النتائج 1 إلى 12 من 12
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي حازم صاغية: قصة البعث في العراق

    1
    صدفةٌ ما حملت ثلاثة شبان سوريين على الدراسة في بغداد. كان ذلك في 1949، ولم يكن انقضى غير أشهر على هزيمة فلسطين والمرارة التي نشرتها في عموم العالم الاسلامي. الثلاثة جمع بينهم، عدا الفتوّة، أنهم علويو المذهب من لواء الاسكندرون. عائلاتهم نزحت جنوباً مع استيلاء الأتراك على (اللواء السليب)، فتحلّقوا حول السياسي والمثقف الاسكندروني زكي الأرسوزي الذي قال بـ(البعث) طريقاً إلى استعادة (مجد العرب). هكذا صاروا جميعاً بعثيين. فحين انتقلوا إلى بغداد تكفّلوا نقل الدعوة اليها.
    أبرزهم كان فايز اسماعيل، طالب كلية الحقوق. والآخران وصفي الغانم، الطالب في معهد المعلمين وشقيق القيادي البعثي وهيب الغانم، وسليمان العيسى الذي غدا لاحقاً شاعر البعث.
    ما زرعوه في تربة العراق لقي استجابة متواضعة بين طلاب العاصمة، قبل أن يمتد امتداداً خجولاً إلى سائر المناطق شمالاً وجنوباً. لكن فايز اسماعيل سريعاً ما عاد إلى دمشق فحمل المهمة، في 1950، عبد الرحمن الضامن. وهذا الأخير، المتحدّر عن أسرة سنية من تجار الأعظمية ببغداد، لم يُكتب إسمه بخط عريض في تاريخ الحزب: ذاك أن المرض ما لبث أن عاجله فانسحب من المجال العام. وفي محله حل في قيادة (قطر العراق) طالب هندسة شيعي هو فؤاد الركابي لم يكن بلغ العشرين، قيل إنه نسب نفسه إلى أمه التي تمتّ بقرابة بعيدة إلى صالح جبر، أحد رؤساء الحكومات، كما تسمّى باسم عشيرتها ذات الكعب والمنعة، بني ركاب.
    ولم يتجاوز الأعضاء في 1951 الخمسين، بقيادة كان الأكبر سناً فيها فخري قدوري البالغ الثانية والعشرين. لكن هؤلاء الذين سمّاهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق (الأنبياء الصغار)، تضاعفوا منتصف العام التالي. وفي تلك الاثناء اعترفت بهم (القيادة القومية) في دمشق، مُصادقةً على شرعية الفرع العراقي. يومها كان بعثيو سورية يحتفلون باندماجهم مع (الحزب العربي الاشتراكي) لأكرم الحوراني، واعدين أنفسهم بمستقبل أكثر إشراقاً لا تعيقه الا ديكتاتورية أديب الشيشكلي. إذاً انضاف الى التفاؤل سبب آخر.

    وجاء معظم المقبلين على الدعوة من الطلاب، على ما كانت حالهم في سورية. البعض منهم كانوا قاربوا (حزب الاستقلال)، القومي العربي، واكتشفوا أن يفاعتهم أسرع من بطئه وتقليديته. وكان أكثرهم يخوض تجربته الأولى في الحزب الذي قالت وثائق الشرطة في أواسط 1955 إنه يضم 289 عضواً، سنة وشيعة، يتأتى معظمهم عن النصف الأدنى من الهرم الاجتماعي. فالبعث، ذو الاشتراكية الشعبوية والانشائية، كان يملك ما يقوله لهؤلاء. لكن إقبالهم المقنّن عليه دلّ، بين ما دلّ، الى ضعف الفئات الوسطى العراقية قياساً بمثيلتها السورية، وتالياً ضعف حراكها السياسي.

    الا ان دعوة البعث الى العروبة وإحداث (انقلاب) في حياة العرب، هي، لا المسألة الاجتماعية، أمّ مواضيعه. ولأنها كذلك، وقعت على عاصمة الأمويين غير وقوعها على العاصمة العباسية. فأمر الوحدة في سورية يخاطب لاوعياً جمعياً يرى اليها ضمّاً لما سبق أن تجزّأ. أما العراق فالقضية التي لازمت تاريخه الحديث تنظيم ما وحّده البريطانيون في 1920. وإذا كانت أقليات سورية دينية في غالبها، فأقليات العراق مذهبية وإثنية، فضلاً عن الديني منها. ولئن بدت السنيةُ الأكثريةُ هي الراجحة في سياسة سورية، وفي اقتصادها وثقافتها، فإن الشيعية الأكثرية في العراق مهمّشة تقليدياً ومُستبعدة.

    هكذا حملت العروبة الى بغداد ما تفاوت من معانٍ، وما غاير الدارج الدمشقي والمشرقي الذي تضرب أصوله في (نهضة) القرن التاسع عشر وروّادها المسيحيين. فالبيئة السنية تكنّت بها، ومع اطلاع مثقفيها على القومية الأوروبية، نسبت هذه الكنية الى القومية. لكن ما حاوله على الصعيد هذا مُـنظّرون علمانيون أبرزهم ساطع الحصري، السوري الذي عاش في العراق وعلّم ناشئته، لم يذلل الفهم الشعبي للعروبة بوصفها راية من رايات الاسلام.

    هكذا لم يعرف العراق، مثلاً، حركة أصولية سنية يُعتدّ بها إذ تساكنت نزعته هذه وعروبته في منظومة وعي واحد. لكن البيئة الشيعية، في المقابل، اختلفت. فهي، وإن غازلت العروبةَ وداورتها، ظلت عروبتها أقرب إلى اعتداد بالقوم منها إلى طلب القومية ودولتها. وغالباً ما انطوى هذا الاعتداد على سعي إلى تكافؤ تزول بعده (مبررات) الغبن والإجحاف.

    وناشد البعث نقطة التقاطُع عند عروبة الحد الأدنى المشوبة بالغموض، والتي لم يزدها الحزب الوافد وإنشاؤه الرومنطيقي الا غموضاً. وفي سياق كهذا انضم اليه من شبان الشيعة، ممن لعبوا بعض الدور في مساره اللاحق، حازم جواد وطالب حسين شبيب وسعدون حمادي ومحسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وابو طالب الهاشمي وغيرهم، فضلاً عن علي صالح السعدي ذي الأصول الكردية الفيلية والشيعية. كما انضم اليه من شبان السنة حمدي عبد المجيد وإياد سعيد ثابت وخالد علي الصالح ومدحت ابراهيم جمعة وفيصل حبيب الخيزران وكريم شنتاف وآخرون.

    وحفّت بالطريق الى العروبة معالم مميزة عند كل من الجماعتين. فمصادر العروبة السنية تتصل بعهد الملك غازي الذي تبوّأ العرش في 1933 وشاء، بخفّة غير مسبوقة، جعل العراق (بيامونت العرب)، تيمناً بالوحدة الايطالية لماتزيني وغاريبالدي. وهي تعتدّ بالمذبحة التي أُنزلت عامذاك بالأشوريين، (عملاء الانكليز) في الرواية القومية السنية الكارهة لكثرة الملل والنحل. وكان من المصادر (نادي المثنّى) المؤسس في 1935 لتقوية (الشعور بالرجولة العربية)، وانقلاب رشيد عالي الكيلاني وضباط (المربّع الذهبي) المعجبين بألمانيا النازية في 1941، و(فرهود) العام نفسه، وهو المذبحة التي طالت يهود العراق. واتصلت بمصادر العروبة السنية أيضاً تجارب وأسماء اشخاص كالكاتب والداعية القومي - العسكري سامي شوكت الذي أنشأ منظمة (الفتوة) على غرار الشبيبة الهتلرية، أو السياسي ياسين الهاشمي، أحد ضباط فيصل الأول وأحد رؤساء حكوماته الذي ناوأ نوري السعيد وظل، حتى وفاته في 1937، يرعى التطرف الوطني في مناهضة البريطانيين. وكان حزب الاستقلال المؤسس في 1946 أوضح المعالم التنظيمية قبل خمسينات البعث. ففيه انضوى ضباط وموظفون أسسوا (المثنّى) ثم تقاعدوا بعد انقلاب 1941، وقد حلّ في قيادته فائق السامرائي، المقرب من الكيلاني، وصديق شنشل، صهر يونس السبعاوي الذي عُـدّ مُـنظّر الانقلاب، وسلمان الصفواني، الصحافي المشهور بمقالات نارية ولاسامية ضد يهود العراق.

    وعرف البعث بعض نموه في مناطق السكن السني التي انتشر الاستقلاليون فيها، كالأعظمية في بغداد والمدن المحاذية لسورية والقريبة منها كالموصل والفلوجة وعانة وتكريت وسامراء، أو ما سماه البعض (المثلث السني) ما بين الموصل شمالاً وبغداد جنوباً والجزيرة السورية في الغرب. فمن تلك الأنحاء أقبل على الحزب دحام الألوسي وصالح شعبان وإياد سعيد ثابت الذي كان والده من ضباط فيصل الأول السوريين، وكذلك شفيق الكمالي الذي عاشت نصف عائلته في البوكمال السورية. وهذا الانشقاق في العائلات خلّف آثاره السياسية على البلدين. فالمعروف ان الانتدابين البريطاني على العراق والفرنسي على سورية تهاترا وتصادما واحتارا قبل ان يقررا عراقية الموصل بدلا من سوريتها. وبأصولهم يعود كثيرون من سكان دير الزور والرقة السوريتين مثلاً الى مدينتي عانه وراوه العراقيتين، وإنما من هؤلاء تشكلت بلدة حصبة الحدودية. وقد ظهر، من هذا الوسط، أحد أبرز قياديي البعث السوري يوسف زعيّن ذو الأصل العاني، فيما تواضعت الدولتان الاستقلاليتان على منح مواطني تلك المناطق (حق) التوغل ثلاثين كيلومتراً في اراضي الدولة الأخرى من دون تأشيرة دخول. وبدورهم مال بعض دارسي البعث السوري الى ربط مواقف القطب المؤسس، وملاك الأراضي في منطقة الجزيرة، جلال السيد، بهذا العنصر. فهو ما حمله على تفضيل الارتباط بالعراق الهاشمي على الارتباط بمصر الناصرية، والى رفض الاشتراكية لتعارضها مع (قيم القبيلة العربية). وقد انتهى به الأمر مبكراً خارج الحزب الذي حسم أمره لمصلحة مصر والاشتراكية.

    ذاك أن نشأة الدولتين السورية والعراقية أعاقت الامتداد القرابي لعشائر الحدود، لكنها أدت أيضاً الى كساد اقتصادي تسببت به الحواجز الجمركية التي فصلت العراق عن مناطقه التجارية في سورية، ناهيك عن تدفق السلع الغربية على حساب صناعات قديمة تطغى عليها الحرفة. وكما فعل حزب الاستقلال قبله، دغدغ البعث حساً عشائرياً محبطاً بالدولة الحديثة، مثلما خاطب إحباطاً آخر بالاقتصاد الحديث استوطن أصحاب الدكاكين وسقاطة الحِرف القديمة للمدن وما ترسّب عنها من قبضايات ووجهاء (محلّة) صغار.

    وعلى اختلاط بيئة كهذه، أبحرت فيها الوطنية والعروبة والاسلام والعشيرة والعداء للغرب وللشيوعية، في مركب واحد صواه التحفظ عن كل وافد جديد من سلع أو أخلاق.

    أما عند الشيعة، فصدرت العروبة عن افتخار بنسب (أشرف) من النسب الإيراني. وقد تفرّع عنه تعويل على علاقات الدم والقرابة، كما تفرّع انكباب لدى بعض مثقفيهم الأوائل على تبرئة شعراء قدامى من تهمة (الشعوبية) وتوكيد (أصالتهم) في (الدم العربي). وورثت العروبة، في حالة قلة من أبناء (الأُسَر) النافذة عداءً للشيوعية التي عصفت بالجنوب العراقي حتى أخافت المرجعية الدينية ونافستها، في الخمسينات والستينات، على مرجعيتها. ولئن بدا الشيوعيون أقدر من يوظّف المناخ الذي أطلقه محمد مصدّق في حسابهم، استطاع البعث أن يلمّ فتات ذاك الشعور الوطني الذي عبر شط العرب غرباً.

    والتقاطُع السني-الشيعي عند عروبة غامضة له سوابق ومقدمات في تاريخ العراق الحديث، وإن لم يبلغ أيٌ منها شأو البعث. فأصداء الاعتداد بها وبـ(نَسبها) ترقى إلى الجمعيات الاصلاحية التي سبقت حركة (تركيا الفتاة) في 1908 وواكبتها. وكانت (ثورة العشرين) الشيعية والأهلية محطة تقارب لم تخلُ من توثيق الصلات بين البيئتين على قاعدة العداء لبريطانيا. وبدوره مثّل فيصل الأول نفسه، بأصله ونسبه، لحظة استقرار ما عند عروبية سنية - شيعية جامعة أراد اعادة تدويرها لبناء العراق. ومن موقع آخر وُجد عند جعفر أبو التمّن، مؤسس الوطنية العراقية الحديثة، ما يمكن تأويله على هذا النحو، فكان من ثمار تلك التجربة أن شيعياً من تلامذته، هو محمد مهدي كبّة، أسس حزب الاستقلال وغدا وجهه المعنوي الأول.


    لكن التقاطُع لم يحل دون محطات تنافُر عريضة، خصوصاً أن الانقسام المذهبي ترافق مع انقسام اجتماعي نافر. فالجيش كانت الأكثرية الساحقة من ضباطه من السنة العرب، ومن أصل 23 رئيس حكومة بين 1921 و1958، تولى المنصب أربعة شيعة فقط، هم صالح جبر ومحمد الصدر وفاضل الجمالي وعبد الوهاب مرجان. والتفاوت نفسه يصح في سياسات الانفاق والاستثمار في المناطق. وهذا كله معطوفاً على سجالات وانشقاقات وطنية تلت أحداثاً أُوّلت طائفياً أو كانت، بهذه النسبة أو تلك، كذلك. فمن هذا القبيل كان الخلاف حول التربية والتعليم وفهم التاريخ الاسلامي مما ارتبط بساطع الحصري وفاضل الجمالي وغيرهما، أو الاغتيال الذي ذهب ضحيته الشيعي اللبناني الأصل رستم حيدر في 1940.

    بيد أن البعث عبّر أيضاً، حاله في ذلك حال سائر الأحزاب القومية، عن تنافر بعيد في مصالح أفراده. فإذا كانت كثرته من البورجوازية الصغرى الدنيا، فهذا لم يحل دون انضواء متفرعين عن عائلات ثرية وملاكي أراض كبار، وانضمام آخرين معدمين. ويُنسب الى علي صالح السعدي، وقد غادر الحزب واكتسب وعياً طبقياً فجاً، أنه أضحى يتساءل: (هل يعقل ان يجمعني حزب واحد بفيصل حبيب الخيزران الذي كان أبي يشد حذاء أبيه ويربطه؟).

    لكن اذا كانت الأحزاب القومية تستعيض عن التضارب في مصالح معتنقيها بتشدد عقائدي وتنظيمي، لم يملك البعث العقيدة التي يتشدد فيها. وهذا إذا ما تلافاه بعثيو سورية بالاستغراق في سياسات المتن العريض، وهو ما وفّرته لهم زعامة أكرم الحوراني الشعبية والبرلمانية، ففي العراق عولج الأمر بعبادة التنظيم كهدف بذاته. وكان للتأثّر الضدي بالشيوعيين أن عزز الصرامة الحديدية هذه، فبات (العضو العامل) في البعث العراقي خلاصة حلقات متتابعة أولاها (المؤيد) فـ(النصير) فـ(النصير المتقدم) فـ(المرشح للعضوية). وهي كلها محطات في الممارسة والتحمّل أكثر بكثير مما في النظرية المهلهلة.

    ولم يكتف بعث العراق بمخالفة بعث سورية المتراخي تنظيمياً والموزّع بين كتل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني، بل قارب الفِـرَق الدينية في تمسكه بضوابط أخلاقية وسلوكية متزمتة. وإذ حضن البعث في دمشق مثقفين أقبلوا على ترجمة الأدب الوجودي والرواية الروسية وبعض أعمال علم النفس، كعبد الكريم زهور وسامي الدروبي وجمال أتاسي وسامي الجندي وعبد الله عبد الدائم وغيرهم، خلت صفوف البعث العراقي من المثقفين الذين دار معظمهم في فلك الحزب الشيوعي، أو انزووا في بيوتهم البورجوازية والأريستوقراطية. ولم يقتصر التحدي الشيوعي على البنية التنظيمية، بل جرّع البعثيين عداءً للشيوعية لم يبلغه مطلقاً رفاقهم في سورية.

    وامتداداً للتعويل على القوة اهتم الأمين العام القطري، فؤاد الركابي، ببناء موقع للحزب في الجيش، وكانت أصداء الانقلاب المصري في 1952 والدور المتعاظم لضباط البعث السوريين، كعدنان المالكي ومصطفى حمدون، تنمّي هذا الخيار. كذلك نمّاه أن قوة الشيوعيين من جهة، وقوة الولاءات المحلية والمذهبية من جهة أخرى، أقامت سدوداً منيعة أمام انتشار البعث في بيئات شعبية عدة.

    والمنحى العسكري هذا ليس بالغريب على العراق. فجيشه كان أبكر الجيوش العربية في اقتحام الحياة السياسية عبر انقلابي 1936 و1941، من دون أن تستطيع تقاليد الانضباط الحديثة قطع الضباط عن خلفيات عشائرية ومناطقية صدروا عنها وبقيت تنبض فيهم. وعلى إيقاع الصراع مع سياسات نوري السعيد، هي التي بلغت ذروتها بقيام (حلف بغداد) في 1955، اتسعت صفوف البعث لضباط سنّة عُرف منهم علاء الجنابي ومنذر الونداوي وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف وغيرهم.

    صحيح ان الضباط البعثيين لم يكونوا أساسيين في تنظيمات (الضباط الأحرار) التي ضمت 280 ضابطاً ليس فيهم كردي او مسيحي واحد، وصحيح أن الحزب كله لم يتعدّ الـ300 عضو في 1956. بيد أن البعثيين غدوا يملكون، عشية انقلاب 14 تموز (يوليو) 1958 الذي أقام الجمهورية، محيطاً عريضاً في بيئة سنية راحت تماهيهم بجمال عبد الناصر. ومماهاةٌ كهذه بدت كسباً خالصاً في تلك البيئة التي ألهب خيالها ما فعله الزعيم المصري بتأميم قناة السويس وردّ (العدوان الثلاثي) في 1956.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    2
    بعد أن تناولت الحلقة الأولى التأسيس "السوري" لبعث العراق وصعود دور العسكر الحزبي في ظل تشتت القيادة المدنية، هنا التتمة:

    ما بين اعتقال وهرب الى سورية وتحوّل نحو الناصرية، أدت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم الى تشتيت القيادة المدنية للبعث العراقي. وكان حازم جواد من القليلين الذين عبروا البوكمال إياباً في 1960، فتولاها.

    إبن المؤذّن الجنوبي الفقير وابن خالة فؤاد الركابي، لم يكن ذا تجربة غنية، وهو يومها في الخامسة والعشرين. لكنه لم يكن أيضاً، على الضد مما توحي حداثة سنّه، متهوّراً. الا أن القائد الفعلي لم يكن جواد بل علي صالح السعدي، ابن الثانية والثلاثين آنذاك، والذي بدأ يقود ويوجّه من سورية.

    والسعدي، الأكبر سناً، بدا الأشد تطرفاً ومغالاة. وهذا ما لم ينجم فحسب عن بقائه مدة أطول في الخارج، وهي قاعدة تكاد لا تخطىء في الأحزاب حيث الأكثر خارجية الأشد تطرفاً، بل أيضاً عن طباعه وتكوينه. فهو عُرف بإقدام وقسوة هيّأته لهما طفولة بائسة وعائلة مصدّعة، حتى وصفه معظم عارفيه بفظاظة في الطباع يشوبها إدقاع ثقافي وعداء ريفي مُرّ للمدينة.

    ولئن تُرك لجواد السهر على بناء الكادر المدني، المحترف والصلب، تولى السعدي توسيع محيط الحزب الجماهيري من مؤيدين وأنصار دون العشرين، وتهيئة ذاك المحيط لاستقبال البيان الرقم واحد. فالبعث الذي، في آب (أغسطس) 1960، انتقد ذاتياً محاولة الاغتيال التي أقدم عليها، بل نقد نهج الاغتيال برمته مُـحمّلاً مسؤوليته الى الركابي، وضمناً الى قيادة "الجمهورية العربية المتحدة"، لم يتردد في اختيار الانقلاب العسكري بديلاً. هكذا، بدل أن يطهّر الجرح طهّر السكين، فلم يغيّر أولويته المعطاة للمهارات التنظيمية والتآمرية، بل اكتفى بإحلال الانقلاب حيث حلت التصفية الفردية.

    غير أن براعة السعدي وشجاعته في أداء نشاط كهذا، وهما صفتان ثابتتان فيه، لا تكفيان لتفسير نجاحه انطلاقاً من مخبأ في سورية. والحق أن ما ساعده كان استمرار اللبس بين البعث والناصرية والاسلام في شائع الوعي السني. ولما أبدى البعثيون ممن حوكموا بمحاولة اغتيال قاسم جرأة وتماسكاً ملحوظين، لا سيما منهم إياد سعيد ثابت وشقيقته يُسرى، رأى فيهم هذا الوسط الطرف الأجدر بمكافحة الشيوعية. فالأخيرة والبعث في العراق صارا، منذ أحداث الموصل في 1959، أشبه باسمين لقبيلتين يفصل بينهما دم وثأر كثير، فكيف وأن المحاكمات التي أجراها فاضل المهداوي أدت الى تعليق 17 شخصاً على أعواد المشانق!

    ومن دون التقليل من شعبية قاسم، لعب بعض سياساته لمصلحة البعث. فالإفادة التي جناها حكمه من الانفصال السوري عن العربية المتحدة في أيلول (سبتمبر) 1961، بدّدها تجدد الحرب الكردية في الشهر نفسه. وكان انقلاب تموز (يوليو) 1958 استقبل الملا مصطفى البارزاني في بغداد، بعد اقامة طويلة في موسكو، ثم ساعده على إخضاع العشائر المنافسة له، ما وضع السلام في كردستان على أجندة التفاؤل. كذلك عاودت علاقات قاسم تردّيها مع الشيوعيين، بعدما نظّموا في أيار (مايو) 1962 مظاهرة ضخمة تطالب بالسلام العربي الكردي. وكان "الزعيم الأوحد" اطمأن الى أن مصدر الخطر عليه أضحى ينحصر في الشيوعيين والاكراد، إذ القوميون يضمّدون جراحهم، لا سيما وقد ابتعد شبح عبد الناصر عن دمشق.

    وما بين استياء راح يعم سلك الضباط، وتدهور في الوضع المعيشي، وآثار غير سارّة خلّفتها مغامرة قاسم الكويتية في حزيران (يونيو) 1961، وسمعة تجمع بين دموية النظام ومزاجية القائد العُظامي، لاح التجرؤ ممكناً على السلطة المرهوبة.

    وبالفعل ففيما كان الشيوعيون يتظاهرون ويجددون ارتياب الحكم بهم، مؤكدين أن تناقضات قوى "الوطنية العراقية" من نوع انفجاري، كان وكرٌ في بغداد يؤوي حدثاً غير عادي. فقد نجح السعدي، بخليط من النزعتين التآمرية والبطولية، في ان يعقد مؤتمراً سرياً للحزب في قلب العاصمة، تشكلت على ضوئه القيادة التي ستتولى الانقلاب. في هذه الغضون، ومن تحت الأرض أيضاً، أسس "جبهة قومية" ضمّت الى البعث بقايا الاستقلاليين والمجموعات العروبية والناصرية الصغرى.

    فحتى ذاك الحين لم يكن خلاف عبد الناصر والبعث قد انعكس على العراق وقومييه بالحدّة التي عرفها في سورية. ذاك أن أمر اليوم، لدى أتباع العروبة في بغداد، ظل واحداً لا يتغير: قطع الرأس الأحمر.

    وتمكن البعث، على مستوى آخر، من بناء مواقع متواضعة له في النقابات والروابط المهنية التي راحت تتأسس بعد قيام الجمهورية. لكن أقوى مواقعه الجديدة توطدت بين طلبة المدارس، والى حد ما الجامعات. وبهؤلاء ابتدأ، أواخر ذاك العام، إضراباً وطنياً ناجحاً استطاع أن يمدّه الى مناطق عدة، وأن يُديمه حتى سقوط العهد القاسمي.

    وفي الموازاة، أنشأ الحزب مكتباً عسكرياً هو الذي وضع خطة الانقلاب موضع التنفيذ. وقد احتل السعدي رئاسته بينما شارك في العضوية جواد وطالب شبيب من المدنيين، وأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الستار عبد اللطيف من العسكريين. كما ساهم في نشاطه، على نحو متقطّع، العسكريون البعثيون خالد مكي الهاشمي وحردان التكريتي ومنذر الونداوي.

    الا ان الانجاز الأهم لعلي صالح السعدي كان بناء "لجان الإنذار" ممن انبثق منها "الحرس القومي"، وهم طلاب وأشباه طلاب كُـلّف عبد الكريم نصرت قيادتهم، قبل أن يُعهد بها الى الونداوي، الضابط المغامر والمقرّب جداً من السعدي، يساعده أبو طالب الهاشمي، البعثي المدني الذي ذاع له لاحقاً صيت دموي. وكانت مهمة أفراد "اللجان"، ثم "الحرس"، وهم من محيط المؤيدين والأنصار لا من الأعضاء العاملين، الانقضاض على السلطة حالما تسألهم قيادة الحزب ذلك.

    وفي 8 شباط (فبراير)، أو 14 رمضان، 1963 تم الانقلاب الذي نفذه ضباط البعث وسارع عناصر الحرس القومي الى حمايته في الشارع. ولم ينقض غير شهر واحد حتى كان الرفاق السوريون، بالتنسيق مع ضباط ناصريين ومستقلين، يستولون على السلطة في دمشق.

    يومها بدا البعث ملك المشرق المتوّج، يخاطب جمال عبد الناصر مخاطبة ندّ لندّ. وقد سجّلت العدسات لميشيل عفلق، الكئيب والمُمسك، عدداً من الصور الباسمة التي قدّمته في هيئة من يهمّ بالضحك.

    مع هذا، فمن منظور المسافة الفاصلة بين العراق والحزب الذي يتنطّح لحكمه، لم تكن أسباب القلق بسيطة.

    لقد عُـدّ البعثيون هناك 15 الف شخص، علماً بأن الأعضاء العاملين لم يكونوا يتجاوزون الـ 830. فتزايد المؤيدين والأنصار والمرشحين لم يُخلّ بمبدأ النقاوة التي تجعل البعثيين الكاملي البعثية أقرب الى "سيكت" هندوسي. وهو مبدأ حوفظ على العمل به خلال الأشهر التالية للحكم الحزبي.

    لكنْ لأن حزبية العسكريين كانت حديثة العهد من دون ان تحظى بثقة رفاقهم المدنيين، بدت الحاجة الى الحرس القومي ضاغطة وقاهرة. فهو الذي يوازن مع الجيش من دون ان يعرّض صفاء التراتُب الحزبي والتنظيمي لأي تلوّث. كما انه الطرف الذي يستطيع سحق الخصوم، شيوعيين أو غير شيوعيين، من غير أن يرتد سلاحه الى صدور البعثيين أنفسهم.



    عبد السلام عارف.

    وبالفعل أفضى انقلاب شباط، لا سيما بسبب انتهاكات الحرس القومي، الى مقتل الآلاف، ناشراً فوق العراق غيمة دموية كثيفة. وفيما كان حكم الإعدام يُنفّذ بعبد الكريم قاسم، انطلق من عقاله ثأر مجنون يستدعي الشيوعيين من بيوتهم للتصفية الجسدية. وبينما قُتل عدد من قادتهم، قضى أمينهم العام حسين الرضي، المعروف باسمه الحركي سلام عادل، تحت التعذيب.

    فردّاً على اشتهار شيوعيي 1959 بالسحل، اشتُهر البعثيون والحرس باستخدام وسائل وطرق غير معهودة في السجن، كالأسلاك الكهربائية المزوّدة بكلاّبات، والإجلاس على خوازيق الحديد المدبّبة، وقصّ الأصابع ورميها في أركان السجن المهملة. وفي الأيام الأولى للانقلاب، فاض المعتقلون عما هو متوافر من معتقلات، على ما شهدنا في تشيلي بعد عشر سنوات بالتمام، ففُتحت لهم النوادي الرياضية ودور السينما وقاعات الرياضة وملاعبها. وتبدّى، في هذه الأثناء، ان المطلوب لا يقل عن الاجتثاث المادي الكامل لا للشيوعية فحسب بل للشيوعيين أيضاً.

    وبالفعل ثأر البعثيون من تمرد العسكريين الشيوعيين الذي عُرف بحركة حسن السريع، او انتفاضة 3 تموز، بأن حدّثوا القتل العراقي وصنّعوه. وكان المِـعلم الذي لا يخطىء "قطار الموت" الشهير الذي اتجه الى الجنوب والصحراء مودياً بعشرات الشيوعيين، والبعض يقول بمئاتهم. وإذ زوّد الحدثُ المذكور "حزب فهد" فصلاً آخر ضمّوه الى بكائياتهم الفولكلورية، نمّ عن سادية تُرجم اليها، للمرة الأولى، معنى "الانقلاب" الذي بشّر به ميشيل عفلق.

    لكن على رغم وجود خمسة شيعة في قيادة البعث القطرية يومذاك، قياساً بثلاثة من السنة، وعلى رغم ان كثيرين من قياديي الحزب الشيوعي ممن سقطوا في المجابهات كانوا سنيين، لوحظ ان مقاومة الانقلاب لم تصدر الا عن مناطق سكن شيعي. وقدّم التدقيق في تركيب قيادات الحكم الجديد تفسيراً متأخراً لما حصل. فقد ضم "مجلس قيادة الثورة"، وهو السلطة الأعلى، 16 بعثياً من أصل 18 عضواً. لكن العضوين الضيفين كانا عبد السلام عارف، بوصفه أكبر رموز التيار القومي يومها وأهمّهم، وعبد الغني الراوي. والاثنان عسكريان سنيان عُرفا بالتزمت المذهبي والنزوع الاسلامي، حرص أولهما على تسمية الشيعة بـ"الرافضة" ونعتهم بـ"الشعوبية"، جرياً على تقليد عريق في التمييز الطائفي. وحين تشكلت الحكومة نال البعثيون 12 حقيبة هي الحقائب الأساسية للداخلية والدفاع والخارجية، لكن الـ9 الباقية احتلها بعض الغلاة كمحمود شيت خطاب المعروف بتعاطفه مع الاخوان المسلمين وشيعة محافظين ومناهضين للشيوعية.

    وانقسم أعضاء مجلس قيادة الثورة، من ناحية أخرى، الى 8 مدنيين و10 عسكريين، توزعوا الى 12 سنياً و5 شيعة وكردي واحد. ذاك ان الضباط منهم، بمن فيهم البعثيون، كلهم عرب سنة تبعاً للتكوين الذي وسم الجيش العراقي تاريخياً. بيد ان الأغلبية الساحقة للأعضاء البعثيين عادت الى بلدات ريفية في دجلة الأعلى، كتكريت، أو في الفرات الأعلى. وبالحساب الطبقي، صدر 6 من اعضاء المجلس عن فئات دخل متوسط، و8 عن فئات دخل متوسط أدنى، و4 عن طبقات دخل منخفض. لكن الأدلّ ربما أن 4 منهم فقط كانوا من بغداد، مع ان 10 منهم انتقلوا اليها أو ولدوا فيها لعائلات مهاجرة من الريف، بينما انتسب 5 أعضاء الى بلدات محافظة صغيرة. وكان 4 من أعضاء المجلس في عشرينات أعمارهم و11 في الثلاثينات و4 في الاربعينات. لكن صغر السن لم يترافق مع غنى في التجربة أو المعرفة والثقافة مما خلا الحزب منه. ولم يكن ينقصه الا انشقاق قبضة من البعثيين البغداديين عنه قبل عام على الانقلاب، جرّاء تأثّرهم بترجمات وجودية تناهت اليهم. فذلك ما زاده فقراً على فقر.

    ولم يملك العهد الجديد برنامج حكم، ولو في أدنى الحدود. فحين طُلب الى القيادة القومية في دمشق تولّي المهمة، أرسل القياديان البعثيان، الأردني منيف الرزاز والسوري عبد الله عبد الدائم، عدداً من الأوراق تزخر بالعموميات وتقل عن أصابع يد واحدة. فلا الرزاز وعبد الدائم على بيّنة من هموم العراق، ولا النص العفلقي الذي شبّا عليه يقدّم أو يؤخّر في معالجة أمور محددة وتفصيلية.

    وأمام الامتحان الفعلي للواقع سطع بؤس البعث في الأفكار، وبدا بعثيو العراق، وهم الأشد بؤساً بإطلاق، مدعاة للرثاء: ففي وجههم ينتصب مجتمع شديد التعقيد بتركيبه القومي والديني، الاثني والايديولوجي، فضلا عن تعقيد اقتصاده النفطي وموقعه الجغرافي السياسي. وهم، رغم كل شيء، يريدون أن يحكموه بقوة الإرادة أو إرادة القوة.

    واستجابةً للتحديات الضخمة، لم يتضخّم الا الحرس القومي. فهؤلاء الذين بلغ تعدادهم 5 آلاف يوم 8 شباط 1963، قفزوا في ربيع العام نفسه الى 21 ألفاً، وفي صيفه الى 34. وقد عبّر صِـبية السعدي في اقتحاميتهم عن إرادة السلطة والقوة بأكثر تأويلات النيتشوية ابتذالاً، ضداً على العقل والواقع. فأصرّوا، بالرغم عنهما، على "تعريب" العراق الذي تسيطر عليه "شعبوية" شيوعية.

    لكن الأهم في تجربة الحرس، لا سيما بعد الاخضاع الدموي للشيوعيين وتنحية خطرهم جانباً، أنهم الكتلة التي بها يوازن البعث المدني كتلة الجيش في السلطة الجديدة. فباستثناء العداء المشترك للشيوعية الذي جمع الضباط اليمينيين بالصبية، لاح الخلاف واضحاً بين طرف يريد إرساء ديكتاتورية عسكرية مستقرة، وآخر يسعى الى تحويل البلاد ميداناً تجريبياً للحيوية الفائضة. وبالفعل أقام في الحرسيين، ومعظمهم قادمون جدد الى المدن، أو من سَـقطها وهوامشها، شيء من رعونة جنود لين بياو الصينيين والخمير الحمر لبول بوت. لكن تجربتهم كثيراً ما مثّلت كاريكاتوراً عن تجربة الأس آي SA النازيين ممن قادهم أرنست روهم وبلغ تعدادهم مليونين قبل ان يصفّيهم الجيش الالماني، عام 1934، في "ليلة السكاكين الطويلة".



    احمد حسن البكر.

    وكانت أعناق الحرس القومي في انتظار السكاكين. فميشيل عفلق والقيادة القومية المتعاطفان مع العسكر ومعتدلي الحزب، انتقدا وحشية الحرس واللجوء المبالغ فيه الى القمع والتعذيب. وجعل الجيش يعبّر، بصوت مسموع، عن نفاد قدرته على التعايش مع مجموعات تتوسّع صفوفها في منافسة مفتوحة مع سلطته، وتمتص شباناً لا تحدّ الأنظمة والمعايير قدرتهم على الاستباحة. والحال أن انتهاكات الحرس تعدّت الشيوعيين والمنافسين والمصنّفين كذلك، الى الجنود والضباط بمن فيهم بعثيون كوفئوا، على الحواجز، بالاهانات والأذى المحض.

    واصطبغ صراع الجيش والصبية المسلحة بمنافسة حازم جواد المعتدل وعلي السعدي عرّاب الحرس الذي أقبل على يسارية شعبوية مُستجدة. وإذ أصر جواد على التمسك بالشراكة مع عبد السلام عارف، دفع السعدي مبكراً باتجاه التخلص منه واعلان سلطة حزب واحد بلا شريك.

    والراهن ان الخلاف ظهرت نُذره بعد ثلاثة أيام فقط على انقلاب شباط، فطالب عارف ومعه عسكريو الحزب ومحافظوه بعدم تعديل قانون الأحوال الشخصية وعدم الإقرار بحقوق جديدة للمرأة، مراعاةً للدين، كما تمسكوا بموقف ودي حيال مصر وعبد الناصر والناصريين. وتبنى السعدي ومؤيدوه، في المقابل، خطاً ثورياً على الصعيد الاجتماعي تتخلله عصبوية حزبية حيال غير البعثيين، ونبرة وطنية عراقية حيال مصر.



    علي صالح السعدي.

    وكرّت السبحة بتأثير ما كان يجري عربياً، خصوصاً في سورية. فتردي علاقات البعث السوري مع الناصريين عكس ظله على العراق، حيث امتدت شفرة القمع الى بقايا الاستقلاليين و"حركة القوميين العرب" وبعض ضباط متعاطفين مع القاهرة. وبعدما عُقد اتفاق للوحدة الثلاثية المصرية - السورية - العراقية في 17 نيسان (إبريل) ثم انهار، خرجت الأطراف المعنية بقراءات متضاربة للحدث: فعبد الناصر رأى ان البعث في دمشق لم يُرد الوحدة أصلاً، بل أراد المماطلة واستغلال الوقت لتصفية الناصريين وتوطيد موقعه المهتز في السلطة. أما بعث العراق، في التأويل المصري، فجرّه الرفاق السوريون وراءهم الى الجحيم. وبدوره قرر الحزب العفلقي وضباطه أن القاهرة ترفض الوحدة الا متى كانت مبايعة كلية لديكتاتورية عبد الناصر.

    وفي 18 تموز، ومع محاولة الضباط الناصريين السوريين الانقضاض على السلطة، سقط ميثاق نيسان الوحدوي فاتحاً الباب للقمع الدموي. وانجرّت بغداد الى المساجلة البعثية - الناصرية الحادة حتى استحال الحفاظ على المظهر الخارجي الواحد للبيئة القومية السنية في العراق.

    ولم ينجح الحكم الجديد، في المقابل، في تأسيس موقع لنفسه، إقليمياً ودولياً. فهو، في عدائه المُرّ للشيوعية، ناوأ السوفيات في الحرب الباردة من دون ان يكون مقبولاً من المحافظين العرب. وضاعف هذا الموقع الملتبس أن البعث الحاكم في بغداد ودمشق اختار، حيال الحرب اليمنية آنذاك، موقع المزاودة الجمهورية والراديكالية على عبد الناصر.

    واذا حفظ البعض اشارة ملك الأردن حسين الى ان انقلاب 8 شباط جاء مدعوما من المخابرات الأميركية المهجوسة يومها بمحاربة الشيوعية، "اعترف" السعدي نفسه، بعدما انهارت تجربة الحكم البعثي، انه ورفاقه وصلوا الى السلطة "بقطار تقوده أميركا". وقد ألمح لاحقاً عدد من مؤرخي تلك المرحلة الى أدوار لعبها الملحق في السفارة الاميركية ببغداد وليم لايكلاند في هذا الاطار. كذلك أُشير الى المهمة التي كُلّف بها جيمس كريتشفيلد المختص بـ"التغلغل الشيوعي" والذي استدعي لهذا الغرض الى الشرق الأوسط. والمهمة المقصودة كانت تنسيق التعاون مع البعثيين، ما تحمس له بعض الحزبيين العراقيين واللبنانيين فيما اعترض عليه بعثي سوري هو، كما تمضي الرواية، جمال أتاسي.

    وكائناً ما كان الأمر، فباكتمال عناصر الانشقاق البعثي الناصري، وفي ذروة الخلاف داخل الحكم حول الحرس القومي، تجددت الحرب مع الأكراد في حزيران، بعد انفتاح عليهم وتمثيلهم الشكلي في الحكومة. ولئن بدا لوهلة أن هذه الحرب التي لقيت الإنجاد العسكري من دمشق، أسبغت قدراً من توحيد السلطة، جاءت انتخابات المؤتمر القطري في أيلول (سبتمبر) تُظهر تسرّع المتفائلين. فقد انتُخب السعدي وأنصاره للقيادة فيما راح ميشيل عفلق ومؤيدوه يتذمرون من تصاعد "نغمة يمين ويسار" في الحزب. وكان السعدي إذّاك يتهيأ للمؤتمر القومي السادس معلناً عن "ماركسيته" و"اشتراكيته العلمية"، بالتحالف مع البعثي السوري حمود الشوفي. وسيطر الاثنان، بدعم من العسكريين و"القطريين" السوريين، على المؤتمر الذي عُـقد في دمشق في تشرين الثاني (نوفمبر)، مع أن صوتاً واحداً من الأعضاء العراقيين ارتفع ضد السعدي، كان صاحبه يُدعى صدام حسين التكريتي. فحين أراد بعثيو العراق، في 11 من الشهر نفسه، استئناف مؤتمرهم القطري في بغداد، مُـعزّزين مواقعهم بزخم المؤتمر القومي السادس، دخل العسكريون وحلفاؤهم القاعة فاعتقلوا السعدي ورفاقه ووضعوهم على متن طائرة هبطت بهم في مدريد. وعندما رد الحرس القومي في الشارع كما قصف الونداوي قصر عبد السلام عارف، حسم الأخير الصراع منقضّاً على البعث بأطرافه جميعاً.

    هكذا أطيح الحزب العفلقي في 18 تشرين الثاني ولم يكن قضى في الحكم اكثر من ثمانية أشهر وعشرة أيام. لكنها بدت كافية كي ينفجر العراق بين يديه، وتتفجّر تحالفات ثلاثة: ذاك الذي وحّد أشتات القوميين، والذي وحّد مدنيين وعسكريين في هذا النطاق، وأخيراً حلف الغموض العروبي بين شبان سنة وشيعة. وهي أحلاف نهض عليها البعث وأسس سلطته. وكان اكثر الانفجارات سطوعاً ودوياً أن عسكريي الحزب وقفوا مع عارف، أو تواطأوا، ضد يسار حزبهم. وكان في مقدّم هؤلاء حردان التكريتي، الذي تولى قصف الحرس القومي وسمّي نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، وطاهر يحيى الذي عُين رئيساً للوزراء، ورشيد مصلح الذي غدا وزير الداخلية والحاكم العسكري العام، وبالطبع أحمد حسن البكر رئيس الحكومة الذي رُفّع الى نيابة رئاسة الجمهورية. وهؤلاء، ممن أشرفوا على وصول البعث الى السلطة، ثم أشرفوا على إزاحته عنها، كانوا كلهم، بالولادة أو بالأصل، من تكريت وجوارها.

    لقد تبيّن ان العداء لعبد الكريم قاسم والشيوعيين هو وحده ما حافظ على تماسك البعث، تماماً كما حافظت معارضة الشيشكلي على تماسكه العارض في سورية. أما تذليل صعوبات حكم العراق، ناهيك عن توحيده، فمسألة أخرى تستدعي أشخاصاً آخرين، أو بالأحرى شخصاً آخر.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    3
    بعد أن تناولت الحلقة الثانية قيام سلطة البعث في 1963 وانهيارها، هنا التتمة:

    بسرعة وبخفّة تحطمت آمال البعثيين، وبات على حزبهم أن يُبعث، هو نفسه، من الصفر.

    المطلوب كان علي صالح السعدي آخر، يشبه الأصلي صلابةً وتآمريةً، ويفوقه جديةً وولاءً لقيادة عفلق، فضلاً عن سلاسة العلاقة بعسكر الحزب مما افتقر اليه السعدي.

    وفي الميدان كان صدام. فعفلق لم ينس ذاك الشاب الذي كان من أقليي الوفد العراقي الى المؤتمر القومي السادس وتجرأ على يسار الحزب، مبرهناً على ولاء مطلق لـ"القائد المعلم". هكذا اقترح، في شباط (فبراير) 1964، وفي المؤتمر السابع، ترفيعه الى عضوية القيادة القطرية للعراق.

    والمؤتمر السابع جاء رداً على سابقه، فأعاد الاعتبار الى القادة التاريخيين، وكانوا في أمسّ الحاجة اليه. وتبدّت الثأرية حيال العراق خصوصاً، فطُرد السعدي وجناحه وانتُخبت قيادة قطرية مطواعة. كذلك كُلّف المكتب العسكري للحزب، بقيادة أحمد حسن البكر، إعادة بنائه التي تولاها فعلياً قريبه الصاعد، صدّام.

    والأخير لم يكن اسمه متداوَلاً خارج أوكار البعث. فهو، تبعاً لقليل عُرف عنه، ولد في قريته العوجا التي تبعد تسعة كيلومترات عن تكريت، وكان ذلك عام 1937، ويُرجّح يوم 28 نيسان (ابريل). أبوه حسين المجيد توفي مبكراً، فاقترنت أمه، صبحة طلفاح، بابراهيم الحسن الذي كره نجلها وظن أن الفلاحة أشد ملاءمة له من المدرسة. ويبدو ان ابراهيم عالجه بالعنف، وربما فعل ذلك رفاق صغار يرون في اليُتم وزواج الأم مصدر استضعاف.

    وعلى العموم تأسس في صدام الصغير استعداد للعنف ما لبث أن وقع على ما يغذّيه. فقد هرب الى خاله الذي كان من صغار الوجهاء في تكريت، فأهداه مسدساً وربّاه في كنفه. لكن الخال خير الله طلفاح، الذي عمل منذ سنوات مُدرّساً، كان ينتقل شتاءً الى بغداد، فيعهد بالصغير الى أخته، خالة صدام، ليلى.

    وقصةٌ كهذه نمطية لجهة ابتدائها باليُـتم، وهو الفصل الأول في سِـيَـر عظماء وأنبياء وقادة كثيرين. لكنها، كذلك، حالة انثروبولوجية ممتازة. فهي عيّنة أخرى على الانحياز الى أهل الأم مُرفقاً بتفضيل العشيرة، حيث "تؤخذ الدنيا غلابا"، على الفلاحة والاستقرار في أرض رتيبة.

    مع هذا ربما كنّ صدام بعض الحسد لابن خاله ورفيق طفولته، عدنان خير الله. ذاك أن الأخير عاش في بيت أبيه، وكان يصحبه شتاءً الى بغداد، مخلّفاً صدام في الوحشة التكريتية التي لم يغادرها الى العاصمة حتى 1957.

    غير أن هدية المسدس للشاب النحيف الذي أوحى للناظرين اليه ضعفاً في بُنيته، لم تكن من صنف الهدايا الرمزية. فبين أصدقاء طفولته من نسب اليه مهارات يلزمها العنف، كالتحايُل على عدّاد الكهرباء الحديثة الوفادة الى تكريت، وإحداث تفجيرات تقتل السمك النهري الذي لا يلبث ان يطفو. ويُعزى الى صدام الفتى كرهه الغناء لـ"ميوعته"، وابتعاده عن الفتيات، وسعي الى التزعّم والوجاهة لا يكلّ، كما يُنسب نجاح ملحوظ في المدرسة الابتدائية بتكريت.

    ويبدو ان شاباً من الأعظمية، رياضيا ولاعب كرة قدم، اسمه عطا محيي الدين، حمل البعث الى منطقته التي لم تكن مكاناً تخافه السلطة. فقد اختار الحكم تكريت منفىً لعبد الرحمن البزاز، عميد كلية الحقوق والسياسي اللاحق، عندما عارض "حلف بغداد". ويُذكر ان خير الله نفسه كان من مرتكزات السلطة هناك فأيّد، أواسط الخمسينات، مرشحها علاء الدين الوسواسي، المحسوب على خليل كنّه المقرّب من نوري السعيد.

    ولئن قالت الرواية الرسمية إن صدام انتسب الى البعث في 1955، ذهبت رواية أخرى الى ان محيي الدين مَن نظّمه كـ"نصير" في 1959، وسريعاً ما ضُم الى المكلّفين اغتيال قاسم. فهو، وإن لم يكن عضواً عاملاً، ذو رصيد رشّحه لأدوار كهذه. ذاك ان ثمة من يجزم بإطلاقه النار على مدرّس كردي في تكريت نفسها، ومن يتحدث عن توقيفه لقتله ضابط صف. اما الواقعة الأوسع انتشاراً، رغم اختلاف في التفاصيل، فاعتقاله وخاله، أواخر 1958، وقضاؤهما في السجن ستة أشهر لاتهامهما بقتل قريبهما الشيوعي الحاج سعدون. ومما يُروى أن انقلاب تموز (يوليو) كان عيّن خير الله مديرا لمعارف لواء بغداد، لكن سعدون هذا رفع مذكرة حزبية استهجنت التعيين وسمّـته أحد "الرجعيين أعداء الثورة والزعيم". وخسر خير الله عمله فكلّف ابن شقيقته وربيبه أخذ الثأر.

    لقد شابه صدام، العنيف والمنطوي، شبان شلل وأزقّة يعرفهم المشرق كما يعرفهم الجنوب الايطالي، ممن غدت القرابة وسيطهم الى العالم الخارجي، يقتلون من أجلها ويُقتلون. وتكريت التي حاكت صقلية في التفلّت من سلطة الدولة عرفت، بحسب البعض، "تقليداً" مُبكراً سمّاه أهلها "كسر العين": فحين كان وجهاؤها يدعون الوالي العثماني وعائلته الى زيارتها، كانت حفنة من شبانها تربض للموكب لدى عودته فيعتدي أفرادها على نسائه خصوصاً. وبهذا يضمنون سكوت الوالي عنهم بعدما "كُسرت عينه" في موضع حسّاس.

    وصدّام، سليل هذه "التقاليد"، حملها معه الى العاصمة. وقد أشارت رواية عنه الى أنه حاول الانتساب الى الكلية الحربية، أسوة بالتكارتة الذكور، ولم يُقبل. أما ثانوية الكرخ حيث تسجّل، فلم يكمل دراسته فيها، وثمة إيحاءات بأنه فاق سناً رفاق صفّه، ما يعزّز عند صاحبه البَرم بالدراسة عادةً، كما يقوّي مواهب التزعّم على الأصغر بينهم، والتباهي بالعضل على الأنبه فيهم. ولما أقام خير الله في الجعيفر، وهي من أحياء الكرخ ومعقل للقوميين ثم البعثيين، سكن عنده ابن أخته، فاستأنف دوره كأداة عضلية لتصفية حسابات الخال.

    وربما شارك صدام في مظاهرات القوميين تأييداً لمصر الناصرية، كما يذهب البعض، وربما حمل مسدساً وسُمي "أبو مسدس"، كما يرى بعض آخر ناعتاً اياه بقيادة رعاع الجعيفر وتهديد أصحاب دكاكين لا يقفلون لدى الدعوة الى الاضراب.

    لكن الظاهر أن خير الله الذي نُعت بالصلابة بقي قدوة صدام الصالحة. والخال لم يكن مجرد موظف ووجيه ثانوي يحرّض على القتل. فهو أيضاً كان ضابطاً قومياً صغيراً شارك في انقلاب الكيلاني عام 1941 وسُرّح في عداد 324 ضابطاً متعددي الرُتب. ولئن لم يخلّف ما يشي بـ"أفكاره" آنذاك، نشر أوائل الثمانينات، إبان الحرب مع إيران، كرّاساً يحمل عنواناً غريباً وبالغ الوضوح في آن: "إن الله أخطأ في خلق ثلاثة أشياء - الفرس والذباب واليهود". كذلك "شرح" الخال و"علّـق على" أحد الأعمال اللاسامية الغربية المترجمة، وهو كتاب وليم كار "اليهود وراء كل جريمة".

    وبمثل هذه الأفكار في بيئةٍ الدمُ فيها رخيص، نشط صدام، بُعيد 1958، في العصابات القومية التي تصدّت لانتهاكات منظمات "المقاومة الشعبية" مما أقامه الشيوعيون. ومراتٍ عدة أُوقف لفترات قصّرتها ثانوية موقعه الحزبي، أو عدم تأكّد السلطات من حزبيته. لكن اشتراكه في محاولة اغتيال قاسم بعد عام، هو ما رفعه صدام نفسه حدثاً مؤسساً لسيرته السياسية. وهنا أيضاً تتعدد الروايات حول مصدر اختياره، ويبقى الثابت ان المحاولة كانت عمل هواة ارتبكوا واصطدموا في ما بينهم، فحين سقط أحدهم، عبد الوهاب الغريري، تركوه وراءهم، ما مكّن السلطة من كشفهم تباعاً. وكان دور صدام الفعلي ثانوياً، وهو تأمين التغطية لمطلقي النار. الا ان المبالغات اللاحقة التي نقلتها كتب وأفلام سينمائية وتلفزيونية، أسبغت عليه بطولة أسطورية، فكان مما قيل إنه استخرج رصاصة حلّت في ساقه بسكين كان يحملها. وعزا صدام الى ذاته عبوراً موسَوياً للصحراء قاده الى سورية، فيما كانت محكمة المهداوي الشهيرة تصدر عليه حكمها الغيابي بالموت.

    وبحسب تحسين معلّة، الطبيب البعثي الذي عالجه، كان جرحه سطحياً نسبياً. وهو ما أكده أيضاً الصيدلي البعثي هاني الفكيكي الذي اعاد تضميد الجرح في سورية. بيد ان البعث الميّال الى الالتحام في الخرافة يعوزه الأبطال بإلحاح لا يتعب. ومن هذا القبيل عززت صلابةُ صدام، الفعلية جزئياً والمصنوعة جزئياً، موقعه في حزب عضلي كحزبه. وفعلاً بدأ يبزّ صديقه عبد الكريم الشيخلي، المتقدم عليه في عملية الاغتيال، وفي البعث، وتالياً في الشلّة التي ضمت ناظم كزار وسعدون شاكر وآخرين.

    وعلى خلاف المعايير الصارمة المتبعة، حصل التكريتي الشاب على العضوية الكاملة بعد شهرين او ثلاثة. يومها كان في دمشق وربما أتيح له هناك ان يشاهد عفلق ويتبرّك به، فازداد عتوّاً. ومثلما تفاوت صدام مع تلامذة الكرخ، ممن كانوا أصغر وأنبه، شرع يتفاوت مع الحزبيين ممن كانوا أعرق حزبيةً وأقل عضلية. وهذا ربما فاقم فيه ميلاً الى كسر المعايير والأُطر وإعادة صوغها بما يجافي منطق التدرّج المألوف.

    وانتقل صدام الى القاهرة مع عشرات من بعثيي العراق كان في عدادهم الشيخلي. فهؤلاء قرروا استكمال دراستهم هناك، فيما ينتظرون اللحظة الحاسمة في بغداد. ولئن تسجّل في ثانوية قصر النيل في الدقّي، حيث تخرج في 1961، بقي ابان سنواته المصرية لاجئاً سياسياً مأخوذاً بأحداث بلده يعيش، كسائر اللاجئين، على معاش متواضع تقدمه القاهرة. ولم يُعرف الكثير عن دراسته، فيما روي انه طالع بضعة كتب عن سِـيَـر العظماء، خصوصا ستالين. وقد لاحظ البعثي السوري حسين حلاّق، مسؤول احدى الخلايا التي تعاقب عليها صدام، انه لم يجد فيه ما يسترعي الانتباه. مع هذا ظل نشاطه بين البعثيين شاغله الأبرز، فانتُخب عضوا في قيادة فرعهم في مصر.

    وربما تخوفت المخابرات المصرية من ان يكون في حوزته سلاح. وربما عرّضته لمضايقاتها، لا سيما وقد وقف البعث موقفاً ملتبسا من الانفصال. كذلك تردد أن السلطات أوقفته لتهديده بالقتل مواطناً عراقياً وناصرياً يقيم في القاهرة. اما الرواية الرسمية العراقية اللاحقة فتفيد انه أُوقف فترة قصيرة لاصطدامه بمن كانوا يتجسسون عليه لصالح المخابرات.

    غير ان صدام الذي اختُصر عالمه في الحزب والحزبيين العراقيين، لم يكسب أصدقاء مصريين ما خلا بوّاب بنايته. حتى الدراسة، حيث تسجل في جامعة القاهرة لدراسة القانون، ما لبث ان تركها. لكنْ في القليل من حياة شخصية عرفها احتفل، خلال 1962، بعقد قرانه على ابنة خاله، المعلمة الابتدائية، ساجدة خير الله طلفاح. وكانت العروس التي تنتظره في بغداد "أعطية أبٍ" وعده بها الخال قبل سنوات عدة. فعندما عاد، في آذار (مارس) 1963، الى العراق اكتمل الفرح. على أنه، قبل رجوعه، زار الاسكندرية والأقصر، وترك وراءه صُوراً تدل الى اهتمامه بحسن الهندام وبالمظهر امام الكاميرا.

    بيد ان قيام حكم الحزب، وهو ما سبق عودته بأسابيع، لم يكافىء طموحه. فالانقلاب الذي كان بعيداً عن مجرياته، حدّ من صعوده البادىء بانتقاله الى دمشق. فهو إذّاك لم يكن بعد من رجالات الصفّ الأول، الأمر الذي غذّى كراهيته للسعدي. وعمل صدام في المكتب الفلاحي التابع للبعث، ويبدو انه تورط في ارتكابات الحرس ولجان تحقيقاته في الجعيفر قبل ان يحتدم خلاف الحرس والعسكر، فيما كان الشيخلي وكزار وشاكر وعمّار علوش وخالد طبرة وعزت الدوري، بائع الثلج المتجوّل وذو التعليم الابتدائي البسيط، من البعثيين الذين نشطوا معه في الجعيفر.

    لكن اسمه عاد، أواخر حكم البعث، الى الصدارة مرتبطاً بتأييد أقاربه العسكريين ويمينيي الحزب. فذُكر، مثلاً، أنه أبدى استعداده، ابان استفحال الخلاف، لاغتيال السعدي وإنهاء الموضوع. وكان ممن شاطروه آراءه، محاولين إضفاء قدر من اللباقة عليها، موظف الاذاعة والصحافي البعثي والمسيحي طارق عزيز.

    هكذا فحين شنّ هجومه في المؤتمر السادس، كان يستحيل ألاّ يلفت نظرَ عفلق الذي استرعته شجاعة المتحدث وفضائحية الحديث. فقد اتهم صدام اليساريين برشوة العمال والفلاحين، كما عيّرهم بالفساد. ولم يَـفتْـه التعريض بالسعدي المرهوب الجانب، فعزا اليه الاساءة الى هيبة الحكم والتردد على الحانات والمقاهي.

    وقد نُسب الى صدام، قبيل انقلاب عبد السلام عارف ومعه ضباط البعث، أنه شارك في اقتحام المؤتمر القطري في 11 تشرين الثاني (نوفمبر). كذلك قيل إنه تسلم الاشراف السياسي على الاذاعة فأذاع، هو وطارق عزيز، بيانات باسم القيادة القومية تحض الحزبيين على عدم المقاومة. وذُكر، في السياق نفسه، ان الحرس القومي في الصالحية احتجزه ورفاقه في المكتب الفلاحي يوم 15 تشرين الثاني، قبل ان يسيطر عارف ويُهزم الحرس.

    على ان صعود الشاب التكريتي الى القيادة لم يكن التغيير الوحيد الذي طرأ على بعث العراق. ففي المؤتمر السابع نفسه، قرر عفلق والقيادة القومية تشكيل قيادة قطرية ضمت، الى البكر وصدام، عدداً من الحزبيين السنّة، معظمهم من تكريت، وأكثر من نصفهم عسكريون. وبذا غدا البعث أكثر تجانساً إنما أقل تمثيلاً وأضحى، بالتالي، أقرب الى التماهي مع منطقة وجماعة بعينهما. فبعدما شكّل الشيعة في قياداته القطرية خلال 1952-1963 ما يتعدى النصف، قلّ حضورهم بين 1963 و1970 عن 6 في المئة. ذاك أن تعاظم دور العسكر في الحزب حدّ تلقائياً من نفوذ الشيعة فيه تبعاً لضعفهم التقليدي بين الضباط. وإذ أيّد معظم بعثييهم السعدي وجناحه، انصبّ القمع في عهد عارف عليهم دون رفاقهم السنّة. فالأخيرون حمتهم صلة القرابة برجال الشرطة ذوي الاستعداد التمييزي أصلا.

    وتغذّت التوجهات الجديدة، ومنها ولاءات الدم والمنطقة، على ضعف الرابط العقائدي. لكنها رست، كذلك، على درس مثلّث الأضلاع استخلصه صدام من انهيار 1963. فالحزب، أولاً، ينبغي ألاّ يضم أجنحة كالتي عصفت به وقضت على حكمه، ما يستدعي القيادة الواحدة التي تؤمر فتُطاع. ثم ان العسكريين، لا المدنيين، ينبغي ان يكونوا أداته الضاربة، بعد ان يتوافر لهم القائد الذي لم يكن في 1963. أما ثالثاً، فهذه اللحمة بين العسكريين، وبينهم وبين قائدهم، يصعب توطيدها ما لم تؤسس على القرابة والمنطقة وما تيسّر من عقيدة. ولصدام المدني كانت التكريتية وحدها ما يعوّض عدم صدوره عن جيش فشل السعدي في ترويضه.

    وهنا تكتسب تكريت معناها. فكثرة العسكريين فيها، وفي الدُوْر المجاورة، ترقى أصولها الى اواخر القرن التاسع عشر: آنذاك أدى تحديث نظام الملاحة النهرية الى تراجع حرفتهما التقليدية، وهي انتاج "الأكلاك" أو المراكب الصغرى المصنوعة من جلود منفوخة. وهذا ما أفضى الى هجرة صوب العاصمة والاقامة في ما عُرف بـ"حي التكارتة". ولئن تحول بعضهم عمالاً لبناء السكك الحديد، أو في خط انابيب النفط K2، انتسب كثيرون منهم الى الكلية العسكرية الملكية بفضل مولود مخلص. فالأخير، وهو ضابط فيصلي وسياسي مقرّب من فيصل الأول، استخدم نفوذه لصالح التكارتة، عاملا على تسهيل تنسيبهم. ومولود نفسه كان ابناً لكلكجي (صانع أكلاك) من تكريت، ومنها تزوج فتاة تمتّ بقرابة الى أحمد حسن البكر. والأهم، ربما، أن الأراضي الخصبة والوافرة التي أقطعه إياها العرش كانت في تكريت.

    الا أن تحولات أخرى كانت تتسارع في دائرة السلطة. فحينما استولى عارف عليها، احتفظ بكبار العسكريين البعثيين ممن تواطأوا معه لإطاحة الحرس، ولو أن المناصب والأدوار التي تولّوها بقيت احتفالية. لكنه، في ربيع 1964، استغنى عنهم بهدوء ولياقة، وكان في عدادهم "نائبه" البكر.

    وباشر عارف تصليب حكمه بالاعتماد على طرفين: أقاربه من عشائر الجُـمَيلات في محيط مدينة الرمادي، وأبرزهم العقيد سعيد صليبي الذي سلّمه "الحرس الجمهوري"، تلك الوحدة النخبوية التي أنشأها وحشد فيها أبناء الجُميلات، وبعض كبار الضباط القوميين والناصريين كعارف عبد الرزاق وصبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان. أما من البعث فأبقى على من غادروه كلياً منحازين قلباً وقالباً اليه، كطاهر يحيى الذي لم يحمل حزبيته مرةً على محمل الجد.

    ولم يتكاسل صدام والقيادة الجديدة ممن كانوا استعادوا عنوة ممتلكات الحزب التي استولى عليها أنصار السعدي. وفعلاً بدأوا التحضير لمحاولة انقلابية في أواخر أيلول (سبتمبر) أُجهضت في بداياتها، وانتهت به، هو والبكر وبعثيون آخرون، الى السجن. والحال ان التفكير في الانقلاب قبل بناء الحزب دل بصراحة على الاستراتيجية المغامرة المعتمدة طريقاً الى السلطة، حيث الأولوية للجيش و"الأهل"، كائنة ما كانت حال "التنظيم الشعبي" أو البعث. لكن خوفه من تكرار المحاولة التي قد تلقى دعم دمشق البعثية، حمل عارف على طلب قوات مصرية جاءت حمايةً لنظامه. وفيما تزايد ثقل الناصريين العراقيين في السلطة، توصلت القاهرة وبغداد الى تشكيل "قيادة سياسية موحدة" للبلدين في كانون الأول (ديسمبر).

    وبالفعل فخلال 1964-1965 طُرح عدد من المشاريع الوحدوية، كما اعتمد عارف نسر العربية المتحدة (التي تمسكت القاهرة باسمها رغم الانفصال) علماً لبلاده، بعدما أنشىء "اتحاد اشتراكي" عراقي على غرار مصر. لكن ما اعتبره النظام تراجعاً في خطر البعث، وكانت منازعات "القوميين" و"القطريين" في سورية تتوالى، دفعه الى الموازنة مع الناصريين. وفي هذا، ارتكز عارف الى قوى متضاربة وكيفما اتفق. فكان في عداد هؤلاء اسلاميون محافظون وقوميون ليبراليون كعبد الرحمن البزاز وزعماء عشائر. ولولا تزايد ريع النفط بفضل اتفاق حزيران (يونيو) 1965 مع "شركة بترول العراق" (أي بي سي)، لاستحالت إدامة حكم مفكك كهذا. الا ان تكليف البزاز تشكيل حكومة جديدة أنعش الآمال باستعادة حياة سياسية يتيحها تفكك السلطة وافتقارها الى أي قصد. وبانفجار مروحية جوية بعبد السلام في نيسان 1966 تبدى ضعف النظام وقد فقد رمزه الأوحد، دون أن يبرز في الأفق بديل. هكذا حل في الرئاسة شقيقه عبد الرحمن عارف الذي أعاد تكليف البزاز رئاسة الحكومة. وفاوض البزاز الاكراد للوصول الى تسوية لحرب الشمال، كما حدّ من امتيازات العسكريين وأوجد مناخاً يذكّر بتعددية ما قبل الجمهورية. الا ان العسكريين ممن تألّبوا عليه نجحوا في إبعاده، ما قدّم السلطة في صورة من الهلهلة والتبعثر سمحت للبعثيين ولغيرهم بالتسلل الى مواقع أمنية حساسة.

    وتبعا للرواية الرسمية، قضى صدام أياماً صعبة في سجنه، رافضاً وساطات طاهر يحيى للتعاون مع السلطة. لكن زوجته ساجدة أمكنها ان تزوره باستمرار، وكضابط ارتباط مع بعثيي الخارج نقلت اليه رسائل ملفوفة بثياب طفلهما، ابن الأشهر القليلة، عدي. وفي 23 تموز 1966 وبعد عشرين شهرا في السجن، هرب صدام والشيخلي. وكان سعدون شاكر، بحسب رواية أخرى، مُرتّب العملية.

    وبفعل تراخيه غض نظام عبد الرحمن النظر ومضى يطلق بعثيين آخرين. لكن صدام، وكما كوفىء قبلا عن محاولة اغتيال قاسم، كوفىء في ايلول باختياره أمينا عاما مساعدا للقيادة القطرية، متفرّغاً لبناء الميليشا الحزبية وتنظيم السيطرة على الشارع، فضلاً عن التوسع في إنشاء الخلايا العسكرية. وكان ممن برزوا في القيادة آنذاك الشيخلي، وكذلك مرتضى الحديثي وعبد الله سلوم السامرائي وعبد الخالق السامرائي وطه الجزراوي، الذي عُرف لاحقاً بطه ياسين رمضان، وصلاح عمر العلي وعزت الدوري. وبدا واضحاً دور الشللية وتجربة السجن في اختيار القادة الذين غدا ولاؤهم لصدام يفوق كل ولاء.

    لكن شيئاً آخر كان يجري فيما البعثيون معتقلون، وهو ما عزز واحدية المرجعية. ففي 23 شباط أطيحت القيادة القومية في سورية بانقلاب نفّذه العسكريون و"القطريون" اليساريون، فتمسك بعث العراق بشرعية القيادة العفلقية. ورب ضارة نافعة، إذ عمل خلافه مع انقلابيي دمشق على تحريره من كل وصاية، إيديولوجية أو أخلاقية أو سياسية، قد تمارسها قيادة من الخارج. وبعد عام ونيّف انشق الحزب الشيوعي وخرج "الغيفاريون" بقيادة عزيز الحاج ممن عُرفوا بـ"القيادة المركزية" وهذا، بدوره، طمأن البعثيين الى ان المنافسة الشيوعية غدت أضعف من ذي قبل.

    لكن هزيمة 67 ما شكّل المناسبة النموذجية لاصابة عصافير عدة بحجر واحد، خصوصاً أن بعث العراق يومها كان أينما ضرب أصاب. فالحزب الذي هُزم في سورية ليس الحزب "الأصيل"، بينما جمال عبد الناصر خصم وحليف للحكم العارفي، فيما الأردن يحكمه نظام "رجعي" أصلاً. اما ما بقي من منافسة شيوعية على استثمار ضعف النظام، فعالجه البعث بشفرة تآمرية لا يردعها رادع.

    وبالفعل ففي 6 ايلول قاد رجال صدام مظاهرة ضخمة، داعين الى العمل ضد "الطابور الخامس" المتسبب بالهزيمة. يومها كان السائد في بيئات عربية واسعة أن السوفيات مسؤولون عن نتائج الحرب لمطالبتهم عبد الناصر ألاّ يكون البادىء. ولأن السوفيات غدوا حليف النظام "القطري" في دمشق، أمكن العزف على الوتر اللاسامي القديم الذي يجمع الشيوعية بالصهيونية. وفضلاً عن الشيوعيين بدا من تبقى من يهود العراق هدفاً سهلاً، فاضطر الحكم الى إصدار سلسلة إجراءات ضدهم.

    ومع ان العراق لم يخسر في حرب 1967 الا عشرة جنود، نجحت المظاهرة الكبيرة بعزفها على الأوتار جميعاً في إعادة وصل البعث بالمناخ السني العروبي الذي أصابه العهدان العارفيان بخليط من الفتور والدوار. وجاء التركيز على "الخطر الشيوعي" في اليسار، موازياً للهجوم على حكومة طاهر يحيى في اليمين، لقلّة فعاليتها في الصراع مع اسرائيل وفسادها. والحال ان يحيى ظل، في نظر البعثيين، بروتوس الذي وجّه الطعنة القاضية وغير المتوقعة حين فضّل، وهو التكريتي، عبد السلام عارف على الحزب.

    وما كان البعث يصنعه فعلاً انما هو فتح أزمة عامة على مصراعيها، وهذا ما نجح فيه إذ أُبعد يحيى، وشرع عبد الرحمن عارف، من دون أن تكون له في الجيش كتلة خاصة، يبحث في نادي رؤساء الحكومات السابقين عن بديل. ولم يُستثنَ البكر نفسه، الا أن ضعف الاجماع في النادي السياسي العراقي بدا طاغياً ومعطّلاً. هكذا راح البعث، وقد استـُكمل الانسداد السياسي، يطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية فيما يتهيأ للانقلاب.

    والأبعد أن الصراع مع العارفين دار داخل دائرة سوسيولوجية وفكرية واحدة. فباستثناء الهامش الذي أتيح للبزاز، صدرت البيئتان عن مقدمات دينية ومذهبية، اجتماعية وفكرية، واحدة، ولو تمثلت مرةً بأهل الرمادي ومرةً بأهل تكريت. لهذا لم يقسُ عبد السلام عارف على البعثيين، ما خلا الحرسيين والشيعة منهم. واذا صح انه اعتقل البكر وصدام بسبب المحاولة الانقلابية، فهو لم يُجر أية محاسبة على ارتكابات 1963. وقد وجد كثيرون من المرتكبين مقاعد لهم في سلطته. فحينما تولى شقيقه عبد الرحمن وأُطلق سراح البعثيين، ضعفت الحملة على حزبهم وغدا البكر وجها وطنيا مقبولاً.

    لقد عجز نظام العارفين الفاتر الهمّة عن انتاج لحمة تربط أطرافه المتضاربة، فافتقرت هذه الاخيرة الى المعنى والعصبية كما أعوزها القصد. وبدا البعث الأقدر على قطف الثمار اليانعة، رغم انه لم يكن في تلك اللحظة أكثر من اسم تمويهي للضباط التكارتة. فعدد الحزبيين لم يكن الا بضعة مئات لا أكثر!
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    4
    قصة البعث في العراق (4): كيف عملت تكريت والجيش والبعث، دوائر السلطة الثلاث، وكيف عوملت؟
    حازم صاغيّة الحياة 2003/03/25


    بعد أن تناولت الحلقة الثالثة وصول البعث الى الحكم في 1968، هنا التتمة: عام 1968 لم يكن لحزب البعث، بصفته هذه، دور في بلوغ السلطة. الدور كله كان للجيش ممثلاً بكتلتين تعاونتا لإطاحة عبد الرحمن عارف، وكان لهما، في 17 تموز (يوليو)، ما أرادتا. أما الكتلة الأولى فضمت ضباط البعث، ورأس حربتهم التكارتة. وكان هؤلاء استفادوا من أعمال التطهير العسكري التي لم تتوقف منذ الانقلاب الجمهوري في 1958. فالذين أحيلوا تباعاً على التقاعد تجاوزوا الثلاثة آلاف ضابط فيهم الملكيون، والقوميون، وجناح الوطنية العراقية الذي اهتز بسقوط قاسم، ثم ضباط الموصل والرمادي ممن التفّوا حول العهد العارفي.

    وأما الكتلة الأخرى فثلاثة من أركان العهد هم عبد الرزاق النايف مدير المخابرات العسكرية، وابراهيم الداوود قائد الحرس الجمهوري، وسعدون غيدان قائد اللواء العاشر، والثلاثة من محافظة عارف، الرمادي. هؤلاء تحالفوا مع البعث لأسباب تعددت: كان بعضها المغامرات التي تستهوي الضباط عادةً، وبعضها يأسهم من أوضاع سلطة تتردّى. ولئن توجّسوا من "حزبية" البعث و"اشتراكيته" وتجربة 1963 فقد افترضوا، بجهل مألوف في الضباط، أن للحزب وزناً جماهيرياً يفيد الانقلاب. ولما شارك النايف والداوود، قبل أعوام ثلاثة، في قمع انقلاب ناصري قاده عارف عبد الرزّاق، خافا انتقاماً من الناصريين لن تحول دونه سلطة مفككة كالعارفية.

    وبدورهم تخوّف البعثيون من طموحات هؤلاء، الا ان حاجتهم الى مواقعهم المؤثّرة بدت أكبر. وكان الأكبر على الدوام ثقتهم بقدرة على التآمر تزحزح الجبل، كثيراً ما يحتاجها مئات قرروا أن يحكموا ملايين. لكن عبد الرحمن عارف، بعدما حمله الانقلاب على مغادرة بغداد، أفاد أن أهداف الانقلابيين تعدّت طمع العسكريين المعهود بالسلطة. فالنايف، خصوصاً، أغراه المال الذي أبدت شركات النفط استعدادها لبذله ساعيةً، منذ منح الشركات السوفياتية عقد الرميلة الشمالي، وراء عملاء يطيحون الحكم. وشكّل حجب امتياز الكبريت عن شركة "بان أميريكان"، وإعطاؤه الى "إيراب" الفرنسية، بنداً آخر يحثّ على التغيير. ولاحقاً أشار النايف نفسه، في مذكرات أصدرها، إلى دورٍ في الانقلاب نسبه الى السي أي آي. ولا يُجمع دارسو ذاك الحدث على براءة الشريك. فقد أشير، مثلاً، الى لقاء واحد، على الأقل، بين أحمد حسن البكر وروبرت أندرسون، وكان وزيراً سابقاً للخزانة الأميركية يُكثر التردد على بغداد مُروّجاً شركات بلاده ومصالحها. على ان الموضوع الأهم لدى البعثيين ظل العودة، بأي ثمن، الى سلطة فقدوها في 1963.

    وبالفعل قطع بهم انقلاب 17 تموز ثلاثة ارباع الطريق، بنسبة عنفٍ لا تُذكر بالقياس العراقي. فالصراع حُسم بمجرد السيطرة على المواقع الحساسة والاستراتيجية، الأمر الذي مردّه الى تهافت النظام معطوفاً الى وحدة البيئة الجامعة بين المتنازعين. فحين كُتب النصر للانقلابيين عومل عبد الرحمن باحترام غير مسبوق في التعاطي مع الحكام المخلوعين. وبكل تهذيب وُضع على متن طائرة أقلّته الى اسطنبول. لكن منابع الشك بالبعث لا تنضب. فعبادة السلطة بذاتها ربما وجدت في الظروف الاقليمية ما تتغذى عليه. وحقاً ظهر من يرى في 1968، وكان انقضى عام على هزيمة الأيام الستة، سنة بحث أميركي محموم عن أطراف قومية النعت تناهض عبد الناصر ودمشق والمقاومة الفلسطينية الناشئة للتوّ. فانزعاج واشنطن من الضجيج الراديكالي الذي قد يصدر عن بغداد يبقى، بحسب هذا التأويل، أقل من ارتياحها الى مواقف تُربك الجهد الراديكالي الموالي لموسكو.

    ومن ناحيته جاء توزيع المناصب ينمّ عن الشراكة. فقد سُمي البكر رئيساً للجمهورية، وتولى البعثيان صالح مهدي عماش وحردان التكريتي وزارة الداخلية ورئاسة أركان الجيش. وفي المقابل نيطت بالنايف رئاسة الحكومة وعيّن الداوود وزيراً للدفاع. وكي يكتمل الملمح السني المحافظ للعهد، وكان البكر والداوود قد أقسما على القرآن حين تعاهدا على الانقلاب، أعطيت حقيبة رمزية لعبد الكريم زيدان، قائد الاخوان المسلمين العراقيين. كذلك عبّر مجلس قيادة الثورة عن التوازنات نفسها، وإن لوحظ وجود ثلاثة تكارتة بين أعضائه العسكريين السبعة. صدام لم يتقلّد منصباً، لكن عملاً أهم كان ينتظره. فشركاء 17 تموز ممن ناموا في السرير نفسه بدا حلمُ واحدهم كابوسَ الثاني. وكان صدام بطل بعض تلك الأحلام-الكوابيس. والحال ان التآمر لم يُغمض جفنه اكثر من 13 يوماً انطلق بعدها من عقاله.

    ففي 30 تموز، وكان حردان قد حقن مئة ضابط ما بين تكريتي وحزبي في الحرس الجمهوري، حلّت ساعة الصفر. وفعلاً تعددت الأسباب وظل الموت، أو ما يشبهه، واحداً. فقد طُلب الى الداوود، وكان مُكلّفاً مهمةً في الأردن، أن يبقى هناك، فبقي. أما النايف فبدت قصته أعقد وأكثر سينمائية: فقد دعي الى اجتماع طارىء على غداء عمل مع الرئيس البكر. وبدل ان تدخل القهوة لدى فراغهما من الطعام، دخل صدام ورهط من شلّته مسلحين، فأمروه بالخروج من الباب الرئيسي على ما يفعل عادة. وأوصوه بألا ينسى، إذا ما أراد البقاء على قيد الحياة، تحية الحرس قبل صعود سيارته الرسمية. الا أن النايف الذي امتثل للأوامر، لم يبق على قيد الحياة.

    فبعد أن شُحن جواً الى المغرب، جرت في 1973 محاولة فاشلة لاغتياله هناك تبعتها، بعد خمس سنوات، محاولة ناجحة في لندن. وكان الأبشع ما لقيه صديقه وزير الخارجية ناصر الحاني. ففي روايةٍ أن مسلحين بعثيين انتزعوه من بيته ليلاً، وفي أخرى أنه دعي الى واحد من تلك الاجتماعات مع البكر لكنه لم يعد. وفي الأحوال جميعاً، عُثر على جثّة الحاني مُبقّعة بالرصاص في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1968. ويبدو ان سعدون غيدان فهم الرسائل الممهورة بالدم، فقاده امتثاله وتواضع حاجاته الى الانضواء في البعث، وكفى الله المؤمنين القتال. لكن أجواء 1963 وارهابها ودخول البيوت واكتشاف الجثث راحت تتجمع في سماء بغداد، وعاد اسم "الحرس القومي" الى التداول، ولو وفق صيغة سلطوية مختلفة هذه المرة. فبين خريف 1968 وأواسط 1969، سطعت فوضى مطلقة كان يعززها انعدام كل خط سياسي وكل قصد ما خلا التمسك بالسلطة. غير ان البعث ضاعف التهليل لـ"ثورة 17 تموز" التي صنعها ثم أتمّها بـ"ثورة" أصغر.

    وفي تلك اللغة التي تمتهن حجب الوقائع بالثورات والثرثرة عنها، قُدّمت المؤامرتان امتداداً لـ"ثورتي" 14 تموز 1958 و8 شباط 1963. وفي أيلول (سبتمبر) أُذيع أول دستور موقّت فأعلن الاسلام دين الدولة، والعائلة أساس المجتمع، والإرث يقرره الشرع، واشتراكية التمسك بالملكية الخاصة ركيزة الاقتصاد، فيما "المجلس الوطني لقيادة الثورة" السلطة التشريعية والتنفيذية الوحيدة. وبالطبع أُكّد على ان العراق جزء من "الأمة العربية"، وأن الوحدة الهدف الخالد. في هذه الحدود بدا البعث أداة إيديولوجية محافظة وكسولة الا انها أداة أمنية نشطة. فقد استُخدم وسيلة رديفة لتثبيت السلطة في أيدي ضباطه، ومعظمهم تكارتة. وبقيادة صدام، تولى الحزب الوظائف التي تقلّ عن الانقلاب فلا تستدعي إقحام جيش لم يزل ملتبس الولاء، أو التي تستكمل الانقلاب فلا تستنفد الجيش ولا تتركه يحتكر المجد وحده. وبذا جاء تدخل حفنة من البعثيين في 30 تموز لازاحة النايف نموذجياً في تدليله على الدور المنوط بـ "التنظيم الشعبي". كذلك استُخدم الحزب معياراً في التبويب، تقريباً وتبعيداً، للوصول الى سلطة متجانسة، وتالياً مصفاةً لحصر المغانم وتوزيعها.

    فالبعثيون التكارتة غدوا قلب الدائرة، يحيطهم إطار من تكارتة غير بعثيين وبعثيين غير تكارتة. أما الاستعداد لأداء بعض هذه المهام فكان ما تمرّن عليه الحزبيون في "الجهاز الخاص" أو، في تسمية أخرى، "جهاز حُنين" الذي نشأ أصلاً لخدمة المحاولة الانقلابية الفاشلة في أيلول 1964. والجهاز هذا، لم يكن اختيار اسمه عديم الدلالة. فبُعيد فتح المسلمين مكة، تصدّت لهم قبيلة هوازن بقيادة مالك بن عوف النصري، والتقى جيشهما في حُنين، وهي وادٍ الى جنب ذي المجاز، بحسب الطبري. وقد بدأت المواجهة بهزيمة جعلت المسلمين ينفضّون عن محمد فلم يبق مع الرسول الا قلة من مقاتليه. لكنه استطاع، ببث روح الجهاد، استعادة الهاربين وإحراز النصر، فجاء في "سورة التوبة": "ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعــــذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين". ولا بد ان البعث كان، عبر حُنين، يحيل ضمناً الى تجربة 3691 واحتمالات احتوائها، ومن ثـم تحقيـــق النصـــر على ما فعــــل المسلمــــون الأوائــــل. وكائنة ما كانت الحال، وُضع الجهاز في عهدة صلاح عمر العلي، ضاماً أفراداً كناظم كزار وسعدون شاكر ومحمد فاضل. ولئن كان العلي تكريتياً، بدا القاسم المشترك بين معظم الآخرين قُربهم من صدام، وضلوعهم في ارتكابات الحرس القومي عام 1963 قبل ان ينحازوا الى الجناح اليميني.

    فرجال "الأمن" البعثيون هؤلاء سيكونون "طليعة" الجيش إذ تحول عزلتهم، حتى في أخصب الخيال، بينهم وبين أن يكونوا "طليعة" الشعب. لكنْ اذا كان الجيش، كما علّمت تجربة 1963، أسوأ من ان يحافظ بذاته على سلطة عسكرية، فالتجربة نفسها علّمت ان علنية الحرس القومي واستفزازيته مما يُستحسن تفاديه في المستقبل. هكذا آلت العِـبر كلها، لا سيما التركيب الأقلي والتآمري للحكم الجديد، الى التوكيد على مركزية الأمن. فهو وحده ما يملك طاقة الحسم والتقرير، وهو ما اختُزلت اليه الشرعية السياسية برمتها. وصدام لم يخطىء اختيار الدور في لعبة رسم بنفسه شروطها وحدودها. ففضلاً عن كونه الأمين القطري المساعد، وكان البكر الأمين العام، تولى نيابة رئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة لشؤون الأمن القومي. وعن هذا الجهاز الضخم الذي ورث "حُنين"، أمسك بمفاصل البلد ومخابراته، مُـولّياً ناظم كزار على الأمن العام، وواضعاً الحرس القومي تحت إشرافه المباشر. وتماماً كما كان ستالين أواخر العشرينات، لم تنجم الحاجة الى هذه المواقع عن مجرد إرضاء لنهم سلطوي مؤكد. فهناك ايضاً تخليص الحكم من مظاهر تعدده ونتوئه، هي التي أودت بسلطة البعث في 1963، وإرساؤه تالياً على صفاء بلّوري. وبالفعل سريعاً ما تحرك المبضع فيما كان العهد يستوي كتلاً ثلاثاً: الأولى، كتلة رئيس الجمهورية البكر، وفي عدادها قريبه صدام.

    أما الثانية فيتزعمها حردان التكريتي بصفته وزير الدفاع، فيما يقود الثالثة الضابط


    البغدادي والبعثي القديم صالح مهدي عمّاش كوزير للداخلية. وغدا لا بد من إطاحة التكريتي وعماش واستئصال نفوذهما في الجيش والادارة. وبالاستفادة من تنافس ضرى بينهما أمكن التخلص من الاثنين تباعاً. ففي 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1970، عُزل حردان من مناصبه ثم اغتيل في الكويت بعد خمسة أشهر. ولئن ذكرت تقارير صحافية ان سعدون شاكر مَن تولى تصفيته، تلاحقت أحداث غامضة ربطها البعض بمقتله: ففي بيروت اغتيل اللواء مهدي صالح السامرائي، فيما سُرّح الضابط البعثي حسن النقيب وعُيّن سفيراً. وجاء دور عمّاش الذي سمي نائباً للرئيس بعد إبعاد حردان، فضلاً عن توليه الداخلية. وفعلاً أُبعد هو الآخر، في 28 ايلول 1971، من كل مناصبه، بعد تسمية صدام نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة. وتقول إحدى الروايات إن البكر تدخّل كي لا يُعدم فعيّن سفيراً. ولئن قضى عماش لاحقاً في فنلندا، نشأ ما يشبه اليقين بموته مسموماً. بيد أن يوم عزل عماش كان أيضاً يوم اعفاء عبد الكريم الشيخلي، صديق صدام الحميم، من منصبه كوزير خارجية. والشيخلي، المتقدم على رفيقه في الحزبية والأوسع إلماماً ومعرفة، يبدو انه دافع عن آراء في السياسة والحزب خفضته، هو الآخر، من وزير الى سفير.

    وفي 1982، وقد تقاعد وعاد الى بغداد، أطلقت عليه نيران مجهولة المصدر أردته وضمته الى وزير الخارجية السابق ناصر الحاني. لقد اندرج التخلص من حردان وعماش في مشروع أكبر هو تنقية الدوائر التي تقوم عليها السلطة، أي البعث والجيش وتكريت. فمنذ 1968 لم يعد الحكم اكثر من نقطة التقاطُع بين هذه الدوائر بما يضيّقها جميعاً ويصهرها في عائلة عسكرية-حزبية. ومنذ 30 تموز لم تكف هذه العملية عن الاشتغال ذي الأواليتين: اجتثاث كل تنافُر يبدر عن أي منها حيال الأخرى بما يهدد تناغمها الاجمالي، واستئصال كل تحفظ عن مطلقية صدام بوصفه رمزاً لتقاطُع الدوائر الثلاث وملاكاً حارساً له. وبالضرورة تستدعي عملية كهذه تحويل الواحدة منها ضابطاً للأخرى وحداً عليه، بحيث تخسر شيئاً من ذاتها الأصلية المفترضة أو من طبيعتها المهنية. يصح هذا في الرابطة الأهلية التكريتية صحته في السِلكية العسكرية أو الرفاقية الحزبية. على ان أولوية التطهير لمكوّنات السلطة ناظرت الأولوية المعطاة لمكافحة "أعداء الحزب والثورة". فعماش والشيخلي، البعثيان القديمان وغير التكريتيين، كانا نشازاً عن المنحى السلطوي الناهض على تقاطع الدوائر الثلاث. وما ابتدأ بهما استؤنف بتصفية حزبيين آخرين عديمي الصلة، أو ضِعافها، بالجيش وبتكريت، وبمطلقية صدام تالياً. وإذا كان البعثي القديم والوزير حتى 1972 شفيق الكمالي، وهو ليس تكريتياً، من الضحايا البارزين للحزبية البحتة، إذ قضى مسموماً، يبقى ضحيتها الأبرز عبد الخالق السامرائي، ابن سامراء الموصوف تارة باليسارية وطوراً بالارثوذكسية البعثية، والذي اعتُقل في تموز 1973 ثم أُعدم بعد ست سنوات.

    وقد بدا "طبيعياً" أن يُصفى البعثي البغدادي المقرّب من صدام، أحمد العزاوي، الذي هرب الى سورية في 1974 ونشط في بناء تنظيم حزبي موازٍ تدعمه دمشق، فاغتيل بعد عامين. وقبل العزاوي الذي انحاز الى "قبيلة" أخرى و"بايعـ"ها، عُزل البعثي التاريخي عبد الله سلوم السامرائي من مهامه في القيادة القطرية ومجلس الثورة. ولاحقاً، في 1977، وضع تحت الاقامة الجبرية بعثي قديم آخر، من عانة، هو الدكتور عزت مصطفى. فالحزب هو ما ينبغي الاستحواذ عليه كيما يتطابق لا مع مشيئة صدام ومصالحه فحسب، بل أيضاً مع تاريخه الشخصي.

    هكذا كـان يُستحسن ان لا يشهد على ماضيه "صديق" متقدم عليه كالشيخلي، بل ان لا يكون ثمة ماضٍ للحزب قبل صدام. وبحركة مُتخمة برمزية حقود، صُفّـيت حسابات ميتة مع الحقبة البعثية السابقة فاعتُقل، بعيد الانقلاب، فؤاد الركابي الذي صار، في تلك الغضون، أميناً عاماً لـ"حركة الوحدويين الاشتراكيين" الناصرية. وفـي تشرين الثاني (نوفمبر) 1971، قضى، وهو الأمين القطري الأول للبعث، بطعنة سكين من أحد المساجين! وامتد الاستحواذ، عـلى ما فعل ستالين بشيوعيين غير روس، الـى بعثـيين غـير عراقيـين. فمـيشيل عفـلق قــضى سنواته الأخيرة يكيل المدائح لصـدام، فـيمـا اعـتُقل عــام 9791 الأمـين الـعــام الــقومـي السـابــق منيـف الـرزاز، وهـو أردني، ليلفظ في سجنه آخر أنفاسه. وفي العام نفسه، وبالتهمة اياها التي أدت الى سجن الرزاز واستُغلّت لإعدام السامرائي، أولم صدام لرفاقه إحدى أسخى الولائم الدموية حتى أنه بكى هو نفسه وأبكى. والقصة التي صوّرتها الكاميرا وصار النظام لاحقاً يوزّعها لأغراض شتى، أهمها بث الرعب في الآخرين، بدأت في تموز بـ"اعتراف" محيي عبد الحسين رشيد بالتآمر مع سورية، ومن ثم تصفيته مع أفراد أسرته. وقد قضى بالمناسبة ثلث أعضاء القيادة القطرية، وفي عدادهم عدنان حسين وعدنان الحمداني وغانم عبد الجليل ومحمد محجوب ومحمد عايش وآخرون. فالمطلوب يومذاك، وقد حل صدام لتوّه في رئاسة الجمهورية، كان الحصول على الولاء المطلق لحزبيين ذوي أغلبية شيعية قيل انهم تمنوا على البكر ألاّ "يتنحى".

    وبدت تصفية الرفاق أولئك بليغة الدلالة، فأُمر البعثيون الموالون بتصفية البعثيين "المتآمرين" بما يضيّع الدم ويُضعف احتمالات الثأر. ولم يصل 1 آب (أغسطس) حتى ذُكر ان حوالى 500 في أرفع المناصب الحزبية والرسمية قد استؤصلوا. ولئن جازت هذه السياسة حيال البعث، بدا تطبيقها على الأمن أولى، وهو الشرط الشارط لاستمرار الحزب والحكم. وفي 18 آب 1973، وعلى يد محكمة خاصة رأسها عزت الدوري الذي صار يعرف بعزت ابراهيم، أُعدم ناظم كزار نفسه مع 35 شخصاً على الأقل. فالمسؤول الأمني الأول كان اعتقل وزير الدفاع التكريتي حماد شهاب ووزير الداخلية سعدون غيدان، واصطحبهما رهينتين إذ تأكد من فشل محاولته، محاولاً عبور الحدود بهم الى ايران. وبالقاء القبض عليه، وقد قُتل في الأثناء وزير الدفاع، أشاعت السلطة أن المؤامرة إيرانية المصدر. وبالفعل بدت محاولة التوجه شرقاً قرينةً ظاهرة، فيما ضمرت شيعية كزار قرينةً مستترة. وكان ممن أُعدموا فرد آخر في الشلة القديمة هو محمد فاضل رئيس المكتب العسكري البعثي. وفي وقت لاحق "اعترف" الحزبي والتكريتي، فاضل البراك، مرافق البكر الذي شغل إدارة الأمن الداخلي حتى 1989، بأنه "عميل"، فأُعدم وأعيد جثمانه الى تكريت في 2991. ومضى تطهير الجيش بهمّة مماثلة، وهي العملية التي تسارعت مع انتقال الرئاسة الى صدام. غير ان العلاقة بين الأخير وبينه بدت على قدر من التعقيد: فهنا اجتمع حب القيم العسكرية والذكورية بالكره الذي يكنّه الحزبي المدني للعسكر. والتقت الرغبة في تسليطهم بالرغبة في التسلط عليهم منعاً لتكرار ما حصل في 1963.

    وعلى الدوام اقترن الميل الى تجييش المجتمع بالإصرار على تغيير الجيش. فإذا صحت الرواية التي أشارت الى عدم قبول صدام في الكلية الحربية، إبان شبابه الأول، أمكننا افتراض سبب شخصي ينضاف الى أسباب سياسية ويغذّيها. ووفاءً بهذه الأغراض المتعارضة طُعّمت المؤسسة العسكرية، منذ 1970، بقرابة 3000 مفوض بعثي وتكريتي في تقليد واضح لتجربة بلشفية معروفة. ولأن الجيش غرفة نوم النظام، لم تقلّ عقوبة انتساب العسكري الى حزبٍ غير البعث عن إعدام. ومبكراً ابتدأ صدام بدفع قيادات مدنية من شلّته الى عضوية مجلس قيادة الثورة، الهيئة التي يُفترض أنها الأعلى سلطةً. ومن هذا القبيل ضُم اليه، في 1969، طه ياسين رمضان وعزت ابراهيم. ولم يمر عقد، وكان أطيح البكر، حتى خلا المجلس من العسكريين تماماً وانفتح الباب واسعاً لتعيينات في الجيش وترقيات كيفما اتفق. وإذ ضُـخّم الحرس الجمهوري، ومهمته حراسة النظام حصراً، فصار جيشاً موازياً، جُنّد المدنيون البعثيون، من التكارتة أو أعضاء الشلة، في الجيش بطريقة أو أخرى.

    وفي المقابل، سهّلت الحروب المتتالية، منذ 1980، العسكرة وتعميم زيّها في أعلى مراتب الحزب والدولة. وعلى العموم ظل تطهير الجيش ثابتاً من ثوابت النظام، سرّعته وفاقمته حربا إيران والكويت. لكن، هنا أيضاً، لم يتأخر النذير. ففي كانون الأول (ديسمبر) 1968 حُكم على ابراهيم فيصل الأنصاري، رئيس الأركان العامة، بالسجن 12 عاماً. وسُرّح اللواء عبد العزيز العقيلي، في 1969، وحُكم بالاعدام. ولم ينقطع الحبل فسُرّح لأسباب مجهولة، خلال 1974-1975، بعض كبار الضباط كحسين حياوي قائد القوات الجوية، وداود الجنابي قائد الحرس الجمهوري، وحسن مصطفى وصادق مصطفى وطه شاكرجي. وفي هذه الغضون قُتل، عام 1971، بطعنة سكين في بيته، العميد البعثي القديم عبد الكريم نصرت الذي ردّت دمشق مقتله الى انتمائه لبعثها "الأصيل". وعلى ضآلة النفوذ السوري الفعلي في العراق، أُعدم في "وجبة" 1979 اللواء البعثي وليد محمود سيرت، وهو أيضاً من أوائل الحزبيين.

    وفي السنوات الأخيرة وُجّهت الى المراتب العليا ضربات متلاحقة لم ينج منها غلاة البعثيين والمقربين من صدام. فأُعدم العقيد نزار النقشبندي ابان الحرب مع ايران، وقُتل العميد عزيز السامرائي، وانتهى الى المنافي قريبه رئيس المخابرات العسكرية اللواء وفيق، ورئيس الاركان الفريق نزار الخزرجي، وغيرهما. وكما تتضافر العسكرية والحزبية في حالات نصرت وسيرت، تتضافر التكريتية والحزبية في حالة صلاح عمر العلي أو فاضل البرّاك. فالأول، وهو احد البعثيين الأوائل ومن شلة صدام، أقصي عن مجلس قيادة الثورة في 0791 وضُمّ الى سفراء الخارج. وبعد عامين لحق به تكريتي وبعثي تاريخي آخر كان حظه أسوأ بكثير. فمرتضى الحديثي، الذي تولى وزارة الخارجية، هو من تذهب احدى الروايات الى انه سُجن وعُذب قبل ان يُقتل في 1979 ثم يُعاد الى عائلته على شكل بضعة كيلوغرامات.

    والراهن ان تكريت تعرضت للتطهير في صورة تكاد ان تكون منهجية، فطاول عسكرييها وبعثييها وعسكرييها البعثيين في آن. ومنذ البدايات الاولى تصدّر لائحةَ الثأر البعثي رئيسُ حكومة منها: فمع فجر 17 تموز اعتُقل طاهر يحيى ولم يُفرج عنه حتى 1973، فخرج أعمى ولازم بيته حتى وفاته. وفي 1970 سيق الى السجن رشيد مصلح، وهو وزير داخلية وبعثي سابق، وأُعدم. والى حردان التكريتي، أُعلن في 1980 عن موت غامض حل بعدنان التكريتي الذي تولى إمرة الحرس الجمهوري بعد 1968. وفي الفترة نفسها قُتل تركي الحديثي، شقيق مرتضى لتُـصفّى، في 1993، عائلة مولود مخلص بتهمة المشاركة في مؤامرة انقلابية، كما أُعدم بالتهمة نفسها نقيب الأطباء السابق راجي عباس التكريتي. وفي بلد ترد أخباره على شكل شائعات، ذُكر الكثير عن استقالة البكر من الرئاسة في حزيران (يونيو) 1979 وحلول صدام فيها، بوصفها إقالة لا يرقى اليها الشك. ولئن ذهب لاحقاً صهر الرئيس حسين كامل الى اتهام الثاني بتسميم الأول تسميماً بطيئاً، فالمؤكد أنه انتزع منه بالتدريج صلاحياته، لا سيما الامساك بالجيش، وأبقاه أشبه بأسير في قصره. والمنطق الذي تحكّم بتطهير تكريت لا تستنفده علاقات القرابة، الا أنها تساعد جزئياً في فهمه. فالعوجا التي صدر عنها صدام ملحق بتكريت، يُنظر اليها في المعيار التقليدي على أنها أدنى كعباً. واذا صح ان العائلات الموسعة جمعت بينهما، الا ان التزاوج بين عشائر تكريت وأفخاذها ظل أعلى مما بينها وبين امتداداتها في العوجا.

    والعشائر تلك، وهي ثلاث، ليست، بأية حال، عديمة التراتُب والتمايزات. فهناك "التكارتة" أو "الأصليون" ومن أفخاذهم البوخشمان والعويسات والشيايشة والبوحجي شهاب. ثم هناك "البوناصر" ممن تعود بهم الأصول الى قبيلة الدليم، في ما غدا يُعرف بمحافظة الأنبار، وقد انتقلوا منها ليسكنوا تكريت والعوجا وبيجي ومناطق اخرى مجاورة. و"البيكات" أهم أفخاذهم، وهم الجمع بلــسان العشائـــــر لـ"بيك"، ما يعني أنهم الأوجه والأبرز في البوناصر. لكـــن هؤلاء ممن ينتسب اليهم البكر وصدام، يتفرّعون عائلاتٍ كالنـــدّا والهزّاع والبومسلط والبوغفور والبوخطاب والبوعبد الرشيد والبوحجي شهاب. ويبدو ان الصدارة فيهم كانت لعائلة ندّا قبل ان تنتقل بصعود البكر، الذي صاهرها، الى عائلة البوبكــــر. وأخيـــراً هناك الحديثيون، الآتــون من حديثة، كـــآل المهيــدي وبالطبـــع آل الحديثـــي. ويُلاحظ، في التنقيب بأسماء معظم الضحايا والمبعدين، أن "ظلم ذوي القربى" تحكّمت به معايير لا تخلو من معانٍ. فرشيد مصلح وحردان التكريتي من "أصليي" تكريت ممن تعالوا على اهل العوجا وكرههم الاخيرون، كما أن طاهر يحيى "أصلي" من الشيايشة، ومنهم ايضاً صلاح عمر العلي الذي كان عمه، عبد العزيز العلي، عميد الشيايشة وكبير ملاّكيهم. وفيما يعود مرتضى الحديثي الى الحديثيين فإليهم أيضاً ينتسب راجي التكريتي وآل مخلص، ولو ربطتهم صلة قرابة بالبوبكر. وآل مخلص أولى بثأر العامّة حين يرغبون في محو الماضي: فهم أبناء وأحفاد مولود، "الباشا" الذي أسس لأهل تكريت والعوجا موقعهم اللاحق في الجيش والادارة. اما البكر فيبدو ان سقوطه، من داخل حلقة أضيق في القرابة، أطلق بدوره تحولات داخل فخذ البيكات نفسه. فقد غنمت بيوت ثلاثة أخرى هي البوغفور، ويتفرع عنها آل المجيد، والبومسلط وينتمي إليها خير الله طلفاح ووالدة صدام، صبحة، والبوخطاب ومنها أخوة صدام لأبيه.

    وبهذه المعاني جميعاً كُتب للبعث في العراق أن يُرسي توتاليتارية تتساند حداثتها الأداتية وموروثها الأهلي المنتفخ بـ"أصالة" دم لا تنضب
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    5


    بعد أن تناولت الحلقة الرابعة كيفية عمل ومعاملة الدوائر الثلاث للسلطة، أي البعث والجيش وتكريت، هنا التتمة:

    مثلما بدأ العهد البعثي تطهير الدوائر التي يبني سلطته عليها، باشر بالهمّة نفسها تطهير الدوائر الواقعة خارجها والتي تثير شبهة المناوأة. وفي العراق اتسم سلوك كهذا، مألوف في الأنظمة الانقلابية، بتبكيره ومواظبته. لكنه اشتُهر أيضاً بجرعة رمزية، إن لم يكن وثنية، فائضة.

    فـ"العراق القديم" بات ينبغي ان يُستأصل، فكرةً وواقعاً، وأن يتحسس القيّمون عليه أن استئصالهم، هم أنفسهم، على مرمى حجر. والشيء إياه يقال في العراق الكردي، والعراق الشيعي أو الشيوعي، القبَلي أو المديني. ولكنْ أيضاً كان ينبغي استئصال العراق القومي غير البعثي، والعراق الحديث الذي يتوسّط مع مصالح وثقافات غربية.

    وبكلمة، بدا مطلوباً الاستحواذ الكامل على البلد وتاريخه السياسي، وعلى خيارات سكانه في عيشهم ومعتقدهم.

    لكنْ لإنجاز مهمة بهذه الهيولية كان لا بد من استنفار الأعصاب وتوتيرها، وإثارة التعبئة المستديمة، وإطلاق جو مشهدي صارخ يلازم العراقيين كالكابوس. وتدريجاً تكامل البناء الذي أريد صبغه بالملحمية. فلم يكد ينتهي العام 1968 حتى كان مئات الضباط غير البعثيين يُعتقلون، ومعهم حوالى اربعين رجل أعمال يمثلون مصالح تجارية أجنبية في البلاد. وألقي القبض على وزراء وعلى موظفين كبار محسوبين على القومية العربية والناصرية، كأديب الجادر وخير الدين حسيب. كذلك امتد "تأديب" القوميين الى الخارج، فلم يفتر حتى شباط (فبراير) 1972 حين جرت في القاهرة محاولة لاغتيال ثلاثة ناصريين عراقيين. وقد اعترف يومها أركان التكريتي، قائد المجموعة في مصر، بتنفيذه أوامر الأمن العراقي.

    وعلى طرف نقيض أعلنت الحكومة مبكراً، في تشرين الأول (أكتوبر) 1968، عن وجود شبكة تجسس صهيونية كبرى تم "اكتشافها" في البصرة. وبالفعل نُقل المتهمون الى قاعدة عسكرية في بغداد، ومنها الى مركز تحقيق حزبي.

    وإذا كان الاتهام بالصهيونية من الصنف السهل والمُربح لمُطلقه، فـ"اكتشاف المؤامرة" بعد هزيمة 1967 كفيل بأن يعطي الانقلاب معنى "قومياً" يفتقر الى مثله. فالحماسة اللفظية للقضايا العربية، وأخصّها قضية فلسطين، كانت تلحّ على تقديم براهين عملية. والبراهين الملموسة بدت فقيرة على ما دل لاحقاً، في 1970، انسحاب الجيش العراقي المتمركز في الأردن من طريق الجيش الأردني المتجه الى تصفية المقاومة الفلسطينية هناك. والأهم في حسابات سلطوية لا ترحم، أن الطائفة اليهودية في العراق خصم ضعيف يمكن أن يتكتّل ضده من يستحيل تكتيله لهدف آخر. بذا يتحقق نصر ضخم من دون أكلاف.

    وتكفي مراجعة سريعة لمحطات تاريخها العريضة كي نتبيّن المسار الانحداري الذي حُملت هذه الطائفة على سلوكه. فهي، التي تعود الى ماضٍ يرقى الى 2700 سنة، شكّل أفرادها، مطالع القرن الماضي، 20 في المئة من مجموع سكان بغداد، كما ساهمت في الحياة السياسية والاقتصادية للعراق ولعب فنانوها الدور الأبرز في تطوير المقام الموسيقي، مثلما أدخل متعلموها الطباعة والصحافة والمدارس العصرية الى البلد. ورغم ان العهد الملكي أبقى على حقيبة وزارية لليهود، هي غالباً وزارة المال التي كان ساسون حسقيل أول من تسلّمها، زعزعت التطورات اللاحقة عالمهم وقوّضت دورهم. فأحداث 1936-39 الفلسطينية وتّرت علاقة مواطنيهم بهم، ومذّاك راح كل صعود تحرزه سياسات القومية الراديكالية يرتد عليهم سلباً. فمع انتقال الحاج أمين الحسيني الى العراق تعاظمت الحملات الاعلامية التحريضية التي كان بدأها، أواسط الثلاثينات، أعضاء "نادي المثنّى" العروبي وكتّابه وصحافيّوه. ولئن اختُتم ذاك العقد بهجمات فردية وتعديات متفرقة عليهم، ففي حزيران (يونيو) 1941، وكان رشيد عالي الكيلاني قد هرب وانهارت حكومته، حصل "الفرهود" (النهب والسلب والفوضى) مؤدياً الى مقتل مئتي شخص منهم ونهب بيوتهم وممتلكاتهم. وإذ حلّت "النكبة" الفلسطينية في 1948 قُـيّدت حركتهم ومُنعوا من بعض المناصب الرسمية، فيما شاع تحويل أبسط قضاياهم الشخصية الى المحاكم العسكرية.

    والى القوميين الراديكاليين، أضاف بعض السياسيين المحافظين، لا سيما أبرزهم نوري السعيد، جهودهم. فما بين خلط بين اليهودية والشيوعية عشية اندلاع الحرب الباردة، وما بين تغطية على مصاعب داخلية وعربية بلغت ذروتها في حرب 1948، ساد ربط عجيب بين وضع المواطنين في العراق وبين عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. وكان نوري نفسه صاحب الفكرة القائلة بتعويض الأخيرين من ممتلكات الأولين في العراق.

    وفي الغضون هذه أدلت الحركة الصهيونية بدلوها، فأشرفت على حملة تفجيرات طاولت أحياء اليهود العراقيين علّها تحملهم على مغادرة بلادهم خوفاً ويأساً. والحال أنه رغم الفرهود، ورغم كل التضييق والتهديد اللذين عانوهما، بلغ اجمالي اليهود العراقيين الذين هاجروا الى فلسطين ما بين 1919 و1948، 7995 شخصاً فحسب. ولما كانت اسرائيل الناشئة لتوّها بحاجة الى مهاجرين صدر، عام 1950، القانون الذي يسهّل على الصهيونية عملها. فقد أتاح لمواطني البلد هؤلاء ان يتخلوا عن جنسيتهم شريطة أن يغادروا الى الأبد. وهنا ابتدأت عملية صودرت بموجبها أملاكهم وانخفض عددهم من 117 الفاً، أو 2.6 في المئة من إجمالي السكان حينها، الى أقل من 60 مُسناً اليوم.

    على ان المياه المسمومة سالت بغزارة، ما بين هذين التاريخين، في "بلاد الرافدين".

    فالآلاف القليلة التي بقيت بعد 1950 تعرضت لمزيد من الصعوبات في حياتها اليومية. ومع وصول البعث الى السلطة في 1963، مُنع على اليهود العراقيين بيع أملاكهم وأُجبروا كلهم على حمل بطاقة هوية صفراء، حتى اذا حلّت هزيمة 1967 عادت الأجواء تتلبّد من جديد الى ان رجع البعث الى الحكم بعد خمس سنوات.

    لكن الظروف، في 1968، هبّت، مرةً أخرى، لإنجاد النوايا السيئة. ففي 4 كانون الأول (ديسمبر) أسفر هجوم جوي اسرائيلي عن 16 قتيلا و30 جريحاً بين القوات العراقية المتمركزة في الأردن، ولم يمر غير يوم واحد حتى انطلقت تظاهرة كبيرة نظّمها حزب البعث انطلاقاً من ساحة التحرير ببغداد نحو القصر الرئاسي. يومها حمل الحشد الذي قُدّر بأربعين ألفاً، يتقدمهم المسؤولون الحزبيون والرسميون ومجموعة من المقاومة الفلسطينية، أكفان الجنود القتلى، بما يرفع المسألة فوراً الى مصاف من الجدية يحاذي المقدّس، جاعلاً الحياد والمسافة أقرب الى ارتكاب الإثم. وفعلاً خاطب رئيس الجمهورية احمد حسن البكر الحشد لساعتين نقلهما التلفزيون: فـ"في الوقت الذي نواجه فيه ضغطا متزايدا وهجمات متكررة على جيشنا البطولي"، كما قال، "نواجه حركات خيانية من رعاع الطابور الخامس والمؤيدين الجدد لأميركا واسرائيل. انهم يختبئون وراء الجبهات والشعارات التي عرفها الشعب وفضحها. هذه الحركات المشبوهة تتولى المهام المحددة لها وتنفّذ دورها في المؤامرة الاميركية. انهم يريدون ان يخلقوا إشاعة خبيثة واضطرابات توظّف لغرض القتل والتخريب والعمليات من وراء خطوط جبهة جيشنا البطولي... بهدف ابقائنا مشغولين عن المعركة الكبرى مع العدو الصهيوني". ولم ينس البكر ان يختم بما يليق بتلك المقدمات: فـ"سوف نضرب بلا رحمة، بقبضة من حديد، اولئك المستغلين والطابور الخامس من صنائع الامبريالية والصهيونية". لكنه، بين وقت وآخر، كان يصرخ في الحشد: "ماذا نريد؟"، فيأتيه الجواب قاطعاً كالسيف: "الموت للجواسيس، استئصال الجواسيس، كل الجواسيس، بلا تأخير". وبعد أسابيع قليلة تولت وزارتا التعليم والاعلام نشر الخطاب وتوزيعه كمنشور بعنوان "كل شيء من اجل المعركة"، تتشكل منه ومما يماثله ثقافة الأمة.

    ذاك ان النظام كان يعرف أن تصديق الأكاذيب البسيطة، على ما لاحظ ألكسيس دو توكفيل مرة، أسهل من تصديق الحقائق المعقدة. والحشود المأزومة التي لا يستطيع العهد الجديد ان يعطيها شيئاً ملموساً يستطيع أن يحشوها، على الأقل، أكاذيب. بيد ان الغباء كان ماثلاً هنا أيضاً: ففي 14 كانون الاول قدم التلفزيون العراقي تفصيلات بيانية عن كشفه الطابور الخامس المزعوم، وإذا بالشبكة التجسسية تخدم، في آن معاً، اسرائيل وايران والاكراد والرئيس اللبناني السابق كميل شمعون وشركة فورد للسيارات. وتمخّض جبل المؤامرة فولّد اتهاماً لتاجر أدوات مطبخية من يهود البصرة يُدعى ناجي زلخه، بأنه مدبّر الشبكة وشيطانها.

    واستمرت مطاردة الساحرات ومضى النظام وراء أكباش المحارق يتوسّلهم تأسيساً لشرعية لا يملكها. ففي 5 كانون الثاني (يناير) 1969، جيء بالدفعة الاولى من "الجواسيس" الى المحاكمة العلنية. وعلى أعواد المشانق، في ساحة التحرير، عُلّق 14 متهماً في عدادهم 9 يهود، وسط خطابات حماسية وكثير من الضجيج الاحتفالي. فهناك تجمّع مئات آلاف المشاهدين لحضور "الحفل"، ومن أريافهم المجاورة في "المثلث السني" هبط الفلاحون المؤيدون "للحزب والثورة" كي يروا ويستمعوا ويشاركوا في رقصة الغرائز.

    ولم يخيّب الوزير البعثي وعضو مجلس قيادة الثورة، صلاح عمر العلي، ظنّهم. فبصوت يقطر عاطفيةً خاطب الجمهور الذي كان يغني ويبصق ويرمي الحجارة: "يا شعب العراق العظيم. عراق اليوم سوف لن يتسامح مع اي خائن او جاسوس او عميل للطابور الخامس. انتِ يا اسرائيل اللقيطة، انتم ايها الامبرياليون الاميركان، وانتم ايها الصهاينة، اسمعوني. سوف نكتشف كل ألاعيبكم القذرة. سوف نعاقب عملاءكم. سوف نعدم كل جواسيسكم، حتى لو كان هناك الآلاف منهم".

    ومضى الوزير متوعّداً: "يا شعب العراق العظيم. هذه هي مجرد بداية. الساحات العظيمة والخالدة للعراق سوف تُملأ بجثث الخونة والجواسيس. فقط انتظروا". وربما تذكر البعض، بعد اطّراح الفصاحة والبلاغة جانباً، خطبة قديمة للحجاج بن يوسف. لكن هؤلاء لا بد انهم تذكروا أيضاً أي دم تسبب به الحجاج وخطبته للعراقيين.

    والحق ان الدم كان يفتتح العهد البعثي صوتاً وصورةً وأخلاقاً. فإذاعة بغداد دعت الناس ان يأتوا ويستمتعوا بالوليمة، مسمّـيةً عمليات الشنق "خطوة اولى شجاعة على طريق تحرير فلسطين". وفي رد منها على الادانة الدولية التي صاحبت الاعدامات، قالت الاذاعة: "نحن شنقنا الجواسيس لكن اليهود صلبوا المسيح". وفيما لم يتوقف الإعلام والصحافة العراقيان عن صب الزيت على النار، انفجرت سيارات مفخخة في شوارع بغداد كتبت الصحف المتحمسة والمستعجلة عن بعضها قبل حصوله.

    ولم يبق هناك ما يردع الغرائز المندفعة. ففي تلك المحاكمات اعتذرت هيئة الدفاع عن اضطرارها الى الدفاع عن جواسيس، لأنها لا تريد للخونة أن ينجوا من العقاب. وبالفعل "اعترف" المتهمون بالخيانة، الواحد بعد الآخر، بما نُسب اليهم. وبدا واضحاً، من الحجج التي قدّمها أقطاب النظام وإعلامه، ان الوعي العراقي مهدد بالردّ الى سويّة طفلية. فهذا الطقس القروسطي أريد منه توحيد الجموع حول الخرافة، ومنح الحشد البائس قوةً وتمكيناً وهميين حيال "عدو" مهيض الجناح، علّه يستعيض بالقوة والتمكين هذين عن بؤسه الفعلي.

    ومشاهدو الاستعراض انطووا على أنواع شتى من الكبت والجوع والحرمان، من دون ان يندمجوا في نسيج المدن، ومن غير أن يُقبِلوا على تعددها بغير الريبة والعداء. ولهؤلاء كانت السياسات القومية مدى مفتوحاً لتصعيد رغبات مقموعة وكراهية ملحاح. لكنها لئن لقّنت أتباعها أن يروا الأعداء أنّى نظروا، فها هي تقول لهم الآن إن الإشباع متاح والعدو المهيض الجناح في قبضة اليد.

    على أن المطلوب يبقى أكثر من هذا. فالحكم البعثي انما يضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القوي. وإذا كان لسياسة كهذه أن تودي بمناعة المجتمع، فان ابقاء المشانق معلقة والجثث متدلية لأيام، سيّدا الخوف على سائر المشاعر العراقية. وبسببه مرةً، وبسبب القوة الوهمية التي تعيد تدويره في آلة الوعي الرسمي مرةً، تفشّى إفساد عام عرفته الأنظمة التوتاليتارية جميعاً، مهدداً برفع الوشاية الى مصاف القيم النبيلة. وهذا ما عززته، منذ 1937، القدرات المالية الهائلة التي شرعت تتراكم في يد سلطة تكثّر الأجهزة وتضخّم الحزب.

    لكن التعويد على الموت ونزع الأنسنة عن القتلى هما، من ناحية ثانية، أحد شروط القدرة على القتل. والقدرة هذه ذهبت بعيداً. ففي ذاك العام، 1969، صُـفّيت حسابات كثيرة بعضها مع الموتى. فقد أُعلن رسمياً ان عبد السلام عارف كان عميلاً للسي آي أي، فيما كان الوزير رشيد مصلح "يعترف" بجاسوسيته ولا يلبث ان ينضم الى عبد السلام. وهذا ما فعله أيضاً زكي عبد الوهّاب، المدير السابق لشركة كوكا كولا في العراق مؤكداً على عمالته للبريطانيين. وفي تشرين الأول، صدر الحكم على عبد الرحمن البزاز بالسجن 15 سنة بتهمة العمالة للصهيونية. ولاحقاً كُتبت تقارير صحافية مطوّلة عن التعذيب الذي أُخضع له البزاز، أحد ألمع من تولوا رئاسة الحكومة في تاريخ العراق الحديث.

    لكن الأساس البعيد لهذا السلوك كان يكمن في مكان آخر. ذاك ان طبيعة السلطة وضعفها أكثر ما يفسران، في آخر المطاف، هذا الهوس بالمؤامرات المصنوعة والمتَخَيّلة. وهما ما يجعلان للحركات والسكنات والايماءات دلالات مبالغاً فيها الى حد الوسوسة. فالبعث الذي لم يكن أعضاؤه يتجاوزون المئات القليلة حين حكم العراق، لا يملك من الثقة بالنفس ما يتيح له ممارسة الحكم بأعصاب مسترخية. أما ايديولوجيته، وهي من كل وادٍ عصا، فيصعب تحويلها لحمةً جامعة لفئة اجتماعية معينة. ثم ان افتقاره الى اي مبرر للوجود في السلطة، ما عدا الامساك بالسلطة نفسها، يحيل علة وجوده مادةً لتشكيك متواصل.

    والأزمة التي تعانيها فكرة البعث في العراق لا تقلّ، والحال هذه، عن أزمة معنى. هكذا، مثلاً، رأينا البكر وصدام حسين يبحثان مبكراً عن تأليف تاريخي عراقي يضع العروبة فعلياً بين هلالين أو يخلطها بنقائضها. ففي السنة نفسها، أُعلن عن ابتداء "مهرجانات الربيع" التي تستلهم تراثاً وطقساً سابقين على الاسلام. وحين حل العام 1971، اعتمد المهرجان عدداً من نقاط البدء ترجع إحداها إلى سومر والبابليين القدامى.

    صحيح ان هذا كله كان يُقدّمه التأويل الخرافي للتاريخ كأنه وجه آخر للعروبة ممهّد لها، وصحيح ان الثقافة البعثية الجديدة لم تكف عن توجيه الدروس المستقاة مما قبل التاريخ إلى الصهاينة، مستعينةً بنبوخذ نصّر وهو ينقل الأسرى اليهود من القدس إلى بابل. لكن الخلط بدا فاقعاً لكل من يريد ان يرى.

    وفضلاً عن افتعاله، غالباً ما لاح التقدم على الطريق القومي مُعاقاً. ففي العراق أكثر من غيره، تكشّفت العروبة والقومية وفلسطين بصفتها ما تستعين به نزعات محلية محتقنة لا تستطيع، بذاتها، طرد المختلف من فردوسها. وبالمعنى هذا، تنحط الدعوة القومية من دعوة تاريخية الى النشأة والصيرورة، لتصير هوساً عصبياً وحزبياً يفتت ما هو قائم أصلاً ويقضي عليه.

    ولئن حاول البعث التماهي مع الطائفة السنية العربية، وهي أصلاً أقلية عدداً، فقد تماهى مع قطاعها الأقل تقدماً في "المثلث السني"، لا سيما منه تكريت. أما بغداد وعائلاتها، هي التي مثّلت تاريخياً ركيزة البلد الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والثقافية، فظلت ضيفاً ثقيلا على البعث يحاول تطويعها بالأرياف.

    فتماهيه هذا، إذاً، قصّر عن تذليل الحقائق العنيدة للحياة العراقية. وكان ما يوجز بؤس التجربة تحميل إحدى اشد مناطق البلد تفتتاً مسؤولية الانتصار، ولو لفظاً، لعروبة جامعة مانعة. فالخصومة التقليدية بين عانة وراوة المتلاصقتين، في غرب "المثلث"، معروفة جيداً.

    ومن التراث المشترك بين سكان تينك المدينتين، مثلاً، أن الراويين قصفوا العانيين في العشرينات بمدافع خلّفها العثمانيون وراءهم. وهكذا دواليك تعم وتنتشر الحساسيات التي ترتّبت على عصبيات صلبة. فسامراء التي أقيم فيها ضريحا الامامين علي الهادي وحسن العسكري، أثارت دائماً حسد تكريت لانتعاشها النسبي وانفتاحها على خارجها. وحين كانت سامراء قضاء تابعا للواء بغداد، لم تكن تكريت الا ناحية منها. وفقط بجهود مولود مخلص، في الثلاثينات، فُصلت الاخيرة وجُعلت قضاء يتبع العاصمة مباشرة. وثمة من يذكر ان التكارتة احتفلوا يومذاك بـ"استقلالهم" احتفالا شهيراً. وعلى نحو مشابه ربطتهم حزازات بـ"أبناء عمومتهم" أهل الدور التابعة اداريا لتكريت، فيما لم يكتم سكان الموصل بَرمهم الجماعي لأن القطار الذي يصلهم بالعاصمة محكوم بالمرور فيها.

    وهذا كان معطوفا على مشكلة العراق نفسه الذي، منذ 1920، ولد محكوماً بأزمة تحوّله الى دولة-أمة، متساوقة مع مجتمعها. ولئن فشلت العهود المتلاحقة في التغلب على المعضلة المذكورة، جاء البعث وريثاً للفشل المتراكم وتعبيراً، في الآن نفسه، عن الرغبة في نجاح تحرزه الإرادية البحتة. هكذا تحول افتقاره الى اي من أدوات هذه المهمة مصدراً خصباً للقمع الداخلي، ومن بعده الحروب الخارجية. فالعراق البعثي، مثلاً، جاءت قوانينه بين قوانين اكثر الدول توتاليتارية في استثناء المخالفين سياسياً من المواطنية وحقوقها، وصار أمنه بمثابة حجر الزاوية الفعلي لكل بناء سياسي او انشاء قومي، فيما عاش على دساتير موقّتة تتتالى ولا تستقر على حال.

    لكن هذه المقدمات إذا فسّرت القسر، فإنها أيضاً تفسّر الانكماش المتزايد في رقعة السلطة، وصولاً الى العائلة والبيت الواحدين. وحتى هذين الأخيرين، وكما سنرى لاحقاً، تعرّضا هما نفسهما الى التصديع والتآكل.

    وكان أمران يعززان الاستعداد الخصب لما هو تآمري في النظام. فالخلاف مع سورية، وهي بوابة العراق الى سياسات العروبة، وسم سلوك بغداد بتوتر ظاهر. وأهم من هذا، العداء الصريح الذي واجهه حكم البعث من ايران الشاهنشاهية، خصوصاً وقد ضاعفت دعمها للأكراد، ما ضاعف ميوله الهستيرية.

    وهكذا، في كانون الثاني 1970، كشفت أجهزة الأمن خطة لاطاحة النظام مدعومة من طهران، وكان الكشف هذه المرة أقرب من الكشوفات السابقة الى الحقيقة. فالشاه و"الحلف الاسلامي" يومذاك لم يُعرفا بأي ود للبعث، حتى لو اقتصرت "تقدميته" على ارتفاع صوته وأدائه المسرحي. والزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني الذي ضلع في المحاولة، كانت مرارته معروفة حيال حكم البعث في 1963، ناهيك بشوفينية دعوته القومية. بيد أن السلطة وقد ربطت التنفيذ باللواء عبد الغني الراوي، الذي شغل مناصب وزارية في عهد عارف، شكلت محكمة خاصة ضمت طه ياسين رمضان وناظم كزار، ونفّذت لتوّها الاعدام بـ42 شخصاً، ماضيةً في توطيد قبضتها الأمنية.

    على أن ذاك القدر من الصدق الذي حمل الحكم على تقديم أدلّة ما للجمهور، هو ما اختفى كلياً في التجارب المتخيّلَة اللاحقة. ففي 1974 اعتُقل قرابة 160 شخصاً من المهنيين ورجال الأعمال والأكاديميين والمثقفين بتهمة الماسونية. وقد ابتدأت المأساة الملهاة بفتح صندوق أمانات مغلق بعد انتهاء مهلة الـ15 عاماً المحددة. فلما فتحته السلطات "وجدت" قائمة بأسماء مدعوّين الى حفل أقيم في 1942 في بيت المايجور البريطاني تشادويك الذي غادر العراق عام 1958.

    وكان يصعب، تبعاً لأعمار أولئك "المتآمرين"، أن يكونوا من النوع الذي يهدد سلطة عسكرية، خصوصاً أن المتهم الأساسي كان في الثانية والتسعين. واذا صح ان الرجل هذا انضم فعلا الى المحفل الماسوني، فانه فعل في بومباي عام 1908، أي قبل عقد كامل على انهيار السلطنة العثمانية.

    والحال أن سنوات 1968 و1975 و1976، أنتجت من القوانين والقرارات والتعديلات الدستورية ما يقضي بإعدام أصناف من البشر الاعداء الذين كفوا عن الوجود في العراق، كالماسونيين والصهاينة.

    ما لم يكفّ عن الوجود، على أي حال، كان عُظام البعثيين المستفحل الذي لا يرى في الكون الا المؤامرات. فمن لا يملك الا المطارق لا تقع عينه، في آخر المطاف، الا على المسامير. وكم بدت باردة، بل مثيرة للضحك، مقارنات عقدها بعض البعثيين يومذاك بالثورتين الفرنسية والروسية، لإقناع العالم بأنهم يملكون شيئاً آخر غير القمع. وكان كافياً أن الثورتين المذكورتين شابهتا الانقلاب العراقي في التعرّض لـ"مؤامرات" الخارج وحروبه، وفي الاعتماد على الارهاب، للايحاء بشَبه أعمق وأبعد. على ان النزعة السلطوية الحادة والمبالغات الأمنية واحتدام الصراعات مع الجوار لا تلخص كل شيء. ففي مقابل مشروعين أرادهما القادة اليعاقبة والبلاشفة لتغيير العالم، نضح الانقلاب العراقي بتآمر مجاني وظيفته تثبيت أصحابه في السلطة لا غير والبحث، بعد ذاك، عن قضية.

    وما بين مطارق هي كل عدّتهم، ومسامير هي كل العالم المحيط، أُسست "جمهورية خوف" قاربت الخيال الخرافي، حتى أمكن الظن أنها ميثولوجيا أخرى تنتجها "بلاد ما بين النهرين" التي سبق أن أعطت البشرية الميثولوجيا.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (6): الشيوعيون ضحايا الجبهة والسذاجة والسوفيات، وضحايا صدّام طبعاً

    بعد أن تناولت الحلقة الخامسة تأسيس "جمهورية الخوف"، هنا التتمة:

    وكان هناك الشيوعيون. ومعهم تحضر ذكريات بشعة لعهدي قاسم والبعث: الموصل و"قطار السلام" في 1959، و"الحرس القومي" و"قطار الموت" وسلام عادل من أصل سبعة آلاف جثة للشيوعيين في 1963

    وفضلا عن الكراهية المريرة، أحس كل من الطرفين بحسد أمرّ حيال الآخر. فالبعث نظر الى الحزب اللينيني الثاني عدداً في العالم العربي نظرة مصارع الى أستاذ مدرسة: الأول قوي بعضله، قادر على ممارسة القتل، لكنه يتمنى من أعماق قلبه امتلاك شيء من معرفة الثاني، أو ما تراءى يومها كذلك. واذا كان في وسع المصارع خنقه حين يشاء، فإنه يحس ان انتصاراً كهذا قد يكشفه على الملأ جاهلاً أميّاً، فيرتدّ عليه بالفضيحة.

    إذاً، صدر بعث العراق، جزئياً، عن ذاك الحسد لمن كانوا سادة الشارع في الخمسينات ومحور الحياة الثقافية للستينات. وقد آل بهم الحسد، معطوفاً على تطورات سياسية وايديولوجية تعدّت العراق الى جواره، الى سرقة بعض ملابس الشيوعيين وإيداعها المكتبة الفقيرة للعقيدة البعثية. وبالفعل فرز حزب عفلق، على مدى الستينات، عدداً من الكتّاب الذين اختصّوا بهذه المهمة، فكان منهم الياس فرح السوري وطارق عزيز العراقي وآخرون ممن يزوّجون باستمرار "قيادة الطبقة العاملة" الى "الرسالة الخالدة".

    والشيوعيون، بدورهم، حسدوا البعث كما يفعل فلاح بالكاد يكفيه قوته إذ ينظر الى بدوي يغنم، بالسلب والنهب، قطيعاً بعد آخر. فهم حين أمسكوا بناصية الشارع في 1959، وكان لهم في الجيش 500 ضابط، امتنعوا عن القيام بانقلاب عسكري سهل أقدمت عليه، بعد عشر سنوات، قبضة من المغامرين البعثيين. وكان من مفارقات تلك العلاقة العجيبة ان شيوعيي العراق دفعوا غالياً ثمن صداقتهم للسوفيات الذين أوصوهم بأن لا يفعلوا، حرصاً على تحالفهم مع قاسم، فيما أفاد البعثيون لاحقاً من أنهم بلا أصدقاء يردعونهم، ففعلوا.

    بيد ان الأمر أكثر من هذا. فالأخيرون كانت لا تزال لديهم مرجعية هي "القيادة القومية" التي شرّدها انقلاب 23 شباط (فبراير) السوري ما بين بيروت وعواصم أخرى. وتحت وطأة هزيمة 1967، أوصت تلك القيادة المنبوذة في كل مكان، والمعارضة لكل مكان، بإقامة "جبهات وطنية عريضة" للرد على الهزيمة. وتنفيذاً لتوصية ميشيل عفلق، اتصل تلامذته العراقيون بشيوعيي بلادهم عارضين عليهم الجبهة، فتلقّوا ردّين: واحداً من الحزب الرسمي، أي "اللجنة المركزية"، مفاده الرفض. فمعلومات الشيوعيين، يومها، ان عدد البعثيين لا يزيد عن سبعين شخصاً وهم، أصلاً، تعوزهم الثقة بحزب عفلق، ناهيك عن التعامل معه. أما الرد الثاني فجاء من الأقليين، أو "القيادة المركزية" بزعامة عزيز الحاج. وهؤلاء المعوّلون آنذاك على الكفاح المسلح، أتى ردّهم أكثر جذرية في رفضه.

    والبعث كان، لأسباب عدة، اختار مخاطبة الشيوعيين. فهناك التنافس مع الرفاق الألدّاء في سورية على الظهور في مظهر "تقدمي". وهناك اليسارية الشعبوية التي لم تفارق البعث في سائر أقطاره. وأخيراً، وُجدت قلة من البعثيين العقائديين، كان عبد الخالق السامرائي أبرزهم، ممن أرادوا حقاً بناء "جبهة ترد على الهزيمة".

    ثم ان الشيوعيين، مثل سائر رفاقهم العرب، كانوا باشروا، بعد 1967، مصالحتهم مع القومية العربية. فقد خرجوا من الكونفرانس الثالث الذي عقدوه في كانون الاول (ديسمبر) من ذاك العام بلغة منفتحة عليها وعلى قضية فلسطين. ومنذ خريف 1968 جعلوا يعزفون تكراراً على وتر "حق الشعب العربي الفلسطيني بالعودة وتقرير المصير". واذا صح ان انشدادهم الى التصور السوفياتي-المصري كما عبّر عنه مشروع روجرز، لم يرو غليل البعثيين، فالصحيح أيضاً ان التشكيك القومي القديم بمواقفهم لم يعد بديهياً وتحصيل حاصل كما كان من قبل.

    وتجدد العرض بعد وصول البكر وصدام الى السلطة في 1968، فطالب الشيوعيون باطلاق المساجين اولا، وبحل الموضوع الكردي واشاعة الحرية للعمل الحزبي، فيما تمسكت جماعة الحاج، مأخوذةً بغيفارية الستينات، بالرفض المطلق. وفعلاً اصدر البعث عفواً عن مساجين اللجنة المركزية السياسيين وأرجع المطرودين منهم الى اعمالهم، متيحاً للشيوعيين في منافيهم الكثيرة ان يعودوا. غير أنه لم يتزحزح في ما خص السماح بحرية النشاط الحزبي.

    وبدا واضحا ان الشيوعيين يطلبون ما لا يمكن للبعثيين ان يحققوه، بهدف أن لا يُصار الى اتفاق، فيما البعثيون مستعدون لأن يحققوا أكثر مما هو متوقع منهم. ذاك أن البكر وصدام العارفين بضيق قاعدة نظامهما، باتا واثقين من سيطرتهما على الجيش والأمن. إذاً ما الخطر في تقديم التنازلات حيث لا سلطة فعلية، وبما ينقّي الصورة التي شاعت عن حزبهما وسلطته في 1963. والأهم أنهما كانا في أمس الحاجة الى السلاح السوفياتي.

    والحال ان التوجه نحو موسكو كان قليله اختياراً وكثيره اضطراراً. فشاه إيران يومذاك لم يُخفِ عداءه النشيط للحكم البعثي: ففي 1970 رعى محاولة تآمرية، وفي 1971، وقد انسحبت بريطانيا من الخليج، استولت قواته على جزر ابو موسى وطنب الكبرى والصغرى. ولأن التوهّم لا يصل بالبكر وصدام الى افتراض فكّ التحالف بين الشاه وواشنطن، فيما العلاقات مقطوعة مع الولايات المتحدة منذ 1967، بدا الخيار الروسي الممكن الوحيد. وإلى ذلك لا يمكن البعث، بين ليلة وضحاها، أن يغير السلاح السوفياتي الذي يستخدمه الجيش العراقي منذ 8591. فهذا من الكماليات التي تحصل في أزمنة الانفراج، والأفق يومها ملبّد بالتوتر في الداخل كما الخارج.

    أما القيادة الشيوعية فلاحظت ان بعض سياسات البعثيين الجديدة "وطنية"، بل "تقدمية". وفي هذه الخانة صُنّف اتفاق 11 آذار (مارس) مع الأكراد والاجراءات النفطية التي انتهت بتأميم "شركة نفط العراق" في حزيران (يونيو) 1972. لكن القيادة ظلت تتردد، لا سيما وأن قاعدتها الحزبية لم تتزحزح عن رفضها التقاربَ مع "حمَلة السكاكين"، مغلّبةً خوفها وعداءها تبعاً لماضيهم وما انطوى عليه من مناهضة تكوينية للشيوعية.

    بيد ان مرجعية الشيوعيين ليست قيادة قومية مطرودة وضعيفة. إنها الاتحاد السوفياتي، ثاني جبارين في العالم يومذاك. وبوجود أصدقاء كهؤلاء لم يكن الشيوعيون بحاجة الى أعداء. والحق ان السوفيات أنفسهم كانوا مَـن صنع الجبهة التي جمعت الحزبين العراقيين ابتداء بـ1973. وهم كانوا من حسم في النهاية، وبالاتجاه الذي حسموا فيه عام 1959، فارضين على رفاقهم في "حزب فهد" زواجاً قسرياً ما لبث ان انتهى اغتصابياً ايضاً.

    لكن تلك قصة كثيرة المقدمات. ففي 1969 بدأ تقارب حذر بين البعث واللجنة المركزية أدنى، بالتأكيد، من سوية جبهوية. ذاك ان بغداد كانت اعترفت في 30 نيسان (ابريل) بألمانيا الشرقية، وعقدت اتفاق كبريت مع البولنديين في أول أيار (مايو)، ثم معاهدة للتعاون الاقتصادي والفني مع برلين في أواخره وأخرى مع موسكو في 5 تموز (يوليو). وجعل الطرفان يتعاونان داخل أُطر ومؤسسات تعادل درجة التقارب المتحقق. فقد وُجدا سويةً في جمعية الصداقة العراقية-السوفياتية ولجنة التضامن مع الشعوب الأفرو آسيوية، كما أرسلا، في العام نفسه، وفدا مشتركا الى اجتماع مجلس السلم العالمي. وسُمح للشيوعيين بنشر دوريتهم "الثقافة الجديدة"، كما عُين، أواخر العام، عزيز شريف السكرتير العام السابق لأنصار السلم، وزيرا للعدل. وقبل ان يخوض الطرفان على لائحة واحدة، في 1970، معركتهما في انتخابات نقابة المحامين أصرّ الشيوعيون على التذكير بالمسافة التي تفصل بينهما. وبالمعنى هذا أكدوا على أن توزير شريف توزير له كـ"شخصية مستقلة"، معبّرين بصوت خفيض عن خوفهم من أن يكون هدف التبرّع بوزارة العدل التصديق على أحكام إعدام كثيرة.

    وبتردد ملحوظ سار الشيوعيون، لكنهم لم يمتلكوا لا المناعة ولا الشجاعة كي يعارضوا عاطفة جارفة يبديها رفاقهم السوفيات، أو يبرّدوا الحرارة التي تكتسيها علاقتهم بالعراق. ففي 9 نيسان 1971 شهدت بغداد، بكثير من الضجيج، توقيع البكر وألكسي كوسيغين، رئيس الحكومة السوفياتية، على معاهدة تدوم 51 سنة قابلة للتجديد، تربط الطرفين بما وصفته اللغة السوفياتية الشهيرة بـ"صداقة دائمة لا تُفصم عُراها". وبموجبها تعهدت كل من الحكومتين "عدم الدخول في اي تحالف او المشاركة في اية كتلة او السماح باستعمال أراضيها لأي نشاط قد يُضر بالطرف الآخر عسكرياً". ولئن هلل "حزب الطبقة العاملة" في العراق "لهذا المكسب التاريخي العظيم"، بدا واضحاً أن السوفيات مستعدّون لأن يضحّوا بالرفاق العراقيين من أجل العلاقة بحكومتهم، على ما فعلوا في بلدان، عربية وغير عربية، كثيرة.

    وموسكو صارت تملك الكثير مما يستحق التمسك به. فقبل توقيع المعاهدة بيوم واحد، وافقت على تقديم قرض كبير لبغداد لتمويل منجم للفوسفات ومصنع للاسمدة الكيماوية وخط انابيب نفطي ومصفاة للنفط ومحطتين لتوليد الكهرباء مائياً. وفي 42 حزيران نص اتفاق فني على تقديم الاتحاد السوفياتي مساعدات لتطوير حقل نفط الرميلة الشمالية. وفي هذه الغضون كان الغزو الايراني لجزر الخليج يرشّح التعاون للارتقاء الى "مستوى أرفع".

    ولأنه لم يكن في وسع شيوعيي العراق ان لا يشاركوا في صد "مؤامرات الرجعية الشاهنشاهية والامبريالية الأميركية"، بدأت عملية تفاوض مديد ومعقد بين الحزبين. وعلى امتداد تلك العملية بدا حزب فهد مغلوباً على أمره. فتوازن القوى كان مختلاً بالكامل ازاء البعث، فيما أدى الانفراج الجزئي الى انكشاف بعض قيادات الشيوعيين وقواعدهم لأعين السلطة. وبينما جعل السوفيات يضغطون عليهم كي يتفقوا مع خصوم الأمس، وبأسرع ما يمكن، كان النموذج السوفياتي في بناء الجبهات حجة دائمة لصالح البعثيين: إذ كيف يُطلَب الانتقاص من مفهوم "الحزب القائد" في بغداد ولا تجوز المطالبة نفسها في موسكو او أي من عواصم كتلتها؟ أولم يكن البلاشفة الروس أول من أدخل المفهوم هذا الى السياسة، وأول من أعطاه أنياباً من حديد يجهد صدام لإنبات مثلها في فمه؟

    وفعلا كان التفاوض مع اللجنة المركزية مضنياً، تخللته محاولة استغلال الاتفاق مع الاكراد في 1970 لعزل الشيوعيين وتهميشهم. ولم ينقض غير اربعة اشهر حتى كشفت قيادة البعث عن شروطها الفعلية للقبول بالشيوعيين أعضاءً في "جبهة وطنية تقدمية". فقد طالبتهم بـ"تثمين موضوعي وصريح" للبعث كـ"حزب ثوري وحدوي اشتراكي ديموقراطي"، وبـ"تقييم لا لبس فيه… لثورة 17 تموز"، وبـ"اعتراف بالدور القيادي لحزب البعث في الحكم والمنظمات والجبهة"، والتزام بعدم إيجاد "ولاءات خاصة داخل القوات المسلحة غير الولاء للثورة"، ورغبة في اقناع "الامتدادات الدولية" للحزب الشيوعي بالتحالف مع فروع البعث في البلدان العربية الأخرى، و"الرفض الكامل للدولة الصهيونية"، و"تبني النضال المسلح من أجل التحرير الكامل لفلسطين"، والقبول بالوحدة العربية على انها "الهدف الأسمى والأساسي الذي يوحّد كل الأهداف"، والإيمان بـ"التحول الاشتراكي للعراق". وبلغة أخرى، أريد من الشيوعيين أن يصيروا بعثيين من دون مشاركتهم مغانم السلطة.

    وشكك الحزب الشيوعي بهذه الشروط وفنّد، بما يجمع بين الرزانة والتهذيب والعقلانية اليسارية لذاك الزمن، مطالب البعث. وكان لافتا للنظر ان يعترض الشيوعيون، بين ما اعترضوا، على "التحول الاشتراكي" لأنه "غامض" بقدر ما "يحرق المراحل". فالبلد، في نظرهم، لا يزال مطلوبا منه ان "يستكمل ثورته الوطنية الديموقراطية". واذا بيّنت هذه المساجلة ان حزب فهد متماسك في خرافته، يتحكم بها ويسيطر عليها، بيّنت ان حزب عفلق يسيء سرقة الخرافة الشيوعية برداءة المصارع حين يستعير لسان الأستاذ.

    وفي 20 تموز، وفي مؤتمر صحافي، استُحضر المصارع الى الحلبة، فحذر البكر الشيوعيين من "اللعب بالنار" واتهمهم بـ"نكران الجميل"، من دون ان ينسى التهديد لكل من تسوّل له نفسه التجرؤ على الحكم.

    وبدوره خرج المؤتمر الشيوعي العام الثاني، الذي انعقد عامذاك في كردستان، بمقررات تتمسك بملاحظات لا يود البعثيون سماعها. فهي قضت بتأييد مبدأ التعاون مع البعث مرفقاً بالتحفظ عنه. ولئن التقى القيادي الشيوعي عامر عبد الله بالبكر وصدام فقد نشر، في الوقت ذاته، في "الثقافة الجديدة"، مقالات انتقادية لما طرحه البعثيون.

    ورغم كل شيء تواصل الحوار الذي لم يملك الشيوعيون قطعه. فقاده من الجانب البعثي عبد الخالق السامرائي الذي ما لبث ان سُحب لتفهمه مواقف محاوريه ممن أصرّوا على ألاّ يكون هناك طرف قائد. وتهدد الحوار مرارا ودغدغت بعض الشيوعيين فكرة العودة الى السرية، ولكن هيهات. فقد وصل الأمين العام عزيز محمد حاملا توصية موسكو بأنه ينبغي التفاهم مع النظام "اليساري" القائم.

    وفي 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1971 أعلن البكر "لائحة العمل الوطني" التي مهدت الطريق الى الجبهة، فأكدت على محورية "التصدي لشاه ايران وجميع المؤامرات الامبريالية والصهيونية"، كما دعت الى "تحالف وطني واسع"، والى "ضمان… كل الحريات الديموقراطية لجماهير الشعب وقواه الوطنية والتقدمية، بما في ذلك حرية الاحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والمهنية والنقابية". ورد المكتب السياسي للحزب الشيوعي بعد 12 يوماً فبادل خشبية اللغة البعثية بخشبية مماثلة، كما رد على تحية البعث السياسية بأحسن منها.

    وبقي للشيوعيين، مع هذا، حق التشدد في ما يمسّهم في أرواحهم وأجسادهم. فهم، في آخر المطاف، يتعاطون مع البعث، وما أدراك ما البعث! هكذا طالبوا النظام بوضع "نهاية حاسمة… لكل أشكال الاضطهاد" ضدهم او "ضد اية قوة وطنية أخرى". لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فقبل ان يبدأ التفاوض، وفي موازاته، استخدم البعثيون القوة بطرقهم المعهودة. ففي 5 تشرين الثاني 1968 قُتل شيوعيان وجرح آخرون خلال اضراب في معمل للزيوت النباتية في بغداد. وبعد يومين فقط قُتل ثلاثة منهم إذ هوجمت مسيرة نظّموها، في الرصافة ببغداد، بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين للثورة البلشفية. وكانت قوات الأمن التي يمسك بها صدام من هاجم وقتل. وفي حزيران 1969 قُتل عضو اللجنة المركزية ستار خضير، وفي كانون الأول اختطف الشيوعي عبد الامير السعدي. وفي 20 آذار 1970 عُثر على محمد أحمد الخضري، عضو لجنة بغداد، مقتولا في احد شوارعها، وبعد يوم واحد فُرّق بالقوة شيوعيون أرادوا ان يحتفلوا بعيد نوروز الكردي في العاصمة. وإذ نفى البعث، أكد الحزب الشيوعي ان مئات عدة اعتقلوا في انحاء العراق.

    والحال أن شتاء 1970-71 شهد حملة اعتقالات واسعة النطاق للشيوعيين في المحافظات الجنوبية. وفي كانون الثاني (يناير) مات تحت التعذيب قياديان منهم هما كاظم الجاسم وعزيز حميد. وفي أيار قُبض على ثابت حبيب العاني، عضو اللجنة المركزية، في احد شوارع بغداد وسيق الى مكان مجهول تحت حراسة رجال الأمن العام.

    واضطُر، في النهاية، صديق الحزب عزيز شريف الى الاستقالة في آب (أغسطس) من وزارة العدل لتذيع، بعد أقل من شهر، أخبار موت عضو الفرع الكردي واللجنة المركزية، الشيخ علي البرزنجي، تحت التعذيب في سجن "قصر النهاية".

    اما القيادة المركزية التي تمسكت بموقفها الراديكالي فصعّدت، أواخر 1968، داعيةً الى اطاحة النظام. وبشجاعة رجال عصابات، هاجم مناضلوها مكاتب رسمية استولوا على اموالها، كما أطلقوا النار على منزلي صدام وصلاح عمر العلي. لكن في شباط 1969 نجح النظام في القبض على الحاج الذي حمله تعذيب لا يُطاق على كشف رفاقه، فاقتيد مع اعضاء مكتبه السياسي الى "قصر النهاية" أيضاً. وهناك أودى التعذيب بأكثر من عشرين في عدادهم عضوا مكتب سياسي. وانهار الحاج داعياً أتباعه، عبر شاشة التلفزيون، الى التخلي عن العنف والتعاون مع الحزب الحاكم.

    على ان يوم 14 ايار 1972، وقبل أن تُبت المسائل العالقة مع اللجنة المركزية وتقوم الجبهة، كان يوم الهدية المسمومة. فقد عرض البعث على الشيوعيين المشاركة في الحكم بحيث تكون لهم حصة في السلطة ما عدا الجيش، وثلاث وزارات هي الدولة والري والعدل. وفعلاً سمّى الحزب وزيريه عامر عبد الله ومكرم الطالباني، قبل أن يتخذ قراره بالمشاركة فيها أو التوقيع عليها الذي تأخر حتى 17 تموز 1973

    وإذ دبّت الحرارة بموسكو ظلت قاعدة الحزب الشيوعي فاترة، لا سيما وان السلطة الفعلية ليست في يد مجلس الوزراء اصلاً، بنص من الدستور الموقت، فيما مراكز القوى كلها في يد البعث حصراً. لكن الموجبات السوفياتية ودعم النظام "في مواجهة شركات النفط وايران والامبريالية" كُتبت لها اليد العليا.

    إذاً انطوى الأمر على مشاركة شكلية، وإن تحققت فيها للشيوعيين بضعة إنجازات. فقد كسب حزبهم مشروعية قانونية وصارت صحيفتهم السرية "طريق الشعب" علنية فغدت تطبع، في 1975، اكثر من ستة ملايين نسخة. وإذ أتيح لهم نشر أدبياتهم راحوا يكسبون أعضاء جدداً. لكن التفاؤل استبد ببعضهم حين ابتدأ هدم "قصر النهاية" الذي قضم ما لا يُحصى من جثث الشيوعيين، وفات هؤلاء أن السجون يمكن ان تُبنى بالسرعة التي تُهدم فيها ما دام السجّان موجوداً. كذلك جرف الوهم بعضهم فخالف تحذير كارل ماركس من أن سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً. وراودت هذا البعض أفكار بلهاء في ما خص صدام الذي وُصف بقائد "الجناح اليساري" للبعث، كما لم يتوقف تذكيرهم بنيله وساماً من الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.

    على أن المفاجآت كانت بالمرصاد. ففي آذار 1975 وُقّعت اتفاقية الجزائر العراقية-الايرانية وانهارت الحركة الكردية تالياً. وهذان الحدثان ألغيا الحاجة الداخلية الى الشيوعيين بقدر ما خفضا درجة التعويل على موسكو خارجياً. وفي الغضون هذه شرعت تظهر نتائج الارتفاع الهائل لأسعار النفط بعد حرب تشرين. فما بين 1973و1978 تضاعفت مداخيل الدولة العراقية قرابة عشر مرات، وفي 1976 غدت حصة النفط من مجموع عائدات الدولة 87 في المئة. وانطلقت مشاريع التنمية الأسرع والأكثر ديناميكيةً، وفي الآن نفسه الأكثر رهافةً وحذلقةً. وأضحت المجموعة الحاكمة تتصرف تصرف أغنياء جدد مأخوذين بتقنية الغرب الأرقى، ومتبرّمين بطرق السوفيات وبطئهم وقِدَمهم ونوعية تسليمهم للبضائع والتزامهم الرديء بالمواعيد.

    وهذا لم يعن، بالطبع، ان السوفيات حُرموا كل شيء. فهم مُنحوا، مثلاً، مشروعاً ضخماً، أواسط السبعينات، لبناء خط انابيب البصرة بغداد. لكـن الاتجاه نحو فـرنسا وسـائر الـبـلدان الغربـية شـرع يتعــاظـــم. وبـعدما وصل حجم التبادل الخارجي للعراق مع دول الكتلة السوفياتية الى 13 في المئة من مجمل التبادل عام 1974، انخفض الى 7 في النصف الثاني من 1975، ليستقر في 1981 على نسبة هزيلة لا تتعدى الـ2.6. كذلك امتد تنويع الاستيراد الى السلع العسكرية، وهو ما احتكرته طويلاً موسكو وكتلتها. وبفعل إخضاع الاكراد والهدوء السائد على الجبهة الايرانية، أتيح تغيير انظمة التسلح وتدريب الجنود على معدّات جديدة بأعصاب مسترخية.

    وللمرة الاولى من قبل طرف غربي، وافقت فرنسا، في ايلول 1976، على تزويد العراق ما بين 60 و80 طائرة ميراج، تلاها في العام التالي 200 دبابة. وشقّت سياسة بغداد في تنويع الاستيراد طريقها، ولم يكن على السوفيات الا أن يعتصموا بحبل الصبر: ذاك ان الرئيسين المصري انور السادات والسوداني جعفر نميري سبق أن رسما معياراً عربياً يمكن ان يبلغه إذلال موسكو، فبدا الانعطاف العراقي مهذباً جداً بقياسه. ثم ان الروس حافظوا على حصة، ولو متضائلة، من سوق غنية يتقبّلون منها ما لا يتقبلونه من مصر والسودان.

    وتواطؤ كهذا على الصمت أتاح لسلطة البعث ان تقدم انعطافها بوصفه عاملاً تقنياً لا تخالطه السياسة والايديولوجيا. فكيف وأن حرب تشرين وصواريخ سام السوفياتية لم توجِد للاتحاد السوفياتي تلك الشعبية التي توخّاها الشيوعيون، فيما ظلت البيئة العراقية السنية والمحافظة مقيمة على تحفظها الدائم عن الشيوعية.

    وفيما بدا السوفيات زوجاً مخدوعاً ومضطراً الى التظاهر بالرضا، كان من الصعب على شيوعيي العراق ان يفعلوا الشيء نفسه. فقد ترافقت تلك التحولات مع تعاظم سلطات صدام على حساب البكر، ومن ثم تضخم المشروع التوتاليتاري وتمدده الى كل زوايا المجتمع وتنظيماته ونشاطاته. وأحس الشيوعيون بغزو كاسح ماسح ترفده قدرات مالية غير مسبوقة.

    والحال ان براقش كانت جنت على نفسها. فتأميم 1972 ثم ارتفاع العائدات في 1973-74 مما تحمس له الشيوعيون وأوّلوه مكسباً وطنياً، كان مكسباً دولتياً أيضاً. وحين تكون السلطة بمنجاة من الرقابة والمساءلة، يطغى الدولتي في المكسب على الوطني، فيقضي الشيوعيون عند زاوية التقاطع بين الاثنين، وبين التأويل الساذج والواقع الخبيث.

    لكن غزو الفضاء العام، ومعه الحيّز الخاص، جاء معززاً بقمع من عيار بعثي. فمنذ أواخر 1975 بدأت حملة تبين معها ان السنتين السابقتين كانتا تسميناً للطريدة قبل التهامها. فقد اعتُقل عشوائياً عدد من الشيوعيين فتعرضوا لتعذيب يشبه توجيه رسالة مبكرة الى حزبهم. ونشرت "طريق الشعب"، في آذار 1976، سلسلة مقالات تنتقد سلوك النظام في ما خص الاكراد والاقتصاد، موحيةً بأنه يقترب كثيرا من الغرب. وفي نيسان بدأ الحزب يتذمر وراحت نشاطاته تتعرض للتقييد، فحين حل مؤتمره الثالث في بغداد، في أيار، عبّر بوضوح عن الاستياء، مطالباً بتفعيل الجبهة وتطبيق علاقاتها على المنظمات الجماهيرية التي يحاصرها البعث ويخترقها.

    وجدد التدهور ذكريات الـ1963. فحُرّمت الحيادية واللابعثية في الوظائف العامة والشرطة، ناهيك عن الجيش. وكتب طارق عزيز في جريدة "الراصد" البعثية معيّراً الشيوعيين بعلاقتهم بموسكو. وأخيراً جاءت المحطة الانفجارية باعتقال الأمن 38 ضابطا حُكموا بالاعدام الذي نُفذ بكثيرين منهم. ووسّط الشيوعيون البكر، قائد "الجناح اليميني" في البعث، ففشل أسيرُ قصره في ان يغير القدر الذي رسمه صدام وصدام، في أمر الجيش، لا يقبل الوساطة.

    وانفتح الباب واسعاً للوعيد الذي يقطر دماً. ففي أواخر أيار 1978 حذّرت صحيفة "الثورة" الحزبيين غير البعثيين من أن "عقوبة الاعدام الثورية" يمكن تطبيقها على كل محاولة تسلل الى الجيش. وامتدت مداهمات الشيوعيين الى المحافظات حتى طاولت الاستدعاءات والاعتقالات ما مجموعه سبعون الف شخص. عندها أصدر الحزب الشيوعي قراراً يدعو كل من يستطيع مغادرة البلد أن يفعل. وقبل ان يستقيل الوزيران عبد الله والطالباني رسمياً، بدأ محازبوهما هجرة صارت من سمات المهجر العراقي. كما ظهر، بين الشيوعيين، من يدعو الى كفاح مسلح من كردستان.

    وفي تموز أصــدر مجلس الثــورة مــرسوماً يحظّر كــــل نشاط سيــاسي غــير بعثي عــلى الجــنود الســابقين، جاعــلاً عقوبته الاعــدام. وبــالطــبع انــدرجــت قــراءة الصحــافة الشيوعـية فـي نشـاط كــهذا. ويكفي تذكّر عــدد الجنود المتقاعدين والمـــسرّحين فـي بـلد كالعراق، لادراك خــصوبة الضــحايا الـمحتملين لتهمة كتلك. وتلاحـــقت، في الأشهر التـــاليــة، التقارير المتفرقة عن اعدامات واعتــقالات للشيوعــيين. وجــرى، في الأشهر والسنوات القليلة التالية، تعذيب المئات منهم في السجون، فانتُزع البعض من منازل لم يعودوا اليها. وكانت الجثث، في بعض الحالات، تُرمى امام بــيوت الأهل مُشوّهةً منتَهَكة. وفي حالات أخرى كان على الأقارب ان يُحضروا الجثث بأنفسهم من محطات الشرطة، فيتعرض للإهانة والبذاءات منهم من يتعرض، وأحياناً يكون ضرب، من دون أن يخلو الأمر من اغتصاب.

    ولم تفعل الحرب مع ايران، ابتداء بأيلول 1980، الا تقديم مزيد من الذرائع للمضي في سلوك وحشي كهذا. لكن لئنْ بقيت السكاكين على حالها فإن ضحاياها شرعوا يتغيّرون.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (7): مذابح الأكراد في موازاة صعود صدام وحروبه

    بعد ان تناولت الحلقة السابقة تجربة الشيوعيين العراقيين مع البعث، هنا التتمة:

    قبل أن يُغمض الملاّ مصطفى البارزاني عينيه في مستشفى جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة، روى بعضاً من غليله. فإدارة جيرالد فورد - هنري كيسنجر التي خانته كانت ولّت وحل الديموقراطيون في البيت الابيض. وشاه إيران كان قد لفظه عرشه للتوّ فيما شوارع طهران تعجّ بتظاهرات غير مسبوقة في التاريخ. مع هذا لم يرو الملاّ الا بعضه القليل. فالألم النازل بزعيم أكراد العراق ما بين أواخر الاربعينات وأواخر السبعينات، والذي لم يصدر عن الجسم وحده، ظل ينبض. ذاك ان صدام حسين كان في أوجه يومها. وأشهرٌ قليلة فقط هي التي فصلت بين رحيل الزعيم الكردي، عام 1979، وبين صعود "السيد النائب" الذي صار "سيادة الرئيس". وسريعاً ما انكشفت للعالم كله رداءة الحال في كردستان العراقية. ذاك أن أرضها الفسيحة ضنّـت بمكان تؤوي اليه جثة قائدها الأسطوري.

    والحال ان العراق، منذ قيامه في 1920، فشل في أن يكون وطناً للأكراد. فقد انتفضوا، بُعيد ولادته على يد بريطانيا بتصميم وضعته "مس بيل"، بقيادة الشيخ محمود الحفيد أو البارزِنجي. ومع أن الأخير أعلن نفسه ملكاً على شعبه يناظر فيصل الأول في بغداد، أخضعته طائرات سلاح الجو البريطاني وأخضعتهم.

    ومنذ محمود الحفيد انطوى تذمر الاكراد على بُعدين ليسا بالضرورة منسجمين: فمن جهة مطالب غيّرت تحولاتُ الزمن مقاديرَها، أدناها ظل رفع الغبن وأقصاها الاستقلال، وبينهما صيغ متنوعة للحكم الذاتي. ومن جهة، رفض تقليدي للسلطة المركزية ولفكرة الدولة الحديثة رفعته قيادات عشائرية وصوفية.

    ولئن شملت النخبة العراقية الحاكمة في العهد الملكي بعض كبار ملاّكيهم من آل بابان وآل القزّاز وغيرهم، بقيت مناطقهم في الشمال مُهملة بائسة، شأنها شأن مناطق الجنوب الشيعي، كما حوصرت لغتهم وهُمّشت ثقافتهم. ومنذ الخمسينات، وعلى امتداد الحرب الباردة، رُبط المطلب الوطني الكردي بالنفوذ الشيوعي والروسي الذي كافحه العهد الملكي بضراوة، لا سيما وجهه الأبرز نوري السعيد. وكان مما عزز الربط أن الملاّ مصطفى البارزاني لجأ الى موسكو اثر انهيار جمهورية مهاباد في كردستان الايرانية أواخر 1946. فتلك المحاولة المبكرة التي حظيت بدعم السوفيات وحضورهم العسكري المباشر، ما لبثت أن تهاوت وأُعدم رئيسها القاضي محمد. ذاك أن موسكو اضطرت الى التراجع امام الاصرار الانغلو اميركي، بعد يالطا وبوتسدام، على انسحاب القوات الاجنبية جميعاً من ايران. وما ضاعف اللبس بين الكردية والشيوعية تركيز دائم من "الحزب الشيوعي العراقي" على حقوق الاكراد، وانتساب أعدادٍ من شبانهم المتعلمين اليه، وتبؤ بعضهم مواقع قيادية فيه.

    وعندما قامت الجمهورية في 1958 عاد البارزاني من منفاه وساد شهر عسل لم يطل مع السلطة الجديدة. فالوطنية العسكرية التي رمز اليها عبد الكريم قاسم لم يسعها التعايش مع هوية ذاتية للاكراد، ولو من ضمن هوية عراقية جامعة. هكذا انفجرت الحرب الأولى في الشمال، فدمّر الطيران العراقي حتى 1961 حوالى 1270 قرية كردية وهجّر أهلها. وكان من تحصيل الحاصل ان تتوثّق علاقة البارزاني بإيران الشاهنشاهية بقدر ما يستدخل الأكراد مقت العسكر في سياستهم كما في عواطفهم.

    وتكرر الأمر مع مجيء البعث الى السلطة في 1963، فساد شهر عسل آخر أقصر من سابقه، لتنفجر الحرب مجدداً. لكن النزعة العسكرية التي أمسكت، يوم 8 شباط (فبراير)، ببغداد افتقرت الى وطنية قاسم العراقية فيما أحلّت محلها عروبيةً لا تماري في كراهية الأكراد. هكذا صار السيء أسوأ. ولما كان بعثٌ واحد يحكم دمشق وبغداد، دفع السوريون بقوات عسكرية قادها العقيد البعثي فهد الشاعر، دعماً للرفاق العراقيين ضد "العصاة البارزانيين".

    وفي عهدي عبد السلام وعبد الرحمن عارف، حاول أحد رؤساء الحكومة، عبد الرحمن البزاز، معالجة المشكلة سلماً فحال الجيش دون ذلك. فعندما عاد البعث الى الحكم في 1968، تحسس الأكراد رؤوسهم وتوقعوا الكارثة. بيد ان العهد الجديد كان مشغولا ببغداد. فقد بدا مستحيلاً للبعثيين، وهم في ضعفهم البالغ، توطيد سلطة مركزية من دون التوصل الى وقف القتال في كردستان، ولو موقّتاً. كما ترددوا لوهلة، متهيّبين المشكلة التي واجهتها العهود السابقة جميعاً، وساهمت في تقويضها كلها. فهم، وقد استغرقهم يومذاك تطهير الجيش وكشف "المؤامرات"، الفعلي منها والمزعوم، التي تواطأ فيها البارزاني والتي لم يتواطأ، بدوا في أمسّ الحاجة الى هدنة في الشمال البعيد ريثما ينتهون من "تنظيف" الجوار القريب.

    لكن الصحيح ايضاً ان المقدمات التي صدر بعث 1968 عنها التقت عند ما يثير ذعر الأكراد. فإلى الانشاء القومي لحزب عفلق، وهو دعوة لا تتعب الى الارتياب بالأقليات التي "تناهض" العروبة، هناك "المثلث السني"، ومن ضمنه تكريت. وهذا، في واقع الحال، المنطقة التي تحاذي كردستان العراقية جنوباً وغرباً. وإذ تقع أربيل على بعد 74 كيلومترا شرقي الموصل، فالخط الذي يمتد من دهوك شمالا الى كركوك جنوبا، ووسطه أربيل، يوازي نصف طول الخط الذي يمتد من الموصل شمالا الى سامراء جنوبا وفيه تكريت. ولئن سجّلت بعض التجمعات السكنية في الخطين، وبينهما، تقاطُعاً وتداخُلاً، فهذا مما أثار التوتر أكثر مما أشاع التقارب. ذاك أن عشائر الغرب العربية لم تحمل لفلاحي الشمال الشرقي من الاكراد الهابطين من جبالهم، والمنفصلين عن عشائرهم، الا المشاعر التي تحملها، في العادة، العشائر المتماسكة للفلاحين. وهذه، في آخر المطاف، مركّب من تعالٍ يصير احتقاراً وارتياب يتصلّب جفاءً. أما الجيش العراقي، ومنذ نشأته، فكان أكراد الشمال أكياس تمرينه، هم الذين انطووا على تطلع استقلالي تشرّب الجيش معاداته وشكك في ارتباطه بخصوم العراق الخارجيين.

    فإذا أضفنا الى اللوحة شخصيتي الملا وصدام فهمنا البقية: فالأول زعامة أهلية وطيدة، والثاني نتاج انخلاع عن كل قوام اجتماعي وعصيان على كل معيار. وهذا اذا جعل الأول ثقيلاً على التحولات، بطيء التغيّر والتغيير، جعل الثاني حركية متواصلة وانقلابية غير مشدودة، بالضرورة، الى أهداف ومقاصد. ثم ان الملا، تبعاً لسلطة متوارثة ومعطاة، كاريزمي من غير ان ينوي، فيما صدام يحاول يومياً، وبشق النفس، اكتساب كاريزما لا تطاوعه الا باستخدام القوة. فكان، إذاً، من الطبيعي في طاووسية ترسو على فراغ، كالتي يتسم بها أن لا تطيق زعامة، كزعامة البارزاني، تعيقها وطأة الثقة بالنفس وأبّهة مؤسسة على البساطة.

    والأبهة ضاعفها التحالف مع إيران. فبسببه نجح الأكراد في آذار (مارس) 1969 في شن هجوم شامل على كركوك. وقبل الهجوم بشهر، دعت طهران الى إلغاء معاهدة سعد أباد التي رسّمت، عام 1937، الحدود المشتركة على الضفة الشرقية لشط العرب. يومها أدى الخلاف الذي أدركت بغداد جديته وخطورته، الى حشد البلدين قواتهما على الحدود. لكنه أدى أيضاً الى السعي وراء هدنة تتيح للبعث التقاط أنفاسه. ولأن حكمه يسعى الى الهدنة بطريقته المميزة، ارتكب الجيش العراقي في 8 آب (أغسطس) 1969 مذبحة في قرية داكان الكردية، في جوار الموصل، لم يُعرف عدد ضحاياها.

    ومثل الشيوعيين، شُدّ الاكراد من شعورهم الى التحالف، إنما مع فارق واحد. فاذا كان الفرد الذي يُضطهَد او يُقتل هو الوحدة الشيوعية التي تتسع احياناً لتشمل عائلته، فإن القرية التي تُهاجم وتُحرق ويُباد من يُباد منها هي الوحدة الكردية.

    وعلى العموم، مضى البعثيون في تبريد الأمور بعد تسخينها فوُقّعت، في 11 آذار 1970، اتفاقية لم يجبّها في الطنين الاعلامي والدعائي الا تأميم شركة نفط العراق بعد عام وبضعة أشهر. وتلقائياً مهّدت الاتفاقية المذكورة لدخول "الحزب الديموقراطي الكردستاني" ما صار لاحقاً "جبهة وطنية تقدمية" تشمل البعثيين والشيوعيين. لكن لأن البعث لم يكن جدياً فإنه أبدى، في 11 آذار، سخاءً زاد ريبة الاكراد بجديته. فالاتفاق تعدى ما تم التوصل اليه مع البزاز لجهة الاعتراف "بشرعية القومية الكردية" والتعهد بتلبية الحقوق اللغوية والاشراك في التمثيل والقرار الحكوميين، فضلا عن الادارة الكردية لمنطقة الحكم الذاتي في كردستان. ولئن أشار الاتفاق الى تطبيق قوانين الاصلاح الزراعي في الشمال، وهو ما لا يُفرح قلب البارزاني، دعا الى اتخاذ "خطوات ضرورية" لتجميع الوحدات الادارية في المناطق التي يدل الاحصاء على ان الاكراد اكثرية فيها. وبالطبع كان لاحصاء كهذا ان يقطع بوجود اكثرية كردية في كركوك ومحيطها حيث آبار النفط. لكن الحكم، بدل اجراء الاستفتاء، شرع للتوّ في محاولته تعديل التركيب السكاني، ناقلاً أعداداً من العرب، لا سيما المسيحيين منهم، الى المدينة.

    ورغم ارتيابه ببغداد، وجد بارزاني نفسه محمولاً على انهاء علاقاته بطهران. وإذ نص الدستور الموقّت لتموز (يوليو) 1970، وذلك للمرة الاولى في العراق، على ان شعب الجمهورية يتشكل من قوميتين رئيسيتين، فيما باشرت الحكومة طبع كتب مدرسية بالكردية، سُرّح بعض مقاتلي البشمركة وخُفّضت درجة تعبئة من بقي منهم. هكذا نال البعث دفعة أولى كبيرة على حساب يتلهّف إلى تقاضيه.


    يد ان الخلافات لم تكن بسيطة. فالبارزاني اختار كركوك عاصمة لمنطقة الحكم الذاتي، هي التي تكاد تعني للأكراد ما تعنيه القدس لليهود، بينما اختارت بغداد له أربيل. كذلك سمّى "الحزب الديموقراطي الكردستاني" حبيب كريم نائباً لرئيس الجمهورية، بحسب ما يقضي الدستور، ورفض البعث تسميته. أما الوزارات الخمس التي مُنحت للأكراد فكانت من طبيعة تقنية واجرائية.

    ولم يكد ينتهي العام حتى جرت محاولة لاغتيال ادريس البارزاني، أحد أنجال الملا مصطفى. وفي أيار (مايو) 1972 تولى صدام بنفسه رئاسة اللجنة البعثية - الكردية، لكنْ بعد اقل من اربعة اشهر حاول ناظم كزار قتل الملا بطريقة جهنمية. فقد أوفد اليه ستة من رجال الدين السنة والشيعة ممن فخّـخهم الأمن في غفلة عنهم. وبالفعل انفجرت بهم أدوات الموت في مجلس البارزاني الذي نجا.

    ولاحقاً، حينما صُفي ناظم كزار، شاء البعث ان يدفن المسؤولية مع جثته، الا أن أعمالاً شريرة أخرى كان يستحيل ردّها اليه وحده. ففي اواخر 1971 واوائل 1972، وبذريعة الانتقام من ايران لاحتلالها الجزر الثلاث، تم ترحيل ما بين أربعين وخمسين ألفاً من ذوي الأصول الايرانية البعيدة الى ما وراء شط العرب. ولما تبين ان كثيرين من هؤلاء أكراد فيليون شيعة، اعتبر الملا مصطفى ان العمل هذا يندرج في تعديل التوازن السكاني.

    وأدت المخاوف بالأكراد الى استئناف اتصالاتهم بإيران في ربيع 1972، فيما تظاهروا تقيةً بأن شيئاً لم يكن. لكن خلال شباط وآذار 1973 هُجّر عدة آلاف من اليزيديين، وبات واضحاً ان الحرارة المعلنة بين الحزبين لا تعكس واقع الحال. وفعلاً نشرت صحيفة "الثورة"، أواخر العام، مقالات ضد قيادة البارزاني وعلاقتها بايران، كما اتهمت الأكراد بالقيام بأعمال تخريبية لمنشآت عامة في الشمال. وما لبثت الطائرات أن عاودت قصفها، وهو ما راح يتوسع حتى استحال، في ربيع 1974، حرباً شاملة، فدُكّت زاخو وقلعة ديزا بقصف مركز ومديد فرّ، بنتيجته، مئات آلاف الأكراد الى المدن.

    وفي الغضون هذه تأكد "الحزب الديموقراطي الكردستاني" من أن البقاء في الجبهة أضحى بلا جدوى. فالسخاء اللفظي في اتفاقية 11 آذار لم يُترجَم أصلاً سلطات فعلية. فما من موقع احتله كردي في مجلس قيادة الثورة، ولا في قيادات الجيش والأمن، ولا في وزارة النفط، ولا في وزارتي الداخلية والخارجية، بينما اقتصر دورهم على قرارات ادارية تخص منطقتهم المختلَف أصلاً على تحديدها. واذا كانوا، لفترة، قد لعبوا، أو لُعّبوا، ورقة البعث ضد الشيوعيين، وجد البعث فرصته ليلعب الشيوعيين ورقةً ضدهم. والأخيرون كانوا مستائين فعلاً من مهاجمة المسلحين الأكراد، وقد ذهب الاختراق الايراني لهم بعيداً، رفاقاً لهم في الشمال. لكن أينما هطل المطر كانت العوائد الايجابية تتجمع في احضان البعثيين.

    وبإفراط استخدم "الذئاب في بغداد"، كما كان يسميهم البارزاني، علاقة الأكراد بإسرائيل التي ما كانت لتنشأ أصلاً لولا رداءة علاقتهم بالعراق، وهي ما توارثه حكامه إدارةً عن أخرى. والحال ان الاكراد العراقيين اعلنوا بطرق مليئة بالمفارقات المتاحة لهم، وبعضها بدا بالغ البشاعة، عن عراقيتهم وعن مغادرتهم أوهام كردستان الكبرى، أو إيداعها الأحلامَ المحرّمة. فالحدث السياسي الأهم الذي عاشوه بين 1946 و1958 كان استقلال "الحزب الديموقراطي الكردستاني" عن أصله الايراني. ولاحقاً عمل التحالف مع هذه القوة الاجنبية او تلك على انسحابهم التدريجي من هموم كردستان غير العراقية. ففي 1968، وقبل انقلاب البعث، أعدم البارزاني سليمان معيني الذي قاد انتفاضة للأكراد الايرانيين. وما بين 1961 و1975 قتل أو سلّم طهران ما لا يقل عن 43 ناشطا كرديا ايرانيا التجأوا الى "إخوانهم" المقيمين غرباً. واستمرت هذه السياسة لاحقاً حيال أكراد تركيا، كاشفةً عن نهج سلبي ودموي في انتسابه المتعرّج الى الوطن العراقي.

    على ان الحبل راح يقترب من عنق الأكراد، وكانت اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 التي ارتكبها مجرمون كثر. فالرئيس المصري أنور السادات أثّث لها بأن أوغر صدر الشاه ضد الاكراد، دافعُه الى ذلك أن صدام وعده بالتحول الكامل في سياسة بغداد نحو واشنطن. والرئيس الجزائري هواري بومدين رعاها واستضافها على هامش مؤتمر لدول الأوبيك. ومن بعيد، شارك في رسمها، منذ 1972، وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. أما المنفذان والموقّعان وصاحبا القضية المباشران فكانا شاه إيران وصدام حسين.

    وهي كانت اتفاقية مكيافيلية بامتياز: فالشاه تخلى عن دعم الاكراد، وصدام تخلى عن نصف شط العرب، فضلاً عن مطالبة البعث التاريخية بخوزستان، او عربستان، أغنى مناطق ايران بالنفط. وطبعاً كان على البعث أن يوقف كل دعم للمعارضة الايرانية بسائر تلاوينها. وفوراً أغلقت طهران التي حققت كسباً يعادل ما خسرته بغداد، الحدود مع كردستان بعدما سحبت وحداتها العسكرية منها. ولم يتكاسل الجيش العراقي فبدأ هجوما مكثفاً ترتب عليه سقوط آلاف القتلى ولجوء 200 الف كردي. ورداً على مناشداتهم تظاهر كيسنجر، المشغول آنذاك بانتكاسات جنوب شرق آسيا، بعدم السماع. وراح بارزاني يوجه الرسالة المستعجلة تلو اخرى اليه والى الرئيس فورد والسي أي آي من دون جواب. وحاول، مع شعور بالامتهان عميق، الاتصال ببغداد نفسها وطلب العودة الى التفاوض. وإذ رفض صدام، أمر الملا أكراده بوقف القتال منعاً لابادتهم. وفعلا سكتت بنادق معظم الـ50 الفاً من عناصر البشماركه.

    وتتالت ذيول اتفاقية الجزائر. فقد تم إفراغ منطقة يترجّح عرضها بين خمسة اميال وعشرة على امتداد الحدود المشتركة من سكانها. بعد ذاك دُمرت القرى وأعيد، بتعويضات متفاوتة تخالطها الرشوة مرةً والعقاب مرةً، إسكان أهلها في مجمّعات سكنية في ضواحي المدن. وكان لا بد من استخدام هذا السلاح للثأر من الملا مصطفى شخصياً، هو الذي قتل البعث ثلاثة من أنجاله: لقمان وعبيد الله وصابر. ففي 1976 نُقلت عشيرة البارزاني نفسها الى جنوب العراق حيث بقيت حتى 1981. وبحسب صحيفة "الثورة" في 1978 بلغ من أعيد إسكانهم، خلال شهرين اثنين من ذاك العام، 150 الف كردي.


    لقد وجد صدام، من دون ان يعبأ بالتخلي عن الأرض، فرصته سانحة لتحويل الغرائز الى سياسة. وبدورهم تعلم الأكراد، على نحو لم يبلغ هذه الدرجة حتى ذاك الحين، مرارة السياسات الواقعية وتوازنات القوى في منطقة لا ترحم. فالصديق قد يكون سوفياتياً أو أميركياً أو إيرانياً، لكنه يبقى صديقاً متحولاً. أما الجبال التي يلوذون بها ويهربون اليها فوحدها الصديق الثابت.

    مع هذا ما كان لهم ان يتوقعوا ان الوحشية التي سيواجههم بها نظام البعث ستحيل حروبهم مع الانظمة السابقة أشبه بألعاب أطفال. والراهن ان تولي صدام رئاسة الجمهورية واندلاع الحرب العراقية الايرانية جعلا المواجهات معهم تختلف جوهرياً عما كانته. فنوعية أدوات الفتك غير معهودة قبلاً، تماماً كما راحت أعداد القتلى تنتسب الى قياسات فلكية. وهذا انما نجم عن استكمال النظام ملامح توتاليتاريته اواخر السبعينات واوائل الثمانينات. فضحاياه ما عادوا يقتصرون على بضعة ضباط هنا وبضعة حزبيين وعائلاتهم هناك، بل غدا المطلوب التهام مجموعات إثنية وقومية بأسرها.

    ولأن التوتاليتارية لا ترضى بأقل من إفناء جماعات وشعوب كان الأكراد لصدام، على فوارق النسب والارقام، ما كانه الكولاك لستالين واليهود لهتلر. فإذا مثّل الشيوعيون "الخارج" للنظام البعثي، مثّل الأكراد "الخارج المطلق"، حتى صاروا الضحايا المطلقين. وفي الحرب عليهم بدا كل شيء محللاً. فعلى أبسط المستويات استُحوذ على الرموز، فلم يبق من صلاح الدين، الكردي، الا انه من مواليد تكريت التي سُميت باسمه المحافظة التي تضمّها. وبالطبع قُدّم القائد الأيوبي بطلا للعروبة ومحرراً لفلسطين. كذلك أمست الجغرافيا، إبان الحرب العراقية - الايرانية، تهمة بذاتها، خصوصاً وقد تحالف الزعيمان الكرديان مسعود البارزاني وجلال الطالباني مع طهران الخمينية إبان الحرب تلك. ولحاكم كصدام يرى في الحروب مع الخارج جزءاً عضوياً من برنامجه المضمر، شكّل الموقع الحدودي للأكراد سببا آخر للعدوان عليهم. فبدل ان يتحكم المركز العربي بالطرف الكردي، وكل ما هو بعثي وعربي وعسكري يزكّي علاقة كهذه، اذا بالطرف الكردي يتحكم بالمركز العربي. وهذا انما يحصل في أوقات عصيبة كالتي واجهها ستالين في الحرب العالمية الثانية فحملته على تهجير شعوب واثنيات برمتها وتشريدها او اجتثاثها.

    وفي اواسط الثمانينات تولى ابن عم صدام علي حسن المجيد، او "علي الكيماوي"، منصبه كقائد أعلى مطلق الصلاحيات في كردستان ليُسمّى، في 1987، أميناً عاماً للمكتب الشمالي لحزب البعث. وقد كان واضحاً، منذ البداية، ان مهمته "تأديب" الأكراد بالطريقة التي يرتئي، وما ارتآه كان رهيباً. فحتى مغادرته شمال العراق في 1989، كتب المجيد له أسوأ صفحات تاريخه منذ ان مر به الاسكندر المقدوني عام 331 ق.م في طريقه الى الهند. وكانت لمسته الخاصة إدخاله السلاح الكيماوي في تقنيات مكافحة حرب العصابات وأدواتها.

    هذا لا يعني ان الأمور، قبل تولّيه، كانت في أحسن حال. فالقتل والتهجير استمرا من دون انقطاع تقريباً. ففي 1982، مثلاً، شرع النظام يهجّر سكان المناطق التي تقع خارج الشريط الامني كما حددته اتفاقية الجزائر. الا أن علي حسن المجيد، في قسوته وفي استخدامه للكيماوي، قضى على شيء اسمه القرية الكردية التي شكلت طويلا ركيزة لحضارة بكاملها، وكان لوحشيته ان طاولت عشرات آلاف السكان من دون تمييز.

    وعملاً بميل بعثي، استعيرت للحملة التي بدأت تمارينها الأولى عام 1987، تسمية من قاموس التجربة الاسلامية، هي: الأنفال، أو غنائم الحرب وأسلابها. وقد جيء بها من عنوان السورة القرآنية الثامنة التي تتحدث عن انتصار 319 مسلماً في معركة بدر، عام 624، على مشركين كانوا أكثر من ثلاثة أضعافهم، وإباحة أرواح المشركين وأموالهم تالياً. ولم تخفَ الدلالة الضمنية للاستعارة، ومفادها أن الأكراد مشركون أو مطعون في إسلامهم يستحقون أي عقاب كان. وبالمعنى هذا أعلم المجيد "الجحوش"، وهم المتعاونون معه من الأكراد، أن في وسعهم سلب القطعان والماشية والنساء والسلاح ما خلا الثقيل منه الذي يعود اليه وحده. لكن الأهم كان تدشين الاسلحة الكيماوية في نيسان (ابريل) حيث استُخدمت، للمرة الأولى، في قرية شيخ ويسان في وادي بليسان، من دون أن يسترخي القتل والاعدام والتهجير واعادة الإسكان. فلم ينقض شهر واحد حتى دمر اكثر من 700 قرية، مُجرّباً ما لا يُجرب من تعذيب وحفر قبور. فالمجيد، بحسب ما قاله هو نفسه لبعض كوادر حزبه، يملك خطة عسكرية منهجية ضد البشمركة، تقضي بحشرهم في جيب صغير ومهاجمتهم لـ15 يوما متواصلة بالسلاح الكيماوي.

    وفعلاً، من لم يمت بالسيف مات بغيره. فلم تبق وسيلة من وسائل القتل الا اشتغلت، فيما كان الأكراد المحك الحي لما تزعمه عروبة البعث لنفسها من شهامة. وفي الامتحان هذا كان الفشل مريعاً.

    الا أن الأنفال الرسمية لم تكن بدأت بعد. فهذا ما كان ينتظر انكشاف الضعف العسكري الايراني كيما تركّز بغداد كل جهدها على كردستان العراقية. وفي شباط 1988 اختيرت قرية ياخ سيمار، قرب السليمانية، مسرحاً للأنفال بصفتها هذه، فأُحرقت أرضها وأُحرق كل ما ومن يدبّ عليها. ولم يتدخل "الحليف" الايراني، ولم يستطع أن يتدخل. لكنه حين فعل في آذار، في بلدة حلبجة الحدودية، ردت بغداد بسلاح كيماوي مكثّف أفنى، بضربة واحدة، ما بين أربعة وخمسة آلاف، وجرح وشوّه قرابة ألف، فيما فر باقي السكان شرقاً الى الحدود. وعلى يدي صدام وابن عمه، سجّل التاريخ، للمرة الأولى، أن حكومة من الحكومات تستخدم سلاحاً من هذا النوع في قصف سكانها المدنيين. وتحولت حلبجة رمزاً وواحداً من نُصب الألم الكردي والانساني.

    فعندما أوقفت طهران اطلاق النار في تموز، شرعت تذوي المقاومة وتظهر الأرقام من تحت الأرض المحروقة. وحسب تقديرات الاكراد، بلغ مجموع ضحايا الانفال 182 الف شخص، فيما اعترف المجيد، بقرف وضجر، بمئة ألف، معطوفين على تدمير حوالى 80 في المئة من مجموع القرى، في عدادها يقع معظم الأراضي الزراعية.

    ولم تكن الأنفال وحلبجة خاتمة الأحزان الكردية. فبعد تحرير الكويت شرع مئات آلاف الأكراد، وكما لو أن سجنهم قد انهدم، يتوافدون على بيوتهم وقراهم التي أجلتهم برامج إعادة الإسكان عنها. وكان مما عزز فكرة انهدام السجن ذاك النداء الذي وجهه الى العراقيين الرئيس الأميركي جورج بوش، في 15 شباط 1991، بأن ينتفضوا. وفعلاً انتفض الأكراد في الشمال بعدما انتفض الشيعة في الجنوب. ولم يتصرف المنتفضون، بالطبع، تصرف الملائكة، فانساقوا وراء مراراتهم وقهرهم وألمهم المديد منفّذين، بقسوة وحشية، ما لا تستطيع الوطنية الكردية ان تفاخر به. وكانت أعمال إعدام وتعذيب طالت كل من وقع تحت يدهم وكان موظفا او عاملا في الادارة او الشرطة او الجيش او الحزب الحاكم. واستفحل الانتقام وشاع طقسه في موازاة انتصارات عسكرية جعل يحققها البشماركة مستعيدين السليمانية وأربيل ودهوك. لا بل حُررت كركوك نفسها ووُضعت، للمرة الأولى منذ سبعة عقود، في عهدة الأكراد. وفي 24 آذار أحكموا سيطرتهم على معظم كردستان العراقية، لكن دبابات صدام كانت آنذاك مشغولة بقمع انتفاضة الجنوب. وإذ صمتت الولايات المتحدة وتخلت عمن استجابوا مناشدتها، تقدم الجيش شمالاً فاستعاد كركوك التي لطالما تموّلت بنفطها آلة الحرب على الأكراد، ومن بعدها استولى على السليمانية التي سقطت في 3 نيسان. وأمام هجوم صدام فر مليون كردي الى إيران وربع مليون الى تركيا. وجاءت هذه المأساة الأخيرة تتويجاً لتاريخ من خيانات الأصدقاء المتحوّلين، لكنها جاءت أيضاً عنصراً ضاغطاً لإقامة "منطقة آمنة" يحتمي بها الأكراد من صدام. وهم، بالطبع، يحتاجون ذلك ويستحقونه. فهؤلاء الذين جعلتهم لغتهم وإثنيتهم وموقعهم الجغرافي ضحايا من الدرجة الأولى، "هم الذين يستحمّون بالدم" كلما "تحرك العرب أو الأتراك"، على ما كتب أحمدي خاني، صاحب ملحمة "ميم وزين"، أهم نتاجات الأدب الكردي.

    أما الحمّام الدموي الذي هيّأه لهم صدام، ولم يُقيّض لشاعر عاش في القرن السابع عشر أن يراه، فكان بذاته ملحمةً من نوع لا وجوب بعده للشعر.

    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (8): محنة الشيعة بوصمهم "طابوراً خامساً" للإيرانيين

    بعد أن تناولت الحلقة الماضية معاناة الأكراد العراقيين، هنا التتمة:

    عندما تقدمت، عام 1991، دبابات حسين كامل، صهر صدام، الى كربلاء، وقد كُتب عليها "لا شيعة بعد اليوم"، لم يكن سلوك فظيع كهذا غير جهر بما كبته البعث طويلاً.

    فالشيعة لم يكن حظهم مع البعث أفضل من حظ الأكراد. لكن مشكلة البعث مع الشيعة بدت أكبر من مشكلته مع الأكراد. فلأن الأخيرين ليسوا عرباً، وجدت الحرب عليهم غطاءً يوفّره تأويل شوفينيّ ما مهما بدا ضمنياً. أما هم، ففضلاً عن عروبتهم التي تُحرج حزباً قومياً عربياً، يشكلون أكثرية عددية مُحرجة بدورها لسنيّة نظامه. فهم أكبر طوائف الاثني عشريين في العالم العربي، تُقدّر نسبتهم بـ60 في المئة من العراقيين او 51 مليون نسمة. ولئن كانت أكثريتهم الساحقة عربية، تعيش على رقعة أرض متصلة تمتد من بغداد جنوباً، فإنهم ضموا أيضاً أقليات صغرى من أكراد فيليين وتركمان ومن إيرانيين تعرّبوا. ويكفي لتقدير خصوصية الشيعية العراقية أن الطائفة الشيعية العربية الثانية عدداً، أي اللبنانية، لا تتعدى جزءاً ضئيلاً منهم يقل عن عُشر الطائفة الأولى.

    هكذا اتجه الحكم العراقي الى سحق كل تذكير بهوية للشيعة حتى لو اقتصرت على الحيّز الثقافي أو الطقسي. فبغداد البعثية أقرّت، في 1970، ولو لفظاً، بوجود حقوق لأكراد الشمال وبمنحهم حكماً ذاتياً. لكن إقراراً كهذا ظل مستحيلاً في ما خص أهل الجنوب. ولما استُخدمت البعثية والتكريتية أداتي استبعاد للآخرين وحصر للسلطة ومنافعها في حفنة من السكان، بدا الشيعة صورة حية عن هذا الاستبعاد. فهم الأكثرية العددية التي أُحيلت أقليةً سياسية ممنوعاً عليها الجهر حتى بأقليّتها هذه.

    فكان لا بد، بالتالي، من فتح أوسع الأبواب أمام تخييل مهووس. وبالفعل رُدّ كل تعبير عن خصوصية شيعية الى تآمر إيراني مفترض يتصيّد به "الفرسُ" "العرب". وتآمر كهذا لا يستقبله من العراقيين الا المنقوصو العروبة او المطعون في عروبتهم، او ممن تحرّكهم أغراض "دنيئة" في رأسها الطائفية. وبحسب المنطق الموصوف، فإن الطائفي مَن يرفع مطالب خاصة بالطائفة، لا من يعيد تأسيس الطوائف على نحو موسّع، ويصلّبها فكرياً وشعورياً.

    وإنما من هذا الكبت الكامل تجمعت، تحت الرماد، نيران تنتظر الفرصة التي تُطلقها لهيباً.

    بيد أن المشكلة المذهبية سابقة كثيراً على البعث. فما بين أوائل القرن السادس عشر وأواخر الثامن عشر، كانت تلك الرقعة التي صارها العراق مسرح المواجهة المحتدمة بين السلطنة العثمانية السنية والسلالة الصفوية الشيعية في إيران. وكلما وُفّقت إحداهما في الامساك ببغداد، كانت تُنزل القهر والثارات بالمذهب الآخر. ولما حُسم الأمر أخيراً بانتصار السلطنة، اعتمد العثمانيون على السنّة من أهل المدن لإدارة الولايات ما بين كردستان الجنوبية وشمال الخليج. وهذا ما اتبعه البريطانيون والحكم الملكي منذ تأسيس الدولة-الأمة في 1920.

    لكن التوتر المذهبي كان يزداد تأججاً مع كل تراجع ينتاب نزعة الوطنية العراقية لمصلحة القومية العربية الراديكالية والحداثية، والنزعتان ناشئتان وقيد التشكّل. فمثلاً، إبان الحكومة الثانية لياسين الهاشمي، عام 1935، وهو أكثر قيادات العهد الملكي عروبيةً، جرت محاولة جدية لمنع موكب مُحرّم جملةً وتفصيلاً. وكان الاجراء هذا أحد العوامل المؤدية الى انتفاضات العشائر الجنوبية خلال 1935-1936 في وجه من أسماه الشيعة "أتاتورك العراق".

    وبالطبع اشتمل الحذر على الخوف من الذوبان في أكثرية سنية تنجم عن وحدة عربية ما، اشتماله على رفض الظلم والحرمان. وانضاف الى البُعدين هذين تحفظ عن الدولة الحديثة غذّته المؤسسة الدينية. فالأخيرة بوصفها العمود الفقري لمجتمع الشيعة الأهلي، لم تكتم خوفها من التعليم الرسمي والعصري المنافس لتعليمها، حاضّةً تابعيها، منذ العشرينات، على ألاّ ينتسبوا الى الادارة والجيش.

    الا ان العلاقة السنية - الشيعية لا يختصرها الحذر والتناحر. فلئن تردد العهد القديم في توسيع ناديه السياسي لرموز الشيعة، حقق الأمر نقلة نوعية مع عبد الكريم قاسم، رائد الوطنية العراقية غير الطائفية والمتفرّع، هو نفسه، عن أمٍ شيعية. وكان من انجازات قاسم أنه، وإن عطّل السياسة، اتجهت إصلاحاته الى الصلب الاجتماعي فبنى، في المدن، أحياءً يخضع نظامها السكني للتصنيف المهني. هكذا تجاور السنة والشيعة وشرع التزاوج المختلط بينهم يخطو خطى واسعة. وظل الحزب الشيوعي، وعلى نطاق أضيق "الحزب الوطني الديموقراطي" (الأهالي)، بيئتين للتعدد العراقي العابر للمذاهب والاثنيات، ومثلهما النقابات.

    لكن البعث الذي راح، منذ 1963، يتعرّى من حضوره الشيعي ليتماهى مع عسكر البيئة الريفية لتكريت وجوارها، بقي غريباً عن تجارب كهذه يستغربها ويستريبها. فحين عاد الى السلطة في 1968 مثّل للشيعة كل ما هو مكروه في مسيرتهم خلال القرن العشرين: التحديث القسري والهيمنة السنية العسكرية والايديولوجيا القومية العربية.

    والحال ان الشيعة، وقبل أن يُذبحوا بصفتهم هذه، عانوا الآثار المترتبة على إقبالهم الواسع على الحركة الشيوعية. فبمعنى ما، جاء تدمير "حزب فهد" على يد البعث دفعةً أولى مُقدّمةً تم تسديدها لهم. غير أن الشيوعية الشيعية لم تكن الخلاصة السياسية الوحيدة لتجارب أبناء البصرة والنجف والعمارة. فهي، بالأحرى، الهامش العريض لمتنٍ جسّدته دوماً المؤسسة الدينية برموزها وتعليمها ومصالحها، ومعها كبار الملاكين الزراعيين والعشائريين في الجنوب. ومع تخوّف المرجعية من تنامي اليسار العلماني في وسطها، أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، حصل تقارب عابر بينها وبين دعاة القومية العربية أفاد منه البعثيون. فإذ أفتى الأزهر في مصر، عام 1959، بأن المذهب الجعفري مذهب خامس يصح فيه ما يصح في المذاهب السنية الأربعة، أفتى كبير مراجع الشيعة، السيد محسن الحكيم، في 1960 بأن الانتماء الى تعاليم لينين يتنافى مع الانتساب الى دين محمد.

    وقد انتسب شبان شيعة الى البعث آنذاك لكن العروبة ظلت، في نظرة الشيعة المقبلين، دعوة موروثة عن الزمن الامبراطوري الى التعالي على "العجم" و"الفرس"، والى التنصّل من "شعوبية" كثيراً ما قُرنت بالشيوعية والوطنية العراقية.

    وما لبث ذاك المتن الديني العريض أن طوّر مداخلته الخاصة به، والتي بدأت ترث الشيوعيين قبل أن يستكملوا انهيارهم. وهذا، بدوره، ما لاح نذيراً مبكراً بانتقال البعث من قزميته حيال الشيوعيين الى قزمية حيال المؤسسة الدينية.

    فالسيد محمد باقر الصدر، المثقف الديني وسليل العائلة المنتشرة انتشار الشيعة، أطلق في الخمسينات نشاطاً من نوع مختلف. فعلى غرار ما قام به، في مصر، حسن البنا حين أسس "حركة الاخوان المسلمين" السنية عام 1928، أسس الصدر مشروعاً فكرياً وسياسياً استهلّه بالاقتصار على التبليغ. ومهجوساً بصدّ تأثيرات الشيوعية والحداثة و"التغرب"، أصدر في 1959 و1960 كتابيه "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، طارحاً "بديلاً اسلامياً" ينطوي على نظرية للسيادة الشعبية مستقاة من الفقه والتجربة الشيعيين.

    صحيح ان ما بات يُعرف بـ"حزب الدعوة" أثّر في شيعة غير عراقيين ممن درسوا في العراق، كالسيد اللبناني محمد حسين فضل الله وغيره، لكنه ظل أساساً، بعضويته كما بهمومه وطرحه لها، حزباً عراقياً. وصحيح أنه تحدث عن "الإسلامية" يافطةً ايديولوجية له، الا ان اسلاميته حوّرت شيعيةً لا يُتصوّر الإسلام من خارجها. وبزاد كهذا تقدمت "الدعوة" ونمت في الستينات فيما الضربات تُكال للشيوعيين، ولكنْ أيضاً في موازاة الإحباط الشيعي المتعاظم بالأنظمة العسكرية، القومية العربية والسنية، للبعث والعارفين.

    وخاطبت "الدعوة"، بالرعاية الروحية لباقر الصدر ورجال دين آخرين كالسيد مهدي الحكيم، نجل محسن، شبان الحوزات وفقراء الجنوب والمهاجرين منهم الى بغداد. غير أن الحزب وقد تأسس عملياً في 1958، وإن لم يُعلن عنه رسمياً الا في 1968، تحول في هذه الغضون عن التبليغ الى السياسة والفعالية التنظيمية والنضالية. ومثلما نشط تحت الأرض مضى يطوّر أفكاره السجالية ضد القومية العربية والماركسية - اللينينية.

    وفي هذه الصيرورة كلها لم ير البعث غير "طابور خامس" إيراني. والحق ان الحديث عن العلاقة بإيران أغنى وأعقد من الصورة التآمرية التي رسمتها القومية الضيقة والمتعصّبة للبعثيين. فمن حول العتبات والمزارات الدينية في جنوب العراق، انعقدت صلات ترقى الى مئات السنين بين شيعة البلدين المتجاورين. وكانت صلاتٍ من النوع الحضاري والثقافي العابر للحدود الوطنية والتي يسعها، لولا السياسات القومية في الجانبين، أن تنجب بيئةً كوزموبوليتية تُثري طرفيها على كتفي ميناء البصرة العريق والانفتاح البحري على الخارج.

    فلأن جنوب العراق مهد الدعوة ومسرح المآسي التي تجسّدها أضرحة علي بن ابي طالب وأنجاله، وتبعاً للمدارس الدينية التي نشأت هناك، تبادلت العائلات الدينية العراقية والايرانية الاقامة والدراسة، كما اتسع نطاق التزاوج بينها. وهذا كله أنتج، في بعض الحواضر المدينية، تداخُلاً في العادات وطرق الحياة والمأكل.

    وما بين مطالع القرن التاسع عشر وأواخر الستينات خصوصاً، تحول الجنوب العراقي ومدنه المقدسة المركز الأول للتعليم الديني لشيعة العالم. وعرف العراق، بالنتيجة، عديداً من رجال الدين المؤثرين ذوي الأصول الإيرانية، فنقل معهم بعض هؤلاء خبرات سياسية عاشوها في بلدهم الأصلي ولم يتعرض لمثلها زملاؤهم العراقيون. فكثيرون منهم كانوا ضلعوا في انتفاضة 1891 ضد الاحتكار البريطاني للتبغ في إيران، ثم في ثورة المشروطية، أو الدستورية، عام 1909، التي أنهت حكم السلالة القاجارية. ومن هذا الرعيل وفد الى العراق ميرزا محمد تقي الشيرازي الذي غدا المرجع الأكبر، فأفتى في 1919 بأنه لا يجوز أن يقوم لغير مسلم حكم على مسلم، ثم أفتى بعد عام بشرعية "ثورة العشرين" ضد البريطانيين.

    وكان لهذه الخلفية ان عززت مواقع المشايخ الايرانيين في المؤسسات قياساً بالمشايخ العرب، الأفقر حالاً إنما الأمتن صلةً بالمجتمع الأهلي عائلاتٍ وعشائر.

    ولا يعني هذا أن خطوط التمايُز الوطني امّحت، أو تعرضت للامحاء، بين الجماعتين. فتاريخ المرجعية الشيعية نفسها كان، في واحد من وجوهه، تاريخ الصراع العربي الايراني عليها. ففي 1925، مثلاً، اندلع نزاع المرجعين الايرانيين الأصفهاني والنائيني والمرجع العربي أحمد كاشف الغطاء، وذاع إسم صالح الحلي بسبب الهجمات التي شنّها، كتابةً وخطابةً، ضد الايرانيين. وبعد سبع سنوات، أعاد الحلي تفجير النزاع الذي دعمته فيه حكومة بغداد، مدافعاً عن مصالح المجتمع الأهلي للشيعة ضد المؤسسة الدينية. ذاك ان الفقراء، في عرفه، أولى من كبار المجتهدين بثلث المواريث العقارية التي تُعطى للأخيرين.

    وأبدى المثقفون الشيعة العراقيون، في الثلاثينات، تأثرهم بما كان يجري في عالم الإسلام العربي. هكذا انجذبوا الى التجديد الذي أحدثه الأزهر عملاً بتعاليم الشيخ محمد عبده وسياسات سعد زغلول التربوية، داعين الى محاكاته. وقد برز حسين كاشف الغطاء بوصفه أبرز المدافعين عن تطوير المدرسة الشيعية القديمة جرياً على ما يحدث في مصر ومدرستها السنية.

    وحتى في الرواية الكربلائية وأداء طقوسها، اختلف العراقيون عن الايرانيين. فالعباس في "الروزخونية" ودّع أخاه الحسين قاصداً الشهادة، لكنه في "القراية" توجه الى المعركة حيث استشهد. وخلاف كهذا إنما يستمد الأهمية من الموقع المركزي الذي للشهادة في ذاك المذهب.

    أما التحامُل والتنميط الشعبي المعهود في عموم الجماعات الأهلية، فذهبا بأصحابهما الشيعة مذهب التشكيك بالعائلات الايرانية المقيمة في العراق، وأحاطاها بالريبة المألوفة عادةً حيال "الغريب". وغالباً ما اقترن شعور كهذا بالتباهي عليهم إذ العرب، لا الايرانيين، سلالة الرسول المباشرة، فكانت هذه الأحاسيس بعض ما حاول البعث، في بداياته، استثماره عروبياً. كذلك لم تخلُ العلاقة من تنافس تعليمي، وتالياً مالي واقتصادي، بين مدارس النجف وكربلاء ومدارس طهران وقم. لكنه، مرة أخرى، تنافس معقّد. ففضلاً عن الطلاب يؤمّ النجف وكربلاء ما يربو على الخمسة ملايين حاج سنوياً، وقد يصل العدد الى ثمانية، ممن يؤدون الطقوس على مقربة من الأضرحة. ولما كانت إيران الثقل العددي الأوزن للشيعية في العالم، غدا طبيعياً أن يشكل أبناؤها جسم الزوّار الأعرض.

    على أن البعث الحاكم لم يتلكأ في التكشير عن أنيابه لـ"الطابور الخامس" الايراني، ومعالجته بسياسة تتجرأ على أعمدة التاريخ والواقع المحليين. فمنذ 1968 عملت بغداد على الحدّ من الحياة الثقافية والدينية للشيعة، فمسّت الأوقاف وعطّلت حلقات دراسية كما منعت بعض الاحتفالات الدينية، متعمدةً إذلال رجال الدين وكسر شوكتهم. وإذا بدا مُفارقاً أن البعثيين إنما يقلدون سياسة عدوّهم شاه إيران، التي تسببت بانتفاضة 1963، فاتهم أن الانسجام الديني لإيران غير متوافر في العراق أصلاً.

    لكن التجارب والمقارنات لا تردع مندفعاً مَسوقاً بعُظامه. ففي سياق مكافحة "حزب الدعوة" استُخدمت محاكمة "جواسيس" 1968-69 واعدامهم للتشكيك بعلاقات شيعية مع اسرائيل عبر همزة وصل ايرانية. لهذا الغرض صُمم عدد من "الاعترافات"، فضلاً عن إعدام عبد الحسين زيتا، مسؤول المؤسسات الحسينية في البصرة، بوصفه شريكاً لباقي "الجواسيس" اليهود. كذلك اعتُقل مهدي الحكيم في 1969 وعُذّب، ولم تكن التهمة أقل من "العمالة لإسرائيل" التي درجت يومذاك، على ما فيها من خيال فقير. الا أن ما لم يكن دارجاً هو ترحيل السكان وتهجيرهم الجماعي. وبالفعل أنزل البعث العقاب هذا، في 1972، بعشرات آلاف الشيعة العرب والأكراد ممن قدمت لهم إيران الشاهنشاهية حق اللجوء.

    ولما كانت "إيرانية" الشيعة العراقيين تُحتسب في خط واحد، لم تؤد اتفاقية الجزائر الى تذليل العلاقة بين بغداد والمتهمين بالهوى الإيراني، ولا خففت التوتر بينها وبينهم. ففي عاشوراء 1977 انطلق موكب ديني ضم 30 الف شخص من النجف الى كربلاء مردداً أناشيد دينية تتخللها شعارات مناهضة للبعث، فهاجمه الجيش براً تعززه المروحيات من الجو. وهكذا عرف الجنوب يومين أسودين قُتل فيهما من قُتل واعتُقل الآخرون فأُعدم بعضهم و"اختفى" منهم كثيرون.

    وعلى السلطة والحزب انعكست هذه السياسة حيال الشيعة بقدر ما صدرت عن تركيبهما. ففي 1968 لم يكن شيعي واحد في عضوية مجلس قيادة الثورة، وفي 1970 لم تضمّ "القيادة القطرية" شيعياً واحداً. ولئن سُلّم الشيعي ناظم كزار الأمن، فهو ما لبث أن اتهم بالتآمر مع إيران وأُعدم. اما الذين تعاقبوا على مجلس الثورة خلال 1968-1977 فكانوا 15 سنياً بينهم خمسة ضباط وخمسة من تكريت وواحد أصوله تكريتية وستة من "المثلث السني" وواحد يرجع بأصوله إليه.

    على أن التوتر الذي أعقب موجة الطرد الجماعي في 1972حمل على ضم أربعة شيعة الى "القيادة القطرية" بعد عامين، وكانوا نعيم حداد وحسن علي العامري وعبد الحسين المشهدي وعدنان حسين الحمداني. وفي 1977، ومع بلوغ التردّي ذروته، أعطيت للشيعة مناصب حزبية وحكومية أخرى. لكن تصفية "مؤامرة" 1979، حيث قضى ثلث أعضاء "القيادة القطرية" ومعظمهم شيعة، وجهت ضربة قاضية لتمثيلهم الضئيل. وعلى العموم بقي بعض الوجوه البعثية، كسعدون حمادي ونعيم حداد ومحمد سعيد الصحّاف، ممن يتم استدعاؤهم من خزانة الحزب القديمة للتغطية على هزال الحضور الشيعي في السلطة.

    في هذه الغضون اندلعت، عام 1979، الثورة الايرانية وانتصرت. وكان من الطبيعي أن تُلهب مخيّلات الشيعة العراقيين ممن شهدوا في العام نفسه صعود صدام الى الرئاسة وتفاقم معضلتهم. لكن المشاعر الشعبية لا تكفي لإحداث المطابقة الكاملة بين أصحابها والخمينية الإيرانية. فالتنظيمات الدينية السياسية في العراق كانت عراقية، لم تدعُ الى الاندماج بإيران، فيما أفكار باقر الصدر لم تقل أصلاً بـ"ولاية الفقيه"، النظرية الأم لآية الله الخميني. وحتى الخميني نفسه الذي عاش منفياً في النجف منذ 1965، لم يترك تأثيراً ملحوظاً على شيعة العراق، ولا كان تأثيره يقبل القياس بتأثير باقــر الصدر.

    إلا أن السلطة البعثية التي أخافتها الثورة الخمينية، والاستجابة الشعبية لها، سارعت الى ترحيل ما بين 150 و200 الف شيعي. وكان في عداد هذا "الطابور - الإيراني - الخامس" آلاف التجار الذين رصدت بغداد أصولهم البعيدة لتصنّفهم إيرانيين، فصادرت أعمالهم وأملاكهم وجنسياتهم قبل ان تلقي بهم على الحدود. وفي حالات كثيرة حيل بين الأهل وأبنائهم الذين تتراوح أعمارهم بين الـ15 والـ25 ممن احتُجزوا ولم ير واحدهم الآخر بعد ذاك. وبأعداد كبيرة راحت تتضخم هجرة شيعية الى ايران وسورية والأردن وبلدان الخليج وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.

    وتتويجاً لما ابتدأ أواخر الستينات، لوحق "حزب الدعوة" بقسوة غير مسبوقة حتى بالمعايير البعثية. فطال القمع عائلات الدعووين واصدقاءهم ورجال الدين ممن تربطهم بهم صلة ما. فإلى الناشطين القاعديين، لم يقلّ عدد رجال الدين الذين أُعدموا خلال 1979عن 14 شيخاً. وفي 1980 أعدم عدد مشابه منهم في عدادهم باقر الصدر نفسه وشقيقته بنت الهدى، الروائية والنسوية على الطريقة الإسلامية. وصدر، كذلك، مرسوم عن مجلس الثورة يعيّن العضوية في "الدعوة"، وبمفعول رجعي، جريمة عقابها الاعدام، علماً أنه كان العقاب المعتمد منذ سنوات من غير مرسوم.

    وفرّ كثيرون من رجال الدين الى طهران مصحوبين بعائلاتهم الموسّعة وتابعيهم. فحين طلب أبو القاسم الخوئي، كبير مراجع الشيعة في العالم وابن الثمانين آنذاك، المغادرة صودرت أمواله الشخصية وما في عهدته من مال للمؤسسة الدينية. وكان ممن غادروا الى طهران السيد محمد باقر الحكيم، ابن محسن الحكيم وشقيق مهدي، حيث أُسس "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق" مظلةً جامعة للتنظيمات الشيعية المعارضة.

    فعندما باشر صدام هجومه على إيران، وبدت بغداد مالكةً زمام المبادرة العسكرية، أتبعه بهجوم على الشيعة العراقيين قمعاً وتهجيراً. وما ضاعف العنف أن التنظيمات الشيعية كـ"الدعوة" ثم "منظمة العمل الاسلامي" شرعت تردّ بأعمال تخريب ضد منشآت حكومية، لا سيما الأمني منها والحزبي. كذلك حاولت، في 1980، إغتيال صدام حسين وطارق عزيز، مكررةً بعد عامين محاولة اغتيال الأول.

    لكنْ مع التراجع العسكري الذي ظهر على جبهات القتال في 1983، تبدلت الاستراتيجية المتبعة، فأبدى النظام رغبة غير معهودة في كسب الشيعة، خصوصاً أن أغلبية جنود الجيش منهم فيما المعارك يدور معظمها على أرضهم. وفي السياق هذا راحت تتلاحق التوكيدات على إسلامية حكم البعث، فيما جعل صدام وباقي المسؤولين يكررون زياراتهم الى النجف وكربلاء. كذلك تم اصلاح بعض المباني العامة في مدن الجنوب، وبمبادرة تُعزى الى خير الله طلفاح لُفّقت شجرة نسب تربط صدام بالرسول، عبر التفرّع عن الامام الحسين. وعلى النحو هذا صار "الرئيس حفظه الله" سيداً من أهل البيت.

    غير أن هذا لم يوقف قمع رجال الدين والتنظيمات الدينية والمشتبه بصلتهم بها. ففي الفترة التي انتهت بالعام 1985 أحصي 41 رجل دين شيعي أُعدموا، ومئات اعتُقلوا بعضهم انضم الى قوافل "المختفين". وبعد ثلاث سنوات، وفيما الحرب تُختتم على ما صُوّر انتصاراً لبغداد، تجدد الصدام ليبلغ ذروة أخرى. فقد اغتيل مهدي الحكيم في الخرطوم، وهوجمت منطقة الأهوار لاعتقاد السلطة ان الفارين والمعارضين مختبئون هناك. وفي كانون الأول (ديسمبر)، أصدرت الحكومة "خطة عمل" لتلك المنطقة، ففرضت عليها حصاراً اقتصادياً مصحوباً بحرق القرى والمزارع واعتقال المشتبه فيهم.

    والحرب العراقية-الايرانية وقعت كلها وقوعاً كارثياً على شيعة العراق. ففضلاً عن القمع، أضعف انتقال المرجعية الى ايران موقع النجف وكربلاء واقتصادهما. وبفعل التهجير والترحيل، غدا جزء أساسي من القرار الشيعي العراقي مرتهناً بطهران.

    ولا يعني ذلك ان الشيعة كلهم أسلموا زمامهم لرجال الدين، وأنهم جميعاً غدوا يسيرون في ركاب الخميني. بيد أن وحشية النظام التي نجحت في إسكات التعدد داخل طائفة عُرفت بكفاءاتها وكوادرها العلمانية والعصرية، صيّرت الصوت الوحيد الذي يُسمع صوت القوى التي انتقلت الى إيران واستفادت من منابرها.

    الا أن جنود الجيش العراقي الشيعة خذلوا الايرانيين رغم استمرار نشاطهم المتقطع ضد سلطة بغداد، ومثلهم فعلت عشائر الجنوب التي دافعت بضراوة عن البصرة. وحتى الذين ظلت قلوبهم مع طهران غدت سيوفهم عليها وهذا، في آخر المطاف، ما يُحسب حسابه. فمنذ 1982-1983، مع انتقال المعركة الى أرض العراق، انحسر فرار الجنود من الجيش، فحاربوا "العدو" مثلهم مثل رفاقهم السنة، ومن بينهم سقط معظم ضحايا الحرب. واذا شهدت تلك التجربة لنفوذ الوطنية العراقية لدى الشيعة العراقيين، بقي ان الذين انتقلوا شرقاً لم يلقوا في إيران المعاملة التي يمكن اعتبارها قدوة تُحتذى. غير أن معضلتهم بقيت حادة ونابضة: فهم لم يوافقوا، بالطبع، على حرب شنها صدام لأغراضه، فيما واجهتهم حربه تلك بمأزق الخيار بين قناعاتهم وعدائهم للنظام وبين وطنهم.

    وإذ ثقلت عليهم أسوأ آثار التردي الاقتصادي، حاول النظام كسبهم، مرةً أخرى، ابان مغامرته الثانية بغزو الكويت، بتقديماتٍ طغى الرمزي فيها على الفعلي. ومن هذا القبيل أسمى صواريخ "سكود" التي أطلقها "العباس" و"الحسين". لكن انتفاضة 3 آذار (مارس) 1991 أعلنت أن المشكلة أعمق من أن تُعالَج بالتسميات. وجاء ذاك الانفجار الذي ابتدأه جنود وضباط صغار عائدون من هزيمتهم في الكويت، عفوياً وبلا قيادة، إنما شاملاً لاتجاهات سياسية وعقائدية شتى. وسرت الانتفاضة، في غضون أيام، سريان النار في هشيم الجنوب، الا أن الفوضى دبّت معها، في النجف وفي غيرها، مصحوبة بالحرق والنهب والعبث بالجثث. وبالفعل أعدم المنتفضون عشرات المسؤولين البعثيين والمشتبه بهم إما بمحاكمات شكلية سريعة أو من دون محاكمة، حتى اضطر أبو القاسم الخوئي الى إصدار فتويين تزجران عن انتهاكات كهذه.

    وسمى النظام المنتفضين "غوغاء"، لكنه رد عليهم باستخدام الدبابات والمدفعية وطائرات الهليكوبتر، قاصفا المدن والمعابد الدينية، فضلا عن احراق مكتبات تحوي أعداداً لا تُقدّر من المخطوطات. ويروى ان حسين كامل، بعدما حطّت به دباباته، اقترب من ضريح الحسين في كربلاء وقال مخاطبا إياه: "أنا حسين وأنت حسين، فلنرَ من منا الأقوى"، مذكّراً الكثيرين، وببذاءة أكبر بما لا يقاس، بعبارة نُسبت الى الجنرال البريطاني ألنبي الذي خاطب صلاح الدين في ضريحه وذكّره بالصليبيين: "لقد عدنا يا صلاح الدين". لكن الأسوأ كان ما أورده البعض، من دون توكيد قاطع، عن استخدام النابالم ضد انتفاضة الشيعة. وبحسب "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"، فإن الذين قضوا، حتى 31 آذار، تجاوزوا الثلاثين ألفاً، علماً بأن علي حسن المجيد الذي قاد الحملة على مدى ثلاثة أسابيع، رفع الرقم تباهياً الى 003 ألف.

    ما لا يرقى اليه الشك، على أي حال، أن شهود عيان تحدثوا عن أكوام متراصفة من الجثث في طرق المدن وشوارعها الأعرض. وفي الغضون هذه أدت هزيمة الانتفاضة، بعد التخلي الأميركي، الى فرار قرابة 33 الف شيعي الى حيث تقيم قوات التحالف الغربية في المملكة العربية السعودية، كما هرب مثلهم عدداً الى ايران. وبذا انفجرت موجة هجرة أخرى الى الخارج. وحصل مزيد من الاعدامات والاختفاءات، كان في عداد ضحاياها 96 شخصا من عائلة الحكيم و28 شخصا من عائلة بحر العلوم اعتقلوا كلهم و"اختفوا". ففي ليلة واحدة من عام 1991، مثلاً، "اختفى" 106 من رجال الدين لم يظهروا بعد ذاك. وفي العام التالي شُنت حملة عسكرية على الأهوار لافراغها من السكان عبر تجفيفها من مائها واعدام شروط الحياة فيها. وانتهى سكان تلك المنطقة، وهم نصف مليون، في إيران مُخلّفين وراءهم كارثة بيئية.

    أما الكارثة الأخرى فحلّت في نطاق سياسي بعيد الأمد. ذاك أن تخلي جورج بوش الأب عن المنتفضين أصاب الشيعة برضّة جماعية وعميقة. فهو، المعني طبعاً بمصالح الدول الحليفة له والمجاورة للعراق، ربما قصد انقلاب قصر، فيما فهم العراقيون أن الأمر أكثر من ذلك وأبعد. وبالنتيجة ترافق ذبحهم، هذه المرة، مع إحساس أسود بانغلاق المستقبل، فلم يخفف من مرارتهم، الا جزئياً، فرض منطقة حظر جوي في الجنوب صيف 1992.

    وتكررت لعبة النظام لكسب الشيعة بالكلام المعسول والإشارات الرمزية. فبعد ذاك العام صارت إحدى الصور العديدة التي يعمّمها صدام صورته في زي شيخ عشائري من الجنوب. ولئن بدىء باعادة تعمير كربلاء، غُيّرت معالمها تماما لتفادي ما يبدو أثراً ايرانياً في عمارتها، كما حُرثت مساحات واسعة في مقبرة وادي السلام المقدسة وشُقت طريق خارجية فوق المقابر.

    واعتُمدت سياسة تجمع بين فرض الأمن بالاستعانة بشيوخ قبائل تشتريهم السلطة وتسلّحهم، وبين اصلاح المراكز والمعابد الدينية التي تضررت او قُصفت، وفتحها للحجاج من الاجانب. ولئن أتيح للايرانيين منهم أن يدخلوها مبدئياً غير أن قيوداً بيروقراطية كثيرة فُرضت عليهم.

    قبل ذاك، في 32 آذار 1991، كان قد كُلّف البعثي الشيعي سعدون حمادي تشكيل الحكومة الجديدة، من دون ان يتوقف اضطهاد رجال الدين واغتيالهم. فالقمع لم يتهيّب مرجعاً كالخوئي الذي لم يحل بلوغه التسعين دون استجوابه وسجنه لفترة، ثم قسره على الظهور مع صدام على الشاشة الصغيرة. وفي النهاية أحيل على الاقامة الجبرية حتى وفاته في 1992، ليخلفه السيد علي السيستاني، الموضوع هو نفسه في الاقامة نفسها منذ 1988. وبعد عامين على رحيل الخوئي اغتيل نجله محمد تقي، وفي 1998 اغتيل كذلك مرجعان بارزان هما السيدان الغراوي والبروجردي، ثم أضيف الى القائمة، في شباط (فبراير) 1999، رجل دين ذو تأثير شعبي واسع في النجف، هو محمد صادق الصدر ومعه نجلاه. وهذا فضلا عن المضي في تطبيق اجراءات قصوى كانت تحمل العائلات، وفي صورة متواصلة، على مغادرة بلادها.

    وأضحى البكاء الشيعي على الحسين يتغذى على البكاء من صدام. لكن لما كان ممنوعاً إعلان الثاني، ومتاحاً إعلان الأول، فاض الموت في جنوب العراق وعمّ.

    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (9): لكن كيف يُصار إلى "معانقة" فلسطين؟

    على امتداد تلك المسيرة الطويلة من حكمه، لا يُفهم بعث العراق من دون بعث سورية. ولطالما تحكّم بسجالهما زعم ضمني يتصل بالشرعية: فالبعث الأول يعتبر نفسه أباً للحزب، لأن المؤسس ميشيل عفلق استقرّ في بغداد بعدما انقلب عليه السوريون. والبعث الثاني يعتبر نفسه أمّـاً للحزب، لأن دمشق مهد الدعوة ومسقط رأسها. والعراقيون قد لا يمانعون في أن تكون سورية الأمَ، شريطة أن توصم أمومتها بالتخلي عن الأبناء والتنكّر لمصالح الأسرة. وقد لا يمانع السوريون في إسباغ الأبوّة على العراق، شرط أن تُقرن أبوّته بالجور والاغتصاب.

    وفي قصة الحزبين والبلدين تتتالى الرموز وتتداعى الأحداث، لكن الأهم أن العنف سيد الموقف. بيد أن مجانيته المؤلمة تبقى السمة الطاغية: فنحن، بعد نزع المزاعم الكبرى، أمام حفنة من غبار ضارّ لا أكثر. فما من ملحمة لدينا وما من مُزارع كقايين أو راعٍ كهابيل، وليس من بشر يتفرّعون عنهما أو رموز تُشتق منهما.

    إن الأمر كناية عن آلة من تفاهة محضة لكنها، مع هذا، تطحن دماً كثيراً.

    فالبَلدان جرّع واحدهما الآخر، على مدى سنوات، كأس القومية والبعث. وبالقومية والبعث، حاول كل منهما تصديع الثاني بلغة جامعة. وقد ذهبا، بالقاعدتين الضيقتين لسلطتيهما، بعيداً في تلك اللغة الجامعة حتى غدت رطانتهما كثيفة تحجب الواقع والوقائع.

    والحال أن ضيق رقعة النظامين ما فاقم الالحاح العراقي على بلوغ فلسطين، أو التظاهر بذلك، تماماً كما حمل سورية على ردعه عن هدفه واعتراض طريقه. فهو، إذاً، نزاع بين دولتين مأزومتين في بنائهما وتطورهما، ومأزومتين في وعيهما نفسَهما بأنهما دولتان أو، بالأحرى، دولتان-أمتان. وفلسطين، بوصفها جائزة الترضية العروبية لُعّـبت، دورها المتضخّم في هذا الدفع المتبادل الى الهاوية.

    ولم يكن التاريخ ضنيناً بالبراهين. فبعد فشل محادثات الوحدة الثلاثية في 1963، ابتدأ البعث الواحد يومذاك، والحاكم في العاصمتين، مناقشة وحدة ثنائية لم يُقيّض لها أن تُقلع. وما لبث انقلاب عبد السلام عارف أن وجّه الى بعثيي العراق الضربة القاضية. فحين عاد العفلقيون الى السلطة في 1968 وقع الخبر وقعاً جنائزياً على آذان الحكام السوريين. فهؤلاء، وقد أطاحوا "القيادة القومية" قبل عامين، وضعوا سداً عازلاً بينهم وبين العراق العارفي الذي "تآمر" على سلطة "حزبنا". ولئن نظر أحمد حسن البكر وصدام حسين ورفاقهما الى القيادة الدمشقية بوصفها "حكم ردّة" عن البعث "الأصيل"، مستعيرين تسمية تعود الى صدر الاسلام وبدايات عهد أبي بكر الصديق، أراحهم أن ما من "قيادة قومية" حاكمة يمكن أن تحدّ، بعد الآن، من حركتهم. ومذّاك نشأت مقايضة من النوع الفاوستي بين الاثنين، وواحدهما شيطان الآخر. بل بُـني مذّاك كل من البعثين، وكل من السلطتين، في مقابل الثاني، حتى استحال التفكير بأي منهما ما لم يؤخذ نقيضه في الحسبان.

    وهذا، على أية حال، لا يلغي فوارق بين سورية والعراق تضرب في أسباب أسبق من البعث وأعمق: فالجغرافيا جعلت دمشق تتحكم بالطريق الى فلسطين. ولما كانت الجغرافيا "قدراً" في الحروب، بحسب عبارة شهيرة لنابليون، بات العراق كأنه يعاند القدر. فهو مدعوّ الى إثارة الكثير من الضجيج، وافتعال الكثير من الغبار، كلما تحرّك أو همّ بالتحرك. وفي مقابل الجعجعة، تعلمت سورية، وهي مع إسرائيل وجهاً لوجه، أن تهيم بالطحين. بهذا أكسبتها التجربة خفّةً وشطارةً حُرم العراق منهما فراح، في سياسته، يخبط ويتخبط.

    لكن بغداد، لا سيما منذ 1973، صارت قادرةً على دخول "القضية" من بوّابة الانفاق عليها. والعاملان هذان تشابكا، مباشرةً أو مداورةً، مع مفهومين سائدين للعروبة في البلدين: فهي، في سورية، مدارها التقليدي شعارا الوحدة وفلسطين. وهي، في العراق، جوهرها التمايُز عن الأكراد وإشهار الممانعة في وجه إيران. وذلك، من حيث المبدأ، ما يجعل الفلسطينيين أكثر ارتياحاً الى العراقيين الذين ينافسونهم أقل مما تنافسهم سورية. غير ان المبدأ المذكور قليلاً ما أتاح له الاعتراض الجغرافي أن يعمل.

    وبمعنى ما بدت حدّة الخلاف مطلوبة. فالتداخُل الجغرافي والأهلي، معطوفاً على الحزبي والايديولوجي، كان له في مسار العلاقة أثران: مضاعفة الحذر المتبادل، وجعل بناء الدولة-الأمة متزايد الصعوبة إذ، وهما "القوميان"، يُخجلهما المشروع الذي يسمّيانه "قطرياً". وفيما جعل الدربان المتعاكسان ينسدّان، لم يعد غير احتمالين مطروحين على العقول التي تقارن: فإما أن الوحدة كلها أضحت لزوم ما لا يلزم، أو أنها أمست أهم من أن تُترك لمثل هؤلاء الوحدويين.

    فقصة البعثين الدامية الفصول، على خواء ورثاثة، لم تترك شيئاً من قضية "الأمة العربية الواحدة" إلا نهشته. أما "الرسالة الخالدة" التي أناطها الحزب بتلك الأمة المُـتخيّلة فبدت مشوبة بالمكائد والمؤامرات. ولما كان أي من النظامين لا يدخل بيت الآخر من أبوابه، غدت المكائد والمؤامرات حدثاً يومياً يصعب فرز غثّه المنحول عن سمينه الصحيح.

    وعلى خلفية من تلك المقدمات، جُرّد مصطلح "الوحدة" من كل معنى كان قد تبقّى بعد انهيار وحدة 1958 المصرية -السورية، تماماً كما جرّد السوفيات والصينيون المتناحرون تعبير "أممية بروليتارية" من معناه. إذ، وببساطة المنطق الشكلي، هل يمكن لبعث مجزّأ الى هذا الحد أن يدعو الى أمة موحدة الى هذا الحد؟

    وبالنسبة الى فلسطين تحديداً، وصل البعث العراقي الى السلطة بعد عام على هزيمة 1967، وانحسار زعامة جمال عبد الناصر، وتردّي البعث السوري، وصعود المقاومة الفلسطينية. وهو إنما أراد أن يستثمر كونه لم يُـهزم، لمجرد أنه لم يوجد في السلطة حينذاك. وهذا ما أوحى له بسهولة الاندفاع والاختراق غرباً قبل ان يكتشف الصعوبات العملية المتأتية عن إيران والمشكلة الكردية في الشرق والشمال. فكيف وأن العراق قليل الخبرة في هذا الميدان، لم يكن لديه، بين انتهاء حرب 1948 وبداية حرب 1967، جندي واحد على تماسّ مع اسرائيل؟

    وكان لا بد من حسم هذا الأمر، وغيره من أمور معلقة، مع دمشق. وعلى طريق الحسم تدرّجت وتغيرت عناوين الخلاف من دون ان تتغاير مضامينه.

    فبين 1968 و1972 طغت موضوعة الشرعية الحزبية، خصوصاً أن البعثيين السوريين من أنصار "القيادة القومية"، كأمين الحافظ وشبلي العيسمي والياس فرح شرعوا، بُعيد الانقلاب، يتجمعون في العراق، وما لبث عفلق نفسه ان انضم اليهم في 1970. لكن وزير الدفاع السوري يومها، حافظ الأسد، حاول ان يجيّر الانقلاب العراقي لمصلحته في صراعه مع يسار البعث الذي تزعّمه صلاح جديد. هكذا دعا، خلال 1968 و1969، الى وحدة الحزب كما استقبل، عدداً من المرات، وزير الخارجية العراقي عبد الكريم الشيخلي. ولتعزيز موقع الأسد في مواجهة جديد ورفاقه، حجبت بغداد عن الواجهة لاجئيها من "القيادة القومية" السوريين. ولوحظ، كذلك، أنها لم تنسب الى دمشق أياً من "المؤامرات" الـ13 التي أعلنت عن كشفها ما بين صيف 1968 وصيف 1970.

    لكن يساريي دمشق عثروا، بدورهم، على ضالتهم. فحين قُتل البعثي العراقي عبد الكريم نصرت في بيته، وكان صديقاً لعبد الكريم الجندي رئيس جهاز الأمن القومي السوري وأحد أبرز حلفاء جديد، زُيّن مصرعه قرينة على "يمينية" الحكم الجديد في بغداد و"فاشيته". ولم يقتصر التردّي على الاتهامات فأُتبع باعتقالات وأعمال تعذيب أشرف عليها الجندي لبعثيين سوريين يؤيدون العراق. أما الأخير، ولم يكن قد أمم النفط أو عقد معاهدة مع السوفيات أو أنشأ جبهة مع الشيوعيين، فلم يتبق لديه، تعبيراً عن "تقدميته"، الا تسخين الحرارة اللفظية.

    واستحال التقدم على الجبهات جميعاً. فحينما قرر الأردنيون والعراقيون والسوريون في 18 ايلول (سبتمبر) 1968، بعد تحضيرات وتأجيلات عدة، إقامة "الجبهة الشرقية" لمواجهة اسرائيل، اتهم السوريون العراق بالتهرب من "مسؤولياته القومية". وبعد أقل من عامين انهارت الجبهة وسط نزاع وجدت بغداد نفسها وحيدة فيه مقابل دمشق المدعومة من عمّان، وضمناً من القاهرة. ولئن ردّ العراق، المزاود والملتاع بعزلته، انهيار الجبهة الى عدم جدية أطرافها في "التحرير"، اتهمته سورية بأن اشتباكه مع الأكراد وإيران تنصّلٌ من "المعركة الأساسية في فلسطين".

    ولم يتشارك النظامان آنذاك الا في الاستنكاف عن المتن العريض للسياسة العربية. فمعاً وقفا، في 1970، ضد مشروع روجرز الذي وافق عليه عبد الناصر والملك حسين، علماً أن صوت بغداد ظل الأعلى في رفضه ومُغايرته.

    بيد ان موقف الجيش العراقي في الأردن عامذاك وفّر للرفاق الألدّاء في دمشق، ولكل من يريد أن يشهّر، مادة تشهير دسمة. فلعشرة أيام تواصلت النداءات الفلسطينية طالبةً التدخل من دون استجابة عراقية. وقد تبيّن لاحقاً أن حردان التكريتي، رئيس أركان الجيش يومها، تعهد للملك حسين بالوقوف مكتوف اليدين ريثما ينجز الأردنيون مهمتهم.

    وتلك الواقعة إنما ترقى بداياتها الى ما بعد حرب 1967، حيث أرسل الرئيس عبد الرحمن عارف ربع الجيش العراقي الى الأردن وسورية. لكن إبقاء القوات هناك لم يعد ممكناً، لا سيما وأن الكلفة صارت ضخمة وباهظة فيما النُذر تتجمع كردياً وإيرانياً. كذلك أتت الضربات الجوية الاسرائيلية ضد المدفعية العراقية في 1968 و1969 تضاعف رغبة الانسحاب من الصراع وهو، بالطبع، ما يسهّله ضمور الصراع جملةً وتفصيلاً.

    واستحق حكم البكر وصدام ازدراء الشعوب العربية حين لم يُنجد منظمة التحرير في الأردن من مذبحة محققة. الا أن صوت بغداد الملعلع والهجّـاء لسائر بلدان المنطقة، نفّر الحكومات العربية أيضاً فلم تمنح العراق تعاطفها الفعلي حيال إيران، رغم احتلال طهران جزر الخليج الثلاث في 1791. ويبدو ان صدام دافع آنذاك عن سياسة منكفئة تعطي أولويتها لبناء الدولة القوية، وتبرر انكفاءها بـ"عدم جدية" الآخرين أكان في الوحدة أو في التحرير. وإنما في سياق كهذا سُحب الجيش، عام 1970، من الأردن وسورية، مع "وعد" بإرساله حين تقضي الحاجة وتنخرط "دول المواجهة" في المواجهة.

    غير أن الانكفاء العراقي من نوع مركّب. فبغداد حين كانت تدير ظهرها كانت تُبقي إحدى عينيها على الوراء. لهذا أقامت لها في الثورة الفلسطينية وعلى ضفافها مواقع متفاوتة الصلابة. فمثلما فعلت سورية، عام 1968، بإنشائها "منظمة الصاعقة" ذراعاً لها في داخل القرار الفلسطيني، فعل العراق بعد عام واحد، مُنشئاً "جبهة التحرير العربية" التي قادها فلسطينيون بعثيون يوالونه. كذلك شهدت بغداد التخطيط لعديد من عمليات "أيلول الأسود" التي تولاها صلاح خلف، أبو إياد، ممتصاً بهذه المنظمة الارهابية رغبة عناصر من "فتح" في الانتقام لقتلى مواجهات الأردن. أما محمد العباس المعروف حركياً بـ"أبو العباس"، والذي اشتُهر في 1985 بعملية سفينة أكيلي لاورو الايطالية، فرعت بغداد انشقاقه المبكر عن "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل، وتأسيسه "جبهة تحرير فلسطين".

    ويبقى صبري البنا، أو أبو نضال، بحسب الاسم الحركي الذي عُرف به، المساهمة الفلسطينية الأهم للبعث العراقي. فهذا الشاب الذي أُرسل الى بغداد، في 1970، ممثلاً لـ"فتح"، وجد فيه العراق الرجل النموذجي يستخدمه كما يشاء. فأبو نضال لا يملك رصيداً أو إسماً سياسيين يحرص عليهما، وليس ثمة ما يردعه، ضميراً كان أم عقيدةً، عن أن يكون بندقيةً يستأجرها من يدفع. ودفع العراقيون بسخاء، فحوّلوا لحسابه ما كانوا تعهّدوه لـ"فتح" من معونات وأعطوه مزرعة وأغدقوا عليه أموالاً أخرى سمحت له أن يتحول الى التجارة والاستثمار. وأُسبغت على البنا سلطة معنوية كبرى بصفته صلة الوصل الوحيدة بين الفلسطينيين المقيمين في العراق والسلطة هناك. فقد رعاه أحمد حسن البكر شخصياً، هو المعروف بكراهيته الحادة لياسر عرفات، وربطته صداقة وطيدة برجل الأمن حينذاك سعدون شاكر، وربما بطارق عزيز. ولئن كُتب الكثير لاحقاً عن علاقة محتملة بين أبو نضال والموساد الاسرائيلي، أتاحت له بغداد التصرّف بآلاف الوثائق وجوازات السفر المزوّرة.

    وفي البدايات كانت وظيفة صبري البنا أن يسهّل الإنكار البعثي لما حصل في الأردن، بل أن ييسر انتقال الحكم العراقي من موقع المتهَم الى موقع المتهِم. وبالفعل ما أن انتهت الحرب الأهلية هناك، حتى شرع يهاجم، من بغداد، منظمة التحرير لـ"تفريطها وجبنها" في المعارك مع الجيش الأردني. على ان الوظيفة سريعاً ما اتسعت وغدت أخطر. ففي أيلول 1973 احتلت مجموعته السفارة السعودية في باريس باسم فلسطين وقضيتها. أما الهدف الفعلي فلم يكن غير تحويل الأنظار عن قمة عدم الإنحياز التي انعقدت، في الوقت نفسه، في الجزائر، فيما أرادت بغداد استضافتها عندها. وكرّت بعد ذاك سبحة أبو نضال.

    وكان من أبرز المداخلات العراقية في الموضوع الفلسطيني المبالغات المبكرة في إبداء العداء لليهود من غير تمييز، مع التذكير بشرور تآمرية تمتّ بصلة الى يهود العراق، الأموات منهم والأحياء. فبمثل هذه الأدبيات اللاسامية التي تعاظم انتشارها هناك، وجد البعث طريقة أخرى في التعبير عن استقالته من صراع لا يملك له الا العدّة اللفظية والمزاودات. أما في ما خص النتائج الفعلية، فجُعل التاريخ السياسي للفلسطينيين في ثلث القرن الماضي يتقلّب كله بين طورين تداخلت مراحلهما: فإما عداء بغداد لهم وتركهم يتحالفون مع دمشق، وإما عداء دمشق لهم وحملهم على محالفة بغداد. ولئن نجم الصراع على فلسطين عن منافسة البعثين والدولتين، فإن توظيف قضيتها على هذا النحو ما كان له إلا أن يزيد العلاقة بينهما سوءاً على سوء.

    لكن نبرة المساجلة حول الشرعية الحزبية كانت قد بدأت تخفت وتتراجع مع انقلاب الأسد وإبعاده اليساريين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970. فالانفتاح الاقتصادي الذي دشّنته سورية في العام التالي بثّ في أعصابها استرخاءً كرّسه مصرع اللواء محمد عمران في آذار (مارس) 1972 في طرابلس بلبنان، هو الذي رأى فيه البعض رمز استقطاب يهدد النظام. وهذا ما لم يحل دون ترسيم الحدود بين البعثين والدولتين لأغراض تقدّم الأمني فيها على الحزبي والايديولوجي. فقد اعتُقل عدد من مؤيدي "القيادة القومية" في 1971، وفي 3 آب (أغسطس) صدرت أحكام غيابية بالإعدام لم تستثن عفلق نفسه، ولا أمين الحافظ رئيس "المجلس الرئاسي" إبان عهد "القيادة القومية"، لاتهامهم بالضلوع في "مؤامرة" مدعومة من العراق. فحين أُعلن مشروع "اتحاد الجمهوريات العربية" شاملاً سورية ومصر وليبيا، وجدت بغداد مناسبتها للهجوم على الوحدويين "الزائفين"، ووصل الأمر بصدام أن يسمّي "الاتحاد" العتيد "خطوة أولى على طريق جريمة الاعتراف باسرائيل".

    الا ان الشتائم والتخوين والحملات الاذاعية، لم تمنع من التعاون الاقتصادي والتقني، الاتصالي والسياحي. هكذا بدا أن من الممكن إرساء أشكال على هذا القدر او ذاك من الصلابة تؤول الى تعزيز جهازي الدولتين، من دون ان تؤثر في مكامن السلطة الحساسة، ومن غير أن تجد لها، في المقابل، صوتاً ايديولوجياً يُحرج القاموس البعثي.

    وفي الحدود هذه سجّلت أواخر 1971 ميلاً الى التهدئة في ظل ضمور النزاع على الشرعية الحزبية، أو بالأحرى قصر استخدامها على تنافس السلطتين. فقد رُفع حكم الاعدام عن عفلق والحافظ، ولاح كأن البلدين يدخلان مرحلة هدوء تتوسّط عاصفتين. فالنظامان كانا أتمّا بناء عدّتهما السلطوية بما طوى صفحة الصراع على شرعية البعث. مع هذا لم تكن عدّة النزاع على الهيمنة الاقليمية قد اكتملت لديهما: فالعراق كان في ذروة انشغاله بالأكراد وايران، فيما سورية مشدودة الأبصار الى جهد عسكري مشترك يُبنى مع مصر، هو ما رأينا ثماره اللاحقة في حرب تشرين/أكتوبر 3791. لا بل في 26 آذار 1972 حضر صدام حسين الى دمشق لمناقشة إقامة وحدة تضم سورية ومصر، ثم أصدر مع الأسد بياناً ثنائياً يعلن بتهذيب أن الأمور لم تسر على ما يرام. ولم يتوقف المراقبون يومها عند التفاوض حول "الوحدة" بقدر ما توقفوا عند إصدار بيان مشترك، مستنتجين الطرق الملتوية في تعبير الدولتين البعثيتين عن نفسيهما.

    غير ان الخفاء كان أصدق من العلن. ففي مقابل إقامة "القيادة القومية" والزعيم السوري المعارض أكرم الحوراني في بغداد، زار وفد رسمي سوري عامذاك الملا مصطفى البارزاني كما تشكل في دمشق، أواخر العام، "التجمع الوطني العراقي" الذي ضوى بعثيي سورية العراقيين القلة والقيادة المركزية للحزب الشيوعي ومجموعات ناصرية صغرى. وعلى العموم بقي الصراع مضبوطاً، فوقف عند حدود الجيش ولم يتخذ، لدى أي من الطرفين، شكل الارهاب.

    وفي الغضون هذه شرعت قضايا الدول تحظى بدرجة من الصراحة أعلى، ولو ظلت اللغة البعثية تموّهها بـ"الوحدة" تارةً وطوراً بـ"فلسطين". فقد طرأت أزمتان تتصلان بتصدير النفط العراقي عبر سورية، دارت أولاهما حول الرسوم التي ينبغي ان تُدفع لها من جراء نقله في خط أنابيب كركوك-بانياس، فيما نشبت الثانية حين قرر العراق، أواخر صيف 1973، ان يبني خط أنابيب الى تركيا يتجاوزها، ومن ثم يحرمها الرسوم. وكان ما أشعل المعركة قرار تأميم شركة نفط العراق في 1 حزيران (يونيو) 1972 وما أحدثه من أزمة سيولة طارئة كان لا بد من حلّها على حساب سورية.

    وما زاد الطين بلةً ان ارتداد الواقع على الزيف الايديولوجي جاء قاسياً لا يرحم المزاعم: فالأنابيب تصب في دورتيول الواقعة في لواء الاسكندرون. وهذا إذا ما بدا إقراراً بتركية الأرض التي تعتبرها سورية "سليباً"، فإن له بُعداً رمزياً لم يستوقف الرفاق العراقيين. فالشبان الثلاثة الذين نقلوا البعث الى بلاد الرافدين كانوا من ذاك اللواء، والثلاثة ما كانوا أصلاً ليصيروا بعثيين لولا محنة أهلهم هناك. وكان في وسع العراقيين لو نظروا جيداً الى الخريطة ان يجدوا ما يُحرّك في البدن رعشة خفيفة: ذاك أن نفطهم سوف ينتهي قريباً من بلدة أرسوز التي أعطت اسمها لعائلة زكي الأرسوزي، أستاذ الشبان الثلاثة الذين جعلوهم بعثيين.

    وفيما الأمور هكذا وقعت حرب تشرين 1973 التي مهّدت لمرحلة جديدة من استعار النزاع. فبغداد استجابت بسرعة مطالبة دمشق إرسال جنود الى الجبهة، وهو مما كان يستحيل تجاهله وعدم استجابته. هكذا، وإذ فقدت سورية المبادرة بعد انتصارات الأيام السابقة، استقبل الجولان، في 22 تشرين الأول، 22 ألف جندي عراقي تولوا، مع الجنود الأردنيين، وقف التقدم الاسرائيلي. لكن السوريين بدوا متخوفين من دورٍ ما تلعبه القوات العراقية في الداخل، خصوصاً أن الخواطر كانت لا تزال هائجة بسبب خط الأنابيب التركي.

    وما ان انتهت الحرب حتى أعلنت بغداد معارضتها الحادة قبول دمشق وقف اطلاق النار من دون استشارتها، بعدما احتكرت وحدها مجد "انتصار تشرين". فالأولى المستنزَفة بصراعها مع الأكراد وإيران، انتابها ما يشبه الغيرة حيال الثانية التي حظيت بـ"شرعية تشرين" بعد انفتاحها الاقتصادي وتوطيدها القبضة السلطوية، ناهيك عن نجاحها في الجمع بين تحالفها مع السوفيات وإفادتها من دعم الأنظمة المحافظة في الخليج.

    وتأكدت هذه التصورات مع توقيع معاهدة فصل القوات في 31 أيار (مايو) 1974 ثم استقبال سورية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، أواسط حزيران، من دون ان يؤثّر ذلك في "معاهدة الصداقة والتعاون" التي كانت قد وقّعتها مع موسكو في شباط (فبراير) 1972. وواجه العراق هذه البراعة الدمشقية بالرفض "المبدئي" لكل التحركات السياسية السورية والعربية التي جدّت بعد تشرين.

    لكن الأيادي البيض على فلسطين وقضيتها ما لبث أن فاض سخاؤها. فالعام 1974 الذي توسّطته معاهدة فصل القوات، انتهى بخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة حيث خيّر العالم بين "غصن الزيتون" و"البندقية". والتطوران أشعرا بغداد بعزلة لم تكتم الاحساس بها كما لم تكبت الرعونة في مجابهتها. فقبل توجهه الى الأمم المتحدة، عرض البكر وصدام على عرفات ان ينتقل الى العراق لـ"مواصلة النضال" من هناك، كما لو كانا يستوحيان تجربة رشيد عالي الكيلاني مع الحاج أمين الحسيني أواخر الثلاثينات. وكان من المفهوم أن يحلم عرفات بمستقبل غير ذاك الذي انتهى اليه المفتي المقدسي. وفي النهاية، وعبر مؤتمر صحافي في العاصمة العراقية، أسس الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية"، جورج حبش، "جبهة الرفض" المناهضة لعرفات ودمشق سواء بسواء. وفي تعهّدها التصدي للعمليات "الاستسلامية والتصفوية"، زخّمت "جبهة الرفض" نشاطاً إرهابياً تولاّه وديع حداد. ولاحقاً قضى حداد، أقرب المقرّبين الى حبش، بمرض غريب التقطه في العراق، حيث قيل إنه سُمم.

    لكن ما ساعد البكر وصدام على الانتقال الى هذه السياسة التدخلية كان زيادة أسعار النفط حيث لعبت حرب تشرين دوراً أساسياً. أما بغداد وقد تعلّمت البعث من دمشق، فتعلمت منها المكيافيلية أيضاً. فتحت غطاء لفظي يساري راحت تمهّد للتحول يميناً، على ما دلت اتفاقية الجزائر. وكان من المفارقات أن الحَـبَـل بالاتفاقية المذكورة انما حصل في الجولان: فعندما قرر العراق إرسال الـ 22 الف جندي، طلب من طهران ترطيب الأجواء واستعادة العلاقات الديبلوماسية، وهذا ما تحقق له فعلاً في 15 تشرين الاول 1973. وهنا ساد حوار طرشان يزيده غموض اللغة البعثية غموضــــاً. فالعراقيون جادلوا ضمناً بأنهم اذا ما تنازلوا إيرانياً فإنما فعلوا لإقالة سورية من عثارها. وجادل السوريون، بضمنية أقل، بأن العراق كلما اتجه غرباً يكون قد اتجه يميناً أيضــــاً.

    والأهم ما بدا واضحاً على الدوام من أن دمشق تريد للعراق ان يبقى غارقاً في مستنقعه مع الأكراد وإيران، من دون أن يبلغ الحدود التدميرية التي بلغها في 1980 وصاعداً. بهذا تبقى بغداد "خائنة" لقضية عربية تتعامل دمشق معها وحدها من دون شريك. وبفعل مشاعر "قومية" مشابهة، أرادت بغداد لدمشق أن "تنحرف" عن الخط القويم في مصارعة إسرائيل وأميركا، أي أن "تخون"، بما يبرر لها تصنيفها في زمرة "الخيانة" والتقدم، من ثم، لقضم دورها بذريعة إنقاذها، إن لم يكن من الأعداء فمن نفسها الأمّارة بالسوء.


    وجعلت أواسط السبعينات الحذر السوري حيال العراق يفوق بأشواط مثيله العراقي حيال سورية. فالحزب "الأصلي" يقيم في بغداد من دون ان يُعدم المتعاطفين في البلد "الأصلي"، فيما الحساسية السورية تجاه المواضيع القومية والفلسطينية يمكن أن تتماهى مع اللون المذهبي للحكم البغدادي. والأهم، ربما، ان التراجع الاقتصادي السوري باشر ظهوره آنذاك، فيما كان العراق يتمتع بثراء تنفقه الدولة، الممسكة بالاقتصاد، على هواها.

    على ان الصحراء الحدودية شهدت آخر محاولات رأب الصدع، وعلى رمل الصحراء لا يبقى، في العادة، شيء. هناك التقى البكر والأسد مطالع 1974، حتى اذا تودّعا فُهم ان كلاً منهما سيستشير جهنمه.

    وفعلاً استبشرت الجهنمان فزوّدتا الاثنين مادةً مفيدة. ففي العام ذاك باشر أحمد العزاوي بناء التنظيم البعثي العراقي في سورية، كما مُنح اللجؤ لعراقيين أكراد معارضين تسلموا سلاحا من دمشق قبل ان تقام لهم معسكرات تدريب هناك. ولم يعد خافياً أن البلدين يدشّنان صراعاً على الهيمنة الاقليمية يُستخدم فيه الحزب كما يُقيّض له استهلاك الكثير من البشر والزمن والجهود. وإنما لأجل إحراز هيمنة كتلك نشأ صراع يُخاض بالواسطة محاذياً منطق الحرب الباردة حيث قاتل الأميركان والسوفيات بقوى وبلدان غيرهم.

    لقد تحرر العراق، بفعل اتفاقية الجزائر، من المشكلة الكردية والنزاع مع إيران، وغدا على أتم الاستعداد لـ"معانقة" فلسطين. وبدا من "الطبيعي" ان تتهمه سورية بالتفريط والاستسلام للامبريالية ماضيةً في هجومها الضاري على الاتفاقية المذكورة. لكن العراق بعدما كان يغار منها لاستمدادها العون من الجغرافيا ومن المهارة التي رتّبتها خبرة الجغرافيا، غدت سورية تغار منه. فبغداد الآن تملك الاستعداد العسكري والسياسي، والقدرة الاقتصادية، ناهيك عما أتاحته لها اتفاقية الجزائر من قبول لدى الغرب والمحافظين العرب، من غير أن تنهار علاقتها بموسكو.

    وإذ غدا الموقف السوري يوصف، في العراق، بـ"الخياني" الصريح، تبدّى أن سورية ومصر على أهبة تشكيل محور ضد العراق. ولم تتزحزح لغة التمويه شعرةً. فوسط هذا الحريق واظبت بغداد على دعوة دمشق الى الاندماج العسكري. وفي موازاة استعداد الطرفين لفتح معركة الزعامة الاقليمية التي تلغي غيره، بقي كل منهما يتمسك بأهداب لغة شديدة التواضع مُسمّياً نفسه "قطراً".

    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (10): الحرب على الزعامة الإقليمية بين صدام حسين وحافظ الأسد
    بعدما تناولت حلقة الثلثاء الماضي "معانقة فلسطين"، هنا التتمة:

    في أواسط السبعينات، إذاً، قرر العراق، المدجج بعوائد النفط، أن لا يترك المنطقة لسورية. لكنه قرر أيضاً أن لا يترك سورية طليقة في استخدام مياه الفرات، النهر المشترك بينهما. وهذا لئن تكرّس موضوعَ نزاع مديد يضمر حيناً ليظهر حيناً، راحت بغداد تكيل الشتائم لدمشق واصفةً نظامها بـ"الفاشية واليمينية والعمالة للامبريالية". وكلما قوي الخلاف على الفرات ضرت الحملة بينهما لتعود الى حيث ابتدأت أواخر الستينات.

    لكن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ. ففي شباط (فبراير) 1975 استدعت بغداد سفيرها من دمشق رداً على ما اعتبرته دعماً منها للأكراد، واستمرت العلاقات على مستوى القائمين بالأعمال حتى 1977. وفي آذار (مارس) "كشفت" سورية "مؤامرة" عسكرية مدعومة من العراق، ما تلاه اعتقالات واسعة لعسكريين وحزبيين كما حُشدت القوات العسكرية للبلدين على جانبي الحدود. وبعد شهرين وسّعا بيكار النزاع فتبادلا اغلاق شركات الطيران والمكاتب التجارية وغيرها، فيما اندفعت دمشق في دعمها فصائل من المعارضة العراقية، لا سيما "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي كان تأسس لتوّه في أوروبا. ففي دمشق أقام مؤسسه جلال الطالباني منذ 1972 كممثل لمصطفى البارزاني ثم كمنشق عنه، كما أقام مقر تنظيمه.

    وعلى العموم تبدى كأن اتفاقاً منهجياً عُقد بين بغداد ودمشق على الخلاف، فأضحى السعي الى "ساحات" تشتبكان فوقها، وأطراف وسيطة تشتبكان بها، على أشدّه. ففي كانون الأول (ديسمبر) 1975، وفي ما بدا تجاوزاً لسورية وعليها، زار صدام حسين لبنان كي يسجل دعمه لـ"الحركة الوطنية" اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. لكن سورية ما لبثت ان قضمت "الساحة" كلها، حتى طغى تدخلها عام 1976 في لبنان على العلاقة الثنائية بين الدولتين البعثيتين. فقد غدت بيروت أهم محاور المجابهة الاقليمية بسبب "الورقة الفلسطينية" فيها أساساً، ولكنْ أيضاً بسبب ما كانته العاصمة اللبنانية كمطبعة للعرب ومتنفّس لأصواتهم وساحة لمعارضيهم. وإذا تخوّفت بغداد من أن احتلال لبنان يضع الورقة الفلسطينية ومعها بيروت في الجيب السوري، قطع صدام حسين رحلة له في الخليج، في نيسان (ابريل)، لاكتشافه "مؤامرة سورية" لاغتياله. وبدأ العراق، في حزيران (يونيو)، يحرّك قطعاته العسكرية على حدوده الغربية، غير انه أخبر دمشق بأنه يأمل منها أن تفتح لتلك القوات طريق الوصول الى الجولان، ومن بعدها فلسطين. وما لبثت دمشق حين قدمت روايتها للموضوع أن نزعت قشرة الهزل "القومي" عن اللب الفعلي، متهمةً بغدادَ بالسعي الى غزوها، فضلاً عن وقوفها وراء أعمال شغب فيها. فعندما فشلت الاخيرة في الضغط على الأولى كي تسحب قواتها من لبنان، سحبت هي قواتها من الحدود المشتركة.

    ولخيبة العراق البعثي ولاحتقانه، لم ينفع الثراء النفطي كثيراً ولا نجح في التغلب على عوامل موضوعية أخرى وعديدة. هكذا جاءت هزيمة بغداد أشد تذكيراً بالعزلة من سابقاتها وأكثر تسبيباً للتوتر المحتقن. ذاك ان الجامعة العربية، ضداً على موقفها، ما لبثت أن أقرّت التدخل السوري ووفرت له غطاء الشرعية العربية عبر قمتي الرياض والقاهرة في تشرين الأول (أكتوبر). وطالب العراق بانسحاب سورية من لبنان، وهو ما كان مطلب الفلسطينيين و"الوطنيين" اللبنانيين يومها، فيما طبّق قراره وقف العمل بخط الانابيب السوري كلياً. ولئن اتهمته دمشق بحرمانها أحد مقوّمات صمودها في وجه اسرائيل، بررت بغداد إجراءها برفضها الاحتلال السوري للبنان.

    والراهن أن العام 1976 كان صعبا جداً على دمشق. فقد تكاثرت الأخبار عن محاولات انقلابية كما جرت محاولة لاغتيال الأسد نفسه في اللاذقية. وفي أواخر نيسان تجدد الخلاف حول خط الأنابيب: فآنذاك بدأت بغداد تحوّل 500 الف طن يومياً عبر الخط التركي، اي نصف اجمالي صادراتها من حقول النفط في شمال العراق. وبهذا خسرت سورية نصف ما تكسبه كرسوم مرور.

    هكذا تعرّى الصراع على النفوذ من كل مصلحة مشتركة، ليصير أقرب الى جوهر الأشياء وعاديّها. فما من شيء يؤثّر في شيء خلا العداوة التي تتغذّى على ذاتها. ذاك أن العراق استقل تماماً عن سورية في ما خص تسويق نفطه. ومع أن العائدات التي يجنيها من التصدير التركي بقيت أقل مما كان يحرزه عبر سورية قرر، في 9 تموز (يوليو) 1977 زيادة طاقة الخط التركي. وبدورها لم تبق دمشق مكتوفة الأيدي فأغلقت، في 2 كانون الأول، كل موانئها وحدودها أمام نقل البضائع والترانزيت من العراق وإليه. وبعد حوالى عام، أي في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 استكملت اغلاق حدودها معه.

    وكان للإعلام المسموع دوره. ففي 26 تشرين الأول بدأ "صوت سورية العربية" بثّه من بغداد، وهو ما توافق مع إسباغ مؤتمر القاهرة شرعيته على "قوات الردع العربية"، وعملياً السورية، في لبنان. وبعد شهر واحد شرعت إذاعة دمشق تبث برنامجاً للمعارضة العراقية.

    لكن قبيل انعقاد قمة القاهرة، وتحديداً في 26 أيلول، جدّ طور جديد أعلى في العدوانية، فسُجّل أول عمل إرهابي مرعيّ عراقياً داخل سورية. فقد اختطف عناصر من "منظمة حزيران الأسود" أربعة أشخاص من فندق سميراميس في دمشق، مطالبين بإطلاق سراح مساجين سياسيين وتغيير السياسة السورية حيال لبنان. وتبيّن، في ما بعد، أن قائد هذه المنظمة المختَرعة إسماً ووظيفةً ليس سوى أبو نضال. وكان السلوك مرآة السلوك كما الإعلام مرآة الإعلام. فإلى مصرع البعثي العراقي المعارض أحمد العزاوي عامذاك، اختُتم العام على هجمات مسلحة تعرضت لها السفارتان السوريتان في روما وإسلام أباد، وفي 1 كانون الأول استهدفت محاولة اغتيال وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام، فلم ينقض عليها غير 13 يوماً حتى انفجرت عبوة في مطار بغداد قتلت ثلاثة وجرحت كثيرين.

    وفي بيروت بكّرت القوات السورية في الجهر بنواياها. فهي ما أن دخلت العاصمة اللبنانية في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) حتى أطبقت على الأحزاب والمقار والصحف القريبة، في صورة أو أخرى، من العراق.

    ولم يكن العام التالي، 1977، غير تكرار لسيرة سابقه. فقد امتد العنف الى الفلسطينيين والى الشوارع، حيث اشتبكت "الصاعقة" التي أنشأتها دمشق و"جبهة التحرير العربية" التي أنشاتها بغداد. وفي كانون الثاني (يناير) حكمت محكمة أمن الدولة السورية العليا بالموت على مجموعة من "المجرمين العراقيين" اتهموا بزرع متفجرات في أمكنة مأهولة من دمشق وحلب. كذلك اتُهمت بغداد بقتل محمد الفاضل، رئيس جامعة دمشق، في شباط 1977. لكن العراق اتهم سورية، في هذا الشهر نفسه، بالوقوف وراء أحداث النجف وكربلاء، وبأنه مصدر لتسلل عناصر من "الاتحاد الوطني الكردستاني" اليه. وبعد شهر واحد ذُكر أن صدام نفسه ترأّس فرعا خاصا مهمته الفعلية تنظيم الإرهاب العراقي في سورية. وفي أواخر العام، في 25 تشرين الأول تحديداً، تعرض خدام لمحاولة اغتيال ثانية وهو في زيارة الى أبو ظبي.

    حتى رحلة الرئيس المصري أنور السادات الى القدس، في تشرين الثاني 1977، لم تكفِ لتهدئة الحرب بين الطرفين "الوحدويين" والهائجين على سياسة مصر. على العكس تماماً قدمت الزيارة لبغداد حجة أخرى، فرأت أن دمشق تستخدم الرئيس المصري "كاسحة ألغام لها على طريق الخيانة". وإذ راحت العاصمة العراقية تغدق المعونات على خصوم سورية في لبنان، طمعت العاصمة السورية بشطب دور الاثنين، بغداد والمنظمة، معاً.

    وجاء العنف الأرعن للعام 1978 يتجاوز الشرق الأوسط ليسطع على مدى العالم. فأبو نضال اغتال ممثل المنظمة في لندن سعيد حمامي بدفع وتكليف عراقيين، كما قتل ممثل المنظمة في الكويت علي ياسين وممثلها في باريس عز الدين القلق. وفي نيقوسيا، وبما أدى الى مذبحة متعددة الجنسيات في مطارها، اغتال الأديب المصري يوسف السباعي الذي رافق الرئيس أنور السادات الى القدس. كذلك حاول ابو نضال اغتيال يوسف ابو حنتش ممثل المنظمة في إسلام أباد، فتسببت جرائمه في أحد أمرّ النزاعات بين "فتح" والبعث الحاكم في العراق. وقد خيض معظمها في بيروت تحت رقابة العين الساهرة للسوريين.

    وخلال ربيع 1978 وصيفه عصفت بسورية نشاطات ارهابية متتالية، فلم يشذّ عن قاعدة الصراع الا سماح دمشق لوحدة من المتطوعين العراقيين بالعبور الى الجنوب اللبناني الذي تعرّض، عامذاك، لاجتياح اسرائيلي صغير.

    مع هذا أدت "المبادرة" المصرية، مسبوقةً بوصول "ليكود" الى الحكم في اسرائيل، إلى إشعار السوريين بالرهبة والجدّ. هكذا راسل الأسدُ البكرَ في 20 تشرين الثاني 1977، بعد يوم على انتهاء زيارة السادات، علماً بأن دمشق كانت، يوم انتهاء الزيارة، تفرض آخر إجراءاتها لمحاصرة العراق اقتصادياً، أو ما أملت أن يكون كذلك. وفي الرسالة التي حملها الى بغداد رئيس الحكومة الليبي عبد السلام جلود، طلب الرئيس السوري نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، فكان مؤتمر طرابلس ما بين 2 و5 كانون الأول.

    والحال أن سورية، وهي المعني الأول، بذلت كل ما يسعها لعقد مؤتمر طرابلس الذي انبثقت منه "جبهة الصمود والتصدي". لكنْ هناك أيضاً خالف العراق الآخرين جميعاً فوقفت ضده طرابلس والجزائر وعدن ومنظمة التحرير، فضلا عن دمشق. ذاك ان بغداد، الحريصة على انتزاع دور لها بأي ثمن كان، أرادت ان يُعقد المؤتمر فيها، كما طالبت بمقاطعة كاملة لمصر وبتحرير الاراضي العربية كافة لا الجولان فحسب. وهي لم تنس مطالبة سورية تحديداً بالتراجع عن موافقتها على قراري مجلس الأمن 242 و338 والانسحاب من لبنان، فيما لم تسحب اتهامها لها بالمسؤولية في ما قام به السادات. وكان البكر قد اقترح في رسالة الى الدول التي شاركت، وفي عدادها سورية، إنشاء جبهة تضم العراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير من دون سورية نفسها، اللهم الا اذا انسحبت من لبنان وتخلّت عن موافقتها على قراري مجلس الأمن. فجاء المطلب العراقي يرقى الى انشاء جبهة لا حدود لها مع اسرائيل، تكون لـ"الصمود والتحرير" بدل "الصمود والتصدي"، وهو ما بدا لاعقلانياً الى حدّ فاجأ العقيد الليبي معمّر القذافي.


    لكن الفيل الذي كان يخبط في دكّان خزف تحوّل، بلمح البصر، حمامةً وديعة. فقد نشأت الجبهة التي لم ينتسب العراق اليها، فحاول ان يلعب دور الوسيط بين الجبهة الوليدة لـ"الصمود والتصدي" والمحافظين العرب. هكذا راهن على تضامن عربي يجافي راديكاليته الفائضة قبل أسابيع. وفي دوره الجديد هذا بات عليه التخلي عن مطالباته السابقة لدمشق بما فيها "تحرير كامل الأراضي العربية".

    ووفاءً بهذه الصورة الجديدة أبدى العراق استجابة لوساطات عربية وسوفياتية هدفها تثبيت الانفراج الأمني وتطوير التقارب مع سورية. وفي هذه الغضون جمّدت الأخيرة نشاط الطالباني، كما سمحت لصلاح الدين البيطار، شريك عفلق في تأسيس البعث، بزيارة مدينته دمشق. لكن المطلوب للتغلب على رداءة العلاقة وشكوكها لم يكن أقل من معاهدة كامب ديفيد المصرية-الاسرائيلية. إذّاك، ورداً عليها، وقّع الاسد والبكر وصدام "ميثاق العمل القومي المشترك" في 26 تشرين الأول 1978، كما تحدثت احدى الروايات عن "تفاهم" على ان يكون البكر رئيس دولة الوحدة والأسد نائبا له. وهذا، إذا صح، كافٍ لإشعار صدام بقدر من الاستبعاد والعزلة. لكن ضمانة صدام كانت معرفته، وهو في هذا شيخ العارفين، أن شفرة "الميثاق" مثلومة وسكينه لن يتسنى لها قصّ أطرى اللبن.

    ومنذ البداية، ومع عودة الكلام على "وحدة القطرين" الى الواجهة، بدا واضحاً أن على العراق، كيما يُقبل "عمقاً استراتيجياً" لسورية، أن يدفع. ولأنه دفع تحققت، بعد أيام على "الميثاق"، إنجازات متفاوتة. فبغداد شاهدت حلمها في احتضان مؤتمر قمة عربي يصير حقيقة. كذلك أعيد فتح الحدود الثنائية الا ان الشرطة في البلدين استنفرت كل طاقتها على الرقابة والحذر في متابعة العابرين من البلد الآخر واليه.

    لكن لئن أنشأ "الميثاق" عدداً من الأجهزة أهمها "الهيئة المشتركة السياسية العليا"، فإنها والهيئات الأدنى التابعة لها، لم تسفر عن شيء، وبالكاد التأم بعضها. صحيح انه لم ينقض غير يومين على ولادة "الميثاق" حتى وقّعت اتفاقية ضاعفت حجم تجارة البلدين، كما نصت على إقامة مراكز تجارية في العاصمتين، غير أن ما كمن وراء الأكمة كان أخطر. فخلال أشهر التقارب اشترت بغداد سلعاً بقيمة 17 مليون ليرة سورية من القطاع العام فيما اشترت ما قيمته 183 مليوناً من القطاع الخاص. وتبيّن، من ثم، ان الطرف العراقي الأقوى اقتصادياً استخدم الاتفاقية لتصديع الموقع الاقتصادي للسلطة السورية. والى هذا، لم يحصل تغيير في ما خص قسمة مياه الفرات ولا في مجال استئناف تصدير النفط عبر سورية، وهو ما تضاربت المعلومات بشأنه. كذلك لم تسمح دمشق للعفلقيين السوريين المقيمين في بغداد بالعودة الى بلدهم، علماً بأنها أبعدت عن الواجهة معارضتها العراقية كما فعلت بغداد بحجبها معارضتها السورية. وأهم من كل ما عداه أن التعاون العسكري لم يحصل.

    وتبدى أن الحبكة أُتقن صنعها. فدمشق التي لوّحت بوحدة نضالية مع بغداد، معطوفةً على تحالفها مع موسكو، هدّدت المحافظين العرب بما لا يمكن الا ان يكون من صنف الكيمياء الراديكالية. وبهذا صارت سورية أقدر على استحلاب الدعم العربي المحافظ.

    وفي المقابل، قضت جلافة البعث العراقي بطرح الأمر على نحو مُقلق ومنفّر. فبغداد ما دامت ستدفع ثمن المشتريات السورية من الأسلحة، فإنها تريد لقواتها ان تعبر الى سورية فوراً، وأن تقوم وحدة الحزبين تمهيداً لوحدة الجيشين. وإذ طالب العراق بوحدة فورية، كاملة ومركزية القرار، سعت سورية الى الفيدرالية والتدرّج. فالأنف الدمشقي مدرّب منذ وحدة 1958 على هذه الروائح، خصوصا أن الحزب العراقي أكفأ بكثير من نظيره لأنه، بين وظائفه الأخرى، منظمة أمنية، فيما البعث السوري مستقل نسبياً عن الأجهزة الأمنية لبلده.


    كذلك دلت التجربة على أن صراع الاثنين للحلول محل مصر أقوى من رغبتهما في بناء محور سوري - عراقي يعرفان ان الفشل مكتوب عليه، كي لا نقول شيئاً عن الوحدة. ثم اذا عاند العراق الوقائع الموضوعية، فسورية غدت أكبر مما كانته في الخمسينات، حين اقتصرت على مجرد موضوع للصراع المصري - العراقي.

    وفي النهاية ظل ما يقع في نطاق علاقة البلدين موسوماً بالمؤقت والعابر. فالعراق بدا للسلطة السورية مشروع تهديد إن لم يكن مشروع توسع وابتلاع. أما سورية فأرادت، في نظر الحكم العراقي، أن تفيد من تقديمات بغداد المالية وما توفّره من "عمق استراتيجي" لسياستها من دون أن تشركها في القرار.

    وحين حل صدام في الرئاسة تضاعفت الريبة السورية. فقد عجّل الاندفاع في طلب الوحدة الفورية الكاملة، هو الذي طالما اعتُبر رمز "المشروع القطري" في العراق، قياساً بالبكر "القومي". فإما أنه يريد قتل "الميثاق" بتسريعه وإظهار السوريين "خونة" للوحدة، وإما أن عُظامه الذي تغذّى بحضوره مؤتمر هافانا لعدم الانحياز عامذاك، يدفعه الى توسّل الوحدة جسراً الى الهيمنة الاقليمية.

    وكانت الكراهية الصافية تتحكم بالعلاقة بين الأسد وصدام، فيما ساد شيء من الودّ علاقة الأول بالبكر الذي يقال انه حذّر السوريين من نائبه الصاعد. وعلى أية حال فحين توجه عبد الحليم خدّام لتهنئته بالرئاسة واجهه صدام، بحسب رواية شائعة، بعلاقة تربط سورية بـ"مؤامرة" 1979 الحزبية والتي كان يُفترض بها ان تعلن الوحدة الفورية برئاسة الأسد، فيما يكون عبد الخالق السامرائي نائباً له. وبالطبع نفى خدام، لكن النفي لم يغير شيئاً. فالعراق كان في وارد آخر. وبغض النظر عن الادانات اللفظية لمصر، كان "السيد النائب" قد قطع، منذ اتفاقية الجزائر، شوطاً بعيداً في التقارب مع السادات.

    وإذا صح أن الأخير بذهابه بعيداً أحرج اللفظية العراقية بقدر ما استنفرها، الا أن بغداد كانت، منذ 2 شباط 1978، استأنفت علاقاتها القنصلية والثقافية والتجارية مع القاهرة، وفي آذار استأنفت العلاقات الديبلوماسية من دون سفراء. كذلك تقاطعت في الأساسيات مع السياسة الغربية كما جاء الدليل الساطع في حرب 1980 ضد إيران الخمينية. وفي النهاية كان العراق، من خلال حربه على إيران، من أعاد مصر الى الحظيرة العربية.

    وكان مما أحبط "الميثاق"، وهو لا يستدعي الكثير لاحباطه، أن سورية شهدت في 1979 مسلسلاً من الأعمال الارهابية والتخريبية ليس العراق معنياً بها بالضرورة، انما استدعى التصدي لها مطلق الحرية في القرار والتصرف. أما العراق، بدوره، فبدا مشغولاً بالثورة الايرانية وتداعياتها ميّالا الى التركيز، عوداً على بدء، على جبهة الشرق.


    وبانهيار "الميثاق" عاد الارهاب يتعاظم في سورية، ما بين حزيران وأيلول 1979، فاغتيل حوالى 70 شخصا معظمهم من الكوادر العليا في الدولة والحزب ثم جرت، في 26 حزيران 1980، محاولة على حياة الأسد نفسه. وفي الطرف الآخر انعقد في بغداد، في آذار من ذاك العام، "المؤتمر العربي الشعبي القومي" حيث ظهرت رموز المعارضة السورية ممن هاجموا دمشق بضراوة. وكان من المشاركين البيطار الذي ما لبث ان اغتيل في باريس، في تموز، لتنقل جثته الى العاصمة العراقية ويُدفن فيها. كذلك أعلنت قوات الأمن العراقية عن اكتشافها كميةً من السلاح في السفارة السورية ببغداد التي اقتحمتها في 18 آب. وبعد شهرين قطع العراق علاقاته بسورية بذريعة مدّها إيران بالأسلحة، فيما تواصل الهجوم العراقي عليها وعلى ليبيا المتهمتين بالتواطؤ مع طهران "ضد العرب". وكانت حجة سورية التي كررتها مراراً في ما بعد، أن إيران معادية للامبريالية فيما العراق لم يغزُها الا ليمنعها من ضم جهدها الى الجهد العربي ضد اسرائيل.

    والحق أن دمشق أوجعت بغداد التي كادت تعرّب حربها على إيران لولا الموقف السوري النافر. ففضلاً عن الحصول على تمويل خليجي نجح العراق في جميع القمم العربية، من عمان في 1980 وفاس في 1982 ثم عمان مجدداً في 1987، في تأمين الدعم العربي انطلاقاً من موقفه "القومي" المحافظ.

    وكان الظن ان سورية تؤثّر غرباً فإذا بها، مع حرب ايران، تؤثّر شرقاً أيضاً. ولم تتكاسل بغداد في الرد. فالعام 1980 شهد تأسيس "الجبهة الاسلامية" السرية في مدينة آخن بألمانيا الغربية، وربما في دمشق نفسها، ضامّةً بعض أطراف المعارضة الراديكالية ممن بثّ الإعلام العراقي نشاطاتهم وروّجها. لكن لئن فاقت دمشقُ بغداد حذراً فان الأخيرة ساوتها مع الغطس في حرب إيران وظهور فقرها، بينما كانت المعارضة تُسمع صوتها والأكراد يعودون الى بنادقهم المخبّأة.

    ومنذ 1979 دعمت سورية الحزب الشيوعي العراقي، كما زار دمشق عامذاك إدريس البرزاني، نجل الملا مصطفى، واستقبله الأسد من دون ان تتردى العلاقة السورية بالطالباني. وفي هذه المعمعة ضرب أبو نضال في تموز، فاغتال أمين عام منظمة "الصاعقة" زهير محسن حيث لم يتوقع أحد: في أحد كازينوات مدينة كان الفرنسية. وفي 12 تشرين الثاني 1980 تأسست في دمشق "الجبهة الوطنية القومية والديموقراطية في العراق"، ثم أقام "حزب الدعوة" وجوداً له في سورية، وكذلك فعل الضابط المنشق حسن النقيب الذي سمّى نفسه "قائد الثورة العراقية"، كما نشأت هناك "جبهة القوى الثورية والاسلامية والقومية" ونُشرت في دمشق مطبوعات للمعارضة العراقية.

    وربما تورّطت بغداد في "مؤامرة" كُشفت في كانون الثاني 1982، وتناولها لاحقاً الإعلام العراقي تناولاً مسهباً. إذ يبدو ان ضباطاً خططوا، بتنسيق مع الاسلاميين السوريين، لانقلاب تستهلّه ضربات جوية لمقري قيادة البعث والرئيس الأسد. وقد اعتُقل يومها عدد من العسكريين، لا سيما الضباط في سلاح الجو وأُعدموا.

    واتهمت بغداد، بدورها، "عملاء سوريين" بزرع عبوة لم تنفجر لمجلة "الوطن العربي" المؤيدة للعراق في باريس في 19 كانون الاول 1981، كما اتهمت "عملاء" آخرين بتفجير سفارتها في بيروت، في الشهر نفسه، بالتعاون مع ايرانيين. وما هي الا ثلاثة أشهر حتى اندلع القتال في طرابلس بشمال لبنان بين القوات السورية من جهة وميليشيات "التوحيد" الاسلامية والبعث العراقي وحركة "فتح" من جهة أخرى، فيما كانت بغداد على غزل مفضوح مع القوى المسيحية اللبنانية المناوئة لسورية.

    ولم يتردد الأسد في خطابه يوم 7 آذار 1982 في تحميل العراق مسؤولية أحداث حماة، لكن بعد أربعة ايام فقط أُسس في باريس، وربما في دمشق، "التحالف الوطني لتحرير سورية" ومقر سكريتريته الدائمة بغداد، وهو ما سمّي في 0991 "الجبهة الوطنية لانقاذ سورية". أما دمشق فأقدمت، بحسب اتهام بغداد، على زرع قنبلة أخرى انفجرت هذه المرة بمكاتب "الوطن العربي" في 22 نيسان 2891، وهو الشهر الذي أعيد خلاله إغلاق خط أنابيب النفط.

    وأسوأ مما عداه أن تلك المرحلة سجلت حدثين من طبيعة نوعية. ففي 7 حزيران 1981 دمّر الاسرائيليون مفاعل "تموز" النووي في العراق، لكن الاستياء العربي الواسع لم يتبلور تضامناً مع بغداد فاعلاً ومؤسسياً. وبعد عام حصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان فكان العراق مستغرقاً في حربه مع ايران. بيد أن أحداً لا يستطيع استبعاد شبهة الخبث والشر: ذاك أن محاولة أبو نضال، بمساعدة أمنية عراقية، اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن، شلومو أرغوف، هي التي استخدمتها الدولة العبرية ذريعةً لها للانقضاض على لبنان وفلسطينييه.

    وشهدت الفترة التي بدأت بأيار 1983 إحدى أعنف معارك "الرفاق والأخوة" وأهل "المتراس الواحد". فالحرب، في لبنان، نشبت ضروساً ومفتوحة بين دمشق وياسر عرفات مدعوماً من بغداد، وتسعّرت مع "حرب المخيمات" البادئة في أيار 1985، حيث لعبت "حركة أمل" اللبنانية الشيعية دور الذراع السورية الضاربة. فلم يبدُ مرةً ان فلسطين ولبنان امتداد لمشروع سوري امبراطوري كما بدا إذّاك، ولم يبدُ مرةً أن الشمشونية تتحكم بنظرة أحد هذه الأطراف الى الآخر كما بدا آنذاك. ورغم هذا عرف عام 1985 اختراقاً على إيقاع منطق التلاعب البعثي بالوحدة ولغتها. ففيما خضع العراق لضغط إيران العسكري الكثيف وللضغوط السياسية العربية والسوفياتية كي يتقارب مع دمشق، رفعت الأخيرة عقيرتها بأن الوحدة هي ما يوقف الحرب المدمّرة مع إيران.

    وبدا لوهلة، في 1986، ان الأمور قد تتحسن. لكن أحداثاً أخرى كانت تنضاف الى السوابق في تعزيز الشكوك. فقد انفجرت عبوة في مكتب الجمعية الالمانية-العربية المؤيدة للعراق في برلين الغربية في 30 آذار، واتُهم الاسلامي السوري عدنان سعد الدين والأمن العراقي بتفجير باصّات مزدحمة بالركّاب في سورية. وما لبث ان تبينّ ان ذاك التقارب مدروس جداً لخدمة اغراض لا صلة لها بالوحدة. فإيران كانت، في شباط، قد احتلت الفاو فيما علاقاتها بسورية تتردى بسبب ازدواج نفوذهما في لبنان وفي "حزب الله"، كما بسبب شحنات النفط المهددة بالتوقف. لكن يبدو أن دمشق طبقت، مرةً أخرى، نظريتها القائلة إن السياسة امتداد للتجارة بوسائل أخرى. فبتظاهُرها بالايجابية حيال بغداد، حصلت على ما تريده من طهران وأقنعت الدول العربية بنواياها الايجابية.

    ولم تتوقف جهود الملك الاردني حسين ولا جهود موسكو، فنجحا أخيراً في جمع الأسد وصدام أواخر نيسان 1987 في الصحراء الاردنية. وفي هذه الصحراء لم يكن الحظ أعلى مما كان في الصحراء العراقية-السورية عام 1974. ويبدو، على أية حال، أن القصة المضجرة تكررت فطرح الأسد الوحدة الفورية مقدّماً الرئاسة للثاني الذي دعا، بدوره، الى اتباع الخطوة خطوة. وهذا لم يكن جدياً ولا ذاك. ما كان جدياً أن الاتفاقية النفطية الايرانية السورية كانت قد انتهت مدّتها في آذار، فحين تم لقاء نيسان قلقت طهران فجددتها.

    وبتوقيع العراق على وقف النار مع إيران في آب 1988، تغيرت المعطيات. فبغداد صار في وسها الآن أن تتفرّغ للغرب فتثأر من سورية وتسعّر معها الحرب بالواسطة. وبالفعل لم يحلّ شهر حتى تسعّرت بشغور منصب الرئاسة اللبنانية وظهور حكومتين، واحدة مدعومة من دمشق على رأسها رئيس الحكومة السابق سليم الحص، والأخرى عسكرية مدعومة من بغداد على رأسها قائد الجيش ميشال عون. وفي آب 1989 أفضى النزاع الى قتال وأرقام قتلى غير مسبوقة حتى بمعايير الحرب الاهلية-الاقليمية في لبنان.

    لكن النزاع انتهى باتفاق الطائف الذي عُدّ نصراً لدمشق وهزيمة لبغداد، تماماً كما كانت الحال مع قمتي القاهرة والرياض في 1976. واستمرت بغداد تخوض حرباً محبَطة أخرى من خلال القيادة المحلية المحبَطة لعون. وفيما شاغب العراق بعون على سورية، شاغبت سورية على نطاق أكبر بكثير على العراق، فانضمت الى "التحالف الدولي" بقيادة أميركية لتخليص الكويت من الغزو والاحتلال العراقيين.

    وفي خلال غزو الكويت، ربط صدام حسين بين التفاوض للانسحاب منها والتفاوض مع اسرائيل حول فلسطين، فكانت جنايته على الفلسطينيين الذين ساعدوه بأن بالغوا في التهليل لغزوه. وكانت المأساة طردهم من بلدان الخليج في صورة من صور العقاب الجماعي والعنصري، فيما راحت خزائن منظمة التحرير تنضب من أموال كانت البلدان الخليجية مصدر معظمها.

    وقبل ذلك وبعده، اكتشفت بغداد أن طريقها مسدودة الى أهم أسواق المشاريع النضالية في المنطقة خلال التسعينات. ذاك أن مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان أقفلتها دمشق وطهران على غيرهما، قوىً محلية ودولاً، بحزام عفّة مشدود. وبغض النظر عن مدى رغبة بغداد في تقديم الدعم، وهي مسألة فيها نظر كثير، نجح خصماها الاقليميان في تهميشها تماماً وفي إظهارها نمراً مقيّداً بالسلاسل يسكن رأسه عقل دجاجة
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (11): الحرب على إيران بين صدّام حسين وآية الله الخميني

    بعدما تناولت الحلقة الماضية الحرب على الزعامة الإقليمية بين صدام حسين وحافظ الأسد، هنا التتمة:

    لم يكن تولي صدام حسين رئاسة الجمهورية، يوم 16 تموز (يوليو) 1979، متعة صافية من كل ما يعكّر. ففي العام المذكور سبـق الحدثَ الرئاسي حدثٌ آخر ربما ذكّره بما لا يحب ان يتذكر. فالشاب الذي انتسب الى البعث إبان شعور البعث بالقزمية حيال الشيوعيين العراقيين، و"السيد النائب" الذي لم يُقنع أحداً بأنه وريث جمال عبد الناصر في الزعامة العربية وجد نفسه، هذه المرة، أمام تحدٍ أكبر وأخطر. ففي 16 كانون الثاني (يناير) حزم شاه إيران حقائبه وغادر طهران، مريضاً بالسرطان ويائساً من "رخاوة" الرئيس الأميركي جيمي كارتر المتشدد في "حقوق الانسان". لكن أكثر ما دفع الشاه الى المغادرة أن الحشود التي نزلت الى الشوارع لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

    صحيح أن المستبد الشرقي الذي كانه البهلوي آثر أن يقي شعبه مستنقعاً دموياً لاح في الأفق. لكن الصحيح أيضاً أن آية الله الخميني، ابن السادسة والسبعين، كان مشدوداً الى النصر انشداد سهم الى هدفه. فقد بدا نصره أشبه بالحتم أو القدر، لا يحول دونه أي "سيف" قد يتصدى لـ"الدم"، بحسب معادلة أقامتها الأدبيات الشيعية وجددتها الخمينية.

    وبالفعل وصل الشيخ الجليل والمتجهّم الى طهران في 1 شباط (فبراير) فكانت مهابته وتقطيب وجهه وسواد ملبسه كافيةً لأن تُشعر حكام بغداد بعاديّة لا يُحسدون عليها. فالجالسون في أقبية الأمن يتوهّمون صناعة التاريخ، شاهدوا التاريخ يُصنع، على مقربة منهم، في الهواء الطلق.

    ولا شك ان الجماهير التي مهّدت للخميني ثم استقبلته أصابت صدام بغمّ لا علاج له. فهو سليل حزب لا ينافس تشدّقَه بالجماهير الا نقصُ جماهيريته. أما الذين انضووا فيه، وكانت ست سنوات قد انقضت على الطفرة النفطية، فليسوا من طينة أولئك الذين جانبتهم الطفرة النفطية في إيران. ذاك أن الأخيرين، على عكس المستفيدين والمنتفعين، عُجنوا بالجدية في ما يعتقدونه وبالاستعداد للموت في سبيله.

    لكن الحدث الإيراني الكبير لا بد عجّل، من جهة أخرى، في انتقال "السيد النائب" الى الرئاسة. فصدام، لا أحمد حسن البكر، الرجل الملائم لمجابهة تحدٍ كهذا، إذ هو الأشد عناداً وتصميماً على وضع الأهواء المستحيلة موضع التنفيذ.

    ثم ان للخميني، وقد عُرف بالحقد بين صفات أخرى عديدة، ثأراً على السلطة البعثية في بغداد. فآية الله حين نفي من بلده انتقل الى النجف حيث أقام منذ 1965. بيد ان حملة البعث على الشيعة ومؤسساتهم الدينية دفعت الى إبعاده عن العراق في تشرين الأول (أكتوبر) 1978 ليستقر، بعد ذاك، في ضاحية نوفل لو-شاتو الفرنسية قريباً من باريس. وفي الأثناء هذه شرّد البعثيون من شرّدوا، وأعدموا من أعدموا من رجال دين شيعة هم أصدقاء للخميني وزملاء حوزة.

    وعلى النحو هذا بدا "طبيعياً" في السلطة التي أقامها آية الله، عام 1979، أن تستفزّ الجيران على المقلب الآخر من شط العرب. هكذا حصلت مناوشات بدأها الايرانيون الذين قصفوا الحدود في 4 أيلول (سبتمبر) 1980، ما جرّ الطرفين الى اشتباكات موضعية بعد أسبوع واحد. وكان يمكن للتوتر ان يقف عند هذا الحد لو توافرت إرادة دولية في قمعه، أو لو لم تتوافر إرادة عراقية في إطلاقه. الا أن العالم كان ما بين ساهٍ عن المنطقة وراغب في حربها، فيما بدا صدام في أمسّ الحاجة الى الحرب.

    ولف الخميني عنقه المكتنزة بحبل صدام الرفيع. ففي 17 أيلول ألغى العراق من طرف واحد اتفاقية الجزائر، فتسبب الغاؤها بكوارث تفوق تلك التي نجمت عن توقيعها قبل خمس سنوات. ذاك أنه لم تنقض غير خمسة أيام حتى غزت القوات العراقية إيران من أربع نقاط حدودية، على امتداد جبهة طولها 300 ميل، تقع ضمنها مدينتا وميناءا خورمشهر وعبدان النفطيان.

    وقد ذُكر، آنذاك ولاحقاً، أن الاسرائيليين سرّبوا الى بغداد، عبر أطراف خفية وغير مباشرة، معلومات مبالغاً فيها عن الضعف الايراني. فطهران، بحسب هذه الصورة المضللة، جيشها مفكك لا يلزم لإخضاعها أكثر من أسبوع واحد. ويبدو ان صدام، متأثّراً بهذه المعلومات، ولكنْ أيضاً بتجربة الانتصار الاسرائيلي في 1967 على ثلاثة بلدان عربية في ستة أيام، قرر أن يحسم الأمر بضربة "بليتزكريغ" سريعة وخاطفة.

    هذا ما قد يُشبع نهم الراوي البوليسي. غير أن أسباباً أبعد وأعمق كانت تعتمل في الخلفية. فالتحركات الشيعية في الجنوب العراقي، ومحاولة الاغتيال التي كادت تقضي على وزير الخارجية طارق عزيز في نيسان (إبريل) 1980، في بغداد نفسها، كانت كلها علامات ينبغي سحقها في المهد. ولئن دعت طهران الجمهورية الى "تصدير الثورة" الى الجوار، حاولت المخابرات العراقية تحريك تمرد في خوزستان أو عربستان، المتنازَع عليها وعلى اسمها تقليدياً. ولم ينته الشهر الذي تعرض فيه عزيز للاغتيال، وأقسم صدام على الرد عليه، حتى استولى ستة من شبان خوزستان العرب، سلّحتهم بغداد وموّلتهم، على السفارة الايرانية في لندن، قبل أن يُقتلوا جميعاً.

    على أن العوامل الدافعة الى الكارثة أسبق من 1980. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، افتتح الشبان الخمينيون نشاطهم الارهابي باحتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز العاملين فيها، موفّرين لإله الحرب العراقي فرصة أخرى نادرة. فقد آلت محاولة واشنطن إنقاذ "وكر الجواسيس"، بحسب التسمية الخمينية للسفارة، الى فشل مريع شهدت عليه رمال الصحراء الايرانية في نيسان من العام التالي.

    وما من شك في أن صدام عصفت به المهمة التي عجز عنها الأميركيون، فدغدغت عُظامه في الصميم. وهو، بعد كل حساب، يستطيع أن يقدّم هجومه على إيران هديةً لواشنطن، بالمعنى الذي كان يقدّم الهدايا العضلية، إبان شبابه الأول، لخاله خير الله.

    ولما أعلن جيمي كارتر في كانون الثاني، وقبل أشهر على مغامرته الانقاذية الفاشلة، أن الخليج "منطقة حيوية" للولايات المتحدة، شعر الرئيس العراقي بأن المكافأة لا بد أن تكون مجزية.

    على أن المرحلة نفسها كانت تتململ بتطور كبير آخر. ففي كانون الأول (ديسمبر) 1979 حصل الغزو السوفياتي لأفغانستان. وسريعاً ما ابتدأ التخطيط لـ"جهاد" ضد الغزو يصيب طهران بنفس الحجارة التي تصاب بها موسكو. وفي السياق هذا ألحّت مهمة جديدة على الولايات المتحدة وبعض العرب: مصادرة الاسلام السياسي من اليد الايرانية الراديكالية وصبّه في قناة الأنظمة المحافظة والنفوذ الغربي. وصدام، مرة أخرى، يمكنه أن يكون "الشقاوة" الذي يضرب النظام الخميني بينما يتولى "المجاهدون" تصديع القوات الروسية في بلدهم.

    وطلبٌ كهذا له، على أذن الرئيس العراقي، وقع الموسيقى. فهو العالق مع سورية في صراع صعب على النفوذ، يتخبّط فيه ويراوح ويُستنزَف، يسعه الآن أن يتحول زعيماً غير منازع لعالم الاسلام السني. ذاك ان مصر كانت اختارت، بكامب ديفيد، وجهةً أخرى، فيما استولى على تركيا انقلاب الجنرال كنعان أفرين وسربلها بأجندة أمنية.

    وبدت الحرب، على النطاق الايديولوجي، مواجهة بين ميثولوجيا الوحدة الاسلامية ذات الروح الشيعية والعَـصَب الايراني، وميثولوجيا الوحدة إياها بجرعة متخمة

    عربياً وسنياً. لكنْ، ومع الفارق الكبير في تصديق الخرافة والاندفاع فيها، تراءى لصدام أن حرباً كهذه جسره المضمون الى مجد موطّد. فهي وحدها ما يتكفّل محو عبد الناصر من الذاكرات وإحلاله في مساحة لم يحلم بمثلها زعيم مصر الراحل.

    وربما جاز التكهّن بأن تلك الخلفية المتعددة العوامل حوت أيضاً سبباً آخر، شخصياً. فربيب العوجا وتكريت نتاج فقدانين لم يبرأ منهما، تحكما بكثير من أفعاله: فقدان أبيه طفلاً، وانفصاله من ثم عن أمه، ثم فقدان سلطة الحزب إبان شبابه عام 1963. وكان فقدان شط العرب، بموجب اتفاقية الجزائر عام 1975، ليجعله نتاج فقدانات ثلاثة كبرى. والحق أن الأخير أثقل وطأةً على النفس لأن صانعه ليس إلا صدام المهجوس بأن يعيد ويستعيد ما تسبّب غيره بتبديده.

    هكذا قدمت له ايران الضعيفة، والتي تتخاطفها المرحلة الانتقالية، ذريعةً يستوي فيها مع نفسه ويضفي المعنى على تاريخه الشخصي. ولم تكن الرواية الخمينية التي بُدىء بتطويرها مع ابتداء القتال، غير نكء لجراح صدام واستصغار له، هو الهارب من صَغاره. فحرب إيران، في تأويل آية الله الوفي لتقليد الثنائيات الفارسية، ترقى الى رسالة خلاصية وكونية تتوسّل تصدير الثورة. أما حرب صدام، في المقابل، فلا تعدو كونها مهمة وضيعة لخدمة أسياد مستكبرين. ولئن كان هدف الثوار الايرانيين موصولاً بالسماء، مثله مثل ولاية فقيههم، فهدف صدام ليس الا إنكاص الاسلام والمسلمين الى الجاهلية وتعدد الالهة. فهي إذاً، في القراءة الخمينية لها، معركة الكرامة ضد العمالة بقدر ما أنها مواجهة الاسلام والوثنية.

    وما لم تقله الخمينية من كلام مُهين قالته الوقائع. فحتى الذين لم يستلطفوا ثورة آية الله ونظامه، أقرّوا بأنها "ثورة"، وهو ما لا يصحّ في انقلاب تآمري أوصل البعثيين، ومُشابهيهم في العالم العربي، الى سلطانهم. وفيما كانت الأموال العراقية تنهمر على أوروبا، عبر قنوات عدة، اهتم كبار مثقفي الغرب بثورة الشيخ الإيراني فحاوروها أو ساجلوها أو استغربوا طابعها الإكزوتيكي أو حذّروا من خطرها العالمي. أما النظام المجاور فلم يمسسه أحد الا برأس أصابعه.

    وأهم من ذلك أن صورة الثورة التي يتآمر عليها الداخل والخارج، والتي حاول البعث أن يزعمها لنفسه بإعداماته خلال 1968-1969، شرعت تُحرزها إيران التي لاح عراق صدام ثورةً مضادة لها. وفي استنطاق دارج للتواريخ الراديكالية بدا تشبيه الحدث الايراني بالثورتين الفرنسية والروسية، ولو من هذه الزاوية فحسب أقرب، بما لا يقاس، الى المعقول. ففي الحد الأدنى، نقل الولي الفقيه بلاده من عهدها الملكي الى الجمهورية، تيمناً بما فعله الفرنسيون والروس من قبل، فيما لم يؤد الانقلاب العراقي المتمادي الا الى كشف صعوبات البناء الجمهوري وتسخيفه.

    وطوّر بعث العراق نظرية "البوابة الشرقية للوطن العربي"، مخاطباً العواطف القومية والمذهبية التي يُقلقها الانتصار الايراني، ومستجدياً معونات الدول العربية الغنية والمجاورة للعراق وإيران. لكن المدهش، في اية قراءة لظاهر الأمور، أن الخميني لم يفعل إلا ما يسرّ العرب المسكونين بالعداء لاسرائيل والولايات المتحدة. فهو سمّى أميركا "الشيطان الاكبر"، ومزق اتفاقات الشاه معها وبارك احتلال سفارتها، كما أوقف تدفق النفط الايراني عليها وانسحب من "منظمة المعاهدة المركزية" (السنتو). وفي حركة رمزية بعيدة الدلالة، حوّل سفارة اسرائيل في طهران مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي المقابل، ولما كانت الجبهة العربية المقاومة لاسرائيل قد فقدت مصر، لم تفعل حرب العراق على ايران غير تبديد ما تبقى من جهد عربي يستدعيه التصدي للدولة العبرية.

    الا ان الأمور لا تقاس بظاهرها وحده. فمن الطرفين الايراني والعراقي، ومن حلفائهما العابرين، راحت التحالفات المشبوهة تُسقى بمياه خالطها وحل كثير. فالسوفيات، مثلاً، سارعوا الى إبداء خوفهم من الأصابع الاميركية وراء السلوك العراقي، هم الذين استشعروا أن آيات الله مُستَهدفون مثلهم. فحين زار الرئيس السوري حافظ الأسد موسكو، بُعيد انفجار حرب الخليج، أصدر بياناً مشتركاً مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف يدعم حق إيران في "تقرير مصيرها بشكل مستقل ومن دون أي تدخل أجنبي". كذلك أذنت موسكو لدمشق وطرابلس ببيع سلاح سوفياتي الى النظام الخميني، فيما مضت تبيع سلاحها للعراق. وفي 1980 استأنف رئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن بيع التجهيزات العسكرية الى طهران، بادئاً بقطع غيار لمقاتلات أف-4. ولم يحل غضب جيمي كارتر الذي أوقف هذه العلاقة المحرّمة لدى انكشافها، عن استعادتها إثر وصول رونالد ريغان الى البيت الأبيض. أما الذي تولى "إقناع" واشنطن فلم يكن الا الأمين العام لوزارة الخارجية الاسرائيلية، ديفيد كيمحي. وبالفعل آلت هذه الصلة التي لقيت كل الحماسة في وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هايغ، الى ما غدا بعد سنوات قليلة فضيحة "إيران غيت" الشهيرة.

    على ان هذه الغابة المتشابكة لا تحجب بعض ثوابت الحرب العراقية-الايرانية. ففي المنعطفات الأساسية كانت بغداد من يلعب لعبة واشنطن، فيما طغى على الأخيرة الارتياح الى التصدع الذي يضرب البلدين معاً. فكان عزيزاً على قلب ريغان ان تطيح إيران الخمينية والعراق البعثي والعسكري واحدهما الآخر ولو بقيت بغداد، لديه، أهون الشرّين. فهي مستعدة للتواطوء مع واشنطن، كما أنها لم تسطُ على سفارتها ولا أقامت نظاماً دينياً متزمتاً يرى في الولايات المتحدة فندقاً للشيطان الرجيم. وبهذا المعنى وحده جعل ريغان يهبّ لانجاد العراق كلما بدا تهاويه ممكناً على أيدي آيات الله. وبدورها عدّلت الاستراتيجية الاسرائيلية بعض توجهات زميلتها الاميركية الكبرى: فهي شاركتها الرغبة في تداعي الطرفين لكنها اعتبرت أن طهران، غير العربية، أهون الشرّين.

    وكائناً ما كان الحال جسّد صدام، منذ أيلول 1980، المعتوه السعيد في هذه الفجيعة المتطاولة. أما العمليات العسكرية نفسها فامتلكت، في دلالاتها، فصاحةً لا تُجارى.

    ففي البداية تقدم العراق في العمق الايراني في موازاة هجمات متبادلة على الموانىء النفطية للبلدين، كما راحت تشتد المقاومة في مواجهته. وسريعاً ما تبيّن أن وهم الـ"بليتزكريغ" أخلى مكانه لاستنزاف مديد ومُكــلف. ففي 1981 شرع الايرانيون يســتوعبون الهجوم ليتمكنوا، بعد عام واحد، من إخراج الجيش العراقي من خورمشهر ويعبروا حدود العراق، حاملين بغداد المدهوشة والمشدوهة على المطالبة بمفاوضات سلام. أما طهران، وقد تصلّب عصبها وحقد مرشدها، فطالبت بإزاحة صدام ودفع تعويضات عما تكبّدته شرطاً للتفاوض. وبالطبع رفض الرئيـس العراقي بعتوّه المعهود. وفي مسرحية دموية باتت شهيرة، قتل بيده وزير صحته رياض ابراهيم أحمد أو أجبره، بحسب رواية أخرى، على الانتحار، لأنه تجرأ على مطالبته بالتنحي ما دام تنحّيه يوقف الحرب. وبغض النظر عما اذا كان ابراهيم قد انتحر، أو قُتل بمسدس صدام، فالثابت أنه لفظ أنفاسه في اجتماع لمجلس الوزراء.

    لكن الانتصار على وزير الصحة ليس كالانتصار على الايرانيين. وسريعاً ما راحت الأرقام تعكس المأساة التي زحفت من الاقتصاد كما زحفت من حياة البشر. فقد أظهر تراجع العائدات النفطية مصاعب العراق في سداد ديونه وتمويل الحرب. ذاك ان تسهيلاته على الخليج دُمرت مع بدايات النزاع المسلح، وفي نيسان 1982 أغلقت سورية خط أنابيب كركوك بانياس. واذا صح أن مشترياته العسكرية من الاتحاد السوفياتي وفرنسا أعانته على الصمود، مثلما فعلت المساعدات والقروض العربية، الا ان الاستدانة من الكويت وحدها بلغت، حتى ذاك الحين، سبعة بلايين دولار. وفوق هذا احتل الجيش الايراني، في تشرين الأول 1983، 270 ميلا مربعاً من الأرض العراقية، فردت بغداد بقصف المدن الايرانية والميناء النفطي في جزيرة خرج، أهم محطات التصدير النفطي الايراني، ما حمل طهران على التهديد بإغلاق مضيق هرمز. وتتويجاً لهذا الجنون المفتوح هاجمت ايران، في شباط 1984، الحقل النفطي في جزر مجنون وجوارها داخل العراق الجنوبي.

    وفي حرب كلٍ منهما على اقتصاد الآخر، ازداد حقد الخميني تجذّراً في تواريخه الميتة والخرافية. فلما لم يُذعن صدام لطلب التنحي في 1982 أعلن آية الله، في تموز، "الجهاد" ضد "الشيطان"، بينما كان الهجوم الايراني يتركّز على البصرة. وإذ أبدت طهران، بعناد لم يبارحها، استعدادها للذهاب الى النهاية استخدمت، خلال 1984، تكتيك "الموجة الانسانية" في القتال. هكذا ألقت، من دون أن يرفّ جفن لآيات الله، بالشبان والأطفال في حقول من الألغام توصلهم الى الجنة. وفي نيسان، باشر الطيران العراقي هجماته على التصدير النفطي الايراني في الخليج بحقوله ومحطاته. لكن الأهم أن العلاقات الديبلوماسية بين بغداد وواشنطن استعيدت في تشرين الثاني فراحت، مذّاك، تتكاثر الاشارات إلى غزل يتجاوز عذريته المكتومة الى قدر من الاباحية الصريح.

    وفعلاً تشجّع العراق فوسّع بيكار المجابهة، مهاجماً السفن الايرانية وناقلات النفط. أما في البر، فعبرت القوات الإيرانية، في آذار (مارس) 1985، نهر دجلة بـ50 الف جندي لتغلق الطريق الأساسي الذي يربط بغداد بالبصرة، ما استدعى هجوماً عراقياً مضاداً وسقوط أعداد هائلة من القتلى في الجانبين. وفيما قصفت بغدادُ طهرانَ وأصفهان وشيراز ومدناً إيرانية أخرى، استقبلت الملك الأردني حسين والرئيس المصري حسني مبارك في ما فُسّر تضامناً عربياً مع العراق.

    وبدورها لم تلن طهران التي ضاعف انزعاجَها هذا الاحتضانُ العربي والسني لغريمها. فعندما حاولت الأمم المتحدة، في نيسان 1985، التدخل لوقف اطلاق النار أبدت إيران عدم استجابة كما رفضت، في تموز، التفاوض مجددةً مطالبتها بإزاحة صدام. ولئن قُدّر عدد القتلى الايرانيين آنذاك بأكثر من نصف مليون، لم تفتر همة آيات الله فهاجمت قواتهم، صيف ذاك العام، في كردستان شمالاً وفي الأهوار جنوباً. وبادر العراقيون، من جهتهم، فشنوا هجمات جوية ناجحة على جزيرة خرج ليدمّروا، من ثم، مواقع أخرى استخدمتها طهران بديلاً منها.

    وكان كل نصر بنصر وكل هزيمة بهزيمة في لعبة من التعادل الميت والمميت. فقد أعلنت بغداد في كانون الثاني 1986 أنها استعادت جزر مجنون. لكنْ في 9 شباط عبر 85 الف جندي ايراني شط العرب واحتلوا جزيرة الفاو مهددين اتصال العراق بالخليج، كما هوجمت القوات العراقية ما بين الفاو والبصرة. وأمام هذا التراجع النوعي قدمت واشنطن لبغداد صوراً ملتقطة بالساتلايت لتجمعات الجنود الايرانيين كان لها فائدة عسكرية قصوى.

    والحال ان الولايات المتحدة لم تُرد انتصار صدام بقدر ما أرادت منعه من الهزيمة. بيد أنها، وعملاً بنظرتها هذه، لم تجد غضاضة في أن تطعن العراقيين كما ظهر لدى افتضاح "إيران غيت"، أو "علاقة إيران كونترا" أواخر 1986. فقد تبين ان رئيس المجلس الايراني، هاشمي رفسنجاني، ضالع في محاولة إدارة ريغان بيع اسلحة الى بلاده يُنفق بعض أثمانها على مقاتلي "الكونترا" النيكاراغويين كما تفضي الى إطلاق الرهائن الأميركان في بيروت.

    وفي هذه الغضون كان الطرفان المتحاربان والمنهكان يلفظان بعض ما تبقى لهما من أنفاس. ففي شباط فتحت ايران جبهة جديدة في كردستان ما لبث ان تبين أنها عاجزة عن إدامتها، بينما كان مجلس الأمن يدعو الى وقف اطلاق النار. وفي أيار (مايو) غزا العراق مجدداً واحتل جزءاً من مهران التي استرجعتها إيران في تموز.

    وكان لا بد، بتواطؤ واسع ضد إيران، من تدويلٍ ما للنزاع ينهي تعادل الكر والفر جاعلاً طهران الطرف الذي يصرخ أولاً. ففي اواخر ذاك العام طلبت الكويت الحماية لملاحتها من الهجمات الايرانية. وبالفعل عرضت موسكو تأجيرها اربع ناقلات، لكن الضربات الجوية العراقية المكثفة والتي أفضت الى خفض التصدير النفطي الايراني من 2،2 مليون برميل يوميا في اواسط 1986 الى اقل من 5،1 مليونا في 1988، كانت تدوّخ الاقتصاد الايراني وتضعه على شفا انهيار كامل. وفي آذار 1987 استجابت واشنطن لما بدأته موسكو متيحةً لـ11 ناقلة كويتية أن ترفع علم الولايات المتحدة.

    غير ان ما ظل مستوراً انكشف في أيار، فوصف الرئيس ريغان هجوماً غير مقصود من الطيران العراقي على سفينة "ستارك" الاميركية بأنه نتيجة "للعدوان الايراني الذي يتسبب بعدم الاستقرار في الخليج، مما أدى الى الخطأ العراقي". ومنذ تموز راحت السفن الاميركية ترافق الناقلات الكويتية في المياه التي لغمتها طهران، لكن الولايات المتحدة دعت كذلك الى مقاطعة إيران عسكرياً لأنها وحدها أصل الداء في تهديد الخليج أمناً وملاحةً. فلم ينقض غير شهر كانت خضعت خلاله بعض السفن الغربية للهجمات، حتى أيدت فرنسا وبريطانيا وبلدان أخرى في "حلف الأطلسي" (الناتو) الجهد الملاحي الأميركي في الخليج. وتشجع العراق ثانيةً في شباط 1988 فاستأنف "حرب المدن"، وما هي الا اسابيع حتى ضرب حلبجة بالسلاح الكيماوي.

    ولم يردع الطرفين صدور تقرير للأمم المتحدة في نيسان يبرهن على سقوط ضحايا في الجانبين بنتيجة "استخدامٍ لسلاح نووي". فالمنطقة كانت تتبدى كلها على أتمّ الاستعداد للتوجه جماعياً الى الفناء الذاتي، لا يمنعها من ذلك الا الافتقار الى الهمّة المطلوبة لسلوك ذاك الطريق. وبمعزل عن استخدامهما الشمشوني لـ"سلاح نووي" ما، بات واضحاً أن خطر أي منهما صار محصوراً بنفسه وبالبلد الآخر وحده.

    إذّاك نضج توجيه الضربة القاضية الى إيران. ففي نيسان إياه انفجر لغم بسفينة ملاحية في الخليج، ما دعا الولايات المتحدة الى مهاجمة منشآت نفطية ايرانية على الساحل وإغراق ست سفن بحرية ايرانية. وبعدما عاود العراق استرجاع الفاو، سمّى الخميني، في حزيران، هاشمي رفسنجاني قائداً للقوات المسلحة التي كانت قد مُنيت بهزائم كبرى في شملشه قرب البصرة وفي مجنون ومهران وكردستان. ولم يعد لا في وسع رفسنجاني ولا في وسع غيره تعديل المسار البائس. فقد تأكد، نتيجةً للانحياز الأميركي الذي وازاه حضور ملحوظ في مياه الخليج، أن الايرانيين يناطحون الصخر. ولأن هذه الحقيقة تأكدت لهم أيضاً، أعلنوا في 18 تموز موافقتهم غير المشروطة على قرار مجلس الأمن 598 الذي كان صدر قبل عام ورفضته طهران.

    وبانكسار غير معهود فيه ظهر الخميني نفسه على شاشة التلفزيون ليقول انه فعل ما هو أسوأ من تجرع كأس السم بتخلّيه عن تدمير صدام حسين. وفي الشهر نفسه كانت النيران الأميركية تُسقط بالخطأ طائرة ركاب ايرانية وتقتل 290 شخصاً، ولا يلبث خبراء في الامم المتحدة أن يصدروا تقريراً يتهم العراق باستخدام غاز الخردل في الهجمات التي شنها على المدنيين الايرانيين.

    لقد قضى أكثر من مليون قتيل في الجانبين، وتم تدمير كلي او جزئي لأكثر من 50 مدينة وبلدة. وماذا كانت النتيجة؟ في أيلول (سبتمبر) 1990، وبعد شهر على غزو الكويت، اقترح العراق توقيع معاهدة عدم اعتداء مع ايران على ان توضع خطط لاستئناف العلاقات الديبلوماسية. والأهم هو ما حمله اعلان بغداد انها مستعدة ان تلتزم كل معاهداتها السابقة مع طهران بما فيها معاهدة 1975 التي أعلن صدام الحرب لإحباطها.

    وبالفعل بدا الخميني في هزيمته أكبر من صدام في "انتصاره". فالأول لاح مأسوياً فيما لاح الثاني ملهاوياً سخيفاً أطلق الاعتداد بالنفس من كل عقال ليعود، على نيف ومليون جثة، الى النقطة التي انطلق منها. وفي هذه الغضون، سمّم البعث الأجواء العراقية، وجزئياً العربية، بعنصرية غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، مصحوبة بعبادة لشخص صدام هي الأخرى غير مسبوقة. فالحرب انما هي "قادسية صدام" في إحالة الى معركة العام 637 م. التي حملت الاسلام الى فارس. وبهذا يكون المعنى الضمني أن العرب المسلمون الحقيقيون، فيما الفرس "المجوس" ممن سبق أن عُيـّر بهم الزرادشتيون وباقي التابعين للأديان الفارسية القديمة. وتعاظمت، خلال الحرب، الجهود التي بُدئت مع وصول البعث الى الحكم لربط الشعوبية والبهائية، بوصفهما انحرافاً عن الإسلام، باليهودية.

    ومنذ 1980، عام نشوب الحرب، بات "تحرير" القدس على يد نبوخذ نصّر يتلازم مع وقوف اليهود في جانب قورش، ملك الفرس الذي حاصر بابل، وفتحهم أبوابها له. وكان للضربة الاسرائيلية التي دمرت المحرّك النووي العراقي بعد عام أن عممت "نظرية" التعاون اليهودي الفارسي ثأراً من سبي نبوخذ نصّـر.

    ولم يبخل عراق صدام بالخرافات التي راحت تتباهى. فتولى منظّرون بعثيون أغلبهم غير عراقيين، كالسوري الياس فرح والفلسطيني ناصيف عواد، الترويج لفكرة "الانتصار النفسي" على إيران. ذاك أن الأخيرة جسد فيما العروبة، وباستعارة نيتشوية مبتذلة، نفس تضج بالأصالة وتملك "المعاناة" التي لا تعرفها الأجساد المحضة. كذلك شُرع بتأسيس "جماليات بعثية" رُذل، تبعاً لها، شاعر "فارسي" كأبي نواس، صاحب الشارع والتمثال الشهيرين في مدينته بغداد. وبموجب "الجماليات" هذه ظهر اتجاه نامٍ الى محاصرة الثقافة الشعبية كونها ما دون قومية، امتداداً لما كان حاوله قبل عقود ساطع الحصري الذي اصطدم بممانعة شيعية واسعة.

    وخسر العراق، في الواقع لا في الخرافة، 450 بليون دولار في تلك الحرب، وقالت إيران أنها تكبّدت ألف بليون. وفضلاً عن مئات الآلاف ممن قضوا توسّعت الهوّة بين السنّة والشيعة العراقيين، وبين العرب والأكراد، فكسب صدام عبادة شخصيته على حساب الوطن بأسره. لكن درجة العبادة فيها ساوت، دائماً، درجة الفرض والقسر. فهو لم يصبح عبد الناصر ثانياً، بل واجه واقعاً جديداً وجد حله في حرب أخرى: إذاً الى الكويت هذه المرة.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قصة البعث في العراق (12): غزو الكويت مأساة البلدين والعروبة والعقل في آن
    بعد أن تناولت الحلقة الحادية عشرة الحرب العراقية-الايرانية، هنا التتمة:

    لم يفهم المراقبون ما الذي قصده وزير الخارجية العراقي في 16 تموز (يوليو) 1990. فقد وجه طارق عزيز، يوم الاحتفال بالذكرى الحادية عشرة لتسلم صدام رئاسة الجمهورية، رسالة غير متوقعة الى الجامعة العربية، هي مضبطة اتهام لدولة الكويت. فالأخيرة، بحسب عزيز، سرقت نفطاً قيمته 2.4 بليون دولار من حقول الرميلة في بدايات الحرب مع إيران، كما سعت الى خفض مداخيل العراق النفطية عبر زيادة انتاجها، مُقيمةً منشآت عسكرية على أرضه. وعرّج عزيز على دولة الامارات متذمّراً من أنها، هي الأخرى، ترفع الحصة المقررة لها من الانتاج النفطي، وتشارك الكويت رفضها اعتبار ديونهما على بلده هالكة.

    لم يكن سراً أن علاقات العراق بجيرانه ليست على ما يرام. فقبل شهرين فقط كانت انعقدت قمة عربية في بغداد سرّبت الصحف عنها أن صدام تصرف، في إحدى لحظاتها، كثور هائج. بل قيل إنه خاطب زعماء عرباً بلغة لا يقولها مُضيف لضيف. مع هذا مرت القمة على خير وتحدث البعض عن سحابة صيف، مذكّرين بـ"طباع صدام". وكائناً ما كان الحال أعلن هو نفسه في كلمة ختامية أن القمة كانت ناجحة جداً. وقد بدا، في ظاهر الأمور، أن المؤتمرين انشغلوا بدعم الانتفاضة الفلسطينية والتنديد بالاستيطان الروسي اليهودي ومباركة مبادرات السلام العراقية حيال إيران أكثر مما بخلافات بغداد مع جيرانها العرب. كذلك لم يقاطع أي من هؤلاء القمة التي اقتصرت مقاطعتها على سورية، وبالتالي لبنان.

    هكذا بدت الحرارة التي في رسالة عزيز أعلى بكثير من مناخ المؤتمر البغدادي. وهذا ما تأكد بعد يوم واحد، وكانت تحلّ ذكرى الانقلاب البعثي عام 1968. فقد هاجم صدام سياسة الانتاج الكويتية والاماراتية، وأتبع هجومه بالفذلكة المعهودة في الرطانة القومية العربية، وهي ان النفوذ الاميركي يسند الدولتين بهدف تدمير مصالح العرب. لكن الأهم ان صدام هدد، أيضاً، باستخدام القوة لحمل منتجي النفط على التزام حصصهم.

    إذاً هي أزمة ذات احتياط متفجّر، جاءت أحداث ملتبسة تزيدها تفجيراً. فما أن انقضى أسبوع على كلام صدام حتى كان لقاؤه بسفيرة الولايات المتحدة في بغداد إبريل غلاسبي. فحين تذمر الرئيس العراقي من جارته الصغرى، أجابته بأن علاقاتهما الثنائية مما لا يخص بلدها. وقد فهم صدام من إجابتها ان واشنطن لا تمانع في غزو الكويت. ولم يكن أحد يقدّر حينذاك حجم المادة الخصبة التي ستوفّرها عبارة غلاسبي للتحليلات، المعقول منها والتآمري.

    لكنْ ما أصل هذه الأزمة المفاجئة التي ولدت في شهر سابع؟

    لا شك ان الكويت والامارات أنتجتا أكثر من حصتهما، غير أن تفسير سياستهما يبقى أعقد من الاتهام العراقي. فقد عرفت بلدان الخليج ذروة ازدهارها عام 1980، بسبب سياسة التسعير المرتفع لمنظمة "أوبيك". وهذا، أصلاً، ما أتاح لتلك البلدان، خصوصاً منها الكويت، تمويل حرب صدام على ايران. بيد أن الأمور شرعت تتغير اواسط الثمانينات لأسباب تتصل بالسوق نفسها. ذاك ان ارتفاع الأسعار السابق أدى الى هبوط الطلب، فشهد عام 1985 انخفاضا في انتاج بلدان الخليج، ما عدا العراق، الى أقل من 5،5 مليون برميل يومياً، بعدما كان الرقم 13.7 مليوناً عام 1980. وفي 1986 انهارت الأسعار فابتدأت الكويت والامارات تزيدان انتاجهما، لا للحصول على عائدات أكبر إنما للحاق بتراجع الأسعار ومحاولة تعويضه. أما العراق، الذي كان قد بلغ في انتاجه أقصاه، فأعوزته القدرة على التعويض عن خسائر انخفاض السعر.


    وهذا يبقى مزعجاً لبغداد من دون أن يكون الموضوع الأم. وفي الحالات كافة فهو ليس مما يفضي، بالضرورة، الى حرب. لكن أزمة الاقتصاد العراقي الناجمة عن حرب السنوات الثماني هي التي أنتجت ضعف المناعة في جسد باتت نسمةٌ تطرحه أرضاً. فالبلد الذي هاجم بلداً آخر سكانه ثلاثة أضعاف سكانه ومساحته قرابة أربعة أضعاف مساحته، لم تخطط قيادته لاقتصاد حرب ينطوي على شيء من تقشف. فخلال 1980-1982، مثلاً، وكان الاستهلاك الكمالي لبلدان النفط في أوجه، استورد العراق سلعاً غير عسكرية بـ42 بليون دولار، اي بمعدل 14 بليوناً سنوياً، وهو اربعة اضعاف الاستيراد العراقي غير العسكري لعام 1975، و75 في المئة من واردات البلد النفطية لتلك السنوات. وقد أدى النزاع المسلح الى انخفاض دخله الاجمالي، والقاعدة أسعار 1980، من 54 بليون دولار عامذاك الى 27 بليونا عام 1988. أما الديون التي تراكمت عليه فمثّلت ثلاثة أرباع دخله القومي لعام 1988، سنة انتهاء الحرب، فضلاً عن جيش أمسى تضخمه يهدد، تحت وطأة التراجع الاقتصادي، بالعودة الى سيرة الانقلابات الأولى.

    لقد حبلت إيران، إذاً، بالكويت. وفعلاً احتشد في 31 تموز 30 الف جندي عراقي على حدودها، فلم ينقض شهر إلا أصبح العدد 100 الف.

    لكن تنفيذ فكرة الحرب، التي قيل إن صدام لم يناقشها بدايةً إلا مع علي حسن المجيد وصهره حسين كامل، اعتراه بعض الايحاءات المضللة. ففي 25 تموز، صدر بيان مصري-أردني-عراقي يقول إن بغداد وافقت على تسوية الخلافات مع الكويت والامارات. وتفاءل بالخبر كثيرون: ذاك أن القاهرة وعمّان وصنعاء كانت أسست مع العاصمة العراقية، في شباط (فبراير) 1989، "مجلس التعاون العربي" الذي ضم الى الوظائف الاقتصادية والتنموية التي لم يُقيّض لأي منها الاقلاع، أغراضاً سياسية وصفتها الصحافة "بتعزيز كتلة الاعتدال العربي". وبدا يومها أن الاعتدال المذكور مدعوّ الى تسهيل اندراج النظام البعثي في العادية والوضع الطبيعي بعد سنوات حربه مع إيران.

    غير أن المتفائلين خانهم التفاؤل بقدر ما غلب طبعُ صدام تطبّعه. ففي اليوم الأخير من تموز التقى فعلاً مندوبو العراق والكويت في مدينة جدّة بالسعودية، لكن المفاوضات انهارت في اليوم التالي.

    هكذا صار العرب والعالم، ما بين مصدّق ومكذّب، يتهيأون ليوم الويل والثبور الذي يهدد به صدام. والحال أن غنى الكويت، فضلاً عن الأزمة المقيمة في النسيج الوطني العراقي، رسما علاقة البلدين الجارين بلون من الارتياب دائم. فإبان العهد الملكي داعبت نوري السعيد فكرة ضم الامارة الصغيرة، فيما كاد عبد الكريم قاسم ينفّذها لولا اجماع عالمي وعربي، وحّد القاهرة الناصرية بلندن وواشنطن، حائلاً دون ذلك. وبدورهم استشعر الخليجيون دوماً أن جيرانهم في الشمال يتشاوفون عليهم وعلى حداثة عهدهم بالثراء، فضلاً عن أصولهم وتراكيبهم البدوية. بل غالباً ما اندفع التشاوف عنصرياً في بعض البيئات القومية، العسكرية والحداثية، التي تتماهى بالتقدم الغربي في أكثر صوره أداتيةً. ففكرة الدولة القوية والكبيرة ذات المجتمع العسكري لا تطابق ما رمزت اليه الكويت وباقي بلدان الخليج الصغرى. أما ثراؤها فبقي، في نظر هؤلاء المشارقة، "حقاً" لـ"الأمة العربية" بأكملها. وقد وجدت تصورات كهذه ما يغذّيها في المرحلة الناصرية وأدبياتها الهجائية لـ"الرجعية" و"عملاء الاستعمار"، لا سيما ما أُنتج منها إبان حرب اليمن في الستينات. وجاءت، بعد ذاك، الأفكار الاشتراكية واليسارية تعزز المقدمات الناصرية وتحشوها معاني ودلالات.

    ولم يُعدم الكويتيون والخليجيون الحجج فتساءلوا، مثلاً، متوجّسين: لماذا لم يفكّر بنا المشارقة القوميون، قبل اكتشاف نفطنا، حين كانوا أفضل حالاً بكثير منا؟ أما أن تكون بلداننا مصطنعة، فالأكثرية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بلدان، مثلنا، مصطنعة.

    لكن المساجلات التاريخية والنظرية التي راحت تصير شتائم، لم تخفف حدّة السؤال الواقعي الحائر والمحيّر: هل يفعلها صدام مع الكويت التي ذهبت بعيداً في إمداده بالمال إبان حربه مع إيران، كما لم يبق شاعر كويتي إلا كتب له قصيدة ولم يبق مُغنٍ إلا غنى له؟ وهل يتجرأ، دفعة واحدة، على المصالح النفطية العالمية ومبادىء حق تقرير المصير والقانون الدولي وفكرة الدولة-الأمة وخريطة المنطقة، فضلاً عن منظمتي الأمم المتحدة والجامعة العربية؟ والأدعى للدهشة أن منعطف الثمانينات-التسعينات كان يسجّل تداعي الكتلة السوفياتية، ما يعني أن الاقدام على عمل كهذا تنطّحٌ لدور هيولي. فهل يطرح زعيم العراق نفسه بديلاً عن موسكو الشيوعية، وهل يكفي العُظام الذي يملكه، على وفرته، للوفاء بالعُظام الذي تتطلّبه مهمة كهذه؟ ثم أن النظام البعثي يشبه التراكيب السلطوية التي أطاحتها الحرب الباردة، فهل يعقل فيه، هو الذي يُفتَرض أنه انتقل الى موقع دفاعي، أن يرشّح نفسه للبدالة عن أقوياء ترنّحوا؟

    كان المشروع يبدو جنوناً صرفاً. بيد أن صدام فعلها ظاناً أنه يدوس بقدم فيلٍ جثة نملة. وبذريعة دعم "قوميين" و"ثوريين" يعارضون أسرة الصباح، عبر جيش العراق الحدود فاحتل، في الثاني من آب (أغسطس)، الكويت وحقول نفطها. الا ان هذه الحجة التي استلهمت تدخل مصر في اليمن دعماً لانقلاب عبد الله السلال، عام 1962، جعلت الكهرباء تسري في أوصال العالم. فإذا بنا لا أمام فيل ونملة، بل حيال ذبابة أدخلها تيس في أنفه.

    فقد سارع مجلس الأمن الى تمرير ما عُرف بالقرار 660 الذي يدين الغزو، معلناً انه ما لم ينسحب العراق فوراً، وبلا شروط، فسوف تُستخدم ضده القوة والعقوبات. وبعد يوم التقى في القاهرة 12 وزير خارجية عربي فدان 21 منهم الغزو محذرين من التدخلات الاجنبية في الشؤون العربية. وبدا الانقسام واضحاً: فإذ امتنع الأردن وموريتانيا والسودان واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية عن التصويت، وغادرت ليبيا الاجتماع، رفضت دول "مجلس التعاون الخليجي" تحفّظ الجامعة عن التدخل الاجنبي. فهذا، في نظرها، لا ينطبق على ما تقرره الأمم المتحدة التي تنتمي اليها دول الجامعة. وارتسمت حدودٌ جغرافية واقتصادية للخلاف العربي: فهناك إقليم غني بالنفط يحس بأن الأقاليم الأخرى، في عالم "الأخوّة" العربية، تستهدفه.

    وتلاحقت قرارات وتطورات بارزة، فصدر في 6 آب، عن مجلس الأمن، القرار 166 يفرض عقوبات اقتصادية على العراق. وبعده بيوم وافقت الرياض على حلول قوات أجنبية على أرضها تدافع عنها وعن الخليج. وبالفعل أرسلت واشنطن، في ما عُرف بـ"عملية درع الصحراء"، قوات لحماية السعودية.

    لكن العراق كان في وارد آخر. هكذا أقدم على إجراءات تجمع بين البؤس والافتعال المراهق، وحّد بينها ولاء لفظي لمنظومة إيديولوجية "وحدوية" و"اشتراكية". فقد سمي علاء حسين، الملازم الكويتي، "رئيساً للحكومة الكويتية الموقتة" بعدما استُدعي الى بغداد حيث مُنح رتبة عقيد. وأُعلن، في 8 آب، عن "وحدة" بين البلدين تُعيد "الفرع" الى "الأصل"، فيما كان الرئيس الأميركي جورج بوش يؤكد، بالصوت والصورة التلفزيونية، أن استقلال الكويت وسيادتها مصلحة حيوية لبلاده. وحيث بدأت بريطانيا وفرنسا إرسال قوات الى الخليج تحول حديث العواصم الغربية عن "الجيش الرابع في العالم" مادة متعددة الوظائف. فهناك، بالطبع، التضخيم المقصود، لكن هناك أيضاً مهمة استنهاض أعرض حلفٍ ممكن بأقل خسارة ممكنة. وفيما كانت تولد نظرية "صفر قتلى"، مع كسب الحرب الباردة بلا قتال، لاح التمايز واضحاً بين خلفيتين ثقافيتين. ففي مقابل التهويل الغربي بخطر الخصم، جعل صدام يستصغر خصومه مستأنفاً ميلاً معهوداً في الحروب العربية السابقة.

    وجاء يوم 9 آب فصدر، بالاجماع، قرار آخر عن مجلس الأمن يعتبر ضم الكويت لاغياً ويقضي بتشكيل لجنة خاصة للاشراف على مدى التقيّد بالعقوبات على العراق. وأيضاً لم يفهم صدام أن الحبل الذي يتم التلويح به لن يُطوى قبل استكمال شنقه. ولم يفهم عرب كثيرون: فبعد يوم واحد التقى في القاهرة 21 عضواً فقط من أصل الـ12 الذين هم أعضاء الجامعة، وصوّتوا على إرسال قوات الى الخليج دفاعاً عن بلدانه. لكن اليمن ومنظمة التحرير أيّدا العراق، بينما أيّد الأردن وموريتانيا القرار بتحفظ، وامتنعت الجزائر واليمن عن التصويت، وتغيّبت تونس.

    وأخرج صدام من قبعته مبدأ "الربط" بين انسحابه من الكويت والانسحابين السوري من لبنان والاسرائيلي من الضفة الغربية وغزة والجولان وجنوب لبنان. وكان في هذه المبادرة ما يكفي من ردٍ على التحية السورية بأحسن منها. وإذ رفضت واشنطن "الربط" واعتبرته ينمّ عن عقلية لصوصية، علا نجم صدام في السماء العربية حتى ضاقت به السماء المذكورة. فالمثقفون بأكثريتهم الساحقة والمحبطون بالتجارب القومية أو اليسارية، المحلي منها والعالمي، بايعوه زعيماً غير مسبوق لقضية غير مسبوقة. وأهم الدعم جاء من القواعد الأصولية الأكثر راديكالية والتي كانت في ذروة صعودها في بلدان كالسودان والجزائر ومصر، تعيش لحظة صدامية مع القوى الأكثر تحفظاً واعتدالاً داخل الكتلة الاسلامية العريضة. وتتالت تظاهرات التأييد الضخمة ما بين المحيط والخليج، لا سيما في الأردن، مصحوبةً بالأعمال الوثنية التي غدت شهيرة كحرق الأعلام والدمى. وفي موازاة إضافته "الله أكبر" الى العلم العراقي، وتركيزه على "الاسلام" في خطاباته وأحاديثه، شاعت هتافات جماهيرية تهدد "بالكيماوي يا صدام/ أهجمْ أهجمْ للأمام" و"بالكيماوي يا حبيب/ دمّرْ دمّرْ تل أبيب".

    إذّاك، ولفترة ظهر لاحقاً أنها أشبه بنيزك يخطف السماء، تجاوز الزعيم العراقي زعامة عبد الناصر. وفي المقابل، شقّت النوايا المكبوتة حيال الكويتيين طريقها العريض المعبّد. وبالفعل لم تبق شتيمة الا كيلت لـ"الامارة العميلة" وأميرها وأسرتها الحاكمة وشعبها.

    والنموذج الكويتي أبعد ما يكون عن الكمال. فرصيده في مسائل الجنسية والعمالة الوافدة سالب كسائر الرصيد العربي. أما في خصوص "البدون" فربما كانت الكويت أسوأ العرب. مع هذا شهدت تلك الامارة محاولات نسبية جداً ومبكرة في الديموقراطية برلماناً وأحزاباً ونقاباتٍ ثم صحافةً. أما العنصر الأفعل في كبحها وتعطيلها فلم يكن داخلياً بقدر ما جسّده انعكاس التوتر والتوجهات الراديكالية في الجوار عليها. وكانت السياسات النفطية والاستثمارية للكويت من أشد السياسات العربية عقلانية واهتماماً بالمستقبل، فيما قدمت دعماً مادياً متواصلاً ومرموقاً للمنظمات الفلسطينية، معطوفاً على التحويلات والتبرعات المالية للجالية الفلسطينية الكبيرة هناك. وبعد كل حساب ففي الكويت تأسست "فتح" نفسها وهناك عاش مؤسسوها بمن فيهم ياسر عرفات.

    وتبيّن، مرة أخرى، ان الحماسة سخّنت العقل أكثر مما يتحمل. وإذ تعزز إحساس الكويتيين بأن الشعارات القومية والدينية والفلسطينية أضحت كاسحات ألغام لغزوهم، رأوا إنقاذهم الوحيد في الرئيس الأميركي. فهو كان يأمر قواته، آنذاك، بمنع تصدير النفط العراقي، ومنع الاستيراد العراقي ما خلا المواد الغذائية.

    وردّ صدام على الضغوط الدولية التي تصحبها استعدادات واضحة، فأعلن، في مرسوم أصدره يوم 28 آب، أن الكويت المحافظة التاسعة عشرة في العراق، وسوف يمتد فوقها حكم عسكري معهود به الى علي حسن المجيد.

    وجرّب الكل وقف التدهور. فحاولت الأمم المتحدة، في 1 أيلول (سبتمبر)، لكن المفاوضات في عمّان بين طارق عزيز والأمين العام للأمم المتحدة بيريز دي كويّار لم تصل الى نتيجة.

    ولم تفتر همّة الأقطاب العالميين، فتشارك بوش وآخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف في عقد قمة في هلسنكي، مُصرّين على رفض كل استجابة تقلّ عن تطبيق قرارات مجلس الأمن كلها. لكنْ، في المقابل، أرسلت بريطانيا وفرنسا، اواسط ايلول، مزيدا من القوات، ثم أرسلت مصر 15 ألف جندي ليبلغ مجموع جنودها في الخليج 20 ألفاً. وأيضاً لم يفهم صدام فهدد، في 23 ايلول، باحراق النفط ومهاجمة اسرائيل. وبالطبع دوى التصفيق والهتاف العربيان لهذه المسرحية من الدرجة العاشرة التي حالت دون رؤية المسرح الفعلي. ففي 27 ايلول قررت ايران وبريطانيا استئناف العلاقات الديبلوماسية، وبعد يومين استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، فشبّه غزو بلاده بالغزو الاسرائيلي للضفة الغربية وجنوب لبنان. وفي موازاة الاستعداد الحربي، تواصلت الحرب السياسية والديبلوماسية من دون كلل. ففي 29 تشرين الأول (اكتوبر)، صدر القرار 674 متهماً العراق بانتهاك حقوق الانسان وبإنزال خسائر اقتصادية بالكويت. وبعدما زجّا الاتحاد السوفياتي والشرعية الدولية، مضى بوش ووزير خارجيته بيكر يقدمان دروساً أستاذية بحق في بناء الأحلاف. وقد انتهى بهما المطاف الى بناء تحالف للحرب عابر للقارات يشمل ثلاثين بلداً. وفي السياق هذا، زار الرئيس الأميركي دمشق في 23 تشرين الثاني (نوفمبر)، وأعلن أن الرئيس الأسد سيشارك التحالف قتاله.

    ومضى صدام، من ناحيته، يمعن في غباء صعب التفسير حاول كثيرون ثنيه عنه. فإذ بلغ عدد جنوده ومجنديه في الجنوب والكويت 700 الف، تلقّى طارق عزيز تحذيراً صريحاً من غورباتشوف حول ضرورة الانسحاب. وبعقلية تاجر صغير يتشاطر، افترّت شفتا وزير خارجية العراق عن بسمة واثقة. وبعد يومين عاودته البسمة اياها وهو يسمع باعادة بريطانيا علاقاتها مع سورية إثر قطيعة دامت أربع سنوات. ولم يقلق الديبلوماسي العراقي لصدور القرار 678 الذي يأذن لكل الدول الاعضاء، ما لم ينسحب العراق قبل 15 كانون الثاني (يناير)، "باستخدام كافة الوسائل الضرورية" لفرض القرار 660. وحيال تبديد الفرص كلها، وتطويقاً للرأي العام المناهض للحرب في بلده، ولمعارضين في الكونغرس، ولبقايا تحفظات سوفياتية، أبدى بوش استعداده أن يستقبل عزيز أو يرسل بيكر الى بغداد لمناقشة "كل أوجه أزمة الخليج"، وللذهاب "ميلا إضافياً على طريق السلام". ولم يتعب مسرح السماجة في بغداد، فنُسب الى "مجلس قيادة الثورة" قبوله "فكرة الدعوة واللقاء"، الا أن العراق أصرّ أيضاً على حضور "مندوبي البلدان والأطراف المعنية بمنازعات وقضايا لم تُحلّ"، مؤكداً ان مستقبل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سيكون على رأس الاجندة. واستمر الولد الصغير يلهو بأمور كبيرة محاطاً بالهتاف والتصفيق. وفي 5 كانون الأول (ديسمبر) أدلى وليم وبستر، مدير المخابرات المركزية الأميركية، بشهادة خطيرة امام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس. فذكر ان استمرار العقوبات العسكرية على العراق سيحرمه، في ثلاثة أشهر، قدرته على استخدام طيرانه الجوي. أما قواته البرية فستخسر، خلال تسعة اشهر، طاقتها على القتال. ولم يخفت ضجيج الاحتفال العربي الهائج.

    هكذا اكتمل الاستعداد، فلم يبدأ العام التالي، 1991، حتى كان عدد الجنود الأميركان في الخليج يتجاوز الـ 380 الفا. وبعد ممانعة وافق عزيز، في 4 كانون الثاني، على لقاء بيكر في جنيف، من غير أن ينسى الالحاح على أهمية تناول الموضوع الفلسطيني. وفي طريقه الى أوروبا أكد وزير الخارجية الأميركي ورئيس حكومة بريطانيا جون مايجور ان ما من تمديد لمهلة الانسحاب في 15 كانون الثاني. ومن جديد واجه عزيز التحذير باللامبالاة، كما واجهه بـ"إباء عربي"، وتذكير بحضارة العراق الضاربة آلاف السنوات في التاريخ، فضلاً عن رفضه نقل الرسالة الأميركية الى صدام لأن رئيسه لا يُعامل بهذه الطريقة. فما أن فشل وزيرا الخارجية في التوصل الى اتفاق حتى أحرق مايجور الورقة العراقية معلناً عن افتتاح مؤتمر لأزمة الشرق الأوسط بمجرد الانتهاء من موضوع الخليج.

    وفي 21 كانون الثاني خوّل الكونغرس بوش استخدام القوة، وبعد يوم واحد أعلن دي كويار، من بغداد، فشله في التوصل الى حل. لكن بحركة تقصّدت السخرية والباروديا، "صوّت" بالاجماع "برلمان" العراق، في 14 من الشهر نفسه، بـ"السماح" لصدام بأن يستخدم كل السلطات المطلوبة للمواجهة. وفي اليوم ذاته تعهدت اسرائيل بأن لا تمارس ضربة وقائية للعراق مستجيبة ضغوطا أميركية متواصلة كي لا تتدخل منعا لاحراج العرب. وأصدر دي كويّار مناشدة اخيرة لوقف "نزاع لا يريده احد" في 51 كانون الثاني، موعد انتهاء مهلة الأمم المتحدة. وفي 16 بدأت "عملية عاصفة الصحراء" على الكويت وبغداد.

    هل كان صدام يملك خطة عسكرية تفسر تصلبه وتصلب رئيس ديبلوماسيته طارق عزيز؟ لا. والحال أن الحيرة التي خلّفها انعدام المقاومة العراقية أنست المراقبين حيرتهم الأولى بالغزو. فقد قُصفت وزارة الدفاع والمطار ومصافي النفط والقصر الجمهوري، ثم ضُرب الحرس الجمهوري على الحدود بين الكويت والسعودية. لكن صدام، على ما يبدو، كان مولعاً بالأصوات التي تهدر في الشوارع أكثر من ولعه بالانجاز العسكري. هكذا سقطت سبعة صواريخ "سكود" في اسرائيل، فيما دمّر صاروخ "باتريوت" اميركي صاروخا عراقيا موجها الى القاعدة الجوية الاميركية في الظهران. ومن دون أن تصاب اسرائيل بأضرار، حصلت على "باتريوت" بينما كانت أسعار النفط تهبط من 30 دولارا للبرميل الى 18. وفي هذه الأثناء "انتقلت" 80 طائرة حربية عراقية الى ايران، فاعلنت الأخيرة انها ستزربها عندها وتحتجز الطيارين حتى نهاية الحرب.

    وحتى بعدما سُدّت الأبواب لم ييأس الروس. ففي 5 شباط وصل الى بغداد مندوب غورباتشوف الخاص، يفغيني بريماكوف، للقاء صدام حيث أعلن العراق استعداده للتفاوض حول وضع الخليج. وبعد عشرة أيام، وكانت العمليات الحربية قد تقدمت، أبدى استعداده للانسحاب من الكويت، لكنه ربط موقفه بوقف نار شامل وبتعطيل قرارات مجلس الامن التي صدرت في 1990. ورفض بوش الشروط، فتوجه عزيز إلى موسكو ثم إلى طهران فإلى موسكو مجدداً، موافقاً على خطة سوفياتية للسلام رأتها واشنطن ناقصة كثيراً ومتأخرة أكثر. ولئن عدّلها الروس بقيت دون المطالب الأميركية. على أن الجيش العراقي كان، قبل ذلك بخمسة أيام، قد أقدم على أحد أبشع الممارسات الحربية وأكثرها أذى مجانياً. فأشعل 517 بئراً نفطية كويتية من أصل 950، ما أدى إلى أضرار مادية وبيئية.

    هكذا بدأ الهجوم الكبير في 24 شباط، فأذاع راديو بغداد في اليوم التالي ان القوات العراقية أُمرت بالانسحاب من الكويت إلى مواقعها في 1 آب بما يتلاءم مع القرار 660. ولم يمرّ غير يومين حتى سقطت مدينة الكويت ومطارها، ووجد الأميركيون أنفسهم يقاتلون "الحرس الجمهوري" على بعد 50 ميلاً غرب البصرة.

    لم تلق القوات المتحالفة، إذاً، مقاومة تُذكر. فالعراقيون استسلموا بالآلاف بؤساءً سيئي التدريب والقيادة، لم يتذوقوا الطعام لأيام. فالحرب كانت مونولوغاً عسكرياً بقدر ما كانت تكثيفاً لمواجهة بين مجتمع متخلف ذي قيادة مستبدة وعشوائية ومجتمع متقدم ذي قيادة ديموقراطية. وفعلاً ضاع الجنود العراقيون كلياً أمام التقدم في التقنية، فضلاً عن سلاح الجو. وقبل أن يتبيّن أن التحصينات التي اقيمت كانت ظاهرية وأقرب إلى تصاميم دعوية، سارع صدام، مع بدء القتال، إلى سحب معظم حرسه الجمهوري معيداً توزيعه حول بغداد. أما جنود الجيش الأقل حظوة فتُركوا وحدهم يلاقون هزيمتهم المرّة وحتف بعضهم التعيس.

    وفي 2 آذار (مارس) مرر مجلس الأمن القرار 686 الذي يطلب من العراق القبول بالـ21 قراراً سابقاً وبإطلاق المحتجزين المدنيين والموافقة على دفع تعويضات عمّا نزل بالكويت. وفي اليوم التالي أذعن ضباط صدام في خيمة صفوان، في أقصى الجنوب الشرقي للعراق، موقعين على استسلامهم الذليل.

    لقد كانت فجيعة عبثية بكل معنى الكلمة. فالولايات المتحدة خسرت 79 جندياً و213 جريحاً و44 مفقوداً، فيما خسرت بريطانيا 13 وفرنسا 2 والبلدان العربية المشاركة في التحالف 13. أما الأرقام العراقية التي لم يُحصها أحد فتفاوتت بين 200 و700 ألف قتيل. وبلغت خسائر العراق 230 بليون دولار وخسائر الكويت 168 بليوناً في عدادها اطفاء واصلاح الآبار التي أشعلها العراقيون وحفر آبار جديدة للتعويض عن التالف منها.

    ثم أن الحرب دمرت البنية التحتية للعراق. يكفي ان الطلعات الجوية فوق بغداد وباقي المدن نافت على المئة الف طلعة، القي خلالها 88 الف طن من الذخيرة. فلشلّ قدرة العراق على القتال حطمت قوات التحالف نظام توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط والوحدات الصناعية الرئيسية ونظام معالجة المياه، فضلا عن الطرق والجسور ووسائل الاتصال السلكي واللاسلكي ناهيك عن المنشآت العسكرية والسلاح الجوي. هكذا لم ينتكس العراق الى ما قبل طفرته النفطية فحسب بل، وكما لاحظ فريق من الأمم المتحدة، الى ما قبل التصنيع.

    وحُكمت الكويت في تلك الأثناء بالطريقة التي يُحكم فيها العراق، فنُصبت المشانق في ساحاتها العامة، فيما تعرضت للسرقة والانتهاكات. وقد اتُهم عدي صدام حسين تحديدا بالنهب بطرق شتى، منها إنشاؤه لجاناً كلّفها إحضار الذهب والسيارات الفارهة التي كانت في حوزة العائلات الثرية في الكويت. وقُدّر عدد الأسرى الكويتيين ممن اصطحبهم جيش صدام لدى انسحابه بأكثر من 600 شخص ظلت بغداد تؤكد أنهم "لم يوجدوا".

    لقد تصرف "الشقيق" العربي الأكبر حيال "شقيقه" الأصغر كما تصرف "المرابطون" و"الموحدون" الهاجمون من الصحراء على دول الطوائف. ومن هذا العطب الكبير أصيبت العروبة بشرخ لم تستطع معاهدة كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية أن تُنزله بها. وإذ انتشرت بين العرب والعرب عنصرية بشعة لم يُصرّح بها قبلاً على هذا الوضوح، فقد أكثر من مليوني مصري وفلسطيني ويمني مهاجر أعمالهم وعادوا بائسين مطرودين إلى بلدانهم. ولئن عانى مصريو العراق وفلسطينيو الكويت ويمنيو السعودية، فإن منظمة التحرير فرغت خزائنها من المال بقدر ما تحولت قضيتها التي كانت موضع إجماع عربي، ولو متفاوت الجدية، الى موضع انشقاق. اما الكويت فرفضت أن يحيمها الجنود المصريون والسوريون، وآثرت، والتجربة وراءها، حماية أميركية. وغدت الدعوات الى نظام أعدل في توزيع الثروة تلوح لأعين الكويتيين ورقاً مزركشاً تُلفّ به هدايا مسمومة هي السرقة والنهب. وإذ تكبّدت بلدان الخليج بلايين الدولارات التي استدعاها تمويل الحرب، تأسس الحضور العسكري الأجنبي هناك مقدماً، بعد سنوات، حجةً للارهاب الذي ارتبط باسم أسامة بن لادن. وأما صدام الذي قام من قبره بعدما تخلى الأميركان عن انتفاضتي الشيعة والأكراد فعيّن، في 6 آذار، علي حسن المجيد وزير داخلية لقمع الجنوب. وعلى العموم، مثلما أنجبت الحرب على إيران "قادسية صدام"، أنجبت الحرب على الكويت "أم المعارك". وقد أمست هذه الأخيرة، الموصوفة بأنها "المنازلة الكبرى"، أحد أهم الاحتفالات الوطنية السنوية للعراقيين.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني