العميق.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الباب الأول - في أدب الإمام
الفصل الثاني- الوحدة الوجودية
وكان ما تَباعَدَ منها مضموماً في وحدة طَرَفَاها الأزل والأبد.
الأدب أصالة في الفكر والحس والخيال والذوق، تربط بين صاحبها وجملةَ الكائنات في وحدة وجودية مطلقة. ثم تعبّر عن نفسها بحياةٍ تُحيى على أصولٍ من هذه الوحدة، وبأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب والكون.
ولما كان العلم تجزئةً كان الفن توحيداً. ولما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائناتٌ وَجَب فكُّها وتذريرُها، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائناتٌ مجزأةٌ في ظاهرها، موحّدة في أصولها وحقيقتها، مما يؤول إلى فكرة الشمول الكوني والارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود. وما كان الأدب إلا بهذا الشمول.
وإذا كان الفلاسفة قد فطنوا إلى وحدة الوجود في العصور المتأخرة، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الإنسان وكانت في أعماقه بذور الفن وأحاسيس الأدب. ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله وقياسه، وكلاهما محدود بالنسبة للمركَّب الإنساني الحي. ودليل الأديب شعوره وإلهامه، وهما انبثاق عاجلٌ وامضٌ عن جملة كيانه.
ثم إن نظرة الفيلسوف إلى الكون كوحدةٍ متفاعلة متكاملة، إنْ هي إلا نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب، فالفيلسوف يشاهد ويراقب ويقيس ثم يسجّل. وأدواته في ذلك العقل وحده، والعقل شيء من الإنسان الحي بلْ قُل هو جانب منه. والأديب يتفاعل مع الكون تفاعلاً مباشراً مستمراً إذ يحس ويستلهم بعقله وشعوره وخياله ومزاجه وذوقه جميعاً، أي بجملة كيانه. وهو، إلى ذلك، أسبق وأعمق. فالأديب أستاذ الفيلسوف: أستاذه ودليله منذ كان، وأستاذه ودليله إلى الأبد.
وإذا كان هذا هو الأمر، وهو كذلك، فإن علي بن أبي طالب عظيمٌ من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة والأسلوب: طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء ورمال الصحراء ومياه البحار وكساء الطبيعة فإذا هي أشياء في نفوسهم، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل وتبقى إلى الأبد.
يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الإحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر: "بل كيف يكون أديباً من لا يحسّ جذوره في الأزل والأبد، ولا يحسّ ما مضى وما سيأتي؟".
إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعاً، على تباين مظاهرها، بوشاح واحد، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوعت موضوعات هذه الآثار، ومهما اختلفت ظروفها، فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلاً: "تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، ولكنْ أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها". سمعتَ صوتاً من أعظم ما سمع الكون، وأدركتَ أمتعَ نظرة تخترق أعماق الجمال الكلي، وتساءلت: أنّى للتراب والصخر وسُحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة وهذا الجمال، جمال زنابق الحقل وهي تنمو، لو لم تكن وحدة الوجود هذه ولو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد، ورابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية؟ وهو، في الوقت ذاته، مدار الفكرة والشعور لدى الفنان: الخالق الصغير.
ومن ذلك قول المسيح الرائع وقد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلاً بحكم شرائعهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر".
وإذا أنت سمعتَ قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود:
"جيلٌ يمضي وجيلٌ يأتي والأرض قائمة مدى الدهر. والشمس تشرق والشمس تغرب ثم تسرع إلى موضعها الذي طلعتْ منه. تذهب الريح إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تدور وتطوف في مسيرها ثم إلى مداورها تعود الريح! جميع الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن ثم إلى الموضع الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تعود لتجري أيضاً".
وإذا سمعتَه أيضاً يقول:
"أنا وردة الشارون وسوسنة الأودية، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين النبات. كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيبي بين البنين. قد اشتهيتُ فجلستُ في ظله وثمرهُ حلوٌ في حلقي. قد ظهرت الزهور في الأرض ووافى أوان القضب وسُمع صوت اليمامة في أرضنا.
"يا حمامتي التي في نخاريب الصخر وفي خفايا المعاقل أريني محيّاك، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف ومحيّاك جميل، إلى أن ينسمَ النهارُ وتنهزم الظلال. عد يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر.
"جميلة أنت يا خليلتي ! جميلة أنت وعيناك كحمامتين من وراء نقابك، وشَعرُك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد. شفتاك كسِمْطٍ من القرمز ونطقُك عذب. خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك. عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علقَ فيه ألف مِجَنّ، جميع تروس الجبابرة. إلى أن ينسمَ النهار وتنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ وإلى تلّ اللبّان. هلمّي معي من لبنان أيتها العروس. معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حَرَمون من مرابض الأسود من جبال النمور. شفتاك تقطران شهداً أيتها العروس وتحت لسانك عسل ولبن وعرف ثيابك كعرف لبنان.
"عين جنّات وبئر مياه حية وأنهار من لبنان، هبّي يا شمال وهلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها !".
إذا أنت سمعت ذلك ووعيته وعياً صحيحاً، أدركت أن سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح وإن اختلف الموضوع.
ومن ذلك قول فيكتور هيغو، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية، وهو حوار بين الكواكب يرينا الشاعرُ به الإنسانَ وقد ضاع وكاد يختفي هو والأرض التي يسكنها، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب:
"ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس؟
أيتها الأرض، ما الغاية من دورانك، في أفقك الضيق المحدود؟
وهل أنتِ سوى حبةٍ من الرمل مصحوبة بذرة من رماد؟
أما أنا، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطاراً هائلاً
فترى المسافة المكانية، وهي فزِعةٌ مرعوبة، جمالي مشوّها!
وهالتي، التي تحيل شحوب الليالي إلى حمرة قانية
ككرات من الذهب تعلو وتهبط متقاطعة في يد الحاوي،
تبعد، وتجمع، وتمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة!
وها هي الشمس تجيب:
سكوتاً، هناك في زاوية من السماوات، أيتها الكواكب، أنتم رعاياي!
هدوءاً، أنا الراعي وأنتم الرعية.
إنكما كعربتين تسيران جنباً إلى جنب للدخول من الباب.
في أصغر بركان عندي، المريخ مع الأرض
يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل.
وها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضيء مثل
سبع أعينٍ حية لها بدل الحبات شموس!
وها هو ذا طريق المجرة يرسم
غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء!
أيتها الكواكب السفلى، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد
حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء،
وشموسي الكثيرة، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر،
في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها،
سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل !".
وها هي ذي نجوم مجرة أخرى تصوّر عوالم لا تقل عن تلك العوالم، متناثرة في الأثير، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه ولا حصباء في جوانبه، تذهب أمواجه ولكن لا تعود أبداً إلى شواطئه.
"وأخيراً ها هو الإله يتحدث:
"ليس لديّ إلا أن أنفخ، فيصبح كل شيء ظلاما(5)".
وإليك ما يقوله علي بن أبي طالب في صفة الطاووس:
"ومِن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديلٍ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد.ٍ بجناحٍ أشرحَ قَصبَه. وذَنبٍ أطال مسحبَه. إذا دَرَج إلى الأنثى نشره من طيّه، وسما به مطّلاً على رأسه.تخال قَصَبَه مداري من فضّةٍ، وما أنبتَ عليه من عجيب داراته وشموسه خالصَ العِقْيان وفِلَذَ الزبَرْجد. فإن شبّهته بما أنبتتِ الأرض قلت: جنىً جُنيَ من زهرة كلّ ربيعٍ. وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحُلل أو مونق عَصْب اليمن. وإن شاكلته بالحُلي فهو كفصوصٍ ذات ألوانٍ قد نطّقت باللجين المكلّل: يمشي مشي المرِح المختال، ويتصفّح ذَنَبَه وجناحيه فيقهقهُ ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه!
"فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجّعه، لأنّ قوائمه حُمْشٌ كقوائم الديكة الخلاسيّة. وله في موضع العرف قُنزُعةٌ خضراء موشاةٌ. ومَخْرَج عنقه كالإبريق، ومَغْرَزُها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة، أو كحريرةٍ ملبسةٍ مرآةً ذات صِقالٍ.
"ومع فتق سمعه القلم في لون الأقحوان أبيضٌ يققٌ، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. وقلّ صبغٌ إلاّ وقد أخذ منه بقسطٍ وعلاه بكثرة صقاله وبريقه وبصيص ديباجه ورونقه، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيعٍ ولا شموس قيظٍ. وقد يتحسّر من ريشه، ويعرى من لباسه، فيسقط تترى، وينبت تباعاً، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثمّ يتلاحق نامياً حتّى يعود خطٌّ كمستدقّ هيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه، ولا يقع لونٌ في غير مكانه. وإذا تصفّحت شعرةً من شعرات قصبه أرتك حمرةً ورديةً، وتارةً خضرةً زبرجديّةً، وأحياناً صفرة عسجديّةً، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين !".
وإليك قليلاً من قوله في خلق السماء والأرض:
"فَطَر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتّد بالصخور ميدان أرضه. ثم أنشأ سبحانَه فَتْقَ الأجواء، وشقَّ الأرجاء، وسكائكَ الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيّاره متراً كماً زخّاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزَع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتق مَهَبّها، وأدام مربّها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها. فأمرها بتصفيق الماء الزخّار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء: ترد أوّله إلى آخره، وساجيه إلى مائره..."
وأوصيك خيراً بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام إلى المركّب الإنساني جميعاً فتصوِّر له كيف يستوي الجليل واللطيف من الكائنات، والشمس والقمر، والماء والحجر، والكبير والصغير، والهيّن والصعب، في معنى الوجود. وكيف تشترك جميعاً في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم: نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية، ولا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع واحتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب والحصى.
يقول علي:
"لو ضربتَ في مذاهب فكرك لتبلغَ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف، في خلقه إلا سَواء. وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف الليل والنهار، وتفجُّر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال إلخ..."
ثم استمع إليه يقول:
"لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يُعمر معمرٌ منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا تجدد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، ولا يحيا له أثرٌ إلا مات له أثر، ولا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلَق له جديد، ولا تقوم له نابتة إلا وتسقط منه محصورة، وقد مضت أصولٌ نحن فروعها".
إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه، بلسانه!
وفي خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلقة امرئ القيس، ومقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب، وهي تصبّ جميعاً في معنى الوحدة الوجودية الكاملة. ثم تزيد عن ذلك بانطلاقةٍ فذة إلى قهر الظالم والمعتدي، وإلى نصرة الضعيف في النبت والأرض والبهيمة والأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قوياً بهيّاً.
يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولاً ما خلاصته:
لقد قعدتُ لذلك البرق أرقبُ من أين يجيء المطر، ويا لروعة ما رأيت! لقد أقبل المطر من جهاتٍ أربع سيولاً سيولا! رأيته من بعيدٍ فكان يمينه في تقديري على جبل "قَطَن" ويساره على جبلي "الستار" و "يَذبُل". وراح الماء ينبجس شديداً هنا وهناك فتقلب سيوله الأشجار قلباً عتيّا، ومرَّ على جبل "القنان" برشاشهِ فأكرَهَ الوعولَ على النزول عنه. بعد ذلك يقول الشاعر:
وتَيماءَ لم يتركْ بها جذعَ نخلــةٍ
ولا أُطُماً إلا مَشيْداً بجنــــدلِ
كأنْ ثبيراً في عرانينِ وَبْلــــةِ
كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمّــــلِ
كأن ذرى رأس المجيمرِ غــدوةً
من السيل والغثاء فلكةُ معــزلِ
وألقى بصحراء العبيطِ بَعَاعَــهُ
نزولَ اليماني ذي العِياب المحمّلِ
كأنْ مكاكيَّ الجواء غُديّـــــةً
نشاوى سُلافٍ من رحيقٍ مفلفـلِ
كأنْ السباع فيه غرقى عشيّـــةً
بأرجائه القصوى، أنا بيشُ عُنْضُلِ
فأنت ترى إلى امرئ القيس كيف يلحظ أن المطر قد أسقط نخل تيماء كله، وجرف أبنيتها فلم يبقَ منها إلا المشيد بالجنادل والصخور. أما جبل "ثبير" المعتز بشموخه على ما حوله من الأرض الواطئة، فقد غطاه المطر إلا رأسه، فبدا كشيخِ قومٍ ملتفّ بكساء مخطط. وتتابع الأمطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي أثقالها جميعاً في الصحارى التي ظلت زمناً قاحلة لا نبت فيها ولا رُواء، فإذا بها تنبت عشباً وزهراً ملوناً يشبه الثياب الملونة الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني أمام أعين الناس. وقد أحسن المطر إلى هذه الصحارى المجدبة فإذا هي رياض زاهية تغني بها الطير طرِبةً سكرى! أما الوحوش الضارية التي كانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان والطير، فقد ذلّها المطر وأغرقها فطفت على الماء كأنها جذور البصل البريّ.
وهكذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الكبير، الذي يتابع رحلته حتى النهاية، وكأنه يمثل قوة الوجود المدبرة. فهو قويٌّ عادلٌ كريمٌ ينصر الضعفاء الممثلين بالأرض الواطئة وصغار الطير، فيملأ الوادي بالنبت والزهر واللون ويُدخل الفرحة على قلوب العصافير فتطرب وتغني. ويداعب الأقوياء الممثلين بالجبال التي يضايقها من كل جانب ويُضعف من شأنها. ويفتك بذوي البطش الممثلين بالسباع الضارية فيقهرها ويغرقها ويجعلها تافهة!
وهذا عليّ يحسّ أمام الغيث ما أحسّه امرؤ القيس من تمثيله القوةَ العادلة الكريمة، فيقول في خاتمة حديث طويل:
"فلما ألقتِ السحائب بَعاعَ ما استقلت به(6) من العبء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات(7) ومن زُعْر الجبال الأعشاب(8) فهي تَبْهَجُ بزينة رياضها وتزدهي بما أُلبسته من رِيطِ أزاهيرها(9) وحلية ما سُمطتْ به(10) من ناضر أنوارها، وجعل ذلك بلاغاً للأنام ورزقاً للأنعام".
ثم إن علياً يوجز الفكرة البعيدة في ما شاهده امرؤ القيس من عمل المطر في الجبال والسباع، بهذه الكلمة: "مَن تعظّم على الزمان أهانه".
وإن هذه الروائع التي عبرت بنا لتنبع كلها من معين واحد بالرغم من اختلاف موضوعاتها وتباين أغراضها وتباعد ظروفها، ففيها جميعاً هذه الأصالة في الفكر والحس والخيال والذوق، التي تربط بين صاحبها وجملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة.
وأراك حيث رحت في أدب علي بن أبي طالب، شاعراً بهذه الأصالة التي تحدوه أبداً إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة والموت، ووراء الأشكال التي تختلف على الحقيقة الواحدة الثابتة التي لا تختلف. وما نزعتُهُ التوحيدية الجامحة إلا نزعة الأديب الحق يريد أن يركز الوجود، في عقله وقلبه على السواء، على أصولٍ لا يجوز فيها قديمٌ ولا جديد.
ويتبين من نهج البلاغة أن نظريات ابن أبي طالب الاجتماعية والأخلاقية، تنبع بصورة مباشرة أو غير مباشرة من هذه النظرة الواحدة الشاملة إلى الوجود. فما أقرب الموت من الحياة في سنّة الوجود. وما أقرب طرفي الخير والشر. وما أكثر ما يجتمع الحزن والسرور في قلبٍ واحدٍ في وقتٍ معاً، والكسل والنشاط في جسد واحد. "فربَّ بعيدٍ هو أقرب من قريب –في أدب ابن أبي طالب– وربَّ رجاء يؤدي إلى حرمان، وتجارة تؤول إلى الخسران". وليس عجيباً أن يجوز في الناس قول ابن أبي طالب: "من حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجابَ غيره انكشفت عورات بيته، ومن تكبر على الناس ذلّ". فالدائرة الوجودية الواحدة تقضي على الناس والأشياء والكائنات جميعاً بالخضوع لقاعدتها التعادلية التي أدركها الإمام بحدسه وعقله وحسه على السواء، إدراكاً عجيباً لشدة ما فيه من الوضوح ثم لكثرة ما يمد صاحبه بالقوة على الكشف، فإذا به يعبّر عن هذا الإدراك بكلمات تؤلف قواعد رياضية تتناول المظاهر وتنفذ منها إلى ما وراءها من أصولٍ وجودية عميقة ثابتة.
وهكذا يستوي ابن أبي طالب وقممَ الوجود على صعيد واحد من النظرة إلى الحياة الواحدة، والإحساس العميق بالوجود الواحد، فإذا بأدبه صرخات متلاحقة تنطلق من قلبٍ عبقريّ يريد أن ينفذ إلى الأشياء حتى يرى أغوارها فيطمئن إلى هذا الإدراك، وحتى يعقل ما تبايَنَ منها ثابتاً على قاعدة، وما اختلف منها نابعاً من أصل، وما تباعَدَ منها مضموماً في وحدةٍ طَرَفاها الأزل والأبد.
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الباب الأول- في أدب الإمام
الفصل الثالث- الأسلوب والعبقرية الخطابية
بيانٌ لو نطقَ بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا ! ولو هدّد الفسادَ والمفسدين لتَفَجّرَ براكينَ لها أضواء وأصوات ! ولو دَعَا إلى تأمُّلٍ لَرَافَقَ فيك مَنْشَأَ الحسّ وأصْلَ التفكير فساقَكَ إلى ما يريده سوقاً وَوَصَلك بالكون وصلاً !
ويندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءَه إلا ما يكون المرءُ قبالةَ السيلِ إذ ينحدر والبحرِ إذ يتموّجُ والريحِ إذ تطوف !
إما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمال الخلق، فإنما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء !
ومن اللفظ ما له وميض البرق، وابتسامة السماء في ليالي الشتاء !
هذا من حيث المادة، أما من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لا يكون إلا بأسلوب، فالمبنى ملازم فيه للمعنى، والصورة لا تقل في شيء عن المادة، وأيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقل شأناً من شروط المادة!
وإن قسْط علي بن أبي طالب من الذوق الفني، أو الحس الجمالي، لَمما يندر وجوده. وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط الأدبي عنده. أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفوياً. لذلك تميّز أدب عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته. وما الصدق إلا ميزة الفن الأولى ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.
وإن شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب. فإنشاؤه مثلٌ أعلى لهذه البلاغة، بعد القرآن. فهو موجز على وضوح، قويّ جيّاش، تامّ الانسجام لِمَا بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرّنة في الأذن موسيقيّ الوقع. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة. ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، ولا سيما ساعةَ يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة. فأسلوب عليّ صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة.
وقد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدّاً تَرَفّع به حتى السجعُ عن الصنعة والتكلُّف. فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة، أبعد ما يكون عن الصنعة، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجّع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: "يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات(11) وتلاطُمَ الماء بالرياح العاصفات!" أو إلى هذا القول في إحدى خطبه: "وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتَفَجُّر هذه البحار، وكثرة الجبال، وطول هذه القلال، وتفرُّق هذه اللغات، والألسن المختلفات إلخ..." وأوصيك خيراً بهذا السجع الجاري مع الطبع: "ثم زَيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب(12) وأجرى فيها سراجاً مستطيراً(13) وقمراً منيراً، في فلك دائر، وسقف سائر إلخ...". فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعا،ً بآخر غير مسجوع، لعرفتَ كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجاً حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثرَ شعراً له أوزانٌ وأنغامٌ تُرْفِق المعنى بصوَرٍ لفظية من جوّها ومن طبيعتها.
وإذا قلنا إن أسلوب عليّ تتوفر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارئ بالرجوع إلى "روائع نهج البلاغة" هذا ليرى كيف تتفجّر كلمات عليّ من ينابيعَ بعيدةِ القرار في مادّتها، وبأيّةِ حُلّةٍ فنيةٍ رائعة الجمال تمورُ وتجري. وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: "المرءُ مخبوءٌ تحت لسانه" وفي قوله: "الحلم عشيرة" أو في قوله: "مَنْ لان عوده كثفتْ أغصانه" أو في قوله: "كلّ وعاءٍ يضيق بما جُعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتّسع" أو في قوله أيضاً: "لو أحبّني جبلٌ لتهافت". أو في هذه الأقوال الرائعة: "العلم يحرسك وأنت تحرس المال. رُبّ مفتونٍ بحسن القول فيه. إذا أقبَلتِ الدنيا على أحدٍ أعارته محاسنَ غيره، وإذا أدبرتْ عنه سلبته محاسنَ نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. افعلوا الخيرات ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبيرٌ وقليله كثير. هلك خُزّان المال وهم أحياء. ما مُتِّع غنيُّ إلاّ بما جاع به فقير!".
ثم استمعْ إلى هذا التعبير البالغ قمّةَ الجمال الفني وقد أراد به أن يصف تَمَكّنَه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء، قال: "ما هي إلا الكوفة أقبِضُها وأبسطُها...".
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورةٍ مطلقة ولا تفوته إلاّ إذا فاتتْه الشخصية الأدبية ذاتها.
ويبلغ أسلوب عليّ قمة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صوَرٌ حارةٌ من أحداث الحياة التي تَمرّس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفّق على لسانه تدفُّق البحار. ويتميّز أُسلوبُه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بُغيةَ التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين. وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام إلى تعجّب إلى استنكار. وتكون مواطن الوقف فيه قويّة شافية للنفس. وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفن. وإليك مثلاً على هذا خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب عليٌّ بها الناسَ لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عاملَه عليها:
"هذا أخو غامد قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسّان بن حسّان البكري وأزال خيلَكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين.
"وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع حِجْلَها، وقُلبها، ورِعاثَها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً.
" فيا عجباً! واللهِ يميتُ القلبَ ويجلب الهمَّ اجتماعُ هؤلاء على باطلهم وتفرُّقُكم عن حقكم. فقُبحاً لكم حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويُعصى الله وترضون!".
فانظر إلى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة، فإنه تَدرَّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبارَ، وفي ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عاملَ أمير المؤمنين في جملة ما قتل، وبأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحورٍ كثيرة من رجالهم وأهليهم.
وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي، وهو شرف المرأة. وعليّ يعلم أن مِن العرب مَنْ لا يبذل نفسه إلاّ للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاةُ حِماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلاً منهم طعنة ولا أريق لهم دم.
ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش وحيرة من أمر غريب: "فإنَّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه ويفشلون عنه.
ومن الطبيعي أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب، فتأتي حارّة شديدة مسجّعة مقطّعة ناقمة: فقُبحاً لكم حين صرتم غرضاً يُرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويُعصى الله وترضون!".
وقد تثور عاطفته وتتقطّع فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطعة المتلاحقة: "ما ضعفت،ُ ولا جبنت،ُ ولا خنتُ، ولا وهنتُ!" وقد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم ووهنٍ في عزائمهم، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب قائلاً: "مالي أراكم أيقاظاً نُوّماً، وشهوداً غُيّباً، وسامعةً صمّاء، وناطقةً بكماء... إلخ".
***
والخطباء العرب كثيرون، والخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولا سيّما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لِما كان لهم بها من حاجة. أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبيّ لا خلافَ في ذلك. أما في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبةً، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليٍّ كان منْ عناصر شخصيته وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً. ثم إنّ الله يسّر له العدّةَ الكاملة لِما تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد مَيّزَه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثم بذخيرةٍ من العلم انفردَ بها عن أقرانه، وبحجةٍ قائمة، وقوةِ إقناع دامغة، وعبقريةٍ في الارتجال نادرة. أضفْ إلى ذلك صدقَه الذي لا حدود له وهو ضرورةٌ في كلِّ خطبةٍ ناجحة، وتجاربَه الكثيرة المرّة التي كشفتْ لعقله الجبّار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحرِّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.
وإنّه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ مَنْ اجتمعت لديه كلّ هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذّاً، غير عليّ بن أبي طالب ونَفرٍ من الخلق قليل، وما عليك إلاّ استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أنّ قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدْل القول. ثم إنه قويّ الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخرٌ جنانُه بعواطف الحرية والإنسانية والفضيلة، حتى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدركَ القومَ بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخامدة.
أما إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفُهُ إلا بأنه أساسٌ في البلاغة العربية. يقول أبو الهلال العسكري صاحب "الصناعتين": ليس الشأن في إيراد المعاني –وحدها- وإنما هو في جودة اللفظ، أيضاً، وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخمٌ كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفَةً وتيها. ومنها ما هو ذو قعقعةٍ كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يُلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها. ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء! من الكلام ما يفعل كالمقرعة، ومنه ما يجري كالنبع الصافي.
كل ذلك ينطبق على خطَب عليّ في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعتْ بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت، كخطب ابن أبي طالب، تجمع روعةَ هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله!
***
وإليك شيئاً مما قلناه في الجزء الثالث من كتابنا "الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية" بصدد بيان الإمام، لا سيما ما كان منه في خُطبه:
نهجٌ للبلاغة آخذٌ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيالٌ وعاطفةٌ وفكر؛ مترابطٌ بآياته متساوق؛ متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفِّقٌ بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلفٌ يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى لَيندمج التعبيرُ بالمدلول، أو الشكلُ بالمعنى، اندماجَ الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء؛ فما أنت إزاءَه إلا ما يكون المرء قبالةَ السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموّج والريح إذ تطوف. أو قبالةَ الحَدَثِ الطبيعي الذي لا بدّ له أنْ يكون بالضرورة على ما هو كائنٌ عليه من الوحدة لا تفرّق بين عناصرها إلا لتمحو وجودَها وتجعلها إلى غير كَوْن!
بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدّد الفساد والمفسدين لَتفجّر براكينَ لها أضواءٌ وأصوات! ولو انبسط في منطقٍ لَخَاطَبَ العقولَ والمشاعر فأقفلَ كلَّ بابٍ على كلّ حجّةٍ غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأمّلٍ لَرافقَ فيك منشأ الحسّ وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سَوْقاً، ووصلَك بالكون وصْلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً. وهو لو راعاك لأدركت حنانَ الأب ومنطق الأبوّة وصدْقَ الوفاء الإنساني وحرارَةَ المحبة التي تبدأ ولا تنتهي! أما إذا تحدّثَ إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء!
بيانٌ هو بلاغةٌ من البلاغة، وتنزيلٌ من التنزيل. بيان اتصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه أن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق!
***
وخطَب علي جميعاً تنضج بدلائل الشخصية حتى لَكانّ معانيها وتعابيرها هي خوالُج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غايةَ الجمال.
وكذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، وعمق الفكرة، وفنّية التعبير، حتى أنها ما نطقتْ بها شفتاه ذهبتْ مثلاً سائراً.
فمن روائعه المرتجلة قولُه لرجلٍ أفرط في مدحه بلسانه وأفرط في اتّهامه بنفسه: "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك".
ومن ذلك أنه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمّةٍ جليلة تَردّد فيها أنصاره وتخاذلوا، جاءَه هؤلاء وقالوا له وهم يشيرون إلى أعدائه: "يا أمير المؤمنين نحن نكفيكَهم. فقال من فوره: "ما تكفوني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكوا حَيْفَ رُعاتها، فإنني اليومَ لأشكو حَيْفَ رعيّتي، كأنني المقود وهم القادة".
ولمّا قتل أصحاب معاوية محمداً بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: "إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألا إنهم نقصوا بغيضاً ونقصْنا حبيباً".
وسئل أيهما أفضل: العدل أم الجود؟ فقال: "العدل يضع الأمور مواضعَها، والجودُ يُخرجها من جهتِها، والعدلُ سائسٌ عامّ، والجود عارضٌ خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما".
وقال في صفة المؤمن، مرتجلاً:
"المؤمن بشرُه في وجهه، وحزنُه في قلبه، أوْسعُ شيء صدراً، وأذّل شيء نفساً. يكره الرفعة، ويَشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمتُه، مشغولٌ وقتُه، شكور صبور، سهل الخليقة، ليّن العريكة!"
وسأله جاهل متعنّتٌ عن معضلة، فأجابه على الفور: "اسألْ تفقهاً ولا تسألْ تعنّتاً، فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيهٌ بالجاهل المتعنّت!"
والخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ نشأ على التمرّس بالحياة وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالكٌ ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ في شخصية الأديب، ومن ثقافة خاصة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.
أما اللغة، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلد الأول من كتابه "رحلة إلى الشرق" هذا القول الذكيّ: "اللغة العربية هي الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتُصوّره بدقة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلِّد صراخَ الحيوانات ورقرقةَ المياه الهاربة وعجيجَ الرياح وقصْفَ الرعد"، أمّا هذه اللغة، بما ذكر مرشلوس من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّكَ واجدٌ أصولها وفروعَها، وجمالَ ألوانها وسحْرَ بيانها، في أدب الإمام عليّ!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الباب الثاني- العدالة الكونية وما يمثله علي منها
الباب الثاني- العدالة الكونية وما يمثله علي منها
الفصل الأول- تكافؤ الوجود
وأحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدّت حرّكتْ الأغصانَ تحريكاً شديداً، وإذا أجفلت قلعتِ الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانت وجرتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرْياً خفيفاً سكرتْ بها صفحاتُ الماء وسكنتْ تحتها الأشياء!
وأدرك كذلك أن قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيمَ النبْت بقانونٍ ترعى به الورقَ الأخضرَ والزرْعَ الذي استوى على سُوقهِ واهتزّ للريح!
وأسقط أبنُ أبي طالبٍ نظرية التجّار يقولٍ تَنَاولَه من روح الوجود وكأنه يشارك به الكونَ في التعبير عمّا في ضميره!
نظرةٌ واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم الثابتة في سعة الوجود والكواكبِ السابحة في آفاق الأبد، وعلى الشمس المشرقة والسحاب العارض والريحِ ذات الزفيف، وعلى الجبال تشمخُ والبحارِ تقصفُها القواصفُ أو يسجو على صفحاتها الليل، تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانوناً وأنّ لأحواله ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ واحدةٌ يُلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيفِ إذ يشتدّ حَرّه وتسكن ريحُه، والخريف إذ يكتئبُ غابُه وتتناوحُ أهواؤه وتعبسُ فيه أقطارُ السماء، والشتاءِ إذ ترعد أجواؤه وتضطربُ بالبروقِ وتندفع أمطارُه عُباباً يزحمُ عُباباً وتختلط غيومهُ حتى لتُخفي عليك معالمَ الأرض والسماء، والربعِ يبسطُ لك الدنيا آفاقاً نديّة وأنهاراً غنيّة وخصباً ورُواءً وجناناً ذات ألوان، كافيةٌ لأن تجعلهُ يثقُ بأنّ لهذه الطبيعة قانوناً وأنّ لأحوالها ناموساً واقعاً كلٌّ منهما تحت الحواسّ وقائماً بكل مقياس.
ونظرةٌ فاحصةٌ واحدة يُلقيها المرء على هذي وذاك، كافيةٌ لتدلَّه على أنّ هذه النواميس والقوانين صادقةٌ ثابتة عادلة، يقومُ منطقُها الصارمُ بهذه الصفات، وفيها وحدَها ما يُبرّر وجودَ هذا الكون العظيم!
ألقى ابن أبي طالب تلك النظرةَ على الكون فَوعَى وَعيْاً مباشراً ما في نواميسه من صدقٍ وثباتٍ وعدل، فهزّه ما رأى وما وعى، وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً، فتحركتْ شفتاه تقولان: "ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض". ولو حاولتَ أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة، لَمَا وجدَت لفظةً تحويها جميعاً غير لفظة "الحق". ذلك لِما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث!
وأدرك ابنُ أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتينِ قامَتا بالحقّ واستَوتَا بوجوهه المتلازمةِ الثلاثة: الصدقِ والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لا بدّ لها أن تكون مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسةَ على صورة عفوية لا مجال فيها لواغلٍ من الشعور أو لغريبٍ من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول:
"وأعظمُ ما افترض من تلك الحقوق حقُّ الوالي على الرعية، وحقّ الرعية على الوالي، فريضةٌ فرَضَها الله لكلٍّ على كلّ، فجعلها نظاماً لألْفتَهم، فليست تصلح الرعيّةُ إلاّ بصلاح الوُلاة، ولا يصلح الولاةُ إلا باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّةُ إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها، عَزّ الحقّ بينهم، واعتدلتْ معالمُ العدل وجرَتْ على أذلالها السّنَنُ(14) فصلُحَ بذلك الزمانُ وطُمِعَ في بقاء الدولة. وإذا غلبتِ الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفتْ هنالك الكلمة وظهرتْ معالمُ الجور وتُركتْ مَحاجّ السّنن، فعُمِلَ بالهوى وعُطّلتِ الأحكام وكثرتْ علل النفوس، فلا يُسْتَوْحَشُ لعظيمِ حقٍّ عُطّلَ(15) ولا لعظيمِ باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار وتعظم تَبِعاتُ الله عند العباد!"
وأوصيك خيراً بهذا الإحكام للروابط الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي، ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة وبين ثبوت هذه العناصر على أُسُسٍ من الحق، أو قلْ من الصدق والثبوت والعدل: وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات والأرض.
وأحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاونٌ متكافلٌ فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدّت حرّكتْ الأغصانَ تحريكاً شديداً، وإذا أجفلت قلعتِ الأشجارَ وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانت وجرتْ فُوَيْقَ الأرضِ جرْياً خفيفاً سكرتْ بها صفحاتُ الماء وسكنتْ تحتها الأشياء.
وأحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدتْ معالمُ الأرض للعيون والأذهان، وإذا خلّتْها خلّتْ عليها من الظلمة ستاراً. وأنّ النبتة تنمو وتزهو وتورق وقد تثمر، وهي شيءٌ يختلف في شكله وغايته عن أشعّة النهار وجسم الهواء وقطرة الماء وتراب الأرض، ولكنها لا تنمو ولا تورق إلاّ بهذه الأشعّة وهذا الجسم وهذه القطرة وهذا التراب.
وأحسّ أنّ الماء الذي "تلاطَمَ تيّارُه وتراكمَ زَخّارُه" كما يقول، إنما "حُمل على متْن الريح العاصفة والزعزع القاصفة". وأنّ الريح التي "أعصفَ الله مجراها وأبعد مَنشأها" مأمورةٌ –على بُعد هذا المنشأ- "بتصفيق الماء الزخّار وإثارة موج البحار، تعصفُ به عصْفَها وتردّ أوّلَه إلى آخره، وساجيَه إلى مائره(16) حتى يعبّ عُبابُه". ومن زينة الأرض وبهجة القلوب هذه النجوم وهذي الكواكب، وضياءُ الثواقب(17) والسراج المستطير(18) والقمر المنير!
أحسّ ابنُ أبي طالب من وراء ذلك جميعاً أنّ هذا الكون القائم بالحقّ، إنما ترتبط عناصرُه بعضُها ببعض ارتباطَ تعاوُن وتسانُد، وأنّ لقواه حقوقاً افتُرِضَتْ لبعضها على بعض، وأنّها متكافئةٌ في كلّ وجوهها متلازمة بحُكم وجودها واستمرارها.
فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلاً وفرعاً بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة، وبين البشر الذين لا بدّ لهم أن يكونوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم واستمرارهم، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعاً من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضاً عليهم لا يحيون إلاّ به ولا يبقون. فإذا به يلفّ عالَم الطبيعة الجامدة وعالَم الإنسان بومضةِ عقلٍ واحدة، وانتفاضةِ إحساسٍ واحدة، ليستشفّ عدالةَ الكون القائم على وَحْدَةٍ من الصدق والثبات والعدل، مطلقاً هذا الدستور الذي يشارك به الكونَ في التعبير عن ضميره، قائلاً:
"ثم جعل من حقوقه حقوقاً افترضَها لبعضِ الناس على بعض، فجعلَها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضُها بعضاً، ولا يُسْتَوْجَبُ بعضُها إلاّ ببعض!"
ومن هذا المعين أيضاً قولٌ له عظيمٌ يقرّر به أنّ نعمة من النعم مرهونٌ بما فُرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر، وأن عدم القيام بهذا الواجب كافٍ وحده لأن يزيلها ويُفنيها:
"مَنْ كثرتْ النِّعَمُ عليه كثرت الحوائج إليه. فمن قام فيها بما يجب عَرّضَها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عَرّضَها للزوال والفناء".
ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون، والناسُ من موجوداته، ما لا يحتاج إلى كثيرٍ من الإيضاح. فحقوق العباد –على لسان عليّ- يكافئ بعضها بعضاً. فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء على الريح، والنبتة على الماء، والماء على الشمس، والشمس على قانون الوجود. وهذه السنّة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئاً من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقاً عليه، ليست إلاّ سُنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.
ولينظر القارئ في هذا الأمر نظراً سديداً ثم ليقلْ رأيّه في ما رأى. فإنّه أن فعلَ أدرك لا شكّ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها إلى جذور العدالة الكونية، ثابتةٌ لا تغيّر نفسها ولا شذوذ ينقضها.
فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، ولا يكسب بعضُها إلا ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نوراً ودفئاً، أعطت الوجودَ من عمرها قدر ما أخذت. وكذلك إذا أخذتْ من الليل ظلاًّ يغمرها. وإذا تناولت الزهرةُ من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً شهيّاً، فلسوف يأخذ النورُ والهواءُ من لونها وعطرها بمقدار ما أعطَيَاها، حتى إذا تكامَلَ انعقَادها وبلغت قمةَ حياتها، تَعاظمَ مقدارُ ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة والموت يتنازعانها حتى تُسلم إليه أوراقَها وجذْعَها. أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتْها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى جوفه إلاّ ما أعطى السماءَ من غيومٍ والبرَّ من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلا بفراق أُخرى يدفعها، قاصداً أو غير قاصد، عوضاً عمّا أخذ. وهو لا يولد إلا وقد تقرّر أنه سيموت. يقول عليّ: "ومالك الموت هو مالك الحياة!"
وعن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه وأفلاكه، وأرضه وسمائه، وجامداته وأحيائه، يعبّر ابنُ أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر إلى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: "ولا تُنال نعمةٌ إلا بفراق أُخرى!"
ولينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلماتٍ هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.
أمّا في الحياة العامّة، فليس بين شؤون الإنسان شأنٌ واحدٌ يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزَعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم. فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمعُ ما تعطيه، كميّةً ونوعاً، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيتَ. أمّا إذا حصلتَ من المكافأة على أقلّ ممّا أعطيتَ، فإنّ نصيبك ذاهبٌ إلى سواك، وإن سواك يتمتّع بخيرٍ أنتَ صاحبه ولا شكّ ، وإنك في النتيجة مغصوبٌ مظلوم. وأمّا إذا أخذتَ من المكافأة فوق ما أعطيتَ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهبٌ إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلتَ، وإنك بذلك غاصبٌ ظالم. ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مَفْسدةٌ له ومنقصةٌ في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلتْ في نطاقٍ مُريحٍ من العدالة الكونية. والبُطل لا يمكن أن يكون قاعدةً بل الحقّ هو القاعدة. و" الحقّ لا يُبطله شيء" في قانون الكون! وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.
***
والنظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليُلهي علياً عن النظر في ما خفي منها ودَقّ. وشأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائقُ الأشياء لديهم، في المادّة والمعنى، ما تولّفه عظائمُها فهم لا يفرقون فيها بين كبيرٍ وصغير، فهي بالمنشأ واحدةٌ وهي كذلك بالدلالة.
وليس للذي يبهر الأنظار حسابٌ في عقولهم وقلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابئ وبين الظلال. ورُبّ نظرةٍ تُجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تُجريه ينابيعُ الكلام! ورُبّ إشارةٍ يُدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان! ورُبّ زهرةٍ في كَنَف صخرةٍ ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل ربّ صغيرٍ في نظرهم أجلّ من كبير، وقليلٍ أكثر من كثير! وأرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نُتْفةً من حديثٍ طويلٍ سُقتُه بصدَد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم والفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيُّه وظاهره في الدلالة على ما فيه من جليلٍ، قلت:
"وكأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمالَ الحريّة التي يشتهي، إذ تُرسل الريحَ حين تشاء وكيف تشاء لا يهمّها أسَخِطَ الناسُ عليها أم رَضوا قانعين! وتُفجر الينابيعَ من الصخرِ، حين ترومُ، ومن رَخِيِّ التراب، وتُجزيها هادئةً في السهلِ أو تقذف بها من أعالي الجبال. وتُبرزُ من صدرها أشجاراً وصخوراً وقمماً وودياناً على طريقتها التي تريد، لا يعنيها أن تنبُتَ الزنابقُ إلى جانب الشوك أو تعلَقَ إبَرُ السمّ ورداً أخضرَ العود طيّبَ الريح. ولا تتقيّد بمعرفةٍ تقوم بتحقير الهشيم اليابس وتعظيم الأخضر الفَينان، وبالسخرية من صغار الهوامّ تُطِلّ من ثقوب الصخور، تمجيداً لشراسة القويّ من الوحش يفترسُ الضعيف(19)".
بهذه النظرة وبهذا الشعور واجهَ ابنُ أبي طالب مظاهرَ الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة والحيّة، وأحسّ إحساساً بديهيّاً وعميقاً معاً بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيمَ النبْت بقانونٍ ترعى به الورقَ الأخضرَ والزرْعَ الذي استوى على سُوقهِ واهتزّ للريح. وأنّها تُعنَى بالفسيلِ(20) الضئيلِ من شجر الأرض كما تُعنى بالعتيِّ من الدوح العظيم. أمّا البَهْم والحشرات والغوغاء(21) وصغار الطير، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيباً أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش ونسر الفضاء. فلكلٍّ من المخلوقات مكانُه في سعة الوجود ولكلٍّ حقُّه بهذا الوجود. لذلك لم يمنع الطودُ الشامخُ عن ابن أبي طالب رؤيةَ الحصاة وذرّة التراب. ولم يفتْه وهو ينظر إلى الطاووس أن يلتفت إلى النملة المتواضعة الدابّةِ في خفايا الأرض بين حطامها وحصاها، فإذا هي في الوجود خلقٌ جليلٌ وشيءٌ كثير.
وما كان عليّ ليرى في الطاووس والنملة اللذين يبسطهما النهار، شيئاً يزيد في معنى الوجود وفي قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش(22) التي جُعل لها الليلُ نهاراً وقَبَضَها الضياءُ الباسطُ لكلّ شيء. وإنما كان يرى من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات.
ويكفي هذا المخلوق، في نهج عليّ، أن يكون ذا رَمَقٍ –أي أن يكون حيّاً- لتكفل له قوّةُ الوجود الشاملة كفْلاً أساسيّاً ما يقيه خطر الموت قبل حينه. فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّاً من الأحياء إلاّ وعدلتْ وجودَه بما يُمسك عليه مدّة بقائه. وهذا ما يعنيه عبقريّ الملاحظة الدقيقةِ الضابطة عليّ بن أبي طالب: "ولكلِّ ذي رَمَقٍ قوتٌ، ولكل حبةٍ آكل"
أمّا إذا حِيل بين ذي الرمق وقوْته، والحبّةِ وآكلها، فإنّ في هذا المنعِ اعتداءً على موازين العدالة الكونية وافتراءً على قيمة الحياة ومعنى الوجود. يقول عليّ: "والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبُها لبّ شعيرةٍ، ما فعلتُ!"
أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية، فإن العقاب عليه قائمٌ بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعلَ مقاضاةً لا لين فيها ولا قسوة، وإنما عدلٌ ومجازاة.
ومن ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها وقليلها، بكبيرها وصغيرها. فالعدالة الكونية التي وازنت بين الأحياء ورعتْهم في مختلف حالاتهم وأقامت بينهم أعمالاً مشتركة وحقوقاً متبادلة وواجبات متعادلة، لم تفرّق بين مظهرٍ من مظاهر الحياة وآخر، ولم تأمر بأن يعتدِ قويّ على ضعيفٍ لِما خُصّ به القويّ من أداة العتوّ، ولم تأذن للكثير بأن يغبن القليلَ حقّه بما خُصّ به من صفات الكثرة. وهي من ثمّ لا تغتفر ظلْمَ القليل بحجّة مصلحة الكثير. فالذي يغبن كائناً حيّاً في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غَبَنَ الكائنات الحيّة جميعاً. ومَنْ قتل نفساً بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة. ومن آذى ذا رمَقٍ فكأنّما آذى كلّ ذي رمَقٍ على وجه الأرض. فالحياة هي الحياة في نهجهِ واحترامُها هو الأصلُ وعليه تنمو الفروع.
ففي نظريات عددٍ كبير من المفكرين والمشترعين ، وفي "آراء" معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير. وفي حساب هؤلاء، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال. فإذا قُتل بحادثِ اعتداءٍ ألفٌ من الخلق، فالأمر فظيع. وإذا قُتل ألفان فالأمر أفضع. وهكذا دواليك. أمّا قُتل إنسانٌ واحد، بمثل هذا الحادث، فالقضيّة هيّنة والأمر بسيط. فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير. أمّا جداول الضرب وعمليّات الجمع والقسمة، فمن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة.
أما ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار، بقولٍ يتناوله مباشرةً من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة، بل للحياة نفسها: "فواللهِ لو لم يُصيبوا من الناس إلاّ رجلاً واحداً معتمدين(23) لقتله، بلا جُرمٍ جَرّه، لَحَلّ لي قتلُ ذلك الجيش كلّه".
والواضح هنا أنّ الموضوع ليس "قتل الجيش كلّه" بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة، ولفْت أنظارهم إلى أن قتل نفسٍ واحدة، قصداً واعتماداً ، إنما يساوي قتل الخلق جميعاً.
ولو أنّنا قسنْا نظرةَ عليِّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظراتِ كثيرٍ من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة والكثرة، لَبَدا لنا كيف ينحدرون حيثُ يسمو، وكيف يتزمّتون حيثُ يرحبُ أُفقُه وتعلو على يديه قِيَمُ الحياة ففيما يطبّل بعض هؤلاء ويزمّرون لِمَا "اكتشفوه" من آراء ونظريات تُبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته وحَسبْ، وللكثير أن تتّسع آمالُه بهذه الكثرة وحدها –وفي كلِّ ذلك اعتداءٌ على قانون الحياة العادل، وعلى إرادة الإنسان القادرة المتطوّرة الخيّرة- نرى ابنَ أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة، وبمقياس الإرادة الإنسانية لأنه خير، فيقول ببساطة العظيم: "ورُبّ يسيرٍ أغنى من كثير!" ثم يوضح بقولٍ أجلّ وأجمل:
"وليس امرؤٌ، وإنْ عظُمَتْ في الحقّ منزلتُه، بفَوْقِ أن يُعان على ما حَمّلَه الله من حقّه(24) ولا امرؤٌ، وإن صغّرتْه النفوسُ واقتحمتْه العيون(25) بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه!"
وفي هذين القولين ينقل ابنُ أبي طالب للناس مظهراً من مظاهر العدالة الكونية البادية حيثُ أمعنتَ النظر، ويقرّر حقيقة طالما خفيتْ عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق.
يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حُكم الواقع الوجوديّ إلاّ غَثّاً من الوجود تافهاً لا قيمة له ولا شأن؛ وقد يُبهرَ بها العاديّون من الخلق وأهل الحماقات والأغبياء والمصفّقون لكلِّ لمّاعٍ تافهٍ فارغ، ولكنّ هذا الانهيار لا يلبث أن يتلاشى فجأةً حين تطلّ شمس الحقيقة، وحين يكنس نورُها العظيمُ ما خالَه العاديّون نوراً وهو غشٌّ للعيون، وحين تعصف رياحُ الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف. ومن التاريخ والحاضر دلائل لا تُحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد والجماعات، وهو اضطرابٌ يستلزم نتائجَ تُؤذي الحضارةَ والحياةَ والإنسان لِمَا فيها من انحرافٍ عن موازين العدالة الكونية.
فلو كنتَ تعيش في فترةٍ من العصور الوسطى بأوروبا، مثلاً، لشاهدتَ في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكبُ بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك، وذلك قصْدَ التهليل والتصفيق لمخلوقٍ من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد والزبرجد والحجارة الكريمة المنظومة. ولشاهدتَ رجلاً يسير على الرصيف وحيداً، عصبيّ الخطوة عنيفَ النظرة، لا يعنيه أمرُ المهلّلين ولا يعنيهم أمرُه. فهم يهتفون بحياةِ "عظيمٍ" وهو إذ ذاك "ليس بعظيم". ثم أشرقت الشمس بعد زمنٍ فطغتْ على الظلمة وأبرزتِ الأشياءَ في مواضعها الحقيقية. فماذا ترى عند ذاك؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين –وهم بهذا المقام بمنزلة اللاشيء- إنّما كانوا يهتفون لمخلوقٍ تافهٍ يدعى لويس الرابع عشر مثلاً، أو لنذلٍ من الأنذال يدعى شارل الخامس، أو لصغيرٍ كلّ الصغارة يدعى شارل الأول، أو لغيرهم ممّن يحملون أسماءً تليها أرقامٌ... دلالةً على الصغارة. ثم ماذا يتّضح لك بعد ذاك؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم ولم يهتفوا بحياته، إنّما هو عظيمُ حقّ يدعى موليير، أو ملتون، أو غاليليو. وإذا بالمشاة على الرصيف ولا أرقام لأسمائهم، ولا مهلّلين لهم، ليسوا إلاّ العظمة كلّها. ويطوي النسيانُ التافهين، ويطوي معهم أولئك "اللاشيء" من المصفّقين الهاتفين. ويبرز هؤلاء على هامة الوجود، وتُنزلهم الإنسانيةُ من نفسها منازلَ الشموس من الظلمات. ويبرز معهم نفرٌ قليلٌ من الخلق هم الذين فهموهم، وقدروهم قدَرهم العظيم، وتدفّأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة، وأدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال: "رُبّ يسيرٍ أنمى من كثير!"
إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم، وتضعه موضعَه، لا غشّ في ذلك ولا خداع، ولا مجاملة! العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة ولا تعلو تفاهة!
وإن ابن أبي طالب لم يسمِّ هذا "اليسير" يسيراً إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه وفي آرائهم. ولم يسمِّ هذا "الكثير" كثيراً إلاّ للعلّة ذاتها. وهو يعلم أنهم مخطئون، وأن ما يرونه يسيراً قد لا يكون كذلك. وأن ما يرونه كثيراً قد يخف في ميزان الحق. أما هو، فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة وجلاء، ويستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء، ويستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كانت، وفي احترام الأحياء حيث هم، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا إليها. ويطلق الكثيرات غيرها. حتى إذا غالى المغالون وأنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة وهذه الإمكانات على النموّ، توجّه إليهم يقول: "وإن أكثر الحق في ما تنكرون!"
ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه: "...وليس امرؤٌ وإن صغرتْه النفوس واقتحمتْه العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه"، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه وينتفع به، أيّةً كانت موهبته، وبالغةً إمكاناتُه ما بلغتْ من الضآلة.
وفي هذه النظرة إلى الإنسان الضئيل الحظ من المواهب، توضيحٌ لِمَا في خاطر عليّ من الإيمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحراً خضمّاً ومن ذُرَيرات الرمال صحارى وفلوات، كما تجعل كلّ قليلٍ داخلاً في الكثير، وكلّ صغيرٍ مستنداً للكبير.
وفيها توضيحٌ لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها وتجعل كلاً منهم في إطارٍ من خيرها فلا تغبنه ولا تقسو عليه.
وفيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياءَ فلا يرى فيهم إلاّ بشراً جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها، ويُفيدوا من خيرها، ويُعاونوا ويُعانوا.
وإنّكَ واجدٌ صورةً لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون وخير الحياة، المؤمنة بإمكانات الإنسان –أيّاً كان- على أن يكون شيئاً كريماً، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محورٍ من الثقة بعدالة الطبيعة وخير الحياة.
وكأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين "تصغرهم النفوس وتقتحمهم العيون" بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعةَ خاطَبَ الناس قائلاً: "إنّ الله لم يخلقكم عبثاً" أو ساعةَ أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجهاً الخلقَ بهذا الرأي الكريم: "وخَلاكم ذَمٌ ما لم تشردوا". أي أنكم، جميعاً، خيّرون ونافعون أصلاً وفرعاً، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين.
وتأكيداً لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب، وأعني به التسوية التامّة في كلّ حقٍّ وواجبٍ بين مَن قَلّ ومَنْ كثُر، ومَن صغُر ومَن كبُر، يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرقَ فيهم بين إنسان وإنسان. فصِفَتُهم الإنسانية واحدة، وقضيّتهم بميزان الوجود كذلك، وهم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون وما ينفعون. أمّا مَن عمل ونفَع فإنّ قانون الوجود نفسه يُثيبه. وأمّا مَن تَبَطّلَ وبطِر واغتصب، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه. يقول عليّ: "ولا يلويه شخصٌ عن شخص، ولا يُلهيه صوتٌ عن صوت، ولا يشغَله غضبٌ عن رحمة، ولا تولهه رحمةٌ من عقاب!"
***
وبهذا الصدَد نعود بشيءٍ من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ بن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكماً أعلى يُعطي ويمنع ويعاقب ويُثيب، فإذا الكائنات تحمل، بطبيعة تكوُّنها، القدرةَ على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالاً لإرادة الكون العادلة.
يرى عليّ بن أبي طالب أنّ الوجود متكافئٌ ما نَقَصَ منه شيءٌ هنا إلاّ وزاد فيه شيءٌ هناك. وكِلا النقص والزيادة متساويانِ لا زيادة إلاّ بمقدار النقص ولا نقصَ إلا بقدر الزيادة. وجديرٌ بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون، كما أنّها نقطة انطلاقٍ في هذا المجال.
وجديرٌ بالقول أيضاً أنّ عدداً من المفكرين الأوائل لم يتمكنوا من الالتفات إلى هذه الحقيقة، وأنّ عدداً أنكروها، وأنّ هنالك فريقاً من هؤلاء المفكرين رأوها وأدركوا كثيراً من تفاصيلها وآمنوا بها ودعوا إليها. وأبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضاً في قوّة الملاحظة وقوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه ووثقوا به. فمنهم مَن لحظَ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلاناً فيه بعض البيان عن الحقيقة. ومنهم مَن رآه في مظاهر الكون الصامت جميعاً ولكنه لم يستشعر له نتائجَ محسوسة في مجرى الوجود ولم يجد له خطّاً موازياً في مظاهر الكون الحيّ. ومنهم مَن لحظَه في الطبيعة الصامتة واستشعر له نتائج محسوسة في مجري الوجود ورأى له خطّاً موازياً في الكائنات الحيّة وأعلن عنه بأجلى بيان وأوثق كلام. مِن هذا الفريق عليّ بن أبي طالب. بل قُلْ إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يُثبت هذه النظرية على نهجٍ سليمٍ قويم لا يتعارض ولا يتناقض ولا مهربَ له لبعضه من بعض. بل قُلْ إنّه فعل ذلك وأبدع.
ولعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظَه ورآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية، وذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة، توصّلاً إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفراداً وجماعة، وهذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو: الإنسان.
قلنا إنّ علياً يرى الوجود متكافئاً ما نقصَ منه شيءٌ هنا إلا وزاد فيه شيءٌ هناك، وأن هذا النقص وهذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص ولا نقص إلاّ بمقدر الزيادة. فيقول أوّل ما يقول، منبّهاً الإنسان إلى هذه الحقيقة عن طريقِ ألصقِ الأشياء به، أي عن طريق وجوده ذاته:
"ولا يستقبل يوماً من عمره إلاّ بفراقِ آخر من أجَله!"
وهل من خاطرةٍ في ذهن إنسانٍ يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّةَ الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود؟ ثم هل من قاعدةٍ رياضية من قواعد الهندسة والجبر ألصقُ بالحقائق الثابتة، وأدلّ على الواقع المطلَق، وأوجز في تبيان الثابت والمطلَق، من هذه الآية التي يصوِّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ، ومن أيامه؟
وإذا قال لي قائلٌ إنّ هذه الفكرة معلومةٌ يعرفها الناس كلّ الناس، فعن أيّةِ حقيقةٍ جديدةٍ يكشف ابنُ أبي طالب في زعْمك إذن؟ قلت: إنّ الكشف عن الحقائق الخافية لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلاً لتلك، أو تلك أصلاً لهذه، أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبْطَ التفاصيل سواءٌ ما خفيَ منها وما ظهر. فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعاً في وحدةٍ فكريّةٍ رائعة، لم يقل هذا القول "المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس"، ولم يقلْ بمعناه قولاً أروعَ وهو: "نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله"، إلاّ ليعود ويبني على ما قاله بناءً مفصّلاً في إثبات نظرية تكافؤ الوجود.
فالذي قال "لا يستقبل يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجَله" "ونفسُ المرء خُطاه إلى أجَله"، إنما قال ذلك ليعود إلى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس وأخفى عن ملاحظتهم، ولكنها تجري من القولين السابقين: "ولا ينال الإنسان نعمةً إلا بفراق أخرى!"
وأراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة، والقدرة على الكشف، وصراحة الفكر، وجلاء البيان. وضبطاً لمضمون هذه العبارة في صور وأشكال تختلف مظهراً وتتحد معنىً وجوهراً، يقول عليّ: "كم من أكلةٍ منعت أكلات" و "من ضيّعَه الأقرب أُتيح له الأبعد" و "ربّ بعيد هو أقرب من قريب" و "المودة قرابة مستفادة".
و "مَنْ حمّل نفسه ما لا يُطيق عجز" و "لن يضيع أجر مَنْ أحسن عملاً" و "وما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك". فإن في هذه العبارات، وفي عشرات غيرها، إيجازاً واضحاً لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب. فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة، تدور في مداها ومأخذها القصيّ على محور واحد من تعادُليّة الكون، فلا نقص هنا إلا وتعدلُه زيادة هناك، والعكس بالعكس.
أدرك بن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة وعمق. وعاشها، وأَعلن عنها في كلّ فصلٍ من حياته أو قولٍ من قوله، سواءُ أكان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر. وهو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجهاً آخر يعكسه على شكلٍ خاصّ، أو قلْ ينبثق عنه انبثاقاً، وهو ما نحن بصدَده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياسَ فتُعاقب أو تُثيب، وليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها.
رأى عليّ أنّ شيئاً واحداً من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثاً، بل إنّ لوجوده غايةً وهدفاً. ورأى أنّ لكلٍّ من الكائنات وظيفةً يقوم بها، وأنّ على كلّ جارحةٍ من جوارح الإنسان فريضةً يحتجّ بها الكونُ العادل عليه، ويسأله عنها، ويحاسبه عليها. وبناءً على هذا الواقع، تكون أشياء الوجود متساويةً بحُكم وجودها. أمّا الصغيرة والكبيرة فشبيهتان بهذا القياس. يقول عليّ: "ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة". وإنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون لـ"الصغيرة"، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان والقلوب.
أمّا إذا احتجّ الكونُ على الإنسان بما فرَضه على جوارحه، وسأله عنه، وحاسبه على الصغيرة والكبيرة، وجازاه بما عمل خيراً كان أو شرّاً، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ وفي نهجه أن تتمّ عمليّةُ الاحتجاج والمحاسبة والمجازاة هذه خارجَ نطاق الإنسان نفسه. وإنّ هذه العمليّة المركّبة، الواحدة على ما فيها من تركيب، لتتمّ أبداً –كما يلحظ عليّ- في حدود الكائن أيّاً كان. وهكذا تتمّ في ما يتعلّق بالإنسان وهو أحد الكائنات. يقول عليّ: "أنّ عليكم رَصَداً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم". والرصد الرقيب. وهذا الرقيب لا يألو جهداً في أن يرى ويسجّل ويعاقب أو يُثيب.
وفي لحظاتٍ فذّةٍ من تألّق العقل المكتشف والفكر النافذ، تبدو لعينَيْ ابن أبي طالب ألوانٌ ساطعة من هذا الوجه من جوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءَها إلاّ أن تُعجَب بهذا العقل وهذا الفكر. أفَلا ينطق ابن أبي طالبٍ بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعةَ يقرّر هذه الحقيقة: "مَنْ أساء خلقَه عذّب نفسه!"، ثمّ، ألا ينطق بهذين اللسانين معاً إذ يقول: "يكاد المريب يقول:خذوني" وإذ يقول أيضاً: "فأكرِمْ نفسَك عن كلّ دنيّةٍ وإن ساقَك رغَبٌ فإنّك تعتاض بما ابتذلتَ من نفسك!"
ومثل هذه الآيات كثيرٌ كثير. ومنها هذه الروائع: "موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجَل" و"لا مروءَة لكَذوب ولا راحة مع جسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا صواب مع ترك المشورة". و"إذا كانت في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!"
[وهكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد، عادلٌ، ثابتٌ في وحدته وعدله، جاعلٌ في طبيعة الكائنات ذاتها قوّةَ الحساب والقدرةَ على العقاب والثواب. وهكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير.
بَيْدَ أنّ وجوهاً غير هذه من وجوه العدالة الكونية تَفَحّصها عليّ وضَبَط أشكالها وألوانها. فما هي هذه الوجوه؟
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الفصل الثاني- الحنان العميق
وأدرك عليٌّ أن منطق الحنان أرفع من منطق القانون، وأن عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات، إنما هو حجة الحياة على الموت، والوجود على العدم!
ولم يكن موقف عليّ من المرأة ذلك الموقف الذي صَوَّروه!
إذا كان من عدالة الكون وتكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بَوارحُ الصيف ومُعْصِرات الشتاء، وأن تَفْنى في حقيقةٍ واحدةٍ السوافي والأعاصير والنُّسَيمات الليّنات، وأن تحملَ الطبيعةُ بذاتها، بكلّ مظهر من مظاهرها، قانونَ الثواب والعقاب، فمِن هذه العدالة أيضاً ومِن هذا التكافؤ أنْ تتعاطى قوى الطبيعة وتتداخل سواءٌ في ذلك عناصرُ الجماد وعناصر الحياة. وسواءٌ في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك.
ولما كانت صفات الإنسان وأخلاقه وميوله وأحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان، فهي متعاطية متداخلة، تُثبتُ ذلك الملاحظةُ الطويلة والموازنةُ الدقيقةُ ثمّ قواعدُ العلم الحديث الذي لاحَظَ ووازن وأرسى مكتَشفاتِه على أُسُسٍ وأركان.
وقد مرّ معنا أنّ الإنسان في مذهب عليّ بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل. وممّا يُعزى إليه هذا القولُ يخاطب به الإنسان:
وتحسـبُ أنـك جـرمٌ صغيـرٌ
وفيـك انطـوى العالَـمُ الأكبـر
فمن الطبيعيّ في مثل هذه الحال أنْ يُلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالإنسان ممّا يطاله زمانُه وإمكاناتُ عصره. ومن الطبيعيّ كذلك أنْ يُلحّ في الكشف عمّا في هذا "الجرم الذي انطوى فيه العالَم الأكبر" مِن مظاهر العدالة الكونية وتكافؤ الوجود ضمْن الإطار الذي دارت آراؤه فيه.
أحسّ عليّ إحساساً مباشراً عميقاً أنّ بين الكائنات روابطَ لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات. وأنّ كلّ ما يُنقص هذه الروابط يُنقص مِن معنى الوجود ذاته. وإذا كان الإنسانُ أحد هذه الكائنات، فإنّه مرتبطٌ بها ارتباطَ وجود. وإذا كان ذلك –وهو كائنٌ- فإنّ ارتباطَ الكائن بشبيهه أجدرُ وأوْلى. أمّا إذا كان هذا الكائنُ من الأحياء، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبتُ وأقوى. وأما الإنسان –رأس الكائنات الحيّة- فإنّ ارتباطه بأخيه الإنسان هو الضرورة الأولى لوجوده فرداً وجماعة.
وحين يقرّر عليّ أنّ المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها، إنّما يسن قانوناً أو ما هو من باب القانون. ولكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة، إلاّ لأنه انبثاقٌ طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة، التي تفرض وجودَ هذا القانون. لذلك نرى ابنَ أبي طالب ملحّاً شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين، وعلى رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الإنساني.
وما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ والماديّ العميق إلى الاكتمال والسمّو. فهو بذلك ضرورةٌ خلقيّة لأنه ضرورةٌ وجودية.
الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكّر الناس بأنهم جميعاً إخوة فينعتهم بـ "إخواني" نعتاً صريحاً وهو أميرٌ عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الوُلاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس، وبأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة، قائلاً إلى أمرائه على الجيوش: "فإنّ حقاً على الوالي أنْ لا يُغيّره فضلٌ ناله، ولا طَولٌ خُصّ به، وأنْ يزيده ما قسم الله له من نِعَمه دنوّاً من عباده وعطفاً على إخوانه". وما يذكره لنفسه وللولاة بأنّهم والناس إخوانٌ بالمودّة والحنان، يعود فيقرّره بحكمةٍ شاملةٍ يتّجه بها إلى البشر جميعاً دون تفرقة أو تمييز، قائلاً: "وإنما أنتم إخوانٌ ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر وسوء الضمائر". وهو بذلك يضع خبثَ السريرة وسوءَ الضمير في طرفٍ، وحنانَ القلب ومودّةَ النفس في طرفٍ آخر. ولمّا كان من الحقِّ الوجوديّ للإنسان أن ينعم بحنان الإنسان، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيَمَ والمقاييس لا بدّ لها من التعويض على صالحٍ ضَيّعَه الجيرانُ والأقربون والأهل فما لفّوه برداءٍ من حنان، بعطفٍ وحنانٍ كثيرين يأتيانه من الأباعد، فيقول عليّ: "مَنْ ضيّعَه الأقربُ أُتيح له الأبعد!"
وهو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الإنساني، لا يقبل حتى بالهَنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافاً مبدئياً عن كرَم الحنان: "أمّا بعد، فلولا هَناتٌ كنّ فيك لكنتَ المقدّمَ في هذا الأمر".
وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به، فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه وقلبه، وبعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه وقلوبهم. وهو إنْ فعل في خاتمة الأمر فإنما يفعل مُكرَهاً لا مختاراً، حزيناً باكياً لا فرِحاً ضاحكاً، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلَمُ وأوجعُ من شعور مناوئيه بالهزيمة!
وإذا كانت القوانين المتعارَف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدي أنصاره وبنيه يقاتلونهم ويقتصون منهم لضلالٍ مشَوا به وإليه، فإنّ الرأفة بالإنسان وهي لديه وراء كلّ قانون، تحمله حمْلاً على أن يخاطب أنصاره وبنيه بهذا القول العظيم: "لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه".
وهو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره، أي بسعادة الإنسانية كلّها، لأنّ لجار المرء جيراناً، وما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس. ومن سعادته أيضاً أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه: "أدِّبِ اليتيم بما تؤدِّب به وُلْدَك". وأن يستشعر الجميع روحَ العدالة الأساسية التي تفوق القوانينَ الوضعية قيمةً وجمالاً لأنها تحمل الدفءَ الإنسانيّ وتصل الخلقَ بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: "ليتأسّ صغيركم بكبيركم، وليرأفْ كبيركم بصغيركم".
وإذا كان العجز إتيان المكرمات نقصاً، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصاً: "أعجز الناس مَنْ عجز عن اكتساب الإخوان". ويضيفُ عليّ إلى هذا العجز عجزاً آخر هو الميل إلى المِراء والخصومة قائلاً: "إيّاكم والمِراء والخصومة" بل إنّ الأَولى هو لين الكلام لِما فيه من شدّ الأواصر بين القلب، منبع الحنان، والقلب: "وإنّ من الكرَم لين الكلام". وليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخواناً أحبّاء، فإذا تألّم ابنُ أبي طالب من سيئات زمانه، جَعَلَ الخبزَ وهو آلة البقاء، والصدقَ وهو ركيزة البقاء، ومؤاخاةَ الناس في منزلةٍ واحدة، فقال في ناس زمانه: "يوشك أن يفقد الناس ثلاثاً: درهماً حلالاً، ولساناً صادقاً، وأخاً يُستراح إليه".
وإذا كانت الغربةُ قساوةً كبرى لأنها تستدعي الوحدة، فإنّ أشدّها يكون ساعةَ يفقد الإنسان إخوانه وأحبّاءَه لأنه يفقد إذ ذاك قلوباً يعزّ بعطفها ويحيا بحنانها: "والغريب من لم يكن له حبيب" و "فقْدُ الأحبّة غربة".
ولا بدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد. فالمرأة نصف الإنسان، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر؟ وهل النصف الآخر مدعوٌّ إلى أن يجور على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الإنسان على الإنسان؟
لقد أوّلَ الكثير بعضَ أقوال عليّ في المرأة تأويلاً شاؤوا به الطرافة والترفيه فوق ما شاؤوا به أن يُبرزوا موقفَ عليّ منها. فألحّوا على كلماتٍ له قالها في ظروفٍ كان أبرز ما فيها عداء امرأةٍ معيّنةٍ له وهو لم يُسئ ولم يأمر إلاّ بمعروف. وفاتهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرفٍ محدودٍ بذاته، والرامية إلى إيضاح الأسباب في صراعٍ بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها وأقسى. وهو بذلك لا يعني الرجال قاطبةً وفي كلّ حالاتهم. كما أنه، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة، لم يكن ليعني النساء قاطبة وفي كل حالاتهن. فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به وبالخير عن طريقه، تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواءٌ أكانوا رجالاً أو نسوةً لهنّ قوة الرجال ونفوذهم. وهو إنْ هاجم هؤلاء وهؤلاء من نسوة ورجال، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقفَ معيّنةً وقفوها من الحقّ والعدل وأصحابهما. وفي ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءَة إلى المرأة مِنْ قِبَل عليّ. وإنّي لأسأل مَن يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمةٍ واحدةٍ يسيء بها عليّ إلى المرأة ولم تكن موجّهةً إلى إنسانٍ معيّنٍ في ظرفٍ معيّن، أو من وحي هذا الإنسان في هذا الظرف! لقد هاجم المرأة عندما كانت سبباً في الفتنة، وهاجم الرجل في مثل هذه الحال. فهو بذلك يهاجم الفتنة وحسب!
أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان، فهو موقفه من الرجل كإنسان، لا فرق في ذلك ولا تمييز. أوَليس في حزنه العميق على زوجه فاطمة وقد توفّيت، دليلٌ على إحساسه بقيمة المرأة كإنسانٍ له كلّ حقوق الإنسان وعليه كلّ واجباته، وفي أساس هذه الحقوق والواجبات أن يَنْعَم بالحنان الإنسانيّ ويُنْعِم به الآخرين؟
أوَلم يكن الناس في الجاهلية وبعد الجاهلية يتفاءَلون بمولد الذكرَ ويفرحون، ويتشاءَمون بمولد الأنثى ويحزنون!
أوَلم يكن موقف الفرزدق تعبيراً عن نظرة عصره إلى المرأة، وهو عصرٌ متّصِلٌ بزمن ابن أبي طالب، ساعةَ ماتت زوجته، وكان يحبّها على ما زعموا، فقال فيها هذا القول العجيب:
وَأهْوَنُ مفقودٍ، إذا الموتُ نالَــه،
على المرء مِن أصحابه، مَن تقنّعا
أي أنّ أهوَن فقيدٍ على المرء من أصحابه ومعارفه فقيدٌ يلبس القناع، ويريد به المرأة. فالمرأة في قلبه وعلى لسانه لا تستحقّ أن تُبكى، ولا أن يُحزَن عليها. لماذا؟ لا لشيء إلاّ لأنها امرأة!
وعليّ، ألم يكن من أبناء ذلك الزمان؟ ولكنّه كان أنفذَهم تفكيراً وأشرفهم نظراً وأعمقهم إحساساً، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّماً على أصحاب تلك العقلية الرعناء: "وإن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث إلخ". إذن، فالذكور والإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الإنسان وحسب.
أضف إلى ذلك أن علياً الذي يعطف على الناس عموماً، وعلى الضعفاء منهم خصوصاً، يفرض على الخُلق الكريم أن يكون أشد حناناً على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: "وانصروا المظلوم وخذوا فوق يد الظالم المريب وأحسنوا إلى نسائكم". ويقول في مكان آخر: "أمركم بالنهي عن المنكر والإحسان إلى نسائكم".
ويتابعُ ابنُ أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته إلى أن يلتفّ الناس جميعاً، ثم الناس وسائر الكائنات، بدفء الحنان، فيقول في العلم –وقد عرفنا قيمة العلم في مذهبه-: "رأس العلم الرفق". وهو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثرَ من أنها مدعاةٌ إلى القسوة بحُكم تَعَوُّدِها، ومن ثمّ فهي سببٌ في نفورٍ باردٍ يحلّ في القلوب محلّ حنانٍ دافئ، فيقول: "ما جفّتِ الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب!" وإذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان ومن حقك أنْ تبذل –بهذا الحنان- كلّ ما تملك لنصرة أخيك الإنسان: "فإن كنتَ من أخيك على ثقةٍ فابذلْ له مالك ويدك، وأعنْه، وأظهِرْ له الحسن".
وأخيراً يُطلقُ عليٌّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفاً وحناناً. وهي تُعتبر بحقٍّ من أسمى ما يملكه الإنسان من تراث خلقيٍّ عظيم. ومنها هذه الروائع: "صِلْ مَنْ قطعك وأعطِ مَنْ حرمك. أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يُحسن إليك. أحسن إلى مَنْ أساءَ إليك. عودوا بالفضل على من حرمكم إلخ..."
وإنجازاً لهذه الدعوة الكريمة يُشْرك ابنُ أبي طالب البهائمَ والبقاعَ والناس في حقٍّ لها مشتَرَكٍ في الحنانِ فيقول: "اتّقوا اللهَ في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم!"
وهكذا، فإنّ عطف الإنسان على الإنسان وسائر الكائنات إنّما هو حجّةُ الحياة على الموت، بل هو إرادةٌ مِن إرادة الوجود العادل!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الفصل الثالث- صدق الحياة
وهذا الصدقُ عهدٌ منك وعليك، لأنه روح الجمال والحق، وإرادةُ الحياةِ القادرةِ الغلاّبة!
لعلَّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد وعالم الحياة، وفي كل ما يتَّصل بطبيعة الوجود وخصائص الموجودات، هو الصدق الخالص المطلق. فعلى الصدق مدارُ الأرض والفلك والليل والنهار. وبالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة ويسقط المطر وتسطع الشمس. وبه كذلك تفي الأرض بوعدها حين تُبنت ما عليها من كلاًّ في حينه لا تقديمَ ولا تأخير. وبه تقوم نواميس الطبيعة وقوانين الحياة. والريح لا تجري إلا صادقة، والدماء لا تطوف العروقَ إلا بصدق، والأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين.
هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء، هو الينبوع الأول والأكبر الذي تجري منه عدالة الكون وإليه تعود!
ولمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود، شديد التفاعُل معه، فقد جعل همّه الأوّل في الناس تهذيبَ الناس استناداً إلى ما يعقل ويحسّ ويرى. والتهذيب في معناه الصحيح ومدلوله البعيد ليس إلاّ الإحساس العميق بقيمة الحياة وشخصيّة الوجود. ولمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم، كان الصدق مع الذات ومع كلّ موجودٍ مادّيٍ أو معنويّ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب، كما رأيناه محورَ العدالة الكونية. وبذلك ينتفي من التهذيب السليم كثيرٌ من القواعد التي تَوَاطأ عليها البشرُ دونما نظرٍ في نواميس الوجود الكبرى، وهم يحسبون أنّها قواعد تهذيبية لمجرّد اتّفاقهم عليها. وبذلك أيضاً ينتفي من التهذيب السليم كلُّ ما يخالف روحَ الحقّ وروحَ الخير وروحَ الجمال. والتهذيب على غير أُصوله الكبرى تَواطؤٌ سطحيّ على الكذب القبيح. وهو على أُصوله البعيدة إحساسٌ عميق بالصدق الجميل، ممّا يجعله اندماجاً خالصاً بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة.
لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب، حماية الإنسان من الكذب، أو قُلْ حمايته وهو حيٌّ من برودة الموت!
وحماية الإنسان من الكذب تستوجب أوّلَ ما الأمر تعظيمَ الصدق نصّاً مباشراً في كلّ حال، وإبرازَه ضرورةً حياتيّةً لا مفرّ منها لكلّ حيّ، وتوجيهَ الناس نحوه أفراداً يَخْلُون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات. وفي هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشير إلى ما يجهلون، ويعمل ما لا يستطيعونه الآن ويريدهم أن يستطيعوه. يقول عليّ: "إيّاكم وتهزيعَ الأخلاق وتصريفِهَا واجعلوا اللسانَ واحداً". وتهزيع الشيء تكسيره. وتصريفه قلْبُه من حالٍ إلى حال. يريد بذلك تذكيرَ الصادق بالخصر الذي يتعرّض صدقُه إنْ هو كذب ولو مرّة واحدة. فالصادق إذا كذب مرةً انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شيءٍ وقع على الأرض مرةً واحدة. وكذلك النفاق والتلوّن فهما لونان من ألوان الكذب. ويقول أيضاً: "وكونوا قوماً صادقين. واعملوا في غير رياء. وأعَزّ الصادقَ المحقّ وأذَلّ الكاذبَ المبطل. واصدُقوا الحديث وأدّوا الأمانة وأوفوا بالعهد. من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق. إن كنت صادقاً كافيناك وإن كنت كاذباً عاقبناك. إنّ مَنْ عدمَ الصدق في منطقه فقد فُجع بأكرم أخلاقه. ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق". وما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئاتٍ أُخرَيات يؤلف ابنُ أبي طالب بها أساسَ دستوره الأخلاقي العظيم.
ثم إليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيبُ العقل النافذ الواعي. يقول: "الكذب يهدي إلى الفجور". ولسنا في حاجة إلى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق. كما أننا لسنا في حاجة إلى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخاً. ومثل هذه الآية آيات،منها: "لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أنْ يَعِدَ أحدُكم صبيَّه ثم لا يفي له!" أما المعنى الذي يشير إليه الشق الأول من هذه الآية العلوية، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق ولا سيما الأوروبيين منهم. والواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة والكذب موت. غير أنهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا؟ فمنهم الموافق ومنهم المخالف. ولكلٍّ من الفريقين حجته.
أمّا عليّ بن أبي طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفاً حاسماً ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارئ بأنه منبثقٌ عمّا أحسّه عليّ ووعاه من عدالة الكون الشاملة، فيقول غير متردّد: "علامة الإيمان أن تُؤْثر الصدقَ حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وأن لا يكون في حديثك فضلٌ عن عملك!" ومن الواضح أن ابن أبي طالب لا يرى في الكذب ما ينفع وأن في الصدق ما قد يضرّ، فيتحدث إلى الناس في نطاقٍ من مدى تصوُّرهم ليبلغ كلامُه منهم مبلغاً ذكياً. وتأكيداً لذلك يقول: "عليك بالصدق في جميع أمورك" ويقول أيضاً: "جانبوا الكذب فإن الصادق على شَفَا مَنْجاة وكرامة، والكاذب على شَفَا مَهْواةٍ وهلكة!"
أما المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة: "ولا أنْ يعِد أحدُكم صبيّه ثم لا يفي له"، فالتفاتةٌ عظيمة إلى حقيقةٍ تربويّة تقرّرها الحياةُ نفسُها، كما تقرّرها الأصولُ النفسية التي ينشأ عليها المرء ويتدرّج. ويكفيك منها هذه الإشارة إلى أن الطفل يتربَّى بالمثَل لا بالنصيحة. وهذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربوية!
والصدق مع الحياة يستلزم البساطة وينفر من التعقيد، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة والليل بهيم. ودلالةً على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاقٌ حيّ وعفوي عن الصدق، نقول إن ابن أبي طالب كرهَ التكبّر لأنه ليس طبعاً صادقاً بل الكبْر هو الصدق، فإذا المتكبر في رأيه شخصٌ يتعالى على جبلته ذاتها. يقول: "لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه". وهو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصوداً فإنه عند ذاك لا يكون طبعاً صادقاً بل الشعور بأن الإنسان مساوٍ لكل إنسان في كرامته هو الصدق. لذلك يخاطب مَنْ يقوده تواضعُه إلى أن يذلّ نفسه، قائلاً له: "إياك أن تتذلّل للناس". ثم يردف ذلك بقول أروع: "ولا تَصْحَبَنَّ في سفرٍ مَنْ لا يرى لك من الفضل عليه مثلَ ما ترى له من الفضل عليك!"
وإني لا أعرف في مبادئ المحافظين على كرامة الإنسان كإنسان لا يتكبر ولا يتواضع بل يكون صادقاً وحسب، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمةً: "الإنسان مرآة الإنسان!"
ومن أقواله الدالّة على ضرورة أخْذ الحياة أخذاً بسيطاً: "ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى. الثناء بأكثر من الاستحقاق مَلَقٌ والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. لا تقل ما لا تعلم. لا تعمل الخير رياءً ولا تتركه حياء. يا ابن آدم، ما كسبتَ فوق قوتك فأنت فيه خازنٌ لغيرك. لا ينصت للخير ليفخر به، ولا يتكلّم ليتجبّر على من سواه. مَنْ حمّل نفسه ما لا يُطيق عجز. لا خير في معينٍ مهين". وكأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانباً ممّا وعاه فكرُه وشعورُه من أمور الحياة والإنسان إلاّ أطلق فيه رائعةً تختصر دستوراً كاملاً. وهذا ما فعله ساعة شاءَ أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذاً صادقاً بسيطاً، فقال هذه الكلمة الدافئة بعفْويّة الحياة: "إذا طَرَقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت، ولا تتكلّف لهم ما وراء الباب!"
***
وإذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورةٍ مباشرة، ثم حول البساطة التي لا يكون صدقٌ بدونها ولا تكون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه وتترابط حتى لكأنّها صورةٌ عن كلّ موجودات الكون، والتي يظلّ الصدقُ مدارَها الأوّلَ وإن تناولتْ وجوهاً أُخرى من وجوه الأخلاق. فيوصي بأن يتغافل المرءُ عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمةً من المتغافل وتهذيباً للمسيء بالسيرة والمَثل أبلغَ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: "من أشرف أعمال الكريم غفلتُه عمّا يعلم". كما يوصي بالحلم والأناة لأنهما نتيجةٌ لعلوّ الهمّة ثمّ مَدْرَجَةٌ لكرمَ النفس: "الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمة". ويكره الغيبة لأنها مذهبٌ من النفاق والإساءَة والشرّ جميعاً: "اجتنب الغيبة فإنّها أدام كلاب النار". والخديعة مثل الغيبة وكلتاهما من خبث السرائر: "إيّاك والخديعة فإنّها من خلق اللئام". وكما رأى أنّ كذبةً واحدةً لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنبٍ مهما كان في زعم صاحبه خفيفاً قليل الشأن إنّما هو شديدٌ لأنه ذنبٌ، بل إنه أشدّ وقعاً على كرامة الإنسان إذا استخفّ به صاحبه، من ذنبٍ عظيمٍ عاد مقترفُه إلى الرجوع عنه في الحال: "أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه". وينهاك عليّ في التسرّع في القول والعمل لأنه مدعاةٌ إلى السقوط وعلى الإنسان المهذّب ألاّ يُبيح نفسَه لأيّة سقطة: "أنهاك عن التسرّع في القول والعمل". وهو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلِّ ذنب أذنبتَ إصلاحاً لخلقك، ولكنّه ينبّهك تنبيهاً عبقريَّ الملاحظة والبيان إلى أنّ الإنسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطرّه إلى الاعتذار: "إيّاك وما تعتذر منه فإنه لا يُعتَذر من خير". ومنعاً للاشتغال بعيوب الناس وإغفال عيوب النفس، وفي ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق والمسلك سلباً وإيجاباً، يقول علي: "أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله" و"مَنْ نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره". وإذا أتى القبيح من مصدرٍ عليك أن تُنكره أوّلاً، فإن لم تستطع ذلك تحتَّم عليك إلاّ تستحسنه لئلاّ تصبح شريكاً فيه: "مَنْ استحسن القبيح كان شريكاً فيه". وإذا كان التعاطف بين الناس ضرورةً أخلاقية لأنه ضرورةٌ وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق، فإنّ منطق العقل والقلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك وأحسن إليك أكثرَ وأوسع. وفي ذلك يقول عليّ: "لا تجعلنّ ذربَ لسانك على من أنطقك وبلاغةَ قولك على مَنْ سَدّدَك". ثم يقول: "وليس جزاء مَنْ عظّم شأنك أن تضع من قدره، ولا جزاء مَنْ سرّك أن تسوءَه".
ويهاجم الحرصَ والكبرياء والحسد لأنّها سبيلٌ إلى الانحدار الخلقي: "الحرص والكبر والحسد دواعٍ إلى التقحّم في الذنوب". وإذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفةٌ مذمومةٌ لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرةٍ أشمل وفكرٍ أعمق، فالبخل ليس مذموماً لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، ولدفْعه صاحبَه إلى كل سوءَة في الخلق والمسلك. فالبخيل منافق، معتدٍ، مغتاب، حاسد، ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي: "البخل جامع لمساوئ العيوب".
ويطول بنا الحديث ويتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق وتهذيب النفس، فهي كثيرةٌ لم تترك حركةً من حركات الإنسان إلاّ صوّرتْها ووجّهتْها. وإذا قلتُ إن مثل هذا العمل طويلٌ واسعٌ شاقٌ فإنّي أعني ما أقول. وما على القارئ إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق وتهذيب النفس، وعمّا تستوجبه هذه المختارات من شرحٍ وتعليق. ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الإنسان، ومن أعظمه اتّساعاً وعمقاً.
على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصْفه إحساساً عميقاً بقيمة الحياة وكرامة النفس وكمال الوجود. وإنّ نفراً قليلاً من المتفوّقين كبوذا والمسيح وبتهوفن وأشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الإنسان ونفسه. ولا تكون بين الإنسان وما هو خارجٌ عنه إلاّ انبثاقاً بديهيّاً طبيعيّاً عن الحالة الأولى. وقد أدرك ابنُ أبي طالب هذه الحقيقة إدراكاًَ قويّاً واضحاً لا غموضَ فيه ولا إبهام. وعبّر عنها تعبيراً جامعاً. يقول عليّ في ضرورة احترام الإنسان نفسَه وأعماله دون أن يكون عليه رقيب: "اتَّقوا المعاصي في الخلوات". ويقول في المعنى ذاته: "إيّاك وكلّ عملٍ في السرّ يُستحى منه في العلانية. وإيّاك وكلّ عملٍ إذا ذُكر لصاحبه أنكره". وإليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ والعلانية، أو بين ما أسميناه "آية التهذيب" وما أسميناه "انبثاقاً" عنها: "مَنْ أصلح سريرتَه أصلح الله علانيته".
ومن بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: "كلْ على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك". وجليٌّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراماً مطلقاً غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو إلى نفسك كما تتصرف وأنت بين يدي ملك. ومثل هذا المعنى يقوله عليّ بن أبي طالب على هيئة جديدة: "ليتزيّنْ أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن هيئة!"
وهو يريدك في كلِّ حال أن تعِظ أخاك لتعينه في الانتقال من حَسَنٍ إلى أحسن في الخلق والذوق والمسلك. ولكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنُصحه علناً، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّناً رفيقاً فلا تنصح إلا خفيةً ولا تعظِ إلا سرّاً. يقول عليّ: "مَنْ وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومَنْ وعظَه علانيةً فقد شانه".
وأيّةً كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك والحياة والناس. فبهذا الصدق تحيا وبغيره تهلك. وبه تحفظ سلامَةَ روحك وقلبك وجسدك. وبغيرها تفقدها. وبالصدق تُحِبّ وتُحَبّ ويوثَق بك، وبغيره تجلب لنفسك المقْتَ والكراهية والسيّئاتِ جميعاً وير ذلك الناس تافهاً حقيراً. وهذا الصدق عهدٌ منك وعليك لأنه إرادة الحياة الغلاّبة وهي إرادةٌ تقضي عليك بأن تنظر في عهدك كلّ يوم. وابنُ أبي طالبٍ يقول: "على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يومٍ في عهده!"
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الفصل الرابع- خير الوجود وثوريّة الحياة
لَشَدَّ ما رأيناه يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاًّ من خير الوجود، وخيرَ الوجود كلاًّ من ثورية الحياة!
وقالت الثورة: أنا الهادمة البانية!
وليس من حقّ الوجود العادل إلا أنْ يكون خيّراً كريماً. وليس من طبيعته إلا العطاءُ. وهو لا يأخذ ما يعطيه إلا ليعود إلى بذْلِه طيّباً جديداً. وخيرُ الوجود كيانٌ من كيانِه وجوهرٌ من جوهرِه. وعهْدُ عليٍّ به هو هذا العهد. وإحساسُه بخيره هو إحساسه بعَدْله لا يقلّ ولا يزيد. وعلى ذلك تَحَدّث عن هذا الخير فأكثر الحديثَ وقد روينا من أقواله في خير الوجود شيئاً غيرَ قليل، ولعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمةٍ قالها وكأنّه يوجز بها مذهبَه المؤمنَ بخير الوجود: "وليس الله بما سُئل بأجودَ منه بما لم يُسألْ". فإذا عرفنا أنّ لفظة "الله" تعني في أقصى ما تعنيه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية والروحية: مركزَ الوجودِ والروابط الكونية، عرفْنا أيّ خيرٍ شاملٍ عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسألُ ضمن شروطٍ، ثم يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد!
ولمّا كان الإنسان الذي يحسب أنّه جرم صغير، ممثلاً لهذا العالَم الأكبر على ما يقول ابنُ أبي طالب، فلا بدّ أن يكون هو أيضاً صورة عن الوجود بخيره كما هو صورةٌ عنه بعدله. فإذا أعطاك الوجودُ فوقَ ما تسأله من خيره، يكون قد بَدَأَك لحاجةٍ في طبيعته إلى أن يكون خيّراً. وإذا كنتَ صورةً عنه، فأنتَ أحْوَج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة إليه. وهذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا: "أهل المعروف إلى اصطناعه أحوَجُ من أهل الحاجة إليه!" وهذا ما يؤكّده أيضاً في عبارةٍ يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: "والفضل في ذلك للبادئ".
وإذ ننتقل إلى النظر في الخير ومعناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نُجريَ آراءَ ابن أبي طالب في المجاري التالية:
أولاً، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، وأنْ يعمل واحدُهم من أجل نفسه والآخرين سواءٌ بسواء، وألا يكون في هذا العمل رياءٌ من جانب هذا ولا إكراهٌ من جانب ذاك لكي "يُعمل في الرغبة لا في الرهبة" على حدّ ما يقول عليّ، ثم أن يضحّي بالقليل والكثير توفيراً لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، وأن تأتي هذه التضحية مبادرةً لا بعد سؤال ولا بعد قسْرٍ وإجبار. وكلّ ما من شأنه أن ينفع ويفيد، سواءٌ أكان ذلك على صعيدٍ مادّي أو روحيّ، كان خيراً.
ثانياً، يرى عليٌّ أنّ الخير لا يأتي إلا عملاً أولاً، ثم قولاً، لأن الإنسان يجب أن يكون واحداً كالوجود الواحد، وأن يساند بعضُه بعضاً وفاءً لهذه القاعدة، فإن قال فعل، وإن فعل قال. ومن روائع ابن أبي طالب كلمةٌ قالها في رجلٍ يرجو الله في أمرٍ ولا يعمل من أجل هذا الرجاء: "يدّعي بزعمه أنّه يرجو الله! كذبٌ والعظيمِ! ما باله لا يتبين رجاءَه في عمله، فكلّ مَنْ رجا عُرف رجاؤه في عمله!" أمّا إذا عملتَ خيراً، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيراً: "قلْ خيراً وافعلْ خيراً!"
ثالثاً، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعدَ ما يكون الانطلاق، وذلك بأن يجعل قبولَ التوبة عن الشرّ قاعدة يُعمل بها. فإذا أثِمَ المرء مسيئاً إلى الآخرين، فإنّ في التوبة باباً يلجه من جديدٍ إلى عالَم الخير إذا شاء. يقول عليّ: "إقبل عذر من اعتذر إليك، وأخّر الشرّ ما استطعت". ويعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقتْ بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري، ويعرف كذلك أنّ عليّاً لا ينزع إلا عن مذهبه أيةً كانت الظروف والصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلاً: "أمّا بعد، فإنّك امروءٌ ضلّلك الهوى، واستدرجك الغرور، فاستقلِ اللهَ يقِلْك عثْرتَك، فإنّ مَن استقال اللهَ أقاله!"
رابعاً، يؤمن عليّ بأن قوى الخير في الإنسان تتداعى ويشدّ بعضُها بعضاً شدّاً مكيناً. فإذا وُجد في إنسانٍ جانبٌ من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أخرى منه، ولا بدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. وفي هذه النظرة إشارةٌ صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافئٌ عادلٌ خيّرٌ سواءٌ أكان وجوداً عامّاً كبيراً، أو وجوداً خاصّاً مصغّراً يتمثّل بالإنسان: "إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها!"
خامساً، ومثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير إلى الشر بين الناس والناس: "جالس أهل الخير تكن منهم!" و "اطلبوا الخيرَ وأهلَه".
سادساً، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الإنسان أيّاً كان أن ينهج نهج الخير، وأنّه ليس من إنسانٍ أجدر من إنسانٍ آخر بهذا النهج: "ولا يقولنّ أحدُكم إنّ أحداً أولى بفعل الخير منّي!"
سابعاً، على المرء ألا يستكثر من فعل الخير كثيراً. بل إنّ ما يفعله من خيرٍ يظلّ قليلاً مهما كان كثيراً لأنّ في الاكتفاء بقدرٍ من الخير جحوداً بخير الوجود العظيم وإنكاراً لطاقة الإنسان الذي ينطوي فيه العالَم الأكبر. يقول عليّ في أهل الخير: "ولا يرضَون من أعمالهم القليلَ، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون(26)"
ثامناً، لا بدَّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليٌّ على مفاهيم النزوع الإنساني إلى ما يجعل الناسَ، كلّ الناس، في نعيم.
فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكّرين الذين أعاروا شؤونَ الناس اهتمامَهم، رأينا أنّ لفظة "السعادة" هي التي تتردّد في هذه الآثار، وأنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بالذات، مدار أبحاثهم وغاية ما يريدون. أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة "السعادة" هذه ما هو أبعدُ مدىً، وأعمق معنى، وأرحبُ أُفقاً، وأجلّ شأناً في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الإنسانية وتصبو إليه. لقد استبدل بـ"السعادة" هذه ، لفظة "الخير" فما كان يوجّه القلوبَ إليها بل إليه، لأنّ في السعادة ما هو محصورٌ في نطاق الفرد، ولأنّ الخير ليس بمحصورٍ في مثل هذا النطاق. فالخير إذَن أعظم! ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادَة ولا تحتويه، فهو أشمَل! أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الإنسان، وأنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، وأنّهم قد يَتْفَهون ويترهّلون وهم يحسبون أنّهم بذلك سعداء. أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن، فهو السعادةُ منُوطةٌ بسعادة الناس جميعاً. وهو الرضى عن أحوال الجسد والعقل والضمير! لذلك أكثر عليٌّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الإنسان!
ولم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة "السعادة" إلا مرّة واحدة. ولكنه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يُحمّلها من حدوده ومعانيه. أمّا العبارة التي وردتْ فيها لفظة "السعادة" فهي هذه: "مِن سعادة الرجل أنْ تكون زوجته صالحة وأولاده أبراراً وإخوانه شرفاء وجيرانه صالحين ورزقه في بلده". فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه وجيرانه جميعاً. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستنداً إلى أنها بلادٌ تُنتج الرزقَ لجميع أبنائها وهو واحدٌ منهم!
تاسعاً، إنّ خير الوجود وخير الإنسان يستلزمان، بالضرورة، الثقةَ بالضمير الإنسانيّ ثقةً تجعله حَكماً أخيراً في ما يضرّ وينفع. ولنا في هذا الموضوع رأيٌ نُفصّله نقول:
من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقلَ وحده. ومنها ما يخاطب به الضميرَ. وأكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل والضمير مجتمعين. أمّا تلك التي يخاطب بها العقلَ، فقلْ إنّها الغاية في الأصالة، وإنّها نتيجةٌ محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ ودقّق وتمرّس بخير الزمان وشرّه، وعرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق ويجلّيها، فإذا هي مصوغةٌ على قواعدَ هندسيّةٍ ذات حدودٍ وأبعادٍ لشدّةِ ما ترتبط بالحقائق، ومُظْهَرةٌ في أروع إطارٍ فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة والشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.
وفي هذا النوع من الحِكَم الموجّهة إلى العقل، نرى عليّاً يصوّر تاركاً للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحِكَم صيَغَ الطلب. إنّما نرى حِكَماً صيغتْ بقالبٍ خبريٍّ خالصٍ جُرّد من صُوَر الأمر والنهي جميعاً.
حِكَماً تتبلور فيها طبائع الصديق والعدّو، والمحسن والمسيء، والأحمق والعاقل، والبخيل والكريم، والصادق والمنافق، والظالم والمظلوم، والمعوِز والمتخَم، وصاحب الحقّ وصاحب الباطل، ومفهوم الخلق السليم والخلق السقيم، وشؤون الجاهل والعالم، والناطق والصامت، والأرعن والحليم، وصفات الطامع والقانع، وأحوال العُسْر واليُسر، وتقلّبات الزمان وما لها من أثرٍ في أخلاق الرجال، وما إلى ذلك من أُمورٍ لا تُحصى في فصلٍ أو باب.
أمّا تلك التي يخاطب بها الضميرَ، والعقلَ والضميرَ مجتمعين، فإليكَ ما هي وما حولها:
من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة والتشريعات وحدَها سلامةَ الإنسان وكفايةَ المجتمع، قد أخطأوا خطأ عظيماً. فإنّ هذه الأنظمة والتشريعات التي تُعلن عن حقوق الإنسان وتأمر برعايتها والمحافظة عليها، لا يضبطها في النتيجة، كما لا يُخلص في اكتشافها وابتداعها، إلا عقلٌ سليم ونفسٌ مهذّبة وضميرٌ راقٍ. فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها، ضمنَ حدودٍ معيّنةٍ طبعاً، بأخلاق القيّمين على دساتيرها وأنظمتها، وبمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدانَ هذه الأنظمة والدساتير وتبرّر وجودَها. هذا، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتاً عظيماً في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها. وذلك بحكم طبيعتها وبنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ. أما الأنظمة والدساتير القديمة، فقد كانت أكثر تأثُّراً بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود. ولذلك أسبابٌ ليست من موضوع حديثنا هذا.
وبالرغم من أنّ الأنظمة والتشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس وتفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضاً، فإنّ هذا التوجيه وهذا الفرض يظلان خارج حدود القيمة الإنسانية إن لم يوافقهما العملُ النابع من الوجدان بالذات. وفي مذهبنا أنّ كلّ عملٍ يأتيه الإنسان لا بدّ أنه فاقدٌ الدفءَ الإنسانيّ، وهو أثمنُ وأعظم ما يوافق الصنيعَ الإنساني، إن لم يحمل وهجَ الضمير وعبقَ النفس وإرادةَ العطاء على غير قسْرٍ وإكراه. ولا تنجح الأنظمة والتشريعات في إقامة العلاقات الإنسانية إلا بمقدار ما يمكنها أنْ تتوجّه إلى العقل والضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع وإرادة العامل في وحدةٍ تكفل للفرد وللجماعة الصعودَ في طريق الحضارة.
وما يصدقُ، بهذا الصدَد، في نطاق الأفراد والجماعات، يصدُق كذلك في تاريخ المفكّرين والمشترعين والعلماء والمكتشفين ومَن إليهم. فإنك لترى، إذا أنتَ استعرضتَ تاريخ هؤلاء الذين خدموا الإنسان والحضارة، أنّ العقل الذي دَلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان، لم يكن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جافّ، لا يتعرف إلا إلى الأرقام والأقسام والوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلّك على الطريق ولكنّه لا يشدّك إلى سلوكه ولا يدفعك في سهله ووعره. أما الدافع، فالضمير السليم والعاطفة الحارة. فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية والانفراد الموحش الكئيب، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة إلى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة والإنسان؟ وإن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضميرَ السليم بالحرارة والدفء فلا يفترُ أبداً.
وما يقال في ماركوني يقال في باستور، وغاليليو، وغاندي، وبتهوفن، وبوذا، وأفلاطون، وغيتي، وفي غيرهم من أصحاب المركّب الإنساني القريب من الكمال.
والدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلاً سلبياً لزيادة الإيضاح. فهذا ادولف هتلر، وجانكيزخان، وهولاكو، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقيصر بورجيا بطل كتاب "الأمير" المشؤوم لمكيافيللي(27)، وبعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون على تجربتها على الآدميين، ألم يتميز هؤلاء جميعاً بعقول واسعة ومدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ ومع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل والتدمير والاعتداء على مقدسات الحضارة ومخلّفات الجهود الإنسانية، وعلى كرامة الحياة والأحياء وخير الوجود! ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة والعواطف الكريمة! فحيث لا ضمير ولا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب.
ولا أريد هنا التفصيلَ بين مختلف قوى الإنسان من عاطفة وضميرٍ وعقلٍ وما إليها، فهي ولا شكّ تتفاعل وتتعاون. غير أنّ ما أردتُه بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيدٍ يربط السببَ بالنتيجة ويُحْكِم بين العلّة والمعلول، فيدور في نطاقٍ من الأرقام والحدود التي لا تتأثّر، بحدّ ذاتها، بالبيئة الإنسانية الخاصّة والعامّة. وعلى هذا الضوء أجزتُ هذا التفصيل.
إذن، فالعقل المكتشف لا بدّ لصاحبه من ضميرٍ، وعاطفة يدفعانه في طريق الخير. وما يصحّ بهذا الشأن في المشترِع يصحّ في المشترَع له. فالأفراد الذين يُطلَب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك، لا بدّ لهم من اقتناعٍ وجدانيّ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد، يدفعهم في طريق التهذيب الإنسانيّ الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لا بدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقيّة التي تحيط الأنظمة والتشريعات بحصونٍ رفيعةٍ منيعة. لا بدّ لهم من أن يكونوا خيّرين!
لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، ويوقظ فيهم ما غشّتْه الأيامُ من الضمائر السليمة. ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها.
توجّه عليّ إلى الضمائر بتوصياته وخطبه وعهوده وأقواله جميعاً. لأنه لم يفتْه أنّ لتهذيب الخلق شأناً في رعاية النظم العادلة، وفي بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. ولم يفتْه كذلك أن هذا التهذيب يُطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يُطلب لحماية العدالة الاجتماعية وسُنَنِها بما هو ضبطٌ لنوازعَ وتوجيهٌ لأخرى. وقد ساعده في ذلك ما أُوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفراداً وجماعات، فيدرك ميولهم وأهواءهم، ويعرف طباعهم وأخلاقهم، فيزن خيرَها وشرَّها، ثم يصوّر، ويطوّر، ويأمر وينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الإنساني الذي يتوجه إليه.
كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الإنساني ثقة العظماء الذين تآلفَ فيهم العقل النيّر والقلب الزاخر بالدفء الإنساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدوداً.
كانت ثقته بهذا الضمير ثقةَ بوذا وبتهوفن وروسّو وغاندي وسائر العظماء الذين مدّهم القلبُ بنور يخبو لديه كلّ نور. وعلى أساس هذه الثقة أرسى ابنُ أبي طالب حِكَمه وأمثاله، وعلى أساسها تترابط الأفكار والتوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.
وإذا كان للإمام علي مثلُ هذه الثقة بنواحي الخير في الناس، على ما مُني به على أيديهم من نكبات وفواجع، فإنه يأبى إلا أنْ يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعاً. فهو يعرف "أنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً". ولكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه وقلبه على نواحي الخير هذه، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر. ولعلّ التعليم بالمثَل والسيرة يكون أجلّ وأجدى. وقد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الإنساني، وفي جملة ما يقوله: "مَن ظنّ بك خيراً فصدّق ظنه". ويقول في مكان آخر: "لا تظننّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتَملاً" و "ليس من العدل القضاءُ بالظنّ على الثقة" و "وإذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ثمّ أساء رجلٌ الظنَّ برجلٍ لم تظهر منه خَزْيةٌ، فقد ظلم" و "أسوأ الناس حالاً مَن لم يثق بأحدٍ لسوء ظنّه، ولم يثق به أحدٌ لسوء فعله!"
وقد أخطأ دارسو الإمام عليّ ساعة رأوا أنه متشائمٌ بالناس شديد التشاؤم، متبرّمٌ بهم كثير التبرّم. وساعة احتجّوا لرأيهم هذا بأقوالٍ له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّةٍ وعنف. أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماماً. رأينا أنّ عليّاً لم ينقضْ ثقتَه بالإنسان ساعةً واحدة وإن نقَضَها ببعض الناس في بعض الظروف. فمَن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس، وجلَدَه العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة من الغدر والخيانة والفجور في الكثير من خصومه وأنصاره، ثم ما كان من أُموره معهم جميعاً إذ يأخذهم بالرفق والعطف ما أمكنه أنْ يرفق وأنْ يعطف، أقول: مَن عرف ذلك أدرك أنّ عليّاً عظيم التفاؤل بحقيقة الإنسان، وبفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله. لا يختلف في ذلك عن أخيه العظيم روسّو.
وإذا كان له في ذمّ أهل الخيانة والغدر والظلم قولٌ كثير، فما ذاك إلا لأنه يعترف، ضمناً، أنّ الإنسان ممكناً إصلاحُه ولو طال على ذلك الزمن. فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسيءَ كما يُثيب المحسن أملاً منه بتقويم الاعوجاج في الخلق والمسلك. ولو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لَما استطاع احتمال ما لا يُحْتَمَل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون، ولَما صبر على ما يكره! وهو إن قال في الدنيا وأهلها: "فإنّما أهلها كلابٌ عاوية وسباعٌ ضارية، يهرّ بعضُها بعضاً، ويأكل عزيزُها ذليلَها، ويقهر كبيرُها صغيرَها" فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين وفجور الفاجرين ما آلمه وآذاه. فوبّخهم هذا التوبيخَ الموجع إيثاراً منه لمن لا يفجر ولا يغدر ولا يكون كلباً عاوياً وسبعاً ضارياً ولا عزيزاً يأكل ذليلاً أو كبيراً يقهر صغيراً! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري والعزيز الظالم والكبير الجائر كما يحارب الطبيبُ الجراثيمَ إيثاراً منه لسلامة البدن والروح، بل إيثاراً منه للحياة على الموت، وتفاؤلاً بحسن النجاة!
إذن، فالإمام عليّ، وهو الذي يحترم الحياة: أعظم ما خلق الله، ويحترم الناس الأحياء: أجمل نماذج هذه الحياة، عظيمُ الثقة بالخير الإنساني، عظيم التفاؤل بالإنسان يريده حرّاً كما يجب أن يكون!
ولولا هذه الثقة وهذا التفاؤل لَما كان من أمره مع الناس ما كان، ولَما قال: "لا تظننّ بكلمةٍ خرجتْ من أحدٍ سوءاً وأنت تجد لها في الخير مُحْتَمَلاً!" ثمّ لَما تَوجّه إلى الضمير الفرديّ والجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم وحرارة العاطفة إلى سمّو الغاية ونبل المقصد. هذه الوصايا التي أرادها حصناً منيعاً للأخلاق العامة، والعاطفة الإنسانية، وتركيز العمل النافع على أُسُس الإيجابية في العقل والضمير. واستناداً إلى هذه الثقة بالضمير الإنساني، وتحصيناً للعمل الخيّر الشريف، نراه يقيم على الناس أرصاداً من أنفسهم وعيوناً من جوارحهم فيخاطبهم قائلاً: "اعلموا أن عليكم رَصَدَاً من أنفسكم وعيوناً من جوارحكم وحُفّاظَ صدقٍ يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم!"
***
واستناداً إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله، وإلى عظمة الحياة والأحياء، يخاطب عليّ بن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّةٌ لا تُطيق من القيود إلا ما كان سبباً في مجراها وواسطةً لبقائها وقبَساً من ضيائها وناموساً من نواميسها. وأنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم إلا يحاولوا غلّها وتقييدها وإلا أسِنتْ وانقلبت إلى فناء. فالحياة جميلة، كريمة، حرّة، خيّرة كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.
وهي متجدّدة أبداً، متطوّرة أبداً، لا ترضى عن تجدّدها وتطوّرها بديلاً وهما أسلوبٌ تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيراً أكثر وبقاءً أصلح. وملاحظةُ ابن أبي طالبٍ الدقيقة العميقة للحياة ونواميسها وهي أعظم موجودات الوجود الخيّر، مكّنت في نفسه الإيمانَ بثوريّة الحياة المتطلّعة أبداً إلى الأمام، المتحرّكة أبداً في اتّجاه الخير الأكثر. وثوريّة الحياة أصلُ تحرّكها وسببُ تطوّرِها من حسنٍ إلى أحسن. ولهذا كانت الحياة حرّةً غير مقيّدة إلا بشروطِ وجودها. وثوريّة الحياة أصلُ تحرّكِ المجتمع الإنساني وسببُ تطوّره. ولولا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئاً من الموت والأحياء أشياءَ من الجماد.
آمن ابنُ أبي طالبٍ بثوريّة الحياة إيماناً أشبه بالمعرفة، أو قُلْ هو المعرفة. فترتّب عليه إيمانٌ عظيمٌ بأنّ الأحياء يستطيعون أن يُصلحوا أنفسهم وذلك بأن يماشوا قوانين الحياة. ويستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم وذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة. وقد سبق أنْ قلنا في حديثٍ مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصقُ مزايا الحياة بها وأعظمها دلالةً على إمكاناتها العظيمة. وهي تستلزم من المؤمنين بها أن يعلموا على أساسٍ من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم، وأن ينبّهوا الخواطر إليه، وأن يستخدموا الدليلَ والبرهان في زجْر المحافظين عن كلّ تصرّفٍ غبيٍّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها.
بهذه الثقة وبهذا الإيمان خاطب ابن أبي طالب الإنسانَ بقوله: "فإنك أوّلَ ما خُلقتَ جاهلاً ثم عُلِّمتَ، وما أكثر ما تجهلُ من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضِلّ فيه بصرُك، ثم تُبصره بعد ذلك!" ففي هذا القول اعترافٌ بأنّ الحياة متطوّرة، وأنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقاً. وفيه إيمانٌ بالقابلية الإنسانية العظيمة للتقدّم، أو قُل للخير. وما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ يومٍ عن جديد، وتبني كلّ يومٍ جديداً، إلا دليلٌ عن الإيمان بثوريّة الحياة الخيّرة وإمكانات الأحياء. فالمعرفة لديه كشفٌ وفتحٌ لا يهدآن.
وهو بهذا الإيمان وهذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول: "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم". فلولا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالاً، وبأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير، لَما أطلق هذا القولَ الذي يوجز علمَه بثوريّة الحياة، ويوجز تفاؤلَه بإمكانات الإنسان المتطوّر مع الحياة، كما يوجز روحَ التربية الصحيحة، ويخلّص كلّ جيلٍ من الناس من أغلال العُرف والعادة التي ارتضاها لنفسه جيلٌ سابق.
ولابن أبي طالب في هذا المعنى قولٌ كثيرٌ منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العملَ بوصْفِه حقيقةً وثورةً وخيراً: " مَنْ أبطأ به عملُه لم يُسرع به نَسَبُه" و"قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه" و "اعلموا أنّ الناس أبناء ما يُحسنون" و "لكلّ امرئٍ ما اكتسب".
ومن أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل، وألا يُحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيراً أو قليلاً، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءَه ما يستحقّون. وإذا هو حرَمَهَم فبعضَ الحرمان لا كلّه. وقد يُسَوّى الأمرُ في دفعةٍ ثانية من الطلب بواسطة العمل. ومن قوله في ذلك هذه الآية: "مَن طلب شيئاً ناله أو بعضَه". وأظن أن القارئ فطن إلى روح هذه العبارة التي تتألق وكأنها انبثاقٌ عن كلمة المسيح الشهيرة: "إقرعوا إقرعوا يُفْتَحْ لكم".
ولعلَّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّةَ الحياة وخيرَ الوجود نصّاً كما يوحّدهما روحاً ومعنى. فَلَشَدّ ما نراه يوحِّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى خير الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك، ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاً من خير الوجود، وخيرَ الوجود كُلاً من ثوريّة الحياة. وإن في آياته هذه دليلاً كريماً على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرحٍ أو تعليق. وإليك نموذجاً عنها: "العاقل مَن كان يومه خيراً من أمسه" و "مَن كان غده شراً من يومه فهو محروم" و "مَن اعتدل يوماه فهو مغبون". وأخيراً إليك هذه الرائعة التي تجمع كلّ ما نحن بصدَده الآن، إلى دفء الحنان العميق، إلى جمال الفن الأصيل، إلى إشراك الأيام بأحاسيس البشر:
"ما مِن يومٍ يمرّ على ابن آدمٍ إلا قال له: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقُلْ فيّ خيراً واعملْ خيراً فإنك لن تراني بعدَ أبد!"
ولسوف نسوق في هذا الكتاب روائع لابن أبي طالب ستبقى ما بقيَ الإنسانُ الخيّر. وإنّها لَطائفةٌ تؤلّف نهجاً في الأخلاق الكريمة، والأحلام العظيمة، والتهذيب الإنسانيّ الرفيع الذي أراده انبثاقاً عن ثوريّة الحياة وخير الوجود!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الباب الثالث- طائفة من رسائله وخطبه وعهوده ووصاياه
الباب الثالث- طائفة من رسائله وخطبه وعهوده ووصاياه
الفصل الأول- الفاتحة العلوية
أوَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أُشَارِكُهُمْ مَكَارِهِ الدَّهْرِ!؟
امْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَار.
إيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ.
أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ.
مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مَنَعَ بِهِ غَنِي.
مَا رَأَيْتُ نِعْمَةً مَوْفُورةٌ إلاّ وَإلى جَانِبها حَقٌّ مُضيَّعٌ.
وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ(28).
وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ.
لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.
الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ.
لوْ تَمثَّلَ ليَ الفَقْر رَجُلاً لقَتَلْتُهُ.
يُسْألُ –ابْنُ آدَمَ- يَوْمَ القِيامَة عَنْ مَاله مِنْ أَيْنَ اكتَسَبَهُ.
كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً؟
ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ يَدْعُو إلى السَّيف، وَخَاب مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً.
يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ.
العَامِلُ بالظُّلْمِ، وَالمُعِينُ عَلَيْهِ، وَالرَّاضِي بِهِ: شُرَكَاءٌ ثَلاثَةٌ.
لاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه.
مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْه أُلْزِمْتَهُ.
إنَّ شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ للأَْشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ.
ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ.
احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ.
قُلوبُ الرَّعِيَّة خَزَائنُ رَاعِيها، فَمَا أَوْدَعَهُ فِيها مِنْ عَدْلٍ أوْ جُورٍ وَجَدَهُ فِيها.
لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ وَلاَ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ.
إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ.
إنَّ سُخْط الخَاصَة يُغتَفَرُ مَعَ رِضَا العَامَّة.
إذا غَضِبَ الله عَلى أُمَّةٍ غَلتْ أسْعَارُها وَغَلبَهَا أشْرَارُها.
وَلكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً وَعِبَادَهُ خَوَلاً(29).
العُلَمَاءُ حُكَّامُ المُلوك، وَالبَغْيُ آخر مُدَّة المُلوكِ.
الَعِلْمُ دِينٌ يُدَانُ بِهِ.
أَلأمُ النَّاسَ مَنْ سَعَى بِإنْسَانٍ ضَعِيفٍ إلى سُلْطَانٍ جَائرٍ.
إِنَّهَا سَاعَةٌ –من الليل- لاَ يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً(30).
ثَلاثَةٌ يُؤثِرونَ المَالَ: تَاجِرُ البَحْرِ، وَصَاحِبُ السُّلطَانِ، وَالمُرْتشيَ في الحُكْمِ.
إذا كَانَ الرَّاعِي ذِئبَاً، فَالشَّاة مَنْ يَحْفظها؟!
لَعَنَ اللهُ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ.
الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مَنْهُ.
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُقَرَّبُ فِيهِ إِلاَّ الْمَاحِلُ، وَلاَ يُظَرَّفُ إِلاَّ الْفَاجِرُ، وَلاَ يُضَعَّفُ إِلاَّ الْمُنْصِفُ(31).
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الفصل الثاني- رسائله وخطبه
عبادة الأحرار
من كلام رائع له في معنى العبادة:
إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ! وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ! وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأحْرَارِ!
يا أبا ذرّ
من كلام للإمام للصحابي العظيم أبي ذر الغفاري لما أخرجه الخليفة الثالث إلى "الربذة" وهو موضع قفر على قرب من المدينة، وبعث ينادي في الناس: "ألا لا يكلّم أحدٌ أبا ذر ولا يشيّعه!" وقد تحاماه الناس إلا ابن أبي طالب، وعقيلاً أخاه، والحسن والحسين ولديه، وعمّارا:
يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ. إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ; فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابحُ غَداً، وَالأكْثَرُ حُسَّداً. وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالأَْرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللهَ، لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لأحَبُّوكَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لأََمَّنُوكَ(32).
كلّما اطمَأَنّ
من كتاب له إلى سلمان الفارسي قبل أيام خلافته:
وَكُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا –الدنيا- أَحْذَرَ مَا تَكُونَ مِنْهَا، فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أشْخْصَتْهُ عَنْهُ إِلىَ مَحْذُورٍ.
السّلام عليك يا رسول الله
من كلام له روي أنه قاله عند دفن السيدة فاطمة:
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ. قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلاَّ أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّيِ بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ(33)، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ.
(إنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ.
وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ.
وَالْسَّلاَمُ عَلَيْكُمَا سَلاَمَ مُوَدِّعٍ، لاَ قَالٍ وَلاَ سَئمٍ، فَإنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ.
أفضل الناسِ وشرُّهم
من كلام له لما اجتمع الناس عليه وشكوا مما نقموه على عثمان بن عفان، وسألوه أن يخاطب الخليفة الثالث ويستعتبه لهم. فدخل عليه فقال:
إِنَّ النَّاسَ وَرَائي، وَقَدِ اسْتَسْفَرُوني بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ(34). َوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لاَ تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا... فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ! فَإِنَّكَ وَاللهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلاَ تُعَلّمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ. فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَي. وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ. وَإِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلاَ عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا!» وَإِني أَنْشُدُكَ اللهَ أنْ تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الأمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هذِهِ الأمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلى يَوْمِ الْقُيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا، فَلاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً(35)، فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً(36) يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلَ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ!
استأثر فأَساءَ الأثرة
من كلام له في معنى قتل عثمان:
لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً(37)، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي(38) وَأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ: اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الأَْثَرَةَ(39)، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الجَزَعَ(40)، وَللهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في المُسْتَأْثِرِ وَالجَازِعِ(41)!
أنا كأحدكم
من خطبة رائعة له لمّا أريد على البيعة بعد قتل عثمان:
دَعُوني وَالْتَمِسُوا غَيْرِي; فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ; لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ(42)، وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَالمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ(43)، وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ. وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!
الحق لا يبطله شيء
من خطبة رائعة له خطب بها الناس ثاني يوم من بيعته بالمدينة، وهي في ما ردّه على الناس من قطائع(44) الخليفة الثالث، وفي المال الذي كان عثمان قد أعطاه من مال العامة:
أَيُّها النَّاسُ، إَنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، لِي مَا لَكُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْكُمْ. أَلا إِنَّ كُلّ قَطِيعَة أَقْطَعَهَا عُثْمَانَ، وَكُلّ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَال الله، فَهُوَ مَرْدودٌ في بَيْتِ المّال، فَإنَّ الحَقّ القَدِيم لا يُبْطِله شَيء، وَلَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الإمَاءُ وَفُرِّقَ في البُلْدانُ لَرَدَدْتُهُ. فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ(45).
أَيُّها النَّاسُ، ألا يَقُولَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ غَدَاً قَدْ غَمَرَتْهُم الدُّنْيا فَامْتَلَكُوا العَقَار وَفَجَّروا الأنْهَار وَرِكِبُوا الخَيْل وَاتَّخَذُوا الوَصَائِف المُرَقَّقة، إذا مَا مَنَعْتُهُم مَا كَانُوا يَخُوضُونَ فِيهِ وَأَصَرْتُهم إلى حُقُوقهم الَّتِي يَعْلَمُون: حَرَمَنَا ابْنُ أبي طَالِب حُقوقَنَا! أَلا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ المُهَاجِرين وَالأنْصَار مِنْ أَصْحَاب رَسُول الله يَرى أَنَّ الفَضْلَ لَهُ عَلى سِوَاهُ بِصُحْبَتِه، فَإنَّ الفَضْل غَدَاً عِنْد الله. فَأنْتُمْ عِبَادُ الله، وَالمَالُ مَالُ الله، يُقَسَّمُ بَيْنِكُم بِالسَّوِيَّة وَلا فَضْلَ فِيهِ لأحَدٍ عَلى أَحَد!
أسفلكم أعلاكم
من كلام له لما بويع بالمدينة:
أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ(46) قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله. وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ(47)، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا. وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً(48) وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذا المَقامِ وَهذَا اليَوْمِ! أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ(49) حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّار! أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ. حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ! هَلَكَ مَنِ ادَّعى وَخَابَ مَنِ افْتَرَى، وَمَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ(50) وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ. فَاسْتَتِرُوا في بيُوتِكُمْ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ!
عفا الله عمّا سَلف
من خطبة له خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته:
أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالمُخلِدَ إِلَيْهَا(51)، وَلاَ تَنْفَسُ(52) بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا. وَأيْمُ اللهِ، مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلاَّ بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا، لأنَّ "اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ". وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهمْ وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهمْ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ. وَإنِّي لأخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ(53). وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتمْ فِيهَا مَيْلَةً، كُنْتُمْ فِيهَا عِندِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ. وَمَا عَلَيَّ إلاَّ الْجُهْدُ، وَلَوْ أَشاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ: عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ!
الرشوة
من كتاب له إلى أمراء الأجناد لما استخلف:
أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ(54) وَأَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ(55).
إنْ لم تستقيموا
من كتاب له إلى أمرائه على الثغور:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلاَّ يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَلاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ(56)، وَأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ، وَعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ.
أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أنْ لا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً. فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ(57) وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَحٍ، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ(58)، فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنْ اعْوَجَّ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَلاَ يَجِدُ عِنْدِي فِيها رُخْصَةً!
أنصفوا الناس
من كتاب له إلى عمّاله على الخراج:
أَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ، فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ(59) وَوُكَلاَءُ الأمَّةِ. وَلاَ تَبِيعُنَّ لِلنَّاسِ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلاَ صَيْفٍ وَلاَ دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا(60). وَلاَ تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ، وَلاَ تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، مُصَلٍّ وَلاَ مُعَاهَدٍ(61).
أأطلبُ النصرَ بالجور
من كلام له لما عوتب على التسوية في العطاء:
أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ وَاللهِ مَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَميرٌ وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً(62). لَوْ كَانَ الْمَالُ لي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ! أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ.
الناس متساوُونَ في الحقّ
من كلام له كلّم به طلحة والزبير بعد بيعته وقد عتبا من ترك مشورتهما، والاستعانة في الأمور بهما:
لَقَدْ نَقَمْتُما يَسِيراً، وَأَرْجَأْتُمَا كَثِيراً(63). أَلاَ تُخْبِرَانِي، أَيُّ شَيْءٍ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ؟ وأَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟ أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ ؟!
وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ(64). وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللهِ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ; وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا.
َأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الأسْوَةِ(65)، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي، وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ. أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ. وَرَحِمَ اللهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِه!ِ
إلى أصحاب الجمل
من كتاب له بعث به إلى طلحة والزبير وعائشة قبل موقعة الجمل:
مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَلْحَةَ والزُّبيرَ وعَائِشَةَ، سَلامٌ عَليْكُمْ.
أَمَّا بَعْدُ، يَا طَلْحَةَ والزُّبيرَ، فَقَدْ عَلِمْتُما أَنِّي لَمْ أَرِد البَيْعَةَ حَتَّى أُكْرِهْتُ عَلَيْهَا، وَأَنْتُمَا مِمَّنْ رَضِيَ بَيْعَتِي. فَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُما طَائِعَيْنِ، فَتُوبَا إِلَى اللهِ وَارْجِعَا عَمَّا أَنْتُمَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كُنْتُما بَايَعْتُما مُكْرَهَيْنِِ، فَقَدْ جَعَلْتُما لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ، بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وكِتْمَانِكُمَا الْمَعْصِيَةَ.
وَأَنْتَ يَا طَلْحَةَ، شَيْخَ المُهَاجِرِين، وَأَنْتَ يَا زُبَيْر، فَارِسَ قُرَيْش، دَفْعَكُمَا هذَا الأمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلاَ فِيهِ، كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ، بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ.
وَأَنْتِ يَا عَائِشَة، فَإِنَّكِ خَرَجْتِ مِنْ بَيْتِكِ عَاصِيَةً لِلهِ وَلِرَسُولهِ تَطْلبِينَ أَمْرَاً كَانَ عَنْكِ مَوْضُوعَاً، وَتَزْعُمِينَ أنْكِ تُرِيدِينَ الإصْلاح بَيْنَ النَّاس! فَخَبِّرِينِي مَا للنِّسَاءِ وَقَوْد الجُيُوش، وَالبُرُوز للرِّجَال! وَطَلبْتِ، عَلى زعْمكِ، دَمَ عُثْمَان، وَعُثْمَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّة وَأَنْتِ مِنْ تَيْم. ثُمَّ أَنْتِ بِالأمْسِ تَقُولِينَ فِي مَلأٍ مِنْ أَصْحَاب رَسُول الله: "اُقْتلوا نَعْثَلاً، قَتَلَه الله، فَقَدْ كَفَر!" ثُمَّ تُطَالِبينَ اليوْمَ بِدَمه! فَاتَّقِي اللهَ وَارْجِعِي إِلى بَيْتكِ، وَاسْبِلي عَلَيْكِ سِتْركِ وَالسَّلام.
أُخرج من جُحرك
من كتاب له إلى أبي موسى الأشعري، وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لمّا نَدَبَهَم لحرب أصحاب الجمل:
مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْس.
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَعَلَيْكَ. فإذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولي فارْفَعْ ذَيْلَكَ واشْدُدْ مِئْزَرَكَ واخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَانْدُبْ مَنْ مَعَكَ(66).
وَايْمُ اللهِ لَتُؤْتَيَنَّ حَيْثُ أَنْتَ، وَلاَ تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ، وَذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ، وَحَتَّى تُعْجَلَ عَنْ قِعْدَتِكَ، وَتَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ، وَمَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى الَّتِي تَرْجُو، وَلكِنَّهَا الدَّاهِيةُ الْكُبْرَى!
فَاعْقِلْ عَقْلَكَ(67) وَامْلِكْ أَمْرَكَ وَخُذْ نَصِيبَكَ وَحَظَّكَ. فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ وَلاَ فِي نَجَاةٍ!
وَاللهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ، وَمَا أُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ!
قيام الحجّة
من كلام له كلّم به بعض العرب –واسمه كُليب الجَرْمي- وقد أرسله قومٌ من أهل البصرة ليعلم لهم من الإمام حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبيّن له الإمام من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ، ثمّ قال له: بايع! فقال الرجل: إني رسول قوم ولا أحدِث حدثاً حتى أرجع إليهم. فقال الإمام هذا القول الرائع:
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ، فَرَجَعْتَ إلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلإِ وَالْمَاءِ، فَخَالَفُوا إلى الْمَعَاطِشِ وَالْمَجَادِبِ(68)، مَا كُنْتَ صَانِعاً؟
قال: كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَمُخَالِفَهُمْ إلى الْكَلإِ وَالْمَاءِ. فَقَالَ الإِمَام: فَامْدُدْ إذاً يَدَكَ!
فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَاللهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيَّ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ!
وقيل للإمام ذات مرة: بأيّ شيء غلبتَ الأقران؟ فأجاب:
مَا لَقِيتُ رَجُلاً إِلاَّ أَعَانَنِي عَلَى نَفْسِهِ!
أراد أنْ يغالط
من كلامه الزاخر بالمنطق في طلحة وموقفه من قضية عثمان، قبل مقتله وبعده:
قَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بالْحَرْبِ وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ، وَأَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَني رَبِّي مِنَ النَّصْرِ. وَاللهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً(69) لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ، لأنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَومِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ(70) فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الأَمْرُ(71) وَيَقَعَ الشَّكُّ!
لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً، كَمَا كَانَ يَزْعُمُ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَازِرَ قَاتِلِيهِ وَأَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ. وَلَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُنَهْنِهِينَ عَنْهُ(72) وَالْمُعَذِّرِينَ فِيهِ(73). وَلَئِنْ كَانَ فِي شَكّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَيَرْكُدَ جَانِباً(74) وَيَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ. فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلاَثِ، وَجَاءَ بِأَمْر لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ!
وإنّي لصاحبُهم
قال عبدالله بن عباس: دخلت على أَمير المؤمنين عليه السلام بذي قار(75) وهو يخصِف نعله(76) فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمةَ لها. فقال عليه السلام: واللهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِليَّ من إِمرتكم، إِلاّ أَن أُقيم حقّاً، أَو أَدفع باطلاً. ثمّ خرج فخطب الناس فقال (وذلك عند خروجه لقتال أهل البصرة في وقعة الجمل):
مَا ضَعَفْتُ وَلاَ جَبُنْتُ، وَإِنَّ مَسِيرِي هذَا لِمثْلِهَا(77)، فَلأنقُبَنّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ(78). مَالي وَلِقُرَيْش! وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَلأقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ، وَإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالأَمْسِ، كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ!
إلامَ أُجيب؟
من كلام له في أصحاب الجمل:
أَلاَ وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ(79)، لِيَعُودَ الجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَيَرْجِعَ البِاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ(80)! وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً(81). وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ!
يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وَإِلاَمَ أُجِيبَ؟(82) وَإِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ، فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقِّ! وَمِنَ العَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَأَنْ أصْبِرَ لِلْجِلادِ! هَبِلَتْهُمُ الهَبُولُ(83) لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ، وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي، وَغَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِيني.
في لجّة بحر
من كلام له في ذمِّ أهل البصرة بعد موقعة الجمل:
كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ(84): رَغَا فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ. أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ(85)، وَالمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمةٍ مِنْ رَبِّهِ. وَأيْمُ اللهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ في لُجَّةِ بَحْرٍ(86).
قتلوهم صبراً وغدراً
من خطبة له في ذكر أصحاب الجمل:
فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله(87)، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ: فَحَبَسَا –يعني طلحة والزبير- نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِيس رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا: فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً(88)، وَطَائِفَةً غَدْراً! فَوَاللهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ، بِلاَ جُرْمٍ جَرَّهُ، لَحَلَّ لي قَتْلُ ذلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ!
الذين قاتلوني
من كلام له في معنى وقعة الجمل:
بُلِيتُ في حَرْب الجَمَل بِأشَدِّ الخَلْقِ شَجَاعةً، وَأكْثر الخَلْقِ ثَرْوَةً وَبَذْلاً، وَأعْظمِ الخَلْقِ في الخَلْقِ طَاعَةً، وَأوْفَى الخَلْقِ كَيْدَاً وَتَكَثُّرَاً: بُلِيتُ بالزُّبَيْرِ لَمْ يُرَدَّ وَجْهه قط. وَبِيعْلِي بن مَنِيّة يَحْمِلُ المَالَ على الإِبِل الكَثِيرة وَيُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ ثَلاثِينَ دِينَاراً وَفَرَسَاً عَلى أَنْ يُقَاتِلُنِي. وَبِعَائِشَة مَا قَالَتْ قِط بِيَدِهَا هَكَذَا إلاّ وَاتَّبَعَها النَّاسُ. وَبِطَلْحَة لا يُدْرَكُ غَوْرُهُ وَلا يُطَالُ مَكْرُهُ!
بُكْمٌ ذَوو كلام
من خطبة له في تقريع أصحابه بالكوفة:
وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بَالمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ. أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لأَِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لإِِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي. وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الأمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي: اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا. أَشُهُودٌ كَغُيَّابٍ(89)، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَأ، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ.
أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ! لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!
يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُكُمٌ ذَوُو كَلاَمٍ، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلاَءِ!
لا تنتقِمْ من عدوّ
من كتاب له إلى عبدالله بن عباس عامله على البصرة، وكان عباس قد اشتدّ على بني تميم لأنهم كانوا مع طلحة والزبير يوم الجمل، فأقصى كثيراً منهم، فعظُمَ ذلك على الإمام عليّ الذي يأبى قلبه الكبير الانتقام، فكتب إلى عباس يردعه ويؤنبه ويقرر حقيقة نتجاهلها اليوم... وهي أن رأس الدولة مسؤول أيضاً عن أعمال موظفيه الذين ولاهم أمور الناس... قال:
حَادِثْ أَهْلَهَا بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَاحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ! وَقَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ(90) وَغِلْظَتُكَ عَلَيْهِمْ، فَارْبَعْ(91) أَبَا الْعَبَّاسِ، رَحِمَكَ اللهُ، في مَا جَرَى عَلَى لِسَانِكَ وَيَدِكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذلِكَ، وَكُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلاَ يَفِيلَنَّ(92) رَأَيِي فِيكَ!
النّساء
من خطبة له بعد حرب الجمل في ذم النساء:
فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ. وَلا َتُطِيعُوهُنَّ فِي المَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي المُنكَرِ!
أربابُ سُوء
من خطبة له في التحذير من بني أمية:
أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فَتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ. وأيْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْءٍ بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ(93): تَعْذِمُ بِغِيهَا وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا وتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا(94) وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مَنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ. وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ(95) تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشَيَّةً(96) وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً!
لا مَدَر ولا وَبَر
من كلام له في بني أمية:
وَاللهِ لاَ يَزَالُونَ حَتَّى لاَ يَدَعُوا للهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ، وَلاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ، حَتَّى لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ(97) وَحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ: بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ، وَبَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ، وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ، إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ، وَإِذَا غَابِ اغْتابَهُ!
رَحبُ البُلعوم
من كلام له لأصحابه:
أما إنِّهُ سِيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ(98)، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ، وَيَطْلُبُ مَا لاَ يَجِدُ! فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ! أَلاَ وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي; فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، فَإِنَّهُ لي زَكَاةٌ، وَلَكُمْ نَجَاةٌ. وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلاَ تَتَبَرَّأُوا مِنِّي، فَإِنِّي وَلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ!
نهَمُ الأثرياء
من كتاب له إلى معاوية، وفيه نظرة الإمام الصائبة إلى أصحاب الثراء الذين لا يزيدهم المال إلا نهماً وحرصاً على الاستزادة منه:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَلَهَجاً بِهَا(99). وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ذلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ، وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ. وَلَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ، وَالسَّلاَمُ.
مع الحقّ
كتب معاوية إلى الإمام علي يطلب إليه أن يترك له الشام، فكتب إليه الإمام جواباً جاء فيه:
وَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ "إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ" فَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النّارِ. وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ، وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الآخِرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ "إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف" فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَلاَ الْمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وَلَمَّا أَدْخَلَ اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هذِهِ الأمَّةُ طَوْعاً وَكَرْهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ: إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ.
فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاَمُ..
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
ناقل التمر إلى هَجَر
من كتاب له إلى معاوية أيضاً جواباً:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللهِ تعالى مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله لِدِينِهِ، وَتَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً، إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلاَءِ اللهِ عِنْدَنَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنْتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ الَّتمْرِ إِلَى هَجَرَ، أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ(100).
وَزَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الإسْلاَمِ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ، وَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ، وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالْمَسُوسَ! وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالتَّمْييزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ!
لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَلاَ عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بَأَنفُسِنَا، فَنَكَحْنَا وَأَنْكَحْنا، فِعْلَ الأكْفَاءِ، وَلَسْتُمْ هُنَاكَ! وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الأحْلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينِ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَعَلَيْكُمْ!
وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ، وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيْسَ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ. وَقُلْتَ: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ المَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ! وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ، وَلاَ مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ!
ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمانَ، فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هذِهِ لِرَحِمِكَ منْهُ(101)، فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وأَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ(102): أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَاسْتَكَفَّهُ(103)؟ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاَخى عَنْهُ وَبَثَّ المَنُونَ إِلَيْهِ(104) حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ؟
وَمَا كُنْتُ لاَِعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً(105)، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَهِدَايَتِي لَهُ، فَرُبَّ مَلُومٍ لاَ ذَنْبَ لَهُ.
اتّق الله
من كتاب له إلى معاوية أيضاً:
فَاتَّقِ اللهَ فِيَما لَدَيْكَ، وَانْظُرْ في حَقِّهِ عَلَيْكَ، وَارْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لاَ تُعْذَرُ بَجَهَالَتِهِ. وَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلجَتْكَ شَرّاً وَأَقْحَمَتْكَ غَيّاً(106) وَأَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ وَأَوْعَرَتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ.
أرْديتَ جيلاً من الناس
من كتاب له إلى معاوية أيضاً:
وَأَرْدَيْتَ جِيلاً مِنَ النَّاسِ كَثِيراً: خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَأَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ، تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَتَتَلاَطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ، فَجازوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ(107) وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ(108) وَتَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَعَوَّلُوا عَلَى أحْسَابِهِمْ، إِلاَّ مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ(109).
خِدعَة الصبيِّ
ومن كتاب له إلى معاوية جواباً:
وَذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَشَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَنَزَلْتُ الْمِصْرَيْنِ(110) وَذلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ، فَلاَ عَلَيْكَ، وَلاَ الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ.
وَذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ، فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ(111). فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اللهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ! وَإِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَد:
مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ... بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَجُلْمُودِ
وَعِنْدِيَ السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ(112) بِجَدِّكَ وَخَالِكَ وَأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ! وَالأوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ: إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لاَ لَكَ، لأنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ، وَرَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ، وَطَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَلاَ فِي مَعْدِنِهِ، فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ! وَقَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَأَخْوَالٍ: حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَتَمَنِّي الْبَاطِلِ، عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ، لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً، وَلَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً، بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلاَ مِنْهَا الْوَغَى، وَلَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى(113).
وَقَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمانَ، فَادْخُلْ فِيَما دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ(114) ثُمَّ حَاكِمِ الْقُوْمَ إِلَيَّ، أَحْمِلْكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ الله تَعَالى. وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ(115) فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ(116).
سبحان الله يا معاوية
من كتاب له إلى معاوية أيضاً:
فَسُبْحَانَ الله! مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ، مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ. فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ فِي عُثْمانَ وَقَتَلَتِهِ(117)، فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ، وَخَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ(118) وَالسَّلاَمُ؟
يغدر ويفجُر
من كلام له في مسلكه ومسلك معاوية:
وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ. وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاس!
ثَمَن البيْعة
من خطبة له:
وَلَمْ يُبَايعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهِ عَلَى البَيْعَةِ ثَمَناً(119)! فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ البائِعِ، وخَزِيَتْ أَمَانَةُ المُبْتَاعِ. فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَأعِدُّوا لَهَا عُدَّتَها!
أذهَبْتَ دنياك وآخرتك
من كتاب له إلى عمرو بن العاص يوم لحق بمعاوية:
فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبْعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَيُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ، فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَطَلَبْتَ فَضْلَهُ اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ(120): يَلُوذُ إلَى مَخَالِبِهِ وَيَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ، فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ! وَلَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ. فَإِنْ يُمَكِّنِ اللهُ مِنْكَ وَمِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُما.
لأشدّنَّ عليك
من كتاب له إلى زياد بن أبيه وهو على البصرة:
وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللهِ قَسَماً صَادِقاً، لَئِنْ بَلَغَني أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً(121) لأشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ(122) ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الأمْرِ، وَالسَّلاَمُ.
متمرِّغ في النعيم
ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه أيضاً:
أَتَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ؟ وَتَطْمَعُ، وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ والأرْمَلَة، أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمتَصَدِّقِينَ؟ وَإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌ بَمَا أسْلَفَ(123) وَقَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ.
احذَرْ معاوية
من كتاب له إلى زياد بن أبيه أيضاً وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:
وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاويَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَيَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ(124)، فاحْذَرْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي الْمُؤمِنَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَيَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ(125).
الناس عندنا أُسوة
من كتاب له إلى سهل بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ(126) يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفى لَهُمْ غَيّاً وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً(127). وَقَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ وَسَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الأثَرَةِ(128) فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً(129)! إِنَّهُمْ وَالله لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ!
يا أشباهَ الرّجال
من خطبة له بعد أن غزا سفيان بن عوف من بني غامد، بلدة الأنبار على الشاطئ الشرقي للفرات. وقد بعثه معاوية لشنّ الغارات على أطراف العراق تهويلاً على أهله:
وَهذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا(130). وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى المُعَاهَدَةِ(131)، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا(132) وَقُلْبَهَا(133) وَقَلاَئِدَهَا وَرِعَاثَهَا(134)، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ(135) وَالاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ(136)، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً، وَاللهِ، يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتَِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً(137)، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرمَى: يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْرُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْن! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ القَيْظِ(138) أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحَرُّ(139)! وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ القُرِّ(140) أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ! كُلُّ هذا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ; فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ، يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ(141)، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ! مَعْرِفَةً وَاللهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعقَبَتْ سَدَماً(142)! قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ!
للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ(143)، وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ!!
لو ضربته بسيفي
من كلام له:
لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي. وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا(144) عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي، وَذلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ! لاَ يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ.
أقولاً بغير عِلْم
من خطبة له في تأنيب المتخاذلين من أصحابه:
أَيُّهَا النَّاسُ الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الأعْدَاءَ(145)! تَقُولُونَ فِي الَمجَالِسِ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَإذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ! أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ! أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ؟ وَمَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ المَغْرُورُ وَاللهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمْنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بَالسَّهْمِ الأخْيَبِ! أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم! مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ! أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْمٍ! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟!
لا أُصلِحُكم بإفساد نفسي
ومن كلام له في تأنيب المتخاذلين من أصحابه أيضاً:
كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الثِّيَابُ الْمتَدَاعِيَةُ! كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جَانِب تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ(146)! أَكُلَّما أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ(147) أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ في جُحْرِهَا وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا(148)؟! الذَّلِيلُ وَاللهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ! وَإِنَّكُمْ وَاللهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَات قَليِلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ، وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ(149) وَلكِنِّي لاَ أَرى إِصْلاَحَكُمْ بَإِفْسَادِ نَفْسِي!
الرَّأيُ معَ الأناة
من كلام له وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جريراً بن عبدالله البجلي إلى معاوية:
إِنَّ اسْتَعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجِرِيرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ، وَصَرْفٌ لأهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرادُوهُ. وَالرَّأْيُ مَعَ الأنَاةِ. وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هذَا الأمْرِ وَعَيْنَهُ(150)، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِي إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ(151). إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى النَّاس وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً(152) وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالاً، فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّروا.
لقد سَئمتُ عتابكم
من خطبة له في استنفار الناس إلى أهل الشام:
أُفٍّ لَكُمْ، لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ(153)، وَمِنَ الذُّهُولِ في سَكْرَةٍ! مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ! تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ(154)، لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَة سَاهُونَ، غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ! وَأيْمُ اللهِ إِنِّي لأََظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِب انْفِرَاجَ الرَّأْسِ(155). وَاللهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ(156) وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ وَيَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ما ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ(157). أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتَ(158)، فَأَمَّا أَنَا فَوَاللهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ(159)، وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَالأَْقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ!
بقاء الدولة
من خطبة له خطبها بصفين:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ(160)، لاَ يَجْرِي لأحَدٍ إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ.
ثُمَّ جَعَلَ، سُبْحَانَهُ، مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ(161). وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ. فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ الأحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ(162)! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأبْرَارُ وَتَعِزُّ الأشْرَارُ.
وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ(163) عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلاَ امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ(164) بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.
هنا أجابه رجلٌ من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له. فقال الإمام هذا القول الرائع:
وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ. وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الإطْرَاءَ وَاسْتَِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ، بِحَمْدِ اللهِ كَذلِكَ، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ(165)، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ! فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ!
السِّلْم أوْلى
من كلام له وقد استبطأ أصحابُه إذنَه لهم في القتال بصفّين:
أمَّا قَوْلُكُمْ: أَكُلَّ ذلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ؟ فَوَاللهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى المَوْتِ أَوْ خَرَجَ المَوْتُ إِلَيَّ! وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: شَكّاً في أَهْلِ الشَّامِ! فَوَاللهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي، وَتَعْشُوَ إِلى ضَوْئِي(166)، وَذَلكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا.
الوصيّة الشريفة
من وصية له لعسكره قبل لقاء العدو بصفّين:
لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلَى حُجَّة، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ. فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً(167) وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُم!ْ
اللهم جنّب المنتصر البغي
من خطبة له لما عزم على لقاء القوم بصفّين:
اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الأرْضِ الَّتي جَعَلْتَهَا قَرَاراً للأنَامِ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ والأنْعَامِ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى! وَرَبَّ الجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتي جَعَلْتَهَا للأَرْضِ أَوْتَاداً وَلِلْخَلْقِ اعْتَِماداً(168)، إِنْ أَظْهَرْتَنَا(169) عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ!
اللهم اصلح ذات بيننا وبينهم
من كلام له بصفّين وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام رداً على سب أهل الشام إياه:
إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ:
اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ(170).
ونطقَ بألسنتهم
ومن خطبة له:
اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأمْرِهِمْ مِلاَكاً(171) وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ في حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَزَيَّنَ لَهُمُ الخَطَلَ(172)، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ في سُلْطَانِهِ وَنَطَقَ بِالبَاطِلِ عَلى لِسَانِهِ.
جعلوهم حكّاماً على الرقاب
سألَ الإمامَ سائلٌ عن أحاديث البدع، وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر. فقال في جملة ما قال:
إنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً. وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ –يعني النبي- فَتَقرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الأعْمَالَ وَجَعَلُوهُمْ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ!
صنفان
ومن كلام له في محبّيه ومبغضيه:
وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ. وَخَيْرُ النَّاسِ فيَّ حَالاً الَّنمَطُ الأوْسَطُ فَالْزَمُوهُ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الأعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ!
ومن كلام له في هؤلاء:
هَلَكَ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قَالٍ.
ومن كلامه أيضاً وقد توفي سهل بن حُنَيْف الأنصاري بالكوفة بعد رجوعه معه من صفين، وكان من أحبّ الناس إليه:
لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ(173).
أئمة العَدل
عاد الإمامُ العلاء بن زياد الحارثي بالبصرة، وهو من أصحابه، فلما رأى سعة داره قال له:
مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدارِ فِي الدُّنْيَا؟ أمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى، إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ: تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا(174)، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ!
فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلّى من الدنيا. قال: عليَّ به. فلما جاء قال:
يَا عُدَىَّ نَفْسِهِ(175) لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ. أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ! أَتَرَى اللهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذلِكَ(176).
قال عاصم: يا أمير المؤمنين، ها أنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك! قال الإمام:
وَيْحَكَ، إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ. إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ(177).
لو أُعطيت الأقاليم السبعة
من كلام رائع له في صفة نفسه حافظاً لأموال العامة، وذلك بعد أن أملق أخوه عقيل بن أبي طالب فاستعطاه:
وَاللهِ لأنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ(178) مُسَهَّداً، وَأُجَرَّ فِي الأغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْء مِنَ الْحُطَامِ.
وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ(179) مَا فَعَلْتُُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا(180)! مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ.
تحرّكه العواصِف
من كلام له يجري مجرى الخطبة:
وَكُنْتُ كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ: لَمْ يَكُنْ لأحَدٍ فيَّ مَهْمَزٌ(181) وَلاَ لِقَائِلٍ فيَّ مَغْمَزٌ. الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مَنْهُ!
لولا تخمة الظَّالم وجُوع المظلوم
من خطبة له معروفة بالشقشقية:
...إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حِضْنَيْهِ(182)، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خَضْمَ الإِْبِل نِبْتَةَ الرَّبِيعِ(183)، إِلَى أَن َأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ، فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ يَنْثَالُونَ عليَّ(184) مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ(185)، وَشُقَّ عِطْفَايَ(186)، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ(187). فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَْمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقَسَطَ آخَرُونَ(188) كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلام الله حَيْثُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا ِللَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بَلَى، وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا(189). أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ(190)، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ(191)، لأََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا(192)، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلأََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ.
أهل الحيلة
من خطبة له:
إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أوْقَى مِنْهُ(193)، ولا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ. وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَانٍ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً(194) وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ! مَا لَهُمْ؟ قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ(195) وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ(196)
أنتَ وأخوك الإنسان
من وصية له كتبها لابنه الحسن في صفّين:
يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.
يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا(197) فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ: يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضاً وَيَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا.
وَاعْلَمْ، أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً(198).
َأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ(199) ويُسْرٍ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْرٍ!
قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ.
احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ(200)، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ(201)، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ. وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ(202) فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ. وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَا(203). وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَّنهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه، وَلاَ يكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ، وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ(204) وَلاَ تكُونَنَّ عَلَى الإسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الإحْسَانِ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ.
مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى. وَإِنْ جَزِعْتَ عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ. اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ، فَإِنَّ الأُمُورَ أَشْبَاهٌ، وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالأدَبِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ.
مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ(205)، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ(206). رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ. سَلْ عَنِ الرَّفيق قَبْلَ الطَّرِيق، وَعَنِ الجَار قَبْلَ الدَّار.
إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
انصتوا لقولي
من كلام له قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم:
أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ؟
فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ.
قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ، فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَرْقَةً، حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ مِنْكُمْ بِكَلاَمِهِ.
وَنَادَى النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا.
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ:
أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَغِيلَة،ً وَمَكْراً وَخَدِيعَةً: إِخْوانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلى كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟ فَقُلْتُ لَكُمْ: هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ. فَأَقِيمُوا عَلى شَأْنِكُمْ، وَالْزمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إِلى نَاعِقٍ نَعَقَ: إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلَّ.
وَقَدْ كَانَتْ هذِهِ الْفَعْلَةُ، وَقَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا، وَلاَ حَمَّلَنِي اللهُ ذَنْبَهَا! وَوَاللهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ. وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ: فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ بَيْنَ الآباءِ وَالأَبْنَاءِ وِالإِخوَانِ وَالْقَرَابَاتِ، فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلاَّ إِيمَاناً، وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ، وَتَسْلِيماً للأَمْرِ، وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ. وَلكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الإسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَالاعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِيلِ. فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ(207) يَلُمُّ اللهُ بِهَا شَعَثَنَا وَنَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيَما بَيْنَنَا، رَغِبْنَا فِيهَا، وَأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا!
تركا الحقّ وهُما يُبْصِرانه
من كلام له يكشف به للخوارج الشبهة وينقض حكم الحَكمين:
فإنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُضَلِّلونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله بِضَلاَلِي، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوِبي! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءةِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ.
َلَمْ آتِ، لاَ أَبَا لَكُمْ، بُجْراً، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ(208)، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ. وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا، فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ، سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا(209).
أنا نذيركم
من خطبة له في تخويف أهل النهروان(210) قبل أن يبدأوه القتال:
فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ(211) عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ: قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ(212)، وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ(213)، سُفَهَاءُ الأحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ، لاَ أَبَا لَكُمْ، بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً.
أين العمالقة
من خطبة خطب الإمام بها الناس بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جَعْدَة بن هُبَيْرة المخزومي، وعليه مِدْرَعَةٌ من صُوف وحمائل سيفه لِيفٌ، وفي رجليه نعلان من لِيف:
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ; فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيْمانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السلام، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالإنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ. فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ المَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!
أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأَطْفَأُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ، وَهَزَمُوا الألُوفَ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ!
أين عمّار
ومن الخطبة السابقة نفسها:
أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَاد ُاللهِ الأخْيَارُ! مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ بِصِفِّينَ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ(214)؟ قَدْ، وَاللهِ، لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الأمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ. أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّار؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ(215)؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ(216)؟!
الكِبر والتَّعَصُّب والبغي
من خطبة له طويلة تسمّى "القاصعة"(217):
وَلاَ تَكُونُوا كالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ، فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اللاِتي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْمَاضِيَةَ والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ.
وَلاَ تُطِيعُوا الأدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ(218) اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ وَمأْخَذَ يَدِهِ. فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الأمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ(219)، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ. وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ(220)، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ بِهِ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ!
وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الأشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ، غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لأمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ: أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لأصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: "أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ!" وَأَمَّا الأغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَقَالُوا: "نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ!"
فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ وَمَحَاسِنِ الأمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا المُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ بِالأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ وَالأَحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ: مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَار،ِ وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالأخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَالإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ.
واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ(221) بِسُوءِ الأَفْعَالِ وَذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ.
أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ(222) وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ: فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ(223)، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ(224) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ وَرَجَّةَ صَدْرِهِ. وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ(225) إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ تَشَذُّراً(226).
وَإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ: سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الأبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ(227) لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ، وَلاَ يَغُلُّونَ(228) وَلاَ يُفْسِدُونَ: قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ.
الدنيا تُطْوى مِنْ خَلفِكم
من عهدٍ له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. وفيه تذكير بأحوال الدنيا وترغيب للولاة في أن يعدلوا ويرحموا لئلاَّ يُعذَّبوا، وذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان:
وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ: إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخْذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَككُمْ، وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ! الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ(229)، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ، فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَرُّهَا شَدِيدٌ، وَعَذَابُهَا جَدِيدٌ، دَارٌ لَيْسَ فِيها رَحْمَةٌ، وَلاَ تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ.
دستور الولاة
من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها في عهد خلافته. وهي من جلائل رسائله ووصاياه، وأجمعها لقوانين المعاملات المدنية والحقوق العامة والتصرفات الخاصة في نهج الإمام. كما أنها من أروع ما أنتجه العقل والقلب جميعاً في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة-الدستور، من إشراق العقل النيّر والقلب الخيّر:
ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِْنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ(230). وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ(231)، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ(232)َ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ، وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ، وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً(233).
أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ(234)، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ. وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.
وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ(235). وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ للإنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالإلْحَافِ(236)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ(237).
أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ(238)، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.
إنَّ شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ للأَْشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً(239)، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ(240)، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ. ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ(241)، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ(242).
وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ(243) وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ(244)، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لهُ قِبَلَهُمْ(245)، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ(246).
وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحُكَمَاءِ(247) فِي تَثْبِيتِ مَا صَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.
وَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلإِِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً: مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الأَْقْوِيَاءِ(248)، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ.
وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ(249).
ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تُضيفَنَّ بَلاَءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ(250)، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلاَ ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظيِماً.
ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِك(251)َ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ(252)، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ(253)، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ(254)، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، وأُولئِكَ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ(255)، وأفْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ.
ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ(256). َثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ(257) مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ(258) عَلَى اسْتِعْمَالِ الأَمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ(259) عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.
وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً. وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ.
وَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ(260)، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.
ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، مِمَّنْ لا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفسِهِ فِي الأمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ. ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ(261) وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ(262)، ولَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالأمَانَةِ شَيْءٌ. وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْه أُلْزِمْتَهُ(263).
ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ(264)، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِكَ. وَاعْلَمْ، مَعَ ذلِكَ، أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ(265)، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ(266).
ثم يتحدث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول:
وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، فإِنَّ للأقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للأدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ(267)، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ(268) لإحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ(269)، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ(270)، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ(271)، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ(272) مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ!
وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ(273) مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ(274)، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ(275): "لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع". ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ(276)، وَنَحِّ عَنْكَ الضِّيقَ وَالأنَفَ(277).
ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ مِمَّا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ(278)، وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْم عَمَلَهُ، فإِنَّ لِكُلِّ يَوْم مَا فِيهِ.
وَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأمُورِ، وَالاِْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ(279) تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنَِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ(280) مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل كَرِيم تُسْدِيهِ؟ أَوْ مُبْتَلَىً بِالْمَنعِ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ(281)، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لاَ مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةٍِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصاف فِي مُعَامَلَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأحْوَالِ(282)، وَلاَ تُقْطِعَنَّ لأَِحَد مِنْ حَاشِيتِكَ وَحَامَّتِكَ قَطِيعةً(283)، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ(284) لَهُمْ دُونَكَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ.
وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ خَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحْمُودَةٌ(285).
وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً، فَأَصْحِرْ(286) لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ، فَإِنَّ فِي ذلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ(287)، وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَاراً(288) تَبْلُغُ فِيه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّ كَ لله فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ. وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ(289)، وَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ(290) عَدُوَّكَ. وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوزُ فِيهِ الْعِلَلُ(291)، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ(292).
وَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ!
وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ(293)، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ.
وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا(294)، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَل مَوْقِعَهُ.
وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ(295)، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلَيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ. امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ(296)، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ(297)، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ(298)، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاْخْتِيَارَ.
وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ: مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا. وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فيهِ رِضَاهُ مِنَ الإقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَى خَلْقِهِ(299).
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
حُدودُ الضريبة
من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وهي تزخر بحنان الحاكم –الأب- على أبنائه، وتصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق:
فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ حَتَّى تَقوُمَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ(300)، ثُمَّ تَقُولَ:
عِبَادَ اللهِ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيفَتُهُ لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ! فَلاَ تُرَاجِعْهُ. وَإِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ(301) فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ(302)! فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. فَإنْ كَانَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلاَ تَدْخُلْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ. فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلاَ تَدْخُلْها دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَلاَ عَنِيفٍ بِهِ، وَلاَ تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلاَ تُفْزِعَنَّهَا، وَلاَ تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا. وَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ(303)، ثُمَّ خَيِّرْهُ: فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ. ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقيَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَإِذَا اخْتَارَ فَلاَ تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَ، فَلاَ تَزَالُ بِذلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللهِ فِي مَالِهِ، فَاقْبِضْ حَقَّ اللهِ مِنْهُ. فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ(304)، ثُمَّ اخْلِطْهُمَا، ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ.
السفهاء والتجار
من كتاب بعث به الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاّه إمارتها:
إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الأَرْضِ كُلِّهَا(305) مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ. وَإِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي. وَإِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللهِ لَمُشْتَاقٌ، وَلِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ، وَلكِنَّنِي آسَى(306) أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً وَعِبَادَهُ خَوَلاً(307) وَالصَّالِحِينَ حَرْباً وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً، فَلَوْلاَ ذلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَتَأنِيبَكُمْ، وَجَمْعَكُمْ وَتَحْرِيضَكُمْ!
المرتشي في الحكم
ومن كلام له:
أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ! أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ(308) وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الأسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ(309) أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحَقِّ.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلاَ الِْتمَاسَ شِيءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ.
وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الحَائِفُ لِلدُّوَلِ(310) فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ.
مع المظلوم
من كلام له:
لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأنْفُسِكُمْ! أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَأيْمُ اللهِ لأَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ، وَلأََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ(311) حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً!
المال للنّاس
من كلام رائع كلّم به عبدالله بن زمعة، وهو من أنصاره، وذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً. فقال:
إِنَّ هذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ! وَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ(312) لاَ تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ!
أمانة
من كتاب له إلى الأشعث بن قيس عامله على أذربيجان:
وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ(313)، وَلكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعىً لِمَنْ فَوْقَكَ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ(314)، وَفي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ(315) لَكَ، وَالسَّلاَمُ.
لأضربنكَ بسيفي
من كتاب له إلى عامله على البصرة وقد اختطف ما قدر عليه من أموال الأمة وهرب إلى الحجاز:
فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِم اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ(316)، فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ(317).
كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً؟ فَاتَّقِ اللهَ وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لأعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ(318) ولأضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ!
وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ(319) وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا!
الوالي والرّشوة
من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها:
أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الألوَانُ وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ(320)، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ(321) وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ.
أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ(322)، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ! أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ. فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلا حُزْتُ مِنْ أرْضِهَا شِبْراً. وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِاليَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ(323) وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ! أَوَأَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى(324)؟ أوَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أُشَارِكُهُمْ مَكَارِهِ الدَّهْرِ!؟ وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: "إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِب، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الأقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ؟" أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّباتَاتِ البَدَوِيّةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً! وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله كَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ(325)، وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ. وَاللهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا!
الوالي والهوى
من كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان، وهي إيالة من إيالات فارس:
أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ(326) مَنَعَهُ ذلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ. فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ(327).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ أَبَداً، وَمِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ، وَالاْحْتسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ(328).
اخفض جناحك
من كتاب له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر:
وَاخْفِضْ للرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ(329)، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ(330)، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ!
عَلِّم الجاهل
من كتاب له إلى قثم بن العباس، وهو عامله على مكة:
عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَذَاكِرِ الْعَالِمَ، وَلاَ يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلاَّ لِسَانُكَ وَلاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُكَ. وَلاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا، فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ في أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فيَِما بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا(331).
وَانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ(332) مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَالْمَجَاعَةِ، مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ، وَمَا فَضَلَ عَنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ في مَنْ قِبَلَنَا.
وَمُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً...
الوالي الخائن
من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله:
وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ(333). وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ، أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ، أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى خِيَانَةٍ(334). فَأقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هذَا إِنْ شَاءَ اللهُ.
الأخلاق الكريمة
من كتاب له إلى الحارث الهمداني:
وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ. واحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ أَوِ اعتَذَرَ مِنْهُ. وَلاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ، فَكَفَى بِذلِكَ كَذِباً. وَلاَ تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ، فَكَفَى بِذلِكَ جَهْلاً. وَتَجاوَزْ عِنْدَ المَقْدِرَةِ، وَاصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ(335).
وَإِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ، فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ. وَاحْذَرِ الْغَضَبَ، فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيس!
أهلُ الجشع وأهلُ الفقر
من خطبة له في أهل الجشع وأهل الفاقة:
وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَالشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً.
اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ: هَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْموَاعِظِ وَقْراً! أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ، وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ، وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ في مَكَاسِبِهِمْ، والْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ؟ أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا؟ وَهَلْ خُلِّفْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ(336) لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهِمْ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ؟
لَعَنَ اللهُ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ!
القاضي الجاهل
من كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الناس وهو ليس أهلا لذلك:
حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَأكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ(337)، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا التَبَسَ عَلَى غيْرِهِ(338). فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثّاً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ(339)، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ(340).
جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهالاتٍ(341)، يُذرو الرِّوَايَاتِ كَمَا تَذْرُو الرِّيحُ الهَشِيمَ(342). لاَ يَحْسَبُ العِلْمَ في شيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ منه مَذْهَباً لِغَيْرهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ(343)، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَوَارِيثُ(344). إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ(345)، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ المُنكَرِ.
يَحكُم برأيه
من كلام له في بعض القضاة أيضاً:
تَرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْمٍ مِنَ الأحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ. ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِهِ. ثُمَّ يَجْتَمِعُ القُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمامِهِم الَّذِي اسْتَقْضَاهُم فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً...(346) وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ!
وعالِمُهم منافق
من كلام له في وصف أبناء زمانه:
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ، أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُصْطَلِحُونَ عَلَى الإِدْهَانِ، فَتَاهُمْ عَارِمٌ(347) وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ وَعَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، لا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَلاَ يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ!
يعملونَ في الشُّبُهات
من خطبة له:
وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بَلَبِيبٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ، فَيَا عَجَبي، وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اختِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بَعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْبٍ، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، الْمَعْرُوفُ فِيهمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا(348). مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُبْهماتِ عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيَما يَرَى بَعُرىً ثِقَاتٍ وأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ(349).
زَجْر النَّفس
من خطبة له:
عِبَادَ اللهِ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ(350)، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ!
إيّاك
من كلام له لابنه الحسن:
يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الأحْمَقِ، فَإِنَّهُ يُريِدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرَّكَ. وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ، فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ(351) مَا تَكُونُ إِلَيْهِ. وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ، فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ(352). وَإِيَّاكَ وَمُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ: يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ!
الرّضا والسّخط
من كلام له:
أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَة شِبَعُهَا قَصِيرٌ(353) وَجُوعُهَا طَوِيلٌ!
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضِى وَالسُّخْطُ، وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بالرِّضَى.
أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ سَلَكَ الطّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ، وَمَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِيهِ.
النّفاق والظلم
من خطبة له:
ثُمَّ إيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الأَخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا(354). وَإنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ(355)، لأنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ: فَإنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ، وَإنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ(356). وَإنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَاذَا لَهُ، وَمَاذَا عَلَيْهِ!
وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. وَإِنَّ جَمَاعَةً فِيَما تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ في ما تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ(357)! طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ!
العشيرة
من خطبة له:
أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ، عَنْ عَشِيرَتِهِ وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ(358) وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إنْ نَزَلَتْ بِهِ.
وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ!
الزمانُ وأهله
ومن بديع قوله:
إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلاَحُ عَلَى الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خزْيَةٌ(359) فَقَدْ ظَلَمَ! وَإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ(360)!
كم من صائم
ومن كلامه في معنى الصوم والصلاة:
كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ(361) لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ. حَبَّذَا نَوْمُ الأكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ!
أصناف الناس
من خطبة له في سوء طباع الناس بزمانه:
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْرٍ عَنُودٍ وَزَمَنٍ كَنُودٍ(362)، يُعَدُّ فِيهِ الُمحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا(363). فَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الفَسَادَ في الأرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ وَنَضِيضُ وَفْرِهِ(364). وَمِنْهُمُ المُصْلِتُ لِسَيْفِهِ وَالمُعْلِنُ بِشَرِّهِ وَالُمجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ(365). وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً! وَمِنْهُمْ مَنْ يَطلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا: قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ للأَمَانَةِ، وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللهِ ذَرِيعَةً إِلَى المَعْصِيَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أقْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُؤولَةُ نَفْسِهِ وَانقِطاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ الحالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ القَنَاعَةِ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ!
وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ وَدَاعٍ مُخْلِصٍ وَثَكْلاَنَ مُوجَعٍ(366). قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ(367)، وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ. قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا، وَقُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا، وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا. فَاتّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
شوقاً إلى رؤيتهم
قال كُمَيْل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين عليه السلام، فأخرجني إلى الجبّان(368)، فلمّا أصحر(369) تنفّس الصّعَدَاء، ثمّ قال:
يَا كُمَيْل بْن زِيَاد، إِنَّ هذهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ(370)، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإنْفَاقِ. هَلَكَ خُزَّانُ الأمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.
وَلاَ تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ. أُولئِكَ، وَاللَّهِ، الأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالأَعْظَمُونَ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ: هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ(371)، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأعْلَى، أُولئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ!
سِراجُه بالليل القمر
ومن خطبة له تحتوي قولاً رائعاً في محمد والمسيح:
وَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا.
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَسِرَاجُهُ بَاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ في الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ وَخَادِمُهُ يَدَاهُ.
على منهاج المسيح
قال نوف البِكالي: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه، فنظر في النجوم فقال لي: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ فقلت: بل رامق(372). قال:
طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ فِي الآخِرَةِ، أُولئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ!
يَا نَوْفُ، إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَامَ فِي مِثْلِ هذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: إِنَّهَا سَاعَةٌ لاَ يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً(373).
لا تقولوا بما لا تعلمون
من خطبة له في صفة الخيّرين:
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا(374) وَلاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا(375).
أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ، فَإنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيَما تُنْكِرُونَ، وَاعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ!
منطقهم الصوابُ ومشيهم التواضع
رُوي أنّ صاحباً لابن أبي طالب يقال له "همّام" قال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم! فتثاقل الإمام عن جوابه قليلاً، ثم قال في صفة المتقين قولاً رائعاً كثيراً، هذا بعضه:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ، فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ(376)، وَلَوْلاَ الأجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ...
لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لأنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ(377). إِذَا زُكِّيَ أَحَدُهمْ(378) خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي. اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ!
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ: أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَحَزْماً فِي لِينٍ، وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ، وَقَصْداً فِي غِنىً(379)، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ، وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وَطَلَباً فِي حَلاَلٍ، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ(380). يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ. بَعِيداً فُحشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ. يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ. لاَ يُنَابِزُ بِالألْقَابِ(381)، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نفسه لآخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.
المنافقون
ومن خطبة له يصف فيها المنافقين:
يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً(382). لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ(383)، وَإلى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ(384). يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ(385)، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ. إِنْ سَأَلُوا ألْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا(386)، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا. قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً: يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنَفِّعُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ(387).
خير الزَّاد
في طريق رجوعه من صفين، أشرف الإمام على القبور بظاهر الكوفة وقال:
يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ وَالمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ. يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ: أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ. أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الأزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الأمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ.
هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟
ثم التفت إِلى أَصحابه فقال:
أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلاَمِ لأخْبَرُوكُمْ أَنَّ "خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى".
كان عليهم سَرمداً
من كلام له في وصف من فارقوا الدنيا:
لاَ يُفْزِعُهُمْ وُروُدُ الأهْوَالِ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الأَحْوَالِ، وَلاَ يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ، وَلاَ يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ، غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ يَحْضُرونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاً فافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِيَتْ أخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ دِيَارُهُمْ(388)، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً.
جِيرَانٌ لاَ يَتَآنسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرى التَّعَارُفِ وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الإِخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً، أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً(389).
تحمِله على أهوالها
ومن خطبة رائعة له في معنى الدنيا:
سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَقَاطِنُهَا بَائِنٌ(390) تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ، وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلى مُتُونِ الأَمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَتَحْمِلُهُ عَلى أَهْوَالِهَا(391)، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ، وَمَا نَجَا مِنْهَا فَإِلى مَهْلَكٍ!
كانوا أطول أعماراً
من خطبة له في أحوال الدنيا:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ: حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَتَحَلَّتْ بِالآمَالِ وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ.
لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ(392) إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً(393). وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً. وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى(394). لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً(395) إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ(396)! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَان مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى.
كُمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَةٍ(397) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً. مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ(398)!
أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَادٍ!
فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً!
ويلٌ لسِكككم العامرة
ومن كلام له في مصير البصرة:
وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ(399)، وَدُورِكُمُ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا!
اللهَّم قد انصاحَت جبالنا
من خطبة له في الاستسقاء، وهي من الخطب التي تزخر بالعاطفة والحنان، وبالتواضع لخالق الكون وهيبة الوجود:
اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا(400)، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ في مَرَابِضِهَا، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا. اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآنَّةِ، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا، وَأَنِينَهَا في مَوَالِجِهَا(401)! اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ(402); فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ(403) لِلْمُلْتَمِسِ: نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الأَنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ(404) أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا بَأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا، وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ، سَحّاً وَابِلاً(405) تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً، هَنِيئَةً مَرِيعَةً، زَاكِياً نَبْتُهَا، ثَامِراً فَرْعُهَا(406)، نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا(407)، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا(408) وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا، وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا(409)، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ!
الغيبة
من كلام له في النهي عن غيبة الناس:
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لأهْلِ الْعِصْمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَكُوَنَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ بِالْغَائِبِ الَّذِي غَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ؟!
يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ!
يذهب اليوم ويجئ الغد
من خطبة له:
اعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ(410) وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْق يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ(411)، وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ.
يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَ حِقاً بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الأرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ، فَيَالَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ، وَمُفْرَدِ غُرْبَةٍ!
آهِ من بُعدِ السَّفر
دخل ضرار بن حمزة الضبائي على معاوية، فسأله هذا عن الإمام علي، فقال ضرار: فأشهد له رأيتُه في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم(412) ويبكي بكاء الحزين، ويقول:
يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي! أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَ حَانَ حِينُكِ(413)! هيْهَات! غُرِّي غَيْرِي، لاَ حاجَةَ لِي فيِكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا! فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ! آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ!(414)
طبيعة الوجود
ومن خطبه التي تدل على إدراكه العميق لطبيعة الوجود وأحواله:
مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وَفي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ، لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا –يعني الدنيا- نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَلاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بَنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ، وَلاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ، وَلاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ(415)، وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ، وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا!
وأجرى فيها قمراً منيراً
من خطبة له يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض:
ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الأَجْوَاءِ وَشَقَّ الأَرْجَاءِ وَسَكَائِكَ الَهوَاءِ(416)، فأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ وَالزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ. ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً أَعْصَفَ مَجْرَاها وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ المَاءِ الزَّخَّارِ(417) وَإِثَارَةِ مَوْجِ البِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ(418) وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالفَضَاءِ: تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ وَسَاجِيَهُ إِلى مَائِرِهِ(419) حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ.
ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الكَوَاكِبِ، وَضِياءِ الثَّوَاقِبِ(420) وَأَجْرَى فِيها سِرَاجاً مُسْتَطِيراً(421) وَقَمَراً مُنِيراً: في فَلَكٍ دَائِرٍ، وَسَقْفٍ سَائِرٍ!
تَلاطُم الماء
من خطبة له في قدرة الله:
يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلاَفَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ(422)، وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ!
خلقة الخفّاش
من خطبة له يذكر فيها خلقة الخفاش:
وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا، وَرَدَعَهَا ِتَلألُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا(423) وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ في بَلَجِ ائْتِلاَقِهَا(424)، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بَالنَّهَارِ عَلَى أَحْدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ في التَِماسِ أَرْزَاقِهَا، فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ(425)، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ(426). فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ(427) فِي وِجَارِهَا، أَطْبَقَتِ الأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا، وَتَبَلَّغَتْ(428) بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَجَعَلَ النَّهَارَ لَهَا سَكَناً وَقَرَاراً، وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ، كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ(429)، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَلاَ قَصَبٍ، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً(430)، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ، تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِئٌ إِلَيْهَا: يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ. فَسُبْحَانَ الْبَارِي لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ!
خلقة الطاووس
من خطبة له يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس:
وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ(431) وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ. إذَا دَرَجَ إلَى الأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ وَسَمَا بِهِ مُطِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ(432)، يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ وَيَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ(433).
تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ(434)، وَمَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ(435)، وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ(436)، وَفِلَذَ الزَّبَرْجَدِ. فَإنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ قُلْتَ: جَنِىٌّ جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ! وَإنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْملابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِىِّ الْحُلَلِ! وَإنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ(437). يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ!
فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا(438) مُعْوِلاً بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لأنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ(439).
وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالإبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ اليَمَانِيَّةِ(440)، أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ(441)، وَكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمٍَ إلاَّ أنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ.
وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الأقْحُوَانِ، أَبْيَضُ يَقَقٌ، فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ. وَقَلَّ صِبْغٌ إلاَّ وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ وَعَلاَهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِيقِهِ وَبَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ(442)، فَهُوَ كَالأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ وَلاَ شُمُوسُ قَيْظٍ.
وَقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ وَيَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ، فَيَسْقُطُ تَتْرَى، وَيَنْبُتُ تِبَاعاً، فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الأَغْصَانِ(443). ثُمَّ يَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ: لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَلاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ.
وَإذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً، وَأَحْيَاناً صُفْرَةً عسْجَدِيَّةً(444)، فَكَيْفَ تَصِلُ إلَى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ(445) أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الأَوهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَالأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ!
خلقة النملة
من خطبة له في وصف خلقة النملة:
انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا! تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا(446)، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ(447). وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا(448)، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ.
وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ(449)، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيّ! وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ والخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ!
خلقة الجرادة
ومنها في وصف الجرادة:
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ(450)، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ(451)، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا(452)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا(453)، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا! وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً!
اغفر لي
من كلام له يدعو به:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَليَّ بِالْمَغْفِرَةِ! اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَاني ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي! اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الأَلْحَاظِ(454)، وَسَقَطَاتِ الأَلْفَاظِ، وَشَهَوَاتِ الْجَنَانِ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ!
ماذا لقيت
وقال في سُحرة اليوم الذي ضُرب فيه(455):
مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَأَنَا جَالِسٌ(456) فَسَنَحَ لي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله فَقُلت: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الأَْوَدِ وَاللَّدَدِ!(457) فَقَالَ: ادْعُ عَلَيْهِمْ! فَقُلْتُ: أَبْدَلَنِي اللهُ بِهمْ خَيْراً لي مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي!
العفو عن القاتل
من كلام له قاله قبل موته على سبيل الوصية، لما ضربه ابن ملجم:
أَنَا بالأمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ! إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي. وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي. وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا!
مظلوم
من كلام له في معنى الظلم الواقع عليه:
مَا زِلْتُ مَظْلُومَاً مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيّه حَتَّى يَوْم النَّاسِ هَذَا. وَلَقَدْ كُنْتُ أُظْلَمُ قَبْلَ ظُهُورِ الإسْلام. وَلَقَدْ كَانَ أَخِي عقِيلٌ: يُذْنِبُ أَخِي جَعْفَرٌ، فَيَضْرِبُنِي!
الأثوار الثّلاثة
رأينا أن نثبت هذا المثل هنا، لأنه من أجمل الأمثال العربية التي جاءت حكايةً عن الحيوان، ثم لأنه أول هذه الأمثال التي شاعت فيما بعد على يد ابن المقفع بكتابه الشهير "كليلة ودمنة"، وفيه دعوة إلى الاتحاد وتنفير من الفتنة. والغريب أن يكون هذا المثل الذي ثُبتْ نِسبتُه إلى الإمام علي، غير مذكور في "نهج البلاغة" على اختلاف طبعاته وكثرة المعتنين به، ولا في الكتب التي استدرك مصنّفوها ما فات جامعَ "النهج":
أَثْوَارٌ ثَلاثَةٌ كُنَّ في أَجَمةٍ(458)، أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ وَأَحْمَرُ، وَمَعَهُنَّ فِيهَا أَسَدٌ، فَكَانَ لا يَقْدِرُ مِنْهُنَّ عَلى شَيءٍ لاجْتِمَاعهنَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلثَّوْرِ الأَسْوَد وَالثَّوْرِ الأَحْمَر: لا يَدلّ عَلَيْنَا فِي أَجَمتنَا إلاّ الثَّوْر الأَبْيَض، فَإنَّ لَوْنه مَشْهُورٌ، وَلَوْنِي عَلى لَوْنكُمَا، فَلَوْ تَرَكْتُمَانِي آكُلُهُ صَفَتْ لَنَا الأَجَمَة! فَقَالا لَهُ: دُونَكَ فَكُلْهُ. فَأكَلَهُ. فَمَا مَضَتْ أَيَّامٌ، قَالَ لِلأحْمَر: لَوْنِي عَلى لَوْنك فَدَعْنِي آكُلُ الأسْوَدَ لِتَصْفُوَ لَنَا الأَجَمَة! فَقَالَ: دُونَكَ فَكُلْهُ! ثُمَّ قَالَ لِلأحْمَر: إنِّي آكِلُكَ لا مَحَالة! فَقَالَ: دَعْنِي أُنَادِي ثَلاثَاً. فَقَالَ: افْعَلْ. فَنَادَى: أَلا إنِّي أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأبْيَض!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
-
الباب الثالث- طائفة من رسائله وخطبه وعهوده ووصاياه
الفصل الثالث- روائع أمثاله
مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ.
لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَة خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سَوءاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلاً.
لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّ.
مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ.
الْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ.
أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ.
مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ.
عَلامةُ الإِيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ.
جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّ الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شََفَا مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ.
الكذَّابُ وَالمَيِّتُ سواءٌ، لأنَّ فَضِيلَةُ الحَيّ عَلى المَيِّت الثِّقَةُ بِهِ، فإذا لَمْ يُوثَقْ بِكلامِهِ فَقَدْ بَطُلتْ حَياتُهُ.
مَا السَّيْفُ الصَّارِمُ في كَفِّ الشُّجَاع بِأعَزَّ لَهُ مِنَ الصَّدقِ.
ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ.
اعْتَصِمُوا بِالذِّمَمِ.
لاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ.
لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَنْهَى وَلاَ يَنْتَهِي، وَيَأْمُرُ بِمَا لاَ يَأْتِي، يَصِفُ الْعِبْرَةَ وَلاَ يَعْتَبرُ، فَهُوَ عَلَى النَّاسِ طَاعِنٌ، وَلِنَفْسِهِ مُدَاهِنٌ.
لاَ تَصْحَبِ الْمَائِقَ(459) فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيَوَدُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ.
لاَ تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ.
انْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ.
افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلاَ تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ.
وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَاللهِ كَذلِكَ.
مَنْ اعْتَدَلَ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ.
مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ فَقَدْ أفْسَدَهُ.
لاَ يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لاَ يَشْكُرُهُ لَكَ.
فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَفَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ.
لا تَعْمَل الخَيْرَ رِياءً وَلا تَتْرُكْهُ حَياءً.
مَا مِنْ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلى ابْن آدَمٍ إلا قَالَ لَهُ: أَنَا يَوْمٌ جَديدٌ، وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَقُلْ فِيَّ خَيْرَاً وَاعْمَلْ خَيْرَاً فَإنَّكَ لَنْ تَرَانيَ بَعْدُ أبداً.
قال في صفة الإنسان الشريف: قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا، وَلاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا.
احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ.
مَنْ اسْتَحْسَنَ القَبيحَ كَانَ شَريكاً فِيهِ.
اقْبَلْ عُذْرَ مَنْ اعْتَذَرَ إليْكَ، وَأخِّرِ الشَّرَّ مَا اسْتَطَعْتَ.
مَنْ صَارَعَ الْحَقَّ صَرَعَهُ.
لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ.
أَلا وَإِنَّهُ بِالحقِّ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ.
مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ.
لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً.
لَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ.
مَنْ طَلَبَ عِزَّاً بِبَاطِلٍ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلاًّ بِحَقٍّ.
مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.
لَنَا حَقٌّ، فَإِنْ أُعْطِينَاهُ، وَإِلاَّ رَكِبْنَا أَعْجَازَ الإبِلِ، وَإِنْ طَالَ السُّرَى.
لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ.
اعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ.
لِلمُرَائي ثَلاث عَلامَاتٍ: يَنْشَطُ إذا رَأى النَّاسَ، وَيَكْسلُ إذا كانَ وَحْدَه، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ في جَميعِ أحَوَاله!
عَاتِبْ أَخَاكَ بِالإحْسَانِ إِلَيْهِ، وَارْدُدْ شَرَّهُ بِالإنْعَامِ عَلَيْهِ.
ازْجُرِ الْمُسِيءَ بِثوَابِ الْمُحْسِنِ.
إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بَقَوْمٍ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ.
لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ.
مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الإثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ.
مَنْ أَسَاءَ خُلُقَهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ.
كَفَى بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِيماً.
مَنْ وَعَظَ أخَاهُ سِرَّاً فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ.
سَامِعُ الغَيْبَة أَحَد المُغْتَابِينَ.
الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.
مَنْ تَجَرَّأ لَكَ تَجَرَّأ عَلَيْكَ.
مَنْ مَدَحَكَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ مِنَ الجَمِيل وَهُوَ رَاضٍ عَنْكَ، ذَمَّكَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ مِنَ القَبِيح وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْكَ.
عَجَبَاً لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الخَيْر وَلَيْسَ فِيهِ كَيْفَ يَفْرَحُ! وَعَجَبَاً لِمَنْ قِيلَ فِيهِ الشَّر وَلَيْسَ فِيهِ كَيْفَ يَغََْضَبُ!
وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَْوْبَةِ(460).
طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ.
مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فذَاك الأَْحْمَقُ بِعَيْنِهِ.
أَكْبَرُ الْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُهُ.
وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ.
الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بَقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.
مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ.
هَلَكَ امْرُؤُ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ.
الإنْسَانُ مِرْآةُ الإنْسَانِ، يَتَأمَّلهُ وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ.
إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا(461).
لاَ تَشْمَتْ بالْمَصَائِبِ وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْبَاطِلِ ولاَ تَخْرُجْ مِنَ الْحَقِّ.
أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ.
مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَالتَّنْفِيسُ عَنِ الْمكْرُوبِ.
لا تَصْحَبَنَّ في سَفَرٍ مَنْ لا يَرَى لَكَ مِنْ الفَضْلِ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا يَرَى لَهُ مِنَ الفَضْلِ عَلَيْكَ.
إِنَّ مَشْيَ المَاشِي مَعَ الرَّاكِب مَفْسَدَةٌ لِلرَّاكِبِ وَمَذَلَّةٌ للمَاشِي.
ألا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ.
شَرُّ الإخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَهُ.
مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللهُ عَلاَنِيَتَهُ.
مَنْ حَذَّرَكَ كَمَنْ بَشَّرَكَ.
لا يَرْضَى عَنْكَ الحَاسِد حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُكُما.
حَسَدُ الصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ الْمَوَدَّة.ِ
مَا رَأيْتُ ظَالِمَاً أشْبَه بِمَظْلُومٍ مِنَ الحَاسِدِ: نَفَسٌ دَائِمٌ وَقَلْبٌ هَائِمٌ وَحُزْنٌ لازِمٌ، مُغْتَاظٌ عَلى مَِنْ لا ذَنْبَ لَهُ، بَخِيلٌ بِما لا يَمْلِكُ!
الثَّنَاءُ بِأَكْثَرَ مِنَ الاْسْتِحْقَاقِ مَلَقٌ، وَالتَّقْصِيرُ عَنِ الاِْسْتِحْقَاقِ عِيٌّ أَوْ حَسَدٌ.
خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ.
لاَ يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ فِي ثَلاَثٍ: فِي نَكْبَتِهِ، وَغَيْبَتِهِ، وَوَفَاتِهِ.
مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ.
مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ.
رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ. وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ.
الْموَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ.
فَقْدُ الأحِبَّةِ غُرْبَةٌ.
الطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ.
أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ.
وَكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسيِرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ!
إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ.
فَوْتُ الْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا.
ثَلاثَةٌ يُرْحَمُونَ: عَاقِلٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ جَاهِلٍ، وَضَعِيفٌ في يَدِ ظَالِم قَوِيٍّ، وَكَرِيمٌ يَحْتَاجُ إلى لَئيمٍ.
السَّخَاءُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً، فَأَمَّا مَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَتَذَمُّمٌ(462).
عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ الأغْنِيَاءِ.
الْبُخْلُ جَامعٌ لِمَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ.
الْبُخْلُ جِلْبَابُ المَسْكنَةِ.
يَا بْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ، فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَ.
يَا بْنَ آدَمَ، كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ، وَاعْمَلْ فِي مَالِكَ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ مِنْ بَعْدِكَ.
الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ.
يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ.
عَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ.
عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تَكُونُ الْفَرْجَةُ.
الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَصَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ.
الدَّهْرُ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لَكَ، وَيَوْمٌ عَلَيْكَ; فَإذَا كَانَ لَكَ فَلاَ تَبْطَرْ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ!
مَنْ صَبَرَ صَبْرَ الأحْرَارِ، وَإِلاَّ سَلاَ سُلُوَّ الأَْغْمَارِ(463).
لاَ تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاء بَطِراً، وَلاَ عِنْدَ الْبَأْسَاءِ فَشِلاً.
مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ.
الدَّاعِي بِلاَ عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلاَ وَتَرٍ.
الْمَرْء مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ.
هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ.
لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الأَْحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ.
لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقوْلِ بِالْجَهْلِ.
لاَ تَسْأَلْ عَمَّا لاَ يَكُونُ، فَفِي الَّذِي قَدْ كَانَ لَكَ شُغُلٌ.
الْوَفَاءُ لأَِهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللهِ، وَالْغَدْرُ بَأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللهِ.
إِنَّ الأُمُورَ إذا اشْتَبَهَتْ اعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا.
أصَابَ مُتَأمِّلٌ أوْ كَادَ، وَأخْطَأ مُسْتَعْجِلٌ أوْ كَادَ!
مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وأَقَلَّ الاِْعْتِبَارَ.
رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلاَمِ(464).
قيل له: صف لنا العاقل. فقال: هُوَ الِّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَهُ.
فقيل له: فصف لنا الجاهل. فقال: قَدْ فَعَلْتُ.
إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ، وَالْمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ، فَمَا أسْرَعَ الْمُلْتَقَى!
مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَدَّ.
نَفْسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ.
كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ مَنَعَتْ أَكَلاَتٍ!
لِكِّ امْرِئٍ فِي مَالِهِ شَريِكَانِ: الْوَارِثُ، وَالْحَوَادِثُ.
صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الأسَدِ: يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ.
الْخِلاَفُ يَهْدِمُ الرَّأْيَ.
لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ.
قال لما سمع قول الخوارج "لا حكم إِلاَّ للهِ": كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ!
مَنْ جَهِلَ شَيْئَاً عَابَهُ.
النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.
مَنْ لاَنَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُ.
نَوْمٌ عَلَى يَقِينٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاَةٍ فِي شَكٍّ.
أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ.
أَشدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ.
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُقَرَّبُ فِيهِ إِلاَّ الْمَاحِلُ(465)، وَلاَ يُظَرَّفُ فِيهِ إِلاَّ الْفَاجِرُ(466)، وَلاَ يُضَعَّفُ فِيهِ إِلاَّ الْمُنْصِفُ(467).
أَهْلُ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ.
مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ أَنَّهُ لاَ يُعْصَى إِلاَّ فِيهَا، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِتَرْكِهَا.
النَّاسُ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا، وَلاَ يُلاَمُ الرَّجُلُ عَلَى حُبِّ أُمِّهِ.
أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا.
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا.
مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ.
وَاعَجَبَاهُ! أَتَكُونُ الْخِلاَفَةَ بِالصَّحَابَةِ وَلاَ تَكُونُ بِالصَّحَابةِ وَالْقَرَابَةِ؟
شَرَّ النَّاسِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ.
الْمَسْؤُولُ حُرُّ حَتَّى يَعِدَ.
قُلوبُ الرَّعِيَّة خَزَائنُ رَاعِيها، فَمَا أَوْدَعَهُ فِيها مِنْ عَدْلٍ أوْ جُورٍ وَجَدَهُ فِيها.
أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ: رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ.
قال في الله تعالى: وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ!
الْحَمْدُ لله الَّذِي لاَ تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلاَ أَرْضٌ أَرْضاً.
إذا غَضِبَ الله عَلى أُمَّةٍ غَلتْ أسْعَارُها وَغَلبَهَا أشْرَارُها.
ثَلاثَةٌ يُؤثِرونَ المَالَ: تَاجِرُ البَحْرِ، وَصَاحِبُ السُّلطَانِ، وَالمُرْتشيَ في الحُكْمِ!
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لَنَا مَا لاَ يَعْلَمُونَ.
عاتَبَه عثمان فأكثر وهو ساكت، فقال: مَالكَ لا تَقُولُ؟ قال: إِنْ قُلتُ لَمْ أَقُلْ إِلاَّ مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إلاَّ مَا تُحَبُّ.
لاَ تَدعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ.
إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ.
يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ.
هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى.
بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ.
الْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ.
لاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ.
وَايْمُ اللهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمهِ وَلآخُذَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِه حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ لهُ كَارِهاً.
أَلأمُ النَّاسَ مَنْ سَعَى بِإنْسَانٍ ضَعِيفٍ إلى سُلْطَانٍ جَائرٍ.
ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ.
لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاَثُ عَلاَمَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، ويُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَة(468).
رَحِمَ اللهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ.
العَامِلُ بالظُّلْمِ، وَالمُعِينُ عَلَيْهِ، وَالرَّاضِي بِهِ: شُرَكَاءٌ ثَلاثَةٌ.
الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ، وَعَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ: إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِثْمُ الرِّضا بِهِ.
الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ: لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ(469).
لاَ قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ، وَلاَ مِيرَاثَ كَالأدَبِ، وَلاَ إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَالصَّبْرِ، وَلاَ حَسَبَ كَالتَّوَاضُعِ، وَلاَ شَرَفَ كَالْعِلْمِ، وَلاَ مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِن مُشَاوَرَة.
مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.
مَنْ قَصَّرَ فِي الْعَمَلِ ابْتُلِيَ بِالْهَمِّ.
إعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أبَداً.
الْعَامِلَ بَغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ في غيْرِ طَرِيقٍ، فَلاَ يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلاَّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَالْعَامِلُ بالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ: أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟
سَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ.
َمَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا.
مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأَ.
قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ.
لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ، وَلكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ.
هَلَكَ خُزَّانُ الأمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ.
لاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ: لاَ أَعْلَمُ، وَلاَ يَسْتَحْيِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعَلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ.
مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الأمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ.
لاَ غِنَى كَالْعَقْلِ، وَلاَ فَقْرَ كَالْجَهْلِ.
إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ.
مَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ، وَمَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ.
إِذَا أَرْذَلَ اللهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ.
كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلاَّ وِعَاءَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ.
إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأبْدَانُ، فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ.
الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ.
مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.
الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ.
إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عَنْدَ اللهِ أَلْوَمُ.
لاَ تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلاً، وَيَقِينَكُمْ شَكّاً، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا، وَإِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُوا.
مَنْ مَلَكَ استأْثَرَ(470).
مَنْهُومَانِ لاَ يَشْعَبَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.
الْغِنَى الأكْبَرُ الْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
الْفَقْرُ الْمَوْتُ الأكْبَرُ.
الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، والشُّكْرُ زِينَةُ الغِنَى.
مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ السُّؤَالُ، فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُهُ.
َالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ.
الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ، وَالْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ.
لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ(471).
احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إذَا جَاعَ، واللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ.
مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مَنَعَ بِهِ غَنِي.
لاَ يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى.
مَا خُلِقَ امْرءٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ، وَلاَ تُرِكَ سُدىً فَيَلْغُوَ(472).
لاَ يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ.
قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ، فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ.
لاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّا.
وَلَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ.
الْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ.
مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الأيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!
"أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" كونفوشيوس (ع)
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
|