مجلة قضايا اسلامية معاصرة
27 / 05 / 2005
صدر في بيروت العدد الثلاثون (شتاء 2005 ) من مجلة قضايا اسلامية معاصرة، وهي فصلية فكرية متخصصة، يصدرها( مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد) ويرأس تحريرها عبد الجبار الرفاعي
وتناول ملف العدد اشكالية الاسلام والحداثة، وتمحورت المساهمات المنشورة فيه لبحث (الدين والتراث في عصر الحداثة).فقد تصدرت العدد كلمة التحرير للاستاذ مصطفى ملكيان حول(رهانات الحداثة) )التي تساءل فيها عن: القول بوجود مفارقة وتناقض في الجمع بين الإيمان والحداثة في المجتمع الإنساني، وهل يكون سلوكنا غير متجانس حينما نكون مؤمنين وحداثيين في آن واحد؟ هذا أولا. وثانيا: هل لنا ان نلتزم بأي شكل من أشكال القراءات للدين في العالم الحديث الذي يتجه بنا نحو ما هو أحدث؟ هل بمقدور الإنسان الحديث أن يتمسك بما يشاء من قراءة للدين؟ غير انه أجاب عن السؤال الأخير بالنفي. لانه ليس للإنسان المعاصر ان يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه ويقرأه الإنسان القديم المحافظ. وفي ضوء ذلك، إذا لم يكن بوسع هكذا إنسان، القبول بالقراءة التقليدية للدين، فأمامه ـ إذا أراد أن يتصرف بصورة منطقية متوازنة ـ طريقان لا ثالث لهما:
الأول: أن يتخلى عن الدين نهائيا، وبالتالي يخسر المزايا والخصائص الإيجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (ان لم نقل بوجود هذه المزايا على صعيد المجتمع أيضا). علما بأن تخلي الإنسان عن الدين يعقبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والاضطراب وافول المعنى.
والثاني: ان يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد. ويعبر ملكيان عن هذا الفهم الجديد للدين بـ (المعنوية ). ذلك أن لفظ الدين، في جميع اللغات، يتداعى منه إلى النفوس والأذهان مداليل ذات ايحاء عاطفي، مضافا الىما فيه من مدلول إيجابي. ويقول مع الإذعان بأن الفهم التقليدي السابق كانت لـه في حينه معطياته الإيجابية، ولكنه اليوم غير جدير بأن ننحاز إليه، لا باعتبار الواقع، ولا باعتبار المصلحة؛ لا إذا كان همك الوحيد الوصول إلى الحقيقة (الرؤية الواقعية)، ولا إذا كان همك النجاة (الرؤية النفعية).
ثم تحدث عن عناصر الحداثة غير القابلة للاجتناب، وأوجزها في:
1ـــ اتصاف الحداثة بكونها منهجا برهانيا استدلاليا.
2ـــ عدم الوثوق بالتاريخ وقلة الاعتماد عليه.
3ـــ الحداثة آنية ـــ مكانية.
4ـــ انهيار وتزلزل الأحكام والقوانين الجزمية الشمولية القديمة.
5 ـــ سلب القدسية من الأشخاص.
6ـــ ان للأديان التاريخية أحكاما ومتعلقات وتبعات؛ يدرك الإنسان الحديث انها نتيجة اتصاف هذه الأديان بكونها محلية (Locality).
ويرى ملكيان ان المشكلة الاساسية للبشرية تكمن في العذاب والألم والمعاناة وغياب المعنى، ولابد من العمل على تحديد سبب هذا الألم، واكتشاف السبل العملية لرفعه، وما هي الضمانة للسعادة والنجاة (النجاة هنا بمعنى التخلص من سبب الألم أيا كان)، مثلما لابد من اضفاء المعنى على العالم . وعلينا السعي للجمع بين العقلانية والمعنوية، لكي لا نواجه مصير الأمم والحضارات التي تمسكت بالعقلانية وضحت بالمعنوية، أو قامت بالعكس، وأدى ذلك إلى بوارها. مثلا؛ الحضارة الهندية القديمة تمسّك أهلها بالمعنوية على حساب العقلانية، فاندرست حضارتهم. والحضارة الغربية الحديثة تمسكت بالعقلانية وضحت بالمعنوية، ولذلك سوف تصل إلى طريق مسدود. وهذا ما دعا موروآ ومن ثم أندريه مالرو إلى القول: ان المستقبل سيشهد زوال البشر، أو بقاء البشر المعنوي. وهذا تحذير صريح من ان الحضارة الإنسانية الحديثة، بسبب افتقارها إلى المعنوية، وغياب المعنى، فانها تشعر بحاجتها الى الدين يوما بعد يوم، لكي يخلع معنى على ما لا معنىله،ويمنحها شيئا من الطمأنينة والسكينة .
وتميز العدد الحالي من قضايا اسلامية معاصرة بتنوع الحوارات المنشورة فيه، وتعددمواطن المفكرين المحاورين . فقد جاء الحوار الأول مع رئيس الجمعية الفلسفية المغربية الدكتور محمد سبيلا، ليتناول (معوقات الحداثة الاسلامية وأزمة النخب) ويعالج بتحليل واضح مايتبدى من التباس وتقابل بين الاسلام والحداثة بقوله : في ما يخص التقابل والصراع سأتحدث عن مستويين: مستوى الصراع، ومستوى التلاؤم. فالحداثة حركة اجتماعية تاريخية كاسحة حدثت في الغرب، اكتشفت عبرها قوانين الطبيعة والكون والاجتماع والتاريخ واللغة، ومستكشفات لا نهاية لها، ومجاهل الكون والمادة والنفس، واللامتناهي الصغر، واللامتناهي الكبر. وهذه الرؤية مرتبطة بمكاسب الحداثة وقدرتها على اكتساح العالم، لأن من طبيعة الحداثة الانتشار والاكتساح، ولأن مكتشفاتها تتطلب أسواقا وفاعلين. وهذا الإختيار يتم في الغالب، عن طريق القوة، كما حدث مع الإستعمار، والذي يعتبر حدثا تاريخيا انتشرت معه الحداثة بوجهيها الإستعماري والتحريري. ولعل القدرة الإغرائية للحداثة لا تقل جاذبية واستقطابا عن قوتها النظرية أو الفعلية. فهي تقدم خدمات، و تقرب المسافات، وتشفي الأمراض، وتقوم بما يشبه المعجزات، كجعل الأعمى يبصر، والأبكم يتكلم، إلى غير ذلك، أي أن ما كان يتعلق بالسحر أصبح اليوم أو انتقل إلى العلم. رغم أنه لا زال في بداياته الأولى، كما هو شأن الثورة الجينية والمعلوماتية. وفي هذا المستوى الثقافي تصطدم الحداثة مع الثقافات التي تأخرت عن المواكبة، إذ تحاول اجتذابها وإدخال التكنولوجيا وفكر الحداثة إليها. وهنا تحدث المصادمة مع الإسلام على المستوى الصراعي. وبالمقابل تبدي الثقافات التقليدية ممانعة قوية، لأن الحداثة تهدد التقليد وتفككه،كما توسع من هامش الحرية، إذ تنادي الحداثة بحرية واسعة؛ حرية الأخلاق، و حرية السلوك.
إذن، على المستوى التصادمي يصبح الصراع حتميا وموضوعيا، ولا يستطيع أي واحد أن ينزع شوكته، فالتقليد كيفما كان، سواء إسلاميا أو بوذيا أو كنفوشيوسيا، يدخل في صراع مع الحداثة بمستويات ودرجات مختلفة، في الجانب الفكري أكثر منه في الجانب التكنولوجي.
لكن هناك مستوى ثان لهذه العلاقة، وهو أن الاسلام كبنية عقدية وفكرية واجتماعية وتاريخية لا يتعارض مع الحداثة، لكونه دعوة إلى التطور والتقدم، وفهم العالم، واعتباره بمثابة اختيار. والتاريخ يشهد على أن الإسلام بنى إحدى أكبر الحضارات البشرية، وغزا العالم بعد أن استوعب التراث اليوناني، إذ لم يكن لدى المسلمين عقدة نقص.
أما أكبر مشكل يواجه الإسلام فهو أن فهمنا له وتأويلنا له لم يجدد، فالمسيحية تجددت وخضعت لتأويلات جديدة، في حين أن الثقافة الإسلامية لا زالت تعيش على تأويلات القرون الهجرية الأولى. إن التحولات الكبرى في العالم في ميدان الفكر لم تنعكس في الثقافة الإسلامية التي لا زالت لا تقبل التطور والإجتهادات. وحتى الصحوة الإسلامية لا تزال ذات طابع دفاعي، ويغلب عليها رد الفعل أكثر من الفعل وتكسير القيود واستيعاب تحولات المعرفة.
فالإسلام لا يتعارض مع الحداثة، بل هو قادر على أن يكتسح الحداثة وأن يستوعبها، شريطة أن تتحرر النخب الفكرية والتقليدية من العوائق المعرفية والرؤى المكبلة للفكر والإبداع. فالمشكل ليس في الإسلام ذاته، من حيث أنه يتضمن الكثير من القدرة على التأويلات الإيجابية والانسانية، بل إن المجتمعات العربية والإسلامية لم تفرز النخب الثقافية القادرة على التحرر والإبداع. وهذا ما يشهد عليه التاريخ، وليس من باب الديماغوجيا. وللأسف فالثقافة الإسلامية لم تفرز نخبا استطاعت التوفيق بين الثقافة والمضمون التجديدي الكامن في الإسلام. إذن يمكن أن تكون هناك حداثة، إذ لا تعارض بين الدين والحداثة.
فيما كان الحوار الثاني مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، الذي اصدر اخيرا كتابه (النار المقدسة ) وشدد فيه على فاعلية الشأن الديني، وخلص الى ان (المقدس هو افضل طريق لفهم الدنيوي ) فقد تحدث عن العامل الديني واثره في تبلور وبعث الروح الاقتحامية، وتجاربه هو في هذا المضمار فقال :ليس الشأن الديني بالنسبة الي ظاهرة سابقة، بل هو امر لاحق: لقد توصلت الى الاهتمام بمسألة الدين من طريق التساؤل حول السلوكات الفعلية او البراكسيس praxis، اي عبر فلسفة خاصة بالممارسة. فقد اطلعت في السبعينات على كتاب اعجبت به كل الاعجاب، وعنوانه: ما الذي يحرض المناضلين في مسعاهم Qu est ce qui fait courir les militants؟وهو كتاب وضعه طبيب نفساني يتساءل فيه عن العوامل الكامنة في مخيلة الفرد التي تحرك فيه الروح الكفاحية. ما يشغلني هي اسئلة من طراز: ما الذي يجعل المرء يقرر المخاطرة بحياته؟ ما الذي يجعل الفكرة، وإن كانت خاطئة تغير عالم الواقع؟ بماذا نفسر انخراط الافراد في تشكيل عصابات وجماعات واحزاب وامم وكنائس؟ وبالتالي ما الخطوات التي تؤدي بالناس تدريجا الى التجمع، وما الذي يدفعهم نحو الفعل ؟ فنقطة الانطلاق بالنسبة الي ليست الابستمولوجيا (نظرية المعرفة) على الاطلاق، لأن مشكلة الفلاسفة تكمن في عدم اجتيازهم للمنطق الثنائي: خطأ/ صواب، حين يتعلق الامر بتطبيق نظرية المعرفة. لذلك فان الشأن الديني يكون في جهة الخطأ بلا ادنى شك، فالصواب لا يوجد الا في الحقائق. وتفسير ذلك ببساطة هو ان الشأن الديني لا يشغل الفلاسفة. لكننا اذا تفحصنا الامر عن قرب سوف يتبين لنا ان كل شيء يدعو للاعتقاد بأن الصواب بمفهوم الحقائق هو عديم الفاعلية، وان الخطأ هو ذو فاعلية فائقة. اننا نعني هنا شكلا معينا من اشكال الخطأ : الاسطوري، والخيالي، والعجيب، والخرافي، وهي كلها انماط من الفكر غير قابلة للاثبات، وقد تصنفها الابستمولوجيا ضمن الضبابي و عديم المردود و العقيم و غير المثمر لكن الواقع يثبت لنا العكس تماما. فغالبا ما يستقبل الناس الحقائق بشيء من اللامبالاة. ولأنها حقيقية لا يمنحها الناس اي قوة لتفرض نفسها وتلقى القبول. وفي احسن الحالات، يتكون لدى الناس تجاهها نوع من الاجماع الرخو، ثم ينتهي كل شيء عند هذا الحد. بينما الفاعلية الحقيقية، هي في تلك التي تغير الاشياء اي في القوة المؤثرة بالفعل وهي الموجودة في جهة الايمانCroyance. وسواء كانت عادلة او غير عادلة، صحيحة او خاطئة، فتلك مسألة اخرى.
ويصرح دوبريه بأن: الايمان لا يحتاج الى ادلة، فهو غير قابل للاثبات او للاحتمال. انه حاسم. وهو يبرهن على الحركة بالتوغل الى الامام. ما يهمني هو تلك الوظيفة المحركة الكامنة في الايمان، وفي قدرته على سن القوانين المصيرية للعالم. وقد انتهيت الى فكرة الدافع من طريق تلك القدرة على التحرك، اريد ان افهم ما الذي يثير الفعل لديهم: ما هو ذلك الاسطومحرك (المحرك غير العقلاني) Mythomoteur. وهذه، كما ترى، صورة اخرى للتفلسف من طريق المزاوجة بين الفلسفة والانثروبولوجيا (علم الانسان).بالنسبة الي فان الفعل والتفكير في الفعل، هما اللذان دفعاني الى ادراك حقيقة ان الشأن الديني مشبع بالفيتامين لا بالافيون. فليس الدين افيون الشعوب، بل هو فيتامين الضعفاء. وهو ليس مادة منومة، بل هو عنصر ينبه ويثير الحماسة، ولا يستطيع الفلاسفة ان يتخيلوا ذلك، لأنهم محبوسون في ميدان جامعي تنظيري محض. اما ان يكون للمرء كل هذا الرصيد من سنوات الكفاح، وان يجد نفسه مسوقا الى ان يسأل عن مبرر وجوده بين اربعة جدران، وهو يحمل على اكتافه حكما بالاعدام، فهذه كلها اشياء تضطره لكي يطرح على نفسه اسئلة عملية، وان يواجه الاشياء بلا مواربة. ان هذا يؤدي بنا الى الاعتراف بأن وجود المرء في ذلك المكان له اسباب ايديولوجية بالمعنى القوي للكلمة، اي اسباب ميثولوجية (قائمة على معتقدات خرافية). لكننا عندما نغوص حتى العمق في الميثولوجي Mythologique لا نكون بعيدين جدا عن الثيولوجي Théologique (علم اللاهوت).
اما الحوار الثالث فجاء تحت عنوان (التراث والحداثة ) مع الاستاذ مصطفى ملكيان، وتكلم فيه عن اسلوب التفكير والحياة التقليدي، واشار الى أنه تعبدي يطالب بالتسليم والتقليد، لذلك فهو فرار من الاستدلال، بل ومناهض للاستدلال. وشدد على أن العقلانية والحرية عنصران رئيسان من العناصر المكونة للإنسانية؛ بمعنى أننا بمقدار عقلانيتنا وحريتنا نتمايز عن سائر الحيوانات، ونقترب من النموذج الإنساني، وبالتالي فالتعبد والتسليم والتقليد، وهي مقولات تتنافى على المستوى النظري مع العقلانية، وعلى المستوى العملي مع الحرية، ينبغي أن تنحدر إلى أدنى درجاتها الممكنة. لكن أسلوب التفكير والحياة التقليدي على العكس من ذلك، لـه قابلية أكيدة على توسيع وتعميق مديات التعبد والتسليم والتقليد، وليس التعبد سوى قمع الشعور بالتطلع والفضول، وتعطيل الحركة العقلانية. إن المتعبد ينحر مواهبه المتسائلة الباحثة عن الدليل، حينما يكون حيال موجود مقدس وكلام فوق النقاش. غير ان ملكيان يستدرك فيؤكد: لا يفوتني التذكير بأن التعبد إذا كان مرتكزاً إلى الدليل العقلي القاطع، فسيكون لـه حكم مختلف، بيد أنه ليس كذلك في جل الحالات.
وهو يعتقد بأن أهم نقد يمكن أن يوجه للحداثة هو علمويتها. فالعلوم التجريبية بحد ذاتها غير معيبة على الإطلاق، ولكن حينما تجري محاولات لصناعة إيديولوجيا من العلوم التجريبية، التي هي في جوهرها وحسب التعريف، مختصة بعالم الطبيعة ومحدودة به، والتوسل بتلك الإيديولوجيا للحكم على كل عالم الوجود، وعندما يسعى البعض لجعل التجربة والاختبار والمشاهدة، وهي من سبل معرفة الواقع الموضوعي، الطريق الوحيد لمعرفة الواقع. وبكلمة واحدة، حينما تُعشي قدراتُ العلوم التجريبية أعيننا عن القيود الحتمية التي تكبل هذه العلوم، إذ ذاك سنكون وجهاً لوجه أمام العلموية. هذه العلموية، وهي بحد ذاتها موقف ابستيمولوجي، علاوة على أنها تفتقر لأي دليل أو برهان، ستؤول عبر قنوات نفسانية غير منطقية إلى نزعة مادية، تعد بطبيعة الحال موقفاً انطولوجياً، وميتافيزيقياً. ففي البداية، قيل بلا أي دليل: إن الحس والتجربة هما السبيل الوحيد لمعرفة عالم الوجود (العلموية)، وقيل بعد ذلك وبلا دليل أيضاً: إن الوجود محصور فقط فيما يخضع للحس والتجربة (المادية). وهذه (العلموية، والمادية) أدخلتا الإنسان العصري في دوامة وحيرة ضاغطة، بخصوص القيم الذاتية والغائية، والعلل الغائية، والمعاني الوجودية والكلية، والكيفيات، وحرمته من الحياة الروحية الزاخرة بشتى ألوان الرضا.
وتحدث الاستاذ ادريس هاني عن (تصالح الامكان الاسلامي مع الامكان الحداثي ) وأوضح بجلاء ان الاعتراف بوجود تراث لكل امة، لايعني أن يقال إن كل أمة تصنع حداثتها كما لو كانت مخيرة في ذلك، فهذا أمرغير مفهوم جدا. وأضاف موضحا: إن لا أحد يختلف حول ضرورة أن تصنع المجتمعات حداثتها باستقلال، وضمن تكييفانية محلية، إذ لاقيمة للحداثة إذا ما حلت بالعالم العربي والإسلامي دون أن تزدان بنكهتها العربية والإسلامية. فهذا إغناء للحداثة وأمر ينسجم مع فلسفتها. لكن ما معنى أن نصنع حداثتنا الخاصة، وكيف؟ هاهنا ندرك عدم جدية هذه الطروحات. إننا مطالبون بأن نصنع حداثتنا في صلب هذا الحدث الكوني، إكمالا له لا استبدالا له. فلا يمكننا أن نكون فاعلين فيه دون أن نندمج فيه، وإلا تحولنا إلى وحوش مترنحة خلف أسلاكه، لا نصلح إلا للفرجة. إن بعض الباحثين، لا يحدد خصوصية مجاله داخل انتمائه للحداثة، بل يحاول أن يوحي للمتلقي بأن خصوصيته هي نقيض تام لما هو حداثي. وهذا أمر يخالف الوجدان، لأننا غارقون في نظام الحداثة سلوكا وذوقا ومعاشا وثقافة وفكرا... إننا نخفي الشمس بالغربال. فالذين جعلوا من الخصوصية وسيلتهم الوحيدة في نقد الحداثة، هم واهمون لا محالة. لأن الخصوصية، هذا المفهوم الذي نشأ من داخل الحداثة نفسها، لم يكن ليقوض من دعائم الحداثة. على أن الأنثربولوجيا التي هي علم حداثي، جعلت من مفهوم الخصوصية مبررا لانزوائية أقوام وحشية، ليس في طريقة التفكير فقط، بل حتى في الوسائل المادية وفقدان التقنية. إن عدم وجود صنائع متطورة في هذه البلدان، هو أيضا مفسرعندهم بناءا على مسوغ الخصوصية. وربما ولولا الحرج والحياء، لفعل هؤلاء الأمر ذاته في مجالنا العربي؛ أقصد نقاد الحداثة من العرب. لقد حاولنا يوما أن نواجه الغرب بهذه الطريقة إبان الأزمة النفطية، حيث هددنا بأننا مستعدون للعودة إلى ركوب الجمال. وكنا قد حسبنا ذلك تحديا، فيما هو انتحار. إن ركوبنا على الجمال، سوف يعطي مبررا للغرب، بأن يبيدنا وجمالنا فوق هذه الكثبان الرملية، لأن أمة تملك أسلحة الدمار الشامل، لايمكنها أن تقبل بأن يقتلها البرد وتتخلى عن حداثتها، فقط لأن هناك قوم قرروا أن يرفضوا الحداثة وأن يركبوا الجمال. إن حروبنا المصيرية هي نفسها لم تدار بوسائل حداثية. وبفعل الإغراق في الخصوصية وفصلها عن جدلها الكوني، حصدنا هزائم منكرة. إن الحداثة قوة ؛ وعلينا أن لا نجادل كثيرا في ذلك. إذن، فالذين يستندون إلى الخصوصية كوسيلة لمواجهة الحداثة، هم عاجزون عن أن يندمجوا فيها، ويمارسون النقد الجواني لمقولاتها. وينبه ادريس هاني الى: أننا مطالبون بصناعة حداثتنا، صناعة خاصة وليس أن نصنع حداثة خاصة. وهذا راجع إلى تلك النزعة الطوباوية التي ترى أن الحل في استبدال الحداثة، كما لو كنا أمام بضاعة ولسنا أمام لحظة تاريخية، لا نملك إزاءها سوى خيار واحد، أن نلتمس ماهو أمثل وماهو أنفع منها. فأن يكون الإسلام خالدا، معناه أن يكون حداثيا أو لا يكون. لأنه لم يأت ليوقف حركة التاريخ أو حركة الطبيعة، بل جاء ليرشد إلى الأفضل ويهذب ويخلق شروطا مثلى في كل شرط تاريخي. فبدل أن نتمسك ونصر، بغباء، على تغيير التاريخ وفرض الفوضى على قانونه، كان أولى وأيسر لنا أن نتحدث عن ضرورة تغيير شروط تكيفنا في ضوء معطيات اللحظة الراهنة، وأن نسمح للإسلام بأن يتفتق عن أمكاناته الهائلة في سياق تكيفانيته الخلاقة.
وكانت المساهمة الخامسة في باب الحوارات لمقابلة بعنوان ( الاطار المنهجي للفكر الاسلامي المعاصر) مع الدكتور سعيد شبار، الذي عالج مجموعة من الرؤى والمقولات والأدوات المنهاجية في التفكير الاسلامي الحديث والمعاصر، ومن ابرزها الثنائيات او المقاربات المزدوجة التي ترتبط بالهوية، والغرب، والدولة، وحقوق الاقليات، وغيرها، كالأصالة والمعاصرة، والاسلام والغرب، وحكم الله وحكم الجاهلية، والوحدة والتجزئة، والتبعية والاستقلال... الخ. اذ أمست هذه المقاربات المزدوجة من ابرز سمات الخطاب الاسلامي راهناً. وحلل سعيد شبار الاشكاليات المنهجية والملابسات الرؤيوية التي لابست هذا الخطاب . وشدد على ان الجمود والتقليد داء، والاجتهاد والتجديد دواء، ومدخل ذلك كما يعتقد هو : التربية والتكوين التأهيلي للناشئة وصلتهما بالكتاب والسنة لتحقق كسبها منهما "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ". ولايعني هذا تكريسا لنظرة عدمية تقطع مع التراث، بل هي دعوة إلى تحقيق كسب إضافي إليه، ينبني عليه ويستمد منه ويستلهمه ويستوعبه من غير اجترار وتكرار، يدخل معه في علاقة جدلية تحقق لـه تواصلا مستمرا وتجاوزا مستمرا. فإن أعمالا تنتمي إلى التراث كانت متقدمة على زمانها قرونا مازالت الإفادة منها وبلورتها لم تحصل بالشكل المطلوب، كالشاطبي في نظريته المقاصدية، وابن خلدون في العمران البشري والقرافي وابن عبد السلام وابن القيم في الفقه وأصوله، وغيرهم في علوم أخرى... والمجتمعات الإسلامية الآن تعج بالحوادث والنوازل الجديدة، مالية وطبية وأخلاقية وعلاقات دولية..وتحتاج إلى فقه شرعي جديد، يواكبها ويؤطرها تحقيقا لمقاصد الدين وحفاظا على التدين. كما أن التواصل مع التراث والارتباط به، كما ينبغي أن لايحجب الأصول فيتحول هو إلى أصل بديل عنها، ينبغي كذلك أن لايحجب الانفتاح على التجارب والخبرات والحكم الإنسانية على العلوم، وعلى المناهج المساعدة في البحث مع قدرة على التحكم فيها وتوظيفهما، بالشكل الذي لاتعود به على الذات بإلغاء تراثها أو إلحاقها بتراث آخر.
وبمناسبة دخول قضايا اسلامية معاصرة عامها التاسع، عقدت المجلة ندوة لتقويم تجربتها والتعرف على دورها، ودراسة أثرها في تحديث التفكير الديني، وجرأتها في زحزحة مجموعة من المفهومات، في مدينة (اكادير) في المغرب .أدارها الدكتور محمد همام والدكتور عبد العالي المتقي، وشارك فيها نخبة من الباحثين والكتاب الاسلاميين المغاربة ، منهم الدكتور مصطفى بوهندي الذي يرى : إن مجلة قضايا إسلامية معاصرة، قد اكتسبت، من خلال مواضيعها، الكثير من الاسم الذي أطلقته على نفسها، أي إسلامية معاصرة، ومن ثمة فعنوان المجلة يتناسب مع المضمون ومع القضايا. فالمجلة ناجحة بقضاياها المعاصرة من منظور إسلامي نقدي ومنفتح. طبعا هناك مجلات كثيرة تحمل صفة "إسلامية" وقد تدعي المعاصرة، ولكنها لا تتجاوز إعادة إنتاج الفكر القديم وتلقينه، أو استدعاء الإسلام التاريخي، بلغة معاصرة أو في قالب معاصر؛ فهناك فرق بين الديباجة المعاصرة والشكل المعاصر والقالب المعاصر، وبين أن تكون القضايا المعاصرة، والمنظور إليها برؤية إسلامية تتجاوز الرؤية التاريخية التي استلبت الإسلام لذاتها وأصبحت هي رؤية الإسلام. فنجاح مجلتنا قضايا إسلامية معاصرة مرتبط بقدرتها على تجديد الفكر الديني، وتجديد ذاتها، وتجديد إسلامها.
غير ان الدكتور بوهندي يعيب على المجلة افتقارها الىروح الاقتحام والجسارة التي يتطلبها شقاء الوعي وبؤسه في عالمنا، فأنه برغم حيوية المحاور التي اعتنت بها المجلة، والمقاربات الإبداعية الناقدة التي تميزت بها بعض الدراسات والأبحاث، فإن المجلة مازالت في حاجة إلى شجاعة أكبر، لإحداث زلزلات فكرية في واقعنا الإسلامي، لأن قرونا من التخلف، وهيمنة فكر المسلمات، والفكر الثابت، جعلت المنظومة الفكرية التاريخية فكرا مقدسا، وجعلت الإنتاج الإسلامي في عصور معينة هو المعيار الأعلى. والمعالجات المحتشمة، وربما الخائفة، والتي تراعي مشاعر التراثيين وعواطفهم لن تستطيع أن تكون ناجحة، ولن تمس جوهر القضايا التي نحتاج إلى معالجتها . فإن التغيير الذي حصل في العالم اليوم تغيير كبير جدا، ومعقد جدا؛ فالتفكير ينبغي أن يكون اليوم على درجة كبيرة من العمق والقوة في الإبداع والنقد؛ والفرق شاسع بين أنماط التفكير القديم، يوم كان الناس يرحلون ويضربون أكباد الإبل كما يقولون، لجمع رواية أو كلمة، ونمط التفكير الجديد، حيث أصبحت المعلومة تنتقل بكميات كبيرة ومذهلة؛ فما أنتجه الفكر في قرون يمكن نقله اليوم في لحظة قصيرة جدا، وما أنتجه البشر في قرون متتالية يمكن جمعه في أسطوانة صغيرة جدا، ومشاكل الإنسانية اليوم أعقد بكثير مما كان قديما؛ فنحن، إذن، أمام عالم مختلف، ولا يمكن أن نعالج مشاكله وأسئلته بفكر قديم، وطرق وآليات عفا عنها الزمن. وعليه لابد من التركيز على المحاور التي تؤهل التفكير الإسلامي، وكذا التعقيل الإسلامي؛ فالعقل والفكر لا ينقلان كما تنقل البضائع والسلع، ولكن تخلق شروط التأهيل الفكري والعقلي في بيئة المسلمين، وهذه الشروط تنطلق من الإحساس بأزمة ذواتنا وعلومنا ومناهجنا التقليدية. إن المجال الديني عند المسلمين يعاني من انحباس رهيب؛ فمحاور تعميق الوعي بأزمة الفكر الديني التقليدي أمر مهم عبر دراسات وأبحاث منصفة ومتعمقة وجريئة، وخلق شروط الحوار الديني العلمي بين الباحثين والمهتمين على صفحات هذه المجلة المباركة، بعيدا عن كل الوصايات والتراتبيات القهرية، وبأسلوب استدلالي ومتخلق بالأخلاق الفاضلة التي تأبى غيرها فطرة البشر.
بينما اشار الدكتور ابراهيم امهال الى ما اعتبره إضافة نوعية لمجلة قضايا إسلامية معاصرة، وهو جرأتها؛ فبالنسبة لبعض المجلات التي سبقتها مثل "المسلم المعاصر" و"منبر الحوار" و"إسلامية المعرفة"، كانت هناك محاولات لتجاوز الخطاب الفكري الإسلامي التقليدي، سواء على مستوى المضامين، أو على مستوى التساؤلات، إلا أن عوائق كثيرة حالت دون ذلك، وارتبطت أساسا بالسياق الذي كان يشتغل فيه أولئك المثقفون، وارتباطهم بمؤسسات وهيئات ومصالح لم تكن تسمح بأكثر مما كانوا يتحدثون عنه. وعليه ما لبثت شعارات أسلمة المعرفة، والتجديد الديني، وتجديد أصول الفقه، وغيرها.. أن تراوح مكانها بسبب عدم القدرة، بل وعدم الجرأة على خرق الحدود والحواجز، والتي بعضها فكري، وبعضها مرتبط بسياقات أخرى اجتماعية ومصلحية ومؤسساتية. أما بالنسبة للضفة الأخرى من الفكر الإسلامي، أي ما ينتجه المفكرون الإيرانيون، واللبنانيون، والعراقيون المحسوبون على الشيعة، فكانت تصلنا بالطريقة نفسها، المجلات المذهبية، التي لم تستطع التخلص من النزعات التبشيرية المذهبية والارتباطات المؤسساتية. ولكن خصوصية مجلة قضايا اسلامية معاصرة، أنها استطاعت أن تخرق السقف المذهبي القصير، سواء لهؤلاء أو أولئك. وطرحت قضايا هي أقرب ما تكون إلى المشترك الإسلامي، بل المشترك الإنساني أيضا؛ قضايا فيها عمق، وجدة، وجرأة، وتجاوز على مستوى الشكل أو المضمون. ولكن لا يجب أن نفصل خصوصيات هذه المجلة الجادة عن سياق ظهورها، والظرفية التي تتحرك فيها؛ فالمجلة، في النهاية، يكتب فيها مثقفون إيرانيون، وهم من المهتمين بالخطاب الإسلامي الجديد داخل إيران، كما يرصدون بعض المآزق والإنسدادات التي يعيشها الفكر الإسلامي هناك، بارتباطه مع أزمة الدولة، وأزمة المشروع الإسلامي عموما. وفيها من خصوصية المثقف الديني الإيراني، الذي انفتح على الفلسفة، وعلى العلوم الإنسانية في وقت مبكر، قبل المثقفين الآخرين داخل الدائرة السنية، مع تقديرنا النسبي لهذه التصنيفات. وإنا نلاحظ مثلا أن مواضيع مثل التعددية الدينية، والتأويل، وفلسفة الدين... طرحت في مجلات أخرى غير قضايا إسلامية معاصرة، ولكن مستوى التناول في هذه الأخيرة كان أكثر تجاوزا، وأكثر قدرة على خرق السقف الذي انحبس فيه الفكر الإسلامي المعاصر.
وفي باب (دراسات ) نشرت المجلة بحثا موسعا للدكتور عبد الكريم سروش يعالج اشكالية (الدين والتراث في العالم المعاصر) ويطل على الفوارق الرئيسة بين العالمين القديم والحديث، ويشير الى ان الدين هو العنصر الأرسخ والأهم الذي ورثناه عن العالم القديم، بل هو خير ما يرمز لذلك العالم القديم. ولا يزال الدين حاضراً بقوة في العالم المعاصر، يستقطب إليه عقول وقلوب الكثيرين. من جهة أخرى، يكتنف العالم الحديث عناصر قد لا تتلاءم أحياناً مع العالم القديم والفكر الديني. لقد حدث تقاطع على جانب كبير جداً من الخطورة والأهمية في هذا المضمار. انه تقاطع مثّل للبعض ضرورة إقصاء أحد طرفي النزاع. على ان صدام العلم والدين، أو العالم الحديث والعالم القديم وفر في الوقت ذاته فرصة غير مسبوقة، على حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي هوايتهد. لم يكن هذا الصدام بلاء أو كارثة بالنسبة للمتدينين والعلماء، بل فرصة لمزيد من التدبر في طروحاتهم وإعادة الاهتمام في أرصدتهم.تسودنا نحن المنتمين لمجتمع ديني ذهنية لا نستطيع الفكاك منها. لقد تمت تربيتنا ونشأتنا وتبلور قوالبنا الذهنية داخل مناخ ديني، لذلك ترانا دوماً حينما نفكر وننظر ونحكم على الأشياء، ينحاز جانب من أذهاننا صوب أفكار راسخة في أعماق ضمائرنا، لا يمكننا الإفلات منها بحال من الأحوال. أضف إلى ذلك ان عدم الاكتراث لصراع القديم والحديث يدل على سذاجة قبل دلالته على نضج. ينبغي ان لا نعد هذه المشكلة محلولة فنتركها للنسيان أو عدم الاكتراث واللاأبالية. كيف يتسنى لإنسان لم يوف هذه المشكلة حقها من الدراسة والبحث والتأمل، ان يبلغ نتيجة نهائية حاسمة، في حين نرى المفكرين والفلاسفة الكبار ما فتئوا يبذلون الجهود المضنية لمعالجتها، ومع ذلك لا يعتبرونها محلولة مفروغاً منها؟ إنها مشكلة تمثل مشروعاً يتوجب العمل فيه سنين طوالاً حتى يتاح ان نبلغ النور. ولحسن الحظ يمكن رصد مثل هذا الهم والاهتمام في مجتمعاتنا الإسلامية.ويضيف سروش: إنني أجد في أذهان وألسنة الكثير من الطلبة الجامعيين والشباب الذين التقيهم مثل هذا الهم الإيجابي. على الإنسان ان يستخدم ذهنه في أمر ما على كل حال، وهل أفضل من استخدامها في مثل هذه القضايا المفيدة؟ في يوم من الأيام تصور الغربيون ان المشكلة قد عولجت. لا ريب إننا سمعنا جميعاً باسم المدرسة الوضعية. أحد المزاعم النرجسية المتفاخرة لهذه المدرسة هو ظنها انها ألغت إلى الأبد كل ألوان النزاع الميتافيزيقي، وأعفت أذهان البشر وعقولهم منها بصفة نهائية. ولكن لم يمض عقد أو عقدان حتى اتضحت الثغرات الداخلية لتلك المدرسة، وتبين ان كل تلك الأحلام المجنحة لم يكن لها أساس أو مبنى. بعد ذلك وجدنا أنفسنا تارة أخرى حيال المشكلة السابقة بكل قوتها. وأثيرت أسئلة دلت على تفاعل هذه المشكلة، وانها لم تقض نحبها بعد.
كما تناول الشيخ محمد مجتهد شبستري (ابرز القراءات للتراث الديني المسيحي في عصر الحداثة )فتوقف عند منهجية كارل بارث ورودولف بولتمان وشلاير ماخر، وخلص الى اننا لا نستطيع الحكم على مجتمعنا وتراثنا في ضوء الدراسات التي أجريت على التراث الغربي، فالمعروف ان ثيولوجيا المسيحية لا تزال حاضرة في كل أنسجة العلم والفلسفة والأبحاث الغربية، فالمفاهيم المطروحة، خصوصاً في العلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية، والسايكولوجية، والتاريخية، و... الخ، والمعطيات التي توفرها لنا هذه العلوم، مضافاً إلى أبحاث علماء الاجتماع والنفس، والتاريخ، والثقافة، والانثروبولوجيا الغربية، زاخرة بالمفاهيم المسيحية، ولكن بصورة مُعلمنة. لهذا نراهم حينما يحاولون الإجابة عن: ما هو التراث، وما هي الثقافة؟ وحينما يقدمون نظريات اجتماعية حول الدين تكتسي جميع طروحاتهم ألواناً ثيولوجية مسيحية واضحة. ولهذا يتشكل سؤال كبير في هذا الصدد:كم من تلك البحوث نستطيع طرحه هنا، وإلى أي حد يجوز لنا تقييم أحوالنا وواقعنا بتلك المعايير والمفاهيم؟ يستشف ان علينا في البداية التعرف بشكل واف على حيثيات تراثنا وملابساته وبنيته، لنفهم: أي نوع من التراث هو؟ وما هي العوامل التي أثرت فيه؟ وكيف هي بنيته وهيكليته. ويصرح شبستري بانه يتحدث هنا عن إيران بخاصة ولا يقصد عموم العالم الإسلامي. فما هي مضامين وهيكلية التراث السابق للإسلام، واللاحق له، الذي ورثناه ولا نزال نعيش معه؟ ليس لهذا التراث ذات المضمون والبنية التي للتراث الديني المسيحي في الغرب، وهو ليس تراثاً دينياً بذلك المعنى، إلا انه تراث ديني بمعنى آخر.
ثم يتساءل قائلا : ينبغي ان ننظر ما هي حقيقة الحداثة الآخذة بالتبلور داخل تراثنا؟ ما حقيقة هذا التيار الذي انطلق قبل حوالي 150 عاماً ولا زال سارياً لحد الآن؟ وبالتالي من هو المسلم الحداثي؟ وأي مخلوق هو المسلم الإيراني الذي يعيش في عصر الحداثة؟ وما هي مشكلاته؟ هل للمرجعية الدينية في تاريخ الإنسان المسلم ذات المعنى الذي لها في الغرب؟ وهل المشكلات التي تواجه المسلم في العصر الحديث ذات المشكلات التي تعترض المسيحيين في الغرب؟ وإذا كانت القضية الحداثية الأهم في الغرب هي ان المعرفة والتاريخ تَعَلْمَناً تدريجياً، فهل يحدث الشيء ذاته في إيران اليوم، بحيث يمكن ان تصدق فيها العلمانية بمفهومها الغربي، أم ان المعرفة والتاريخ كان لهما بين المسلمين منذ البداية معان دنيوية عقلانية ــ بشرية (علمانية)؟ ثم يعقب على هذه الاستفهامات : أعتقد ان هذه الإشكاليات لم تنل حظها الكافي من البحث والدراسة لحد الآن.
ويعود متسائلا مرة اخرى: ما نمط التعاطي الذي يمكن ان نواجه به التراث في عصرنا الحاضر في إيران؟ وبعبارة أخرى، كيف تتبدى مشكلة التراث والحداثة عندنا؟ وفي ضوء هذه المشكلة ما هي القراءة التي بوسعنا اختيارها لمقاربة التراث؟ غربياً، حينما نجد ان إحدى القراءات للتراث والدين في عصر الحداثة قد حققت نجاحاً أوسع، فلا يصح ان نجعل من ذلك مناطاً لواقعنا وكل واقع في العالم. قد يقال اننا أيضاً لو أردنا قراءة تراثنا الديني عصرياً، فيجب ان نستخدم ذات المناهج التي وفرها لنا الغربيون واستخدموها في دراساتهم الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية، والدينية، و... الخ. ويضيف: أعلم ان هذه الفكرة معقدة، لكنني أقول حتى لو لم يكن ثمة مناص من استخدام هذه المناهج، فينبغي ان يتم هذا الاستخدام بوعي وتفطن إلى فوارق تراثنا عن تراثهم، أي ان من يستخدم هذه المناهج لابد ان يعلم على الأقل ان المسألة التي طرحت هناك غير التي تطرح هاهنا. يدل هذا التعقيد والقضايا والبحوث على طول الطريق الذي أمامنا: تشخيص بنية التراث ونسيجه، وتشخيص ماهية ما يحدث في مجتمعاتنا، وتشخيص ما ينبغي ان نفعله الآن، وكيف نقيم العلاقة بين التراث والحداثة، وأي سنخ من الإلهيات يجب ان ندون؟ هذه هي أبرز واجباتنا. ويعتقد شبستري: ان باستطاعتنا الإفادة بكثرة من منهجية النظر للتجارب الدينية المتراكمة في تراثنا الإسلامي (ما يشبه منهج شلاير ماخر).
وتلى ذلك دراسة للدكتور داريوش شايغان، حلل فيه ماأسماه (تشبيح العالم، أوكيف أمسى العالم شبحا ) وماأفضت اليه الحداثة وقيمها، فقد أسفرت هذه العملية حسبما يرى شايغان إلى ((تضخم النفس)) المهيمنة والمكتفية ذاتياً. وإذا صح ان الفردية وظهور مفهوم المواطنة والعقل المكتفي بذاته في العالم الغربي، كان بفضل هذه ((الاستقطابات الداخلية)) فلن يتسنى أيضاً تجاهل ان هذه العملية وبسبب انهيار المُثُل والمرجعيات، والنقود المتطرفة العاصفة ضد الحداثة، واهدار مكتسبات عصر التنوير، تركت تأثيرات عكسية في نهاية المطاف.فبعد عدة قرون من ((الاستقطاب الداخلي))، عاد العالم اليوم إلى السحر وإلى نوع من الانبهار. الحاجة إلى الأمور غير العقلانية، وإلى تكريم المجهولات وعبادتها، والنزوع الطفولي للغرائب، عاد اليوم قوياً جموحاً كما كان في السابق. قد تتبدى هذه الظاهرة على شكل معتقدات ساذجة، بيد انها تختلف عما ساد في عالم ما قبل الحداثة. فالعالم القديم الذي انسجم فيه الظاهر مع المضمون داخل رؤية شمولية متسقة، زال عنه راهناً تطابقه الشكلي، وها نحن نشهد بسبب عدم تناغم مجموعة من العوالم الممزقة، انبثاق ظواهر جديدة تمام الجدة. ثمة ((نزعة روحية)) تتحرك بموازاة التطورات التقنية المذهلة، فقد عادت إلى الظهور معتقدات منسوخة بامتياز، صاغتها حضارات قديمة، ومعها اتباعها (الشمن، وشتى صنوف الفرق الدينية، والمتنبئون بالمستقبل، والمؤمنون بأسرار الألفية ونهاية العالم في آخر الزمان) وراحت تستوعب في داخلها الخيال المشبع عند الإنسان الحديث.هذه المتطلبات الهلامية المشتقة، وهذا العالم المجازي الخاص بالنزعات والطموحات، والظمأ إلى استدعاء المثل القديمة، والهروب من المساحات الأخرى، خلقت بمجملها عالماً وهمياً، وفضاءات تضج بأشباح تبحث بكل هستيريا عن مكان للحلول، وحينما لا تجد مثل هذا المكان ستبقى أشباحاً سائبة تغمس رؤوسنا في مستنقع الحيرة والضياع. سمة الإرباك والفوضى في عصرنا هي بالضبط ما يمكن نعته بفقدان الإحداثيات. فبسبب ضمور الطابع الطقوسي والتشريفاتي للأساطير والعقائد الجزمية، يتجلى الدين اليوم على شكل سحر وشعوذة، وربما خرافات.
ويخلص شايغان الى ان : هذا ((التشبيح)) للأمور الروحية، فضلاً عن دلالته على نزعة الإنسان الأصيلة نحو السير والسلوك (حاجة حقيقية لدى كافة السالكين الجوالين)، يشي بهشاشة تخريبية تغلغلت إلى مفاصل الأساطير الجديدة، الأساطير القادرة على استقطاب كل ما في العالم من عناصر لا تبدو متجانسة بسبب افتقارها للمعاني الثابتة، وعدم تمتعها بشكل معين. لا تتمظهر هذه الأساطير على شكل معتقدات ومتبنيات وحسب، بل تتبدى أيضاً في ميدان السياسة والكفاح الاجتماعي، إذ بوسع هذه الايديولوجيا وتلك الفرقة الداعية إلى ديانة مختلفة، ان تستولي على هذه الأساطير بسهولة. فبمقدور هذه الأساطير ربط رجال السياسة ورجال الدين في تركيبة ثورية، لينتج عن هذا الزواج المبارك في ظاهره، مسلك يزعم لنفسه كل تجليات الكمال الروحي. يبدو ان الإنسان الحديث سحرته ذات الأمور اللاعقلانية التي دفعتها العلمانية طوال قرون عدة إلى زوايا النسيان. انه إنسان تستهويه قراءة الطالع، وتناسخ الأرواح، وما إلى ذلك من توجهات. فهو يتحدث عن حياته الماضية كما لو كان يتحدث عن أصدقائه القدامى. وعلى حد تعبير ايتن باريليه: ما عاد الإنسان يثق بعقله. ما يحدث في داخله ((ليس نزعة روحية، وإنما عودة تعسفية للخرافات)). منذ عقود ونحن نشهد توالد فرق ملونة من قبيل: شهود يهوه، الاكروبوليس الجديد، عشاق كريشنا، وسائر ذوي النزعات الروحية في العصر الحديث. وحسب تقرير جاك غويارد عن الفرق الفرنسية، تتوزع هذه الفرق إلى 12 جماعة كبرى منها: أنصار النزعة الروحية في العصر الحديث، واهبو الشفاء، المتأثرون بالشرق، منتظرو آخر الزمان، المحللون النفسيون، عباد الشيطان، والمشركون الجدد.
واستعرض الدكتور محمد الشيخ في دراسته (من الحداثة الى مابعد الحداثة ) مغامرات الفكر الغربي في القرون الأربعة الأخيرة، ومبادىء الحداثة التي انتهى اليها هذا الفكر، المتمثلة ب(العاقلية، والذاتية، والحرية) . ثم اشار الى نقد الفيلسوف مارتن هايدجر للحداثة، والى إن سيادة فهم كينونة الموجودات في العصر الحديث لهو ما دعاه هايدجر باسم "التألية" la Machination. ومبدأ التألية: إنما "الشيء" آلة مسخرة، فإذا سخره الإنسان تحرك وإلا فلا. أين "استيداع" الإنسان أمانة الكائنات و"استرعاؤه" عليها و"استعهاده" لها؟ أجل، ما عاد للإنسان في هذا العهد الذي نحن شاهدوه من مشروع لفهم كينونة الأشياء ـــ وكينونته هو أيضا ـــ سوى "مشاريع" و"خطط" و"رقوم" الشأن فيها أن تعرب عن قوته وتبديها بدو غطرسة؛ أي أن تكشف عن مشاريع "تصنيع" و"تخطيط" و"ضبط" و"حساب" ـــ بما فيها تصنيع الإنسان لنفسه الصناعة، وهذا ما أوحت به ظاهرة "الاستنساخ العلاجي" التي كان هايدجر قد تنبأ بها ـ لئن كان لها أن تشهد على أمر فإنما هي تشهد للإنسان بالقوة وتؤمن له اليقين بالذات. ولا شيء عاد ثمة يضمن لكينونة الأشياء استمرارها إلا قابليتها لأن يجرى عليها فعل "التألية". وإن هذا ليجعل من "كينونة الأشياء" أن صارت شاهدة على "غياب المعنى". إذ صار لا معنى إلا بالاستصناع، وما لا يستصنع أو يقبل الاستصناع فلا معنىلـه. انفقد المعنى إذن بهذا المعنى! وها قد صار الإنسان الحداثي يعاني من "ظواهر العدمية". ومن هذه الظواهر "غيبة الآلهة" أو "أفولها"، و"فقدان الوطن"، و"انتهاء الإنسان إلى التيه". وهكذا، ففيما تعلق بمسألة "أفول المقدس"، فإن الواضح لدى هايدجر أن "حضور" أو "ضمور" "الشأن المقدس" هو الذي من شأنه أن يسمح للعالم بأن "ينكشف" أو "ينحجب"، ويبيح للأشياء بأن "تبدو" و"تنوري" و"تقرب" و"تشط" و"تسع" و"تضيق". وإن "الأمر المقدس" لهو الذي شأنه أن يحفظ "بدو" الكائن و"تجليه". وليس معنى هذا أن "المقدس" هو مَن "يوجد" العالم أو "يكونه" أو "يصنعه"، بل إن "المقدس" حتى وإن توارى بقي العالم موجودا، وحتى وإن غاب بقي العالم حاضرا. وأي عالم؟ بحضور "المقدس" تصير لقيا الأشياء أمرا بديا جليا جليلا بديعا، وبغيابه تغيب الأشياء غيابا وتنطمس انطماسا، وذلك حتى وإن حضرت بوصفها "موضوعات" أو "مرصودات". فحضور "المقدس" هو ما يجعل العالم يُمنح لنا، وسهره على العالم وتعهده له هو ما يجعله "يبدو" لنا. وفي صلة بانفقاد "الشأن المقدس" هذا وانسحابه وتواريه واستتاره حدث "اجتثاث" الإنسان من "أصله" وفقده لتجذره في موطنه. ذلك أن صيرورة الكائن لنا مستوحشا إنما هو عكس اغتراب الإنسان الحداثي داخل الكائن في جملته؛ أي داخل العالم. ومعنى هذا فقد الإنسان لموطنه. وما "موطن" الإنسان سوى الأنس برفقة كينونة الكائنات. وبفقده أمر "كينونة الأشياء" ـــ وقد عمى عليها النداء الحاث على "الاستصناع" ـــ صار الإنسان يفقد ملجأه ومأواه.
ويقرر الدكتور الى إن ما عملت التأليةـــ التقنية عليه هو اجتثاث الإنسان من موطنه، والتطويح به ليحيا في شروط تقنية صرفة. فما عاد مسكن الإنسان الحديث مسكنا، ولا بلدته بقيت بلدة، ولا أرضه ظلت أرضا. وما عاد العالَم عالما حقا، وإنما صار عالما شبيهيا. و"التيه" أثر آخر من آثار الحداثة. وإن حال الإنسان الحداثي اليوم ـ وقد صار الحيوان العاقل؛ أي الكائن الحي الذي دأبه أن "يشتغل"، أو قل: الدابة الشغيلة ـ لم يعد بمكنته إلا أن يتيه في مفازات الأرض وقد اجتيحت الاجتياح كله وصارت فاقدة للمعالم والمعارف وللرقوم والرسوم. ما عاد بمكنة الإنسان سوى أن يخضع لمنطق "التنميط" و"التوحيد" في عالم صار عن الكينونة بمنأى؛ أي أنه صار يحيا في "لا عالم" أو عن العالم بمعزل. وإن الأرض لتبدو وكأنها "لاــ عالم [كنهه] التيه". وإنها لمن وجهة نظر تاريخ الكينونة لتبدو بدو "النجم التائه". ويشير الى سبب آخر لتيه الإنسان الحديث، وهو جريه ولهاثه وراء المنتوج يعقب المنتوج والمصنوع يخلف المصنوع. وإن لمن شأن الإنسان أن يتيه ههنا بعيدا عن حقيقة الكائن، جاريا وراء "التخطيط" و"التنميط" و"الإنتاج" و"التوزيع" و"الاستهلاك".أن هذه ظواهر تبدو لهيمنة كنه العدمية الشبيهية ظواهر مدمرة. وإن الإنسان الحديث ليخبرها خبرة ميتافيزيقية، وإنه ليقاومها مقاومة ميتافيزيقية، وذلك إما بسن قيم جديدة تذهب عنه جزعه وحزنه، أو بملء العالم، وقد صار "لا عالما"، بغدواته وبدواته ونزواته. وما العدمية حارب، وإنما هو، بالضد من ذلك، العدمية حقق.
وتناولت دراسة الدكتور محمد المصباحي تراث المتصوف الشهير ابن عربي في عالم مابعد الحداثة، فدرس صورة العقل وصورة الوجود في مرآة مابعد الحداثة، وسعى لمقارنة ذلك مع افكار مارتن هايدجر . وانتهى المصباحي الى أن ما بعد الحداثة تعمل جادة على مصادرة كل الأحلام، في مقابل ابن عربي الذي كان يحرص على أن يبقى في عالم من الحلم. لقد كان يفكر بالحلم وفي الحلم، يؤول الحلم بالحلم، وكأنه كان يخشى أن يستيقظ فيجد نفسه في عالم خال من الحلم، كما هو حالنا. فهل ما زلنا نحن أبناء هذا الزمان، نحتاج إلى الأحلام، وإلى الأحلام التي تفسر الأحلام؟ قد يكون الأمر كذلك، لكن لا الأحلام التي تعود بنا إلى الوراء، إلى الأساطير التي استنفذ تأويلها، بل إلى الأحلام التي تقفز بنا إلى الأمام قفزة أونطولوجية