بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
9 صفر 1424 هـ/ 11 نيسان-أبريل 2003م.
--------------------------------------------------------------------------------
قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم:
الإمام الحسن(ع) عمل على حفظ المعارضة التي تحمل الخط الإسلامي الأصيل
--------------------------------------------------------------------------------
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
في كنف النبوّة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، الذي كان أوّل وليد لعليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وكان حبيب رسول الله (ص) و"أشبه الناس به خلقاً وهيئة وهدياً وسؤدداً"، وكان (ع) ـ كما روي عن الإمام زين العابدين(ع) ـ "أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً، ولا يمرُّ بأيةٍ حالة من أحواله بشيء إلا ذكر الله عزّ وجلّ، وكان أصدق الناس لهجةً وأفصحهم منطقاً، وكان إذا بلغ المسجد رفع رأسه وقال: إلهي، ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم".
وعاش الإمام الحسن(ع) في بداية طفولته الأولى في أحضان رسول الله (ص) وأمه الزهراء (ع) وأبيه أمير المؤمنين(ع)، فكان رسول الله(ص) يحمله مع أخيه الحسين(ع) ويقول: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، وعاش الإمام الحسن(ع) في هذه الأحضان الطاهرة.
رجل المهمات الصعبة
وانطلق مع أبيه بعد وفاة أمه (ع) ليكون عضداً له، حيث كان الإمام عليّ(ع) يعتمد عليه في الأمور الصعبة بعد أن تسلّم زمام الخلافة، وكانت مواقفه صلبة وقوية وثابتة، تدل على مدى ما يختزنه من قوة في الحق، وصرامة في المواجهة من أجل الحق، حتى إذا استُشهد أبوه (ع) في محراب المسجد، تسلّم الخلافة بعد أن بايعه المسلمون، ولكنّ معاوية الذي حارب أباه وعطّل بذلك الخط الإسلامي الأصيل الذي أراد الإمام عليّ(ع) أن يركزه في الوجدان الإسلامي والحياة الإسلامية العامة، انطلق لمواجهة الإمام الحسن(ع) وجرت بينهما مراسلات ومكاتبات، لأنه (ع) ـ كأبيه وجده ـ كان يؤمن بالحوار حتى مع الذين ينحرفون عن الحق، لأن الحوار هو الذي يحدِّد المواقف ويزيل الشبهات، ويدعو إلى التفاهم وربما إلى اللقاء، ولكنّ معاوية الذي طلب الباطل والذي يعرف أين مواقع الحق ومواقع الباطل، والذي غصب الخلافة من الخليفة الشرعي، بدأ يشتري الناس من رؤساء العشائر والقبائل بالمال، حتى أربك جيش الإمام الحسن (ع) فهدده البعض بالقتل. وهكذا من خلال خيانة هنا وخيانة هناك، أوقفت الحرب، وبدأت الهدنة التي سمّوها "صلحاً"، ولم يفِ معاوية للإمام الحسن(ع) بشيء مما وقّع هو عليه، ثم بدأ يفكر باغتياله، لأن وثيقة الصلح بينهما كانت تنصّ على أن تكون الخلافة من بعده للإمام الحسن(ع)، بينما كان يخطط لخلافة ابنه يزيد لتبدأ خلافة بني أمية التي تحوّلت معها الخلافة إلى ملك عضود لا علاقة له بالإسلام من قريب أو من بعيد، فدسّ السم للإمام الحسن(ع) من خلال زوجة منحرفة من بني الأشعث، واستُشهد الإمام الحسن(ع)، ولكنه أوصى أخاه الحسين (ع) أن يُدفن عند جده (ص)، وإن لم يستطع دفنه في البقيع فلا يدخل في أيّ صراع مسلّح مع بني أميه، لأنه كان يعرف أنهم سوف يمنعون دفنه عند جده (ص)، لأنّهم لا يريدون له هذه الكرامة، وقد استخدموا "عائشة" لذلك، وكانت تقول: "لا تدخلوا الحسن في بيتي"، وجرّد بنو هاشم سيوفهم، ولكن الإمام الحسين (ع) قال لهم: "الله الله في وصية أخي الحسن، أن لا نهرق في أمره ملء محجمة دماً".
وكان الإمام الحسن (ع) يعيش مأساةً من أقسى المآسي، ولكنه كان الصابر المنفتح، وكان الذي يعمل في سلمه وحربه من أجل مصلحة المسلمين، ومن أجل أن يحفظ المعارضة التي تحمي الخط الإسلامي الأصيل من التصفية على أيدي أولئك الذين لا يريدون للحق أن يعلو، ولا يريدون للإسلام أن ينطلق من موقع الأصالة.
تركيزه(ع) على القيم الإسلامية
وعندما نستثير ذكرى الإمام الحسن(ع)، نحاول أن نأخذ بعض كلماته التي تتصل بحياتنا العامة والخاصة. نقرأ في كلماته(ع) وهو يطلب من كل إنسان أن لا يستبد برأيه، ليتصوّر أن رأيه يمثل الحق وأنه لا حاجة به إلى آراء الناس في القضايا الخاصة أو العامة، فكانت كلمته (ع): "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم"، فالشورى بين الناس تجعل العقول تطرح وجهات نظرها وتتكامل في معرفة الحقيقة هنا وهناك. ولذلك فإن الإمام (ع) انطلاقاً من القرآن الكريم الذي يريد للمسلمين أن يتشاوروا في كل أمورهم، يقول للناس: إذا أردتم أن تصلوا إلى الرشاد الذي يبعدكم عن الباطل فتشاوروا، فإن من شاور الرجال شاركها في عقولها، وهذا ما ينبغي لنا أن نأخذ به في كل قضايانا العامة والخاصة، حتى لا نخطئ في إعطاء الرأي والمواقف.
وكان (ع) يتحدث عن أخٍ صالحٍ له، ومن خلال هذه الكلمات نعرف كيف يصوّر القيمة الروحية والأخلاقية التي ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزمها في حياته من خلال حديثه عن هذا الأخ الصالح. يقول(ع): "كان من أعظم الناس في عيني ـ كنت أتمثله من خلال مواكبتي له ورصدي لأعماله فيعظم في عيني ـ وكان رأس ما عظم به في عيني ـ القمة التي جعلتني أجد فيه هذه العظمة ـ صغر الدنيا في عينه ـ كان لا يعتبر الدنيا هي الغاية والقيمة والهدف، بل كان يعتبرها مجرد حاجة يلبي فيها حاجاته ومجرد موقع لممارسة مسؤوليته أمام الله تعالى، ليستعد للقاء الله من خلال ما يقوم به في الدنيا من ممارسة المسؤوليات مما يحبه الله ويرضاه، لم يكن عبد الدنيا ولكنه كان عبد الله ـ كان لا يشتكي ـ كان يعيش المشكلة والألم، ولكنه كان يصبر عليه ـ ولا يسخط ولا يتبرم ـ كان راضياً بالله وبقضائه، والصابر على كلِّ ما يصيبه ـ كان أكثر دهره صامتاً ـ لأنه كان مشغولاً بالتفكر، كان يفكر بالله ليزداد معرفةً به، وكان يفكر بالآخرة ليزداد اهتماماً بها، ويفكر بالناس ليزداد خدمةً وإصلاحاً لهم، وليس صمته صمت العاجز ـ فإذا قال بذّ القائلين ـ سبقهم ـ كان إذا جالس العلماء على أن يستمع أحرص منه على أن يقول ـ لم يكن همه في جلوسه مع العلماء أن يتحدث ليكون كل الكلام له، بل كان يعتبر جلوسه مع العلماء فرصةً ليثقف نفسه ويبني أخلاقه ـ وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت ـ لم يكن المهذار الذي يتكلم كيفما كان، فربما يتقدم عليه الذين يعيشون الرغبة في الكلام حتى لو كان من لغو القول، ولكنه كان لا ينافس في الكلام بل في السكوت، لأن مسألة السكوت عنده مسألة فكر وتخطيط وتأمل ـ كان لا يقول ما لا يفعل ـ لا يتحدث عن الأشياء التي لا يقوم بها ـ ويفعل ما لا يقول ـ أما إذا أراد أن يقوم بشيء فإنه لا يتحدث عنه، بل يقوم به على أساس أنه مسؤوليته، وليس شيئاً ذاتياً يفتخر به ويحاول أن يستعرض نفسه أمام الناس ـ كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه، نظر أقربهما من هواه فخالفه ـ لم يدرِ أي الخيارين أرضى لله، فما هو الطريق ليعرف أنه الأرضى لله؟ كان ينظر إلى ما يشتهي فيخالفه ـ كان لا يلوم أحداً على ما يقع العذر في مثله"، إذا صدر من بعض الناس كلام أو فعل وكان هناك إمكانية للعذر في ما فعل أو تكلم به، كان هذا الشخص لا يبادر إلى لومه إذا أمكن تقديم العذر له..
ومن مواعظه (ع) وهو يتحدث إلى الناس عن القيمة، كيف تكون عابداً وغنياً ومسلماً، وكيف تكون عدلاً، يقول (ع): "يابن آدم، عفّ عن محارم الله ـ لتكن لك العفة عن كل ما حرّمه الله من فعل أو قول ـ تكن عابداً ـ فالعبادة هي أن تجتنب ما حرّم الله عليك، وقد ورد في بعض كلمات عليّ (ع): "أفضل العبادة العفاف" ـ وارض بما قسم الله تكن غنياً ـ لأن القناعة بما قسم الله تجعلك تعيش غنى النفس، فلا تشعر بسقوطك في حاجاتك أمام الآخرين، وليس الغنى غنى المال ـ وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً ـ وهذه من خصائص الإنسان المسلم المؤمن ـ وصاحب النّاس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عدلاً ـ لأن العدالة هي أن ترضى للناس ما ترضاه لنفسك.
وقد ورد في وصية الإمام عليّ (ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لنفسك ما تحب لغيرك واكره له ما تكره لها" ـ إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيراً ـ يجمعون الكثير من المال ونسوا مسؤوليتهم أمام الله ـ ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بورا ـ إنهم هلكى لا وجود لهم ـ وعملهم غرورا، يابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ أن سقطت من بطن أمك، فخذ مما في يديك لما بين يديك ـ خذ من هذا المال والجاه وكل هذه الإمكانات لما بين يديك من مسؤولياتك، ومما تقبل عليه عند ربك ـ فإن المؤمن يتزوّد والكافر يتمتّع".
هؤلاء أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والإمام الحسن (ع) هو هذا الإمام الذي لا بد للمسلمين من أن يدرسوه دراسة واعية، ليعرفوا أنه قام بثورة روحية أخلاقية في خط المواجهة للظلم وأهله، وللانحراف وأهله، وكانت سيرة الحسن (ع) هي التي خططت لثورة الإمام الحسين (ع).