 |
-
الفصل الخامس عشر
"قصف السكة الحديدية"
انهى احتلال العقبة حرب الحجاز، وكانت المهمة التالية هي جعل هذا الميناء المهم الواقع على البحر الأحمر،
قاعدة فعّالة وامينة، للانطلاق منها شما ً لا، بما يتفق وخطة اللنبي الرا مية إلى القيام بهجوم عام على طول جبهة
. الحلفاء الداخلية قبل نهاية عام ١٩١٧
ولذلك أصبحت العقبة مركزًا لنشاط مستعر . ووصل جيش فيصل من "وجه" في قافلة سبل المواصلات كما
حضرت سيارات مصّفحة من السويس، وقوات مصرية وجزائرية، وضباط بريطانيون وفرنسيون، ومعهم
المدافع والبنادق، والبنادق السريعة الطلقات والمتفجرات السديدة، والاسلحة الصغيرة والذخيرة، حتى كادت
الأرض تميد تحت ثقل الأقدام وصناديق الأسلحة التي تراكمت حتى غدت بعلو التلال.
ولقد انشئ مطار، وشقت طرقات للإسراع في المواصلات بين الميناء ومركزه الدفاعي خلف التلال،
والمراكز الدفاعية الأخرى في الغويرة والبتراء، وكانت هذه المراكز قد عززت بكميات ضخمة من الأسلحة،
بما فيها المدافع والبنادق السريعة الطلقات، وأصبحت العقبة بعد ستة أسابيع فقط على احتلالها قلعة حصينة.
غير أن الحلفاء لم يكونوا وحدهم في نشاطهم واستعداداتهم، إذ أن الأتراك بعد هزيمتهم الأخيرة، أخذوا
يستعدون لاسترجاع العقبة، وكان ذلك مهما لسببين : الاول إعلام العرب من هم سادة شبه الجزيرة العربية،
وبالتالي عدم تشجيع قبائل الشمال على الانضمام إلى قوات الشريف.
والثاني منع الحلفاء من استخدام هذه القاعدة المهمة، في القيام بهجوم على القدس وسوريا وهو الهجوم
الذي كان الأتراك يعلمون بأن اللنبي يزمع القيام به.
وما إن انتصف شهر آب حتى كان الأتراك قد عززوا حاميتهم في معان بستة آلاف جندي من المشاة وفرقة
من الخيالة فرقة من الآليات، وفصيلة من الطائرات المزودة بالقنابل، وأرسل الأ تراك فرقتين من المشاة إلى
"أبي لسان" التي تركها العرب دون حراسة.
وعلى الرغم من أن العدو كان يتكبد خسائر فادحة من جر اء غارات العرب على دورياته ووسائل مواصلاته،
إ ّ لا أنه لم يتزحزح، بل على العكس راح يدعم قواته، بما يبدو أنه استعداد للقيام بهجوم كبير عن طريق العكس
راح يدعم قواته، بما يبدو أنه استعداد للقيام بهجوم كبير عن طريق المسالك الجبلية ذاتها التي استخدمها العرب
في احتلالهم العقبة.
وقرّر لورانس أن اللحظة قد حانت لتفريق هذا التجمع المخيف، وطلب إلى اللنبي إرسال طائرات لتقوم
بالمهمة.
٩٩١١
فأرسل على الفور سربًا من قاذفات القنابل الصغيرة ليؤدي المهمة من المطار الجديد الذي أنشئ في العقبة،
وكان هذا السرب بقيادة الكابتن "ستت" وكان هو والطيارون الآخرون يشكّلون عصبة من الشياطين الجريئة،
ومن الخبيرين بالقاء القنابل من علو بسيط والمتمرسين في فن الهبوط الاضطراري في الصحراء.
وقد بدأوا غاراتهم على معان، حيّث القوا اثنتين وثلاثين قنبلة على محطة السكة الحديد، والثكنات، والمطار،
ولم يتركوا من شرّهم كما يدعي لورانس حتى ولا مطبخ الجنرال التركي، حيّث أتوا على "افطاره "
وانزلوا خسائر فادحة في أطواب العدو . وفي اليوم التالي أغاروا مرّتين على التجمعات التركية في "أبي لسان "
وهبطوا حتى كادوا يلامسون الأرض، وشتتوا الرجال والخيول، ودمروا المدافع، وأحدثوا خرابًا هائ ً لا.
وبعد أن أفاق الأتراك من صدمة هذه الغارات قرروا القيام بهجوم قبل أن تلحق بهم خسائر أخرى تضعف
معنويات جنودهم وتضيع ما تبقى لديهم من معدات.
ومن الغريب أنهم اختاروا هدفًا لهجومهم مدينة البتراء التي تحرسها سلاسل من الصخور، والتي تشكل
ممرات ضيّقة لا تتسع لجملين في آن واحد، فهي والحالة هذه قلعة حصينة، إذا ما أحسن الدفاع عنها.
وقد رأى لورانس أن يرسل إلى هناك الشيخ مولود على رأس قوة من مائتي جندي مزودين ببنادق سريعة
الطلقات. وقد خسر الأتراك فرقة كاملة في هجومهم هذا، وأجبروا على التقهقر، دون أن يصيبوا أحدًا من
المدافعين عن المدينة الأثرية، الذين كانوا يختفون عن العيان بين الصخور الحمراء العالية المشرفة على الممر
المشهور، بحيث أصبح مصيدة موت للقوات الغازية.
وهكذا أوقف تهديد العدو للعقبة، غير أن لورانس رأس أن إنزال ضربة أخرى بالعدو، ستقضي على ت جمعاته
نهائيا.
وواضح أن يكون خط سكة حديد الحجاز هدفًا للضربة التالية، ولكن … أين بالضبط يجب إنزال هذه الضربة،
كيما تحقق أقصى ما يمكن من دمار؟ وبدا أن شمالي معان، يجب أن تكون نقطة الاختيار الطبيعية، وذلك
لضعضعة تجمعات الأتراك، ومنع وصول المزيد من القوات إليهم من دمشق وحلب.
غير أن لورانس ووجه هنا بصعوبات، فقد كان في المرة السابقة عندما أغار ونسف الخط الحديدي شمالي
عمان، أثناء الزحف من وادي سرحان، معتمدًا على رجال عودة الذين كانوا قريبين منه، وعلى القبائل المحّلية
التي كانت الدعاية قد فعلت فعّلها بينهم، فأصبح من الممكن الاعتماد على هذه القبائل، وأن تسمح للقوات المغيرة
بالتسلل عبر أراضيها.
غير أن التقارير الأخيرة كانت تدّل على أن تأثير تلك الدعاية قد زال، وأن الأتراك قد انتهزوا الفرصة فأخذوا
يقومون بدعاية معاكسة، قائلين ان فيصل قد باع نفسه للإنكليز الكفرة، وأن ه لم يعد سوى أداة طيّعة في أيدي
الاستعماريين الإنكليز والفرنسيين.
وكان الأتراك انفسهم قد نشروا معاهدة "سايكس بيكو " وكانوا يستعملون معلوماتهم إلى حد ما وكنتيجة لذلك
رفض قسم من قوات الشريف، كان في طريقه لتعزيز قوات فيصل، مغادرة الحجاز.
كما أن مجلس الشريف لم يكن ملمًا بتكتيك العدو، خاصة وأنه كان يتبع طرقًا ملتوية، مستعينًا بالدين، كما أن
الانشقاق الذي حصل في نهاية الحرب بين فيصل ووالده واخوته،ربما كان قد بدأ في ذلك الوقت بالذات.
٩٩٢٢
ولكي يهاجم خط السكة الحديدية من الشمال، دون مساعدة محلية، فإن الأمر يحتاج إلى قوة أكبر من تلك التي
كان لورانس يعتقد بأنها ضرورية، وهو لا يستطيع أن يخلي قاعدة العقبة من أجل القيام بهجوم على السكة
الحديدية، مهما كان ذلك الهجوم مهمًا.
وعلى هذا فقد قرّر أن يقتنع بشن هجوم على محطة المدوّرة التي تبعد حوالي ثمانين مي ً لا إلى الشرق من
العقبة، وهي هدف مهم، لأنها كانت مصدر المياه الوحيد عبر عدة مئات الأميال من امتداد الخط الحديدي عبر
الصحراء.
وقد اختار للقيام بهذا الهجوم جاويشين، أحدهما استرالي والثاني بريطاني، كان يناديهما "لويس " و"ستوكس "،
وبعد أن زوّدهما بمدافع المورتر والبنادق السريعة الط لقات، طلب إلى أحد الشيوخ من قوات فيصل يدعى "عيد "
بأن يصطحب معه عددًا من الجنود والجمال لنقل المتفجرات ومرافقة الجاويشين.
أما بصدد الحراسة فقد اعتمد على أفراد من قبيلة الحويطات اختارهم من "الغويرة" وهو في طريقة لإعداد
ترتيبات الهجوم.
والطريق إلى "المدوّرة" يمر عبر وادي "رم" وهو واد طويل فسيح، تحيط به صخور عالية حمراء، يبلغ
ارتفاعها ألف قدم أو أكثر . وقد وصف لورانس مروره بتلك الطريق الرائعة، والمنطقة الصخرية التي تحيط بها
بهذه الكلمات:
"أصبح ارتقاؤنا للطريق رفيقًا، حتى أصبح الوادي عبارة عن سهل مترامي الأطرا ف، أما التلال التي كانت
ترتفع تجاهنا فكانت حادة، يقابلها من الطرف الآخر سلسلة أخرى لا تقل عن الأولى ارتفاعًا، وجميع صخورها
حمراء اللون حتى لكأنها جبل اكتسى بالزنبق.
ولم تكن هذه الجدران الصخرية جدرانًا غير منفتحة إطلاقًا، ولكنها شيّدت بطريقة عفوية، شاءت ا لطبيعة أن
تجعلها أشبه ما تكون ببيوت الجن، وكانت تمتد على جانبي الطريق، وبشكل مستقيم …. وكانت الصخور متوّجه
بأعشاش من الأزهار تبدو كالقباب، ولا تقل حمرة عن لون الصخور ذاتها، وان كانت تبدو في بعض
الأماكن مصفرة بعض الاصفرار، فكان المنظر بحد ذاته يوحي للناظر بفكرة عن جمال الطبيعة، التي كانت
تبدو هناك وكأن فنانًا بيزنطيًا قد أبدع خلقها، بشكل لا يتصوره العقل.
والوادي فسيح مترامي الأطراف حتى ليمكن القول بأن الجيش العربي لو سار على غير هدى لضاع في
أرجائه، حتى إذا ما وصل إلى الممرّ المحاط بالصخور، فإن سربًا من الط يارات كان يكفي لإبادته مهما كان
كبير العدد.
وقد ازدادت قافلتنا الصغيرة وثوقًا بنفسها، وسيطر عليها هدوء غريب، رغم الخوف الذي كان يداخل نفوس
أفرادها الذين، لاح لي أنهم، خجلوا من إظهار فرقهم بين تلك التلال الصمّاء".
ولم يمض طويل وقت حتى لفت انتباه لورانس، إ لى أمر أصابه بهزة شديدة… فقد أصيب الشيخ عيد بالعمى
نتيجة للحرارة والغبار ولمعان النور، ولما خشي لورانس أن يصطحبه معه ليشترك في الغارة، فقد قرّر أن
يرسله مع بعض الجنود ليبقى في مضارب بعض البدو الذين يقطنون إلى الجنوب من "رم".
٩٩٣٣
وكانت حرارة شمس أيلول قد انهكت قوى بعض الجمال، وأصبح لزامًا عليه الحصول على جمال أخرى لنقل
المتفجرات.
ولكن القبائل البدوية التي وجدوها كانت من القبائل المستاءة جدًا من "عودة" والتي ساورها الشك في مجرد
ايوائه بينها.
وكان لورانس قد اضطر مؤخرًا إلى إخماد ثورة بدائية قامت بها جماعة من قب يلة الحويطات، في "الغويرة "
مؤلفة من عدد من الشيوخ، هددوا بالانفصال عن عودة إ ّ لا إذا أعطاهم نصيبهم من الذهب الذي أخذه من
الإنكليز.
كذلك كانت القبائل البدوية في "رم" لا تقل عنادًا عن شيوخ قبيلة الحويطات… ولذلك فقد أمضى لورانس ليلة
متعبة، بعد نقاش طويل مرير جرى في طقس بلغت درجة حرارته في الظل ١٢٠ درجة، فض ً لا عن أن الظل
كان "عبارة عن حصار من أسراب الذباب".
وفي اليوم التالي وصل ابن شقيق عودة، المدعو زعل، ليلتحق، بقوات لورانس . وبعد تمثيل دور ماهر في
تفريق القبائل بعضها عن بعض، تمكن لورانس من انتزاع وعد من القبا ئل بتأييدها شريطة أن يبعث فيصل
ممث ً لا يؤمن لها استقلالها عن عودة.
وقد تم تنفيذ ذلك، وإن كان تنفيذه أرغم المسكين لورانس على العودة إلى العقبة، ليطلب إلى الأمير فيصل أن
يرسل معه مبعوثًا إلى قبائل "رم".
وفي السادس عشر من شهر أيلول، توجه رجال القبائل والمغير ون معًا، نحو "المدوّرة"، غير أن تلك القوة
كانت قوة غير متماسكة، وقد اندفعت من "رم" يحدوها الطمع بالنهب أكثر من أي حافز آخر.
وقد اشتبك زعل، ومبعوث الأمير فيصل، وكان يدعى "الشيخ عبد الله" في مناقشة حادة مع أفراد القبائل، غير
أنهما فشلا في إقناعهم إقناعًا تامًا.
ولولا دبلوماسية لورانس التي استعملها خلال الأيام الأولى من الزحف، لما أمكن ايجاد نوع من التجانس بين
أفراد القوّة، وخاصة عندما ضربوا خيامهم في تلك الليلة، بعد أن أصبحوا على مرمى البصر من الهدف الذي
يقصدون إليه.
وقد أفادت فرقة استطلاع أرسلت بعد حلول ا لظلام، أن المحطة محروسة بشكل يزيد كثيرًا على ما كان
يتوقعه العرب، وأنهم بما معهم من قوات قليلة سيبدون أقل عددًا، وبشكل هائل، من الأتراك الذين يرابطون في
المحطة.
ولذلك قرر لورانس أن يتجاهل المحطة بالذات، على أن يجد مكانًا ما على الخط الحديدي لوضع لغم تحته
ونسف أول قطار يأتي من أي اتجاه.
وقد ساعدهم الحظ في العثور على جسر للسكة الحديدية، يمكنهم أن يضعوا تحته اللغم بحيث يحدث أقصى ما
يمكن من دمار، وحيث يشكل مخبئًا رائعًا للهجوم على الأتراك، بعد أن يتبعثروا، إثر نسف القطار.
ثم إنه تولى لورانس وضع المتفجرات، بي نما تولى "لويس" و"ستوكس" نصب المدافع السريعة الطلقات ومدافع
المورتر على أطراف الصخور التي تشرف على الطريق.
٩٩٤٤
وحوالي الظهر، من اليوم التالي، صاح أحد رجال الحرس من مركز حراسته الواقع في أعلى قيادة لورانس،
مبلغًا إياه أن ثمة قطارًا يقترب، فأمر لورانس كل رجل با ستلام مركزه، وانتظر حتى وصلت القاطرة فوق
الجسر مباشرة، قبل أن يوعز إلى "سالم"، أخلص عبيد فيصل، الذي أولك إليه شرف ضغط زر التفجير.
ودوى إثر ذلك انفجار . ولم يعد القطار ولا الخط الحديدي يريان، بعد أن غطتهما سحابة كثيفة من الدخان
والغبار الأسود. ثم تبع ذلك صوت ارتطام الحديد بالحديد وقرقعة اخشاب العربات.
ثم اعقب ذلك لحظة صمت مروعة، بعدها أطلقت الشياطين من عقالها . إذ أن البنادق السريعة الطلقات التي
كانت مع فوات لورانس بدأت تلعلع، وراح البدو يطلقون النار بفرح غامر متخذين من القطار المسكين هدفًا
لنيرانهم، بينما كان الأتراك يتدفقون إلى أسفل بالسرعة التي قذفوا بها من عربات القطار.
ثم الأتراك يتدفقون إلى أسفل بالسرعة التي قذفوا بها من عربات القطار.
ثم تمكن "لويس" بقذيفتين من مدافعه المورتر، أن يسكت آخر مقاومة لمن نجا من الأتراك، وكان بعضهم قد
حاول القيام بهجوم مضاد من وراء الصخور.
أما الذين نجوا من قذيفتي المورتر، فقد عمدوا إلى الفرار، وانقض البدو على القطار واعملوا فيه يد النهب
والسلب، حتى أنهم لم يتركوه إ ّ لا وقد أصبح بددًا مبعثرًا هنا وهناك. وقد كتب لورانس يقول:
"كان الوادي غريب المنظر، أما الأعراب فقد جّنوا سرو رًا، وراحوا يتراكضون في أرجائه بأقصى سرعة
لديهم، حاسري الرؤوس . شبه عراة، يصيحون في الهواء ويضرب بعضهم بعضًا بالأيدي والأرجل، بينما هم
يغيرون على عربات القطار، ويعودون محملين "بالبالات" الثقيلة التي كانوا يكوّمونها على جانب خط السكة
الحديدية، ويقذفون بكل شئ لا يرون فيه منفعة لهم … كانت هنالك آلاف السجاجيد والفرش والبطانيات حتى لقد
كانت ترى اكوامًا عالية، وملابس للرجال والنساء على حد سواء ومن مختلف القياسات، وساعات وأدوات
طهو، ومواد غذائية، وحلي، وأسلحة، وقد حمل كل منهم أقرب جمل إليه بكل ما وقعت عليه يده ثم قا د الجمل
نحو الغرب، ليأخذ ما تقع عليه يداه. وكنت أنا أشجعهم على ذلك".
ومرة أخرى كما حدث في أبي لسان عندما أباد العرب الأتراك، ونهبوا مخلفاتهم، أدار لورانس ظهره
لما يجري، ثم سار إلى حيّث سقط آخر المدافعين الأتراك، وراح يضع الخطط لإعادة تنظيم قوّاته.
وكما ثارت الضجّة فجأة، هدأت فجأة كذلك، وخيّم صمت عميق على الوادي، وتطلع لورانس حوله ليجد انه
وزعل، واثنين برتبة جاويش، وحدهم مع عدد من الأسرى الذين نجوا من المعركة.
أما البدو فقد اختفوا في الصحراء بما حصلوا عليه من غنائم، وفيما كانوا يغ ّذون السير عائدين إلى العقبة،
لاحقتهم دورية تركية قدمت من "المدورة" لتتعقب المهاجمين، ولكنهم نجوا منها بأعجوبة.
ولما عاد لورانس إلى معسكر قوات فيصل لم يكن يعرف بين البدو بالرجل القادر على جلب الذهب والأسلحة
بكميات لا حصر لها لقوات الشريف، بل كقائد غارة وقرصان صحراء، وزعيم عصا بات لا تعرف للحزن
معنى، وكرجل كان مجرد ظهوره في معسكر عربي يقابل بصيحات الترحاب والفرح "لورانس ….
لورانس….".
٩٩٥٥
وكذلك كان منظر جنوده من البدو وهم عائدون مع جمالهم التي كانت لا تكاد تقوى على السير لثقل أحمالها
من الغنائم، التي كانت تفكي لإثراء قبيلة بأسرها، وقد أثار هذا حسد بقية قوات جيش فيصل.
ثم انه انتشرت أخبار نسف جسر "المدورة" والاستيلاء على الغنائم من القوات التركية انتشار النار في الهشيم،
ووصلت إلى مختلف انحاء الصحراء، وإن كان تلك الأخبار لم تنقل على الدوام بشكل دقيق.
وهنا بدأت ألسنة نيران الثورة تندلع من جديد، بعد أن خبت إثر احتلال العقبة، كما أن اولئك الذين لم يمتثلوا
لرسالة فيصل، قد تأثروا جدًا للقصص التي تروى عن مغامرات قواته، تلك القصص الغريبة التي كانت تنشر
من معسكر فيصل بالذات.
وأدرك لورانس أهمية هذا المصدر الجديد من مصادر التشجيع، فقرّر القيام ب غارات جديدة على خط سكة
حديد الحجاز . ولما كان قد مل مساومات القبائل البدوية في الشمال، فقد حوّل نشاطه إلى قطاع معان، وتمكن
خلال الأشهر الأربعة التي تلت من أن يدمر سبع عشرة قاطرة ومئات من العربات والشاحنات.
وكانت تلك ضربة قوية للأتراك، إذ أنها أثرت عليهم ما ديًا ومعنويًا، فأعلن سائقو القطارات الإضراب،
وتوقفت المواصلات المدّنية بين دمشق والحجاز، أو كادت تتوقف، وأصبح السفر خطرًا غير مأمون العواقب
للأعداء.
وبات من جراء خسارة العدو لمخزونه من المؤن والمعدات، صعبًا عليه أن ينقل قواته في المدينة لدعم قواته
في فلسط ين، وراح يجمّع فلوله حول القدس، في الوقت الذي أصبحت فيه الجيوش البريطانية آخذة في التجمع
للقيام بهجومها العام الذي أصبحت فيه الجيوش البريطانية آخذة في التجمع للقيام بهجومها العام الذي جرى في
شهر تشرين الثاني.
وهكذا ما إن وصلته في منتصف شهر تشرين الأول أنب اء تفيد بأن اللنبي يريد أن يدرس دور الجيش العربية
في خطة الهجوم على غزّة، حتى أسرع لورانس إلى مقر القيادة العامة، يكاد يطير فخرًا لما حققه من منجزات.
[align=center]  [/align]
-
الفصل السادس عشر
شمالا نحو الازرق
مرة أخرى دخل لورانس إلى مكتب الجنرال اللنبي، مرحًا كطائر السنونو، وهو يرفل في ثيابه العربية.
ولكن الجنرال اللنبي لم يكن في هذه المرة في حالة تسمح له بأن يدع زائره يضيع الوقت سدى، فقد كان لدى
القائد العام من الأعمال الجدّية الشئ الكثير، واستنادًا إلى ذلك فإن أوقاته كانت محددة بكل دقة.
ولذلك فقد طرق الموضوع مباشرة، وسأل لور انس عما قصد بغاراته على خط السكة الحديدية، وما إذا كانت
هذه الغارات تعني أشياء أخرى غير الدعاية لقضية فيصل.
وقد فجرت هذه الاسئلة غير المتوقعة كبرياء لورانس، فدفعته إلى ان يجيب بشكل مباشر أن غرضه كان إبقاء
خط الحجاز عاجزًا عن العمل بحيث تبقى قوات "فخري" في المدينة حيّث "يمكن إطعامها بتكاليف أقلّ مما لو
سجنت في القاهرة".
٩٩٦٦
ولكن هذا الجواب لم يعجب اللنبي الذي كان يفكر في أسباب أفضل … فقد كان يريد خطة لثورة عربية عارمة
جامعة في الشمال، عندما يشن هجومه على خط غزة بئر السبع.
وتلقى لورانس هذا الاقتراح بقليل من ا لأهمية، فقد كان يعرف ان من الجائز أن يستولي على "درعا" التي تقع
بين دمشق وعمان، وذلك بمساعدة القبائل البدوية المحّلية . وكانت درعا، كما صوّرها هو، "القاعدة الرئيسية
للقوات التركية في سوريا".
ونظرًا لأنها نقطة الاتصال بين الخطوط الحديدية المؤدية إلى القدس و حيفا ودمشق والمدينة، فهي والحالة هذه
النقطة الحساسة بالنسبة لكل جبهة.
كما أن لورانس كان يعرف أن القبائل في تلك المنطقة، كانت تعتبر من خيرة المحاربين، وممن تثقفوا
وتسلحوا من قبل فيصل اثناء وجودها في العقبة، والشئ الأهم من ذلك أن زعماء تلك القبائل كانوا يلحّ ون على
فيصل ليأمرهم باحتلال درعا.
ومع ذلك فقد تردد لورانس، وبعد فترة من التفكير رفض مقترحات اللنبي . وكان السبب الذي شرحه فيما بعد
معل ً لا به هذا الرفض، هو شعوره بأنه لم يكن بمقدوره أن يتأكد من نية الجيش البريطاني وقيادته "غير المدربة "
في القيام بهجوم ناجح على غرة، وأنه طالما كانت القبائل مستعدة للثورة مرة، فإنها تتطلب منهم القيام بمخاطرة
كبيرة جدًا.
والحقيقة أن السبب الأصح، كما شرح ذلك هو نفسه، "هو أنه اعتبر القيام بهذه المغامرة" بمثابة دمار محقق
لمشاريع اللنبي، وليست بالمخاطرة التي قبل فيصل القيام بها إ ّ لا إذا كان لديه الأمل في أن يركز نفسه هناك".
ولم يكن لورانس يريد أن يحتل درعا أحد غير فيصل، فقد كان فيصل، هو مرشحه لاعتلاء عرش سوريا
ولتحقيق أحلامه في العالم العربي.
وقد علق لورانس على زيارته لمقر القيادة العامة، بأنه شعر بنفسه يكاد يتمزق بين سيديه، فيصل واللنبي،
وقال: إن هذا الشعور لم يكن قد انتابه لأول مرة.
غير أنه كان من الواضح أن لورانس كان يسعى منذ عدة أشهر لتفادي الاصطدام مع الأمير، وأنه على
استعداد للتضحية بمصالحه في سبيل ارجاح كفة أي شخص آخر على كفة فيصل.
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مصالح ف يصل كانت تتفق ومصالح الحلفاء، وكان من حسن حظه أن يقود
الحملة ضد الأتراك، ولكنه ليس هنالك أدنى شك في أن لورانس لن يتردد بأي شكل من الأشكال في التضحية
بالربح الأكبر، الذي قد يحققه، بتنفيذ مطالب الملك البريطاني الذي اختاره هو ولعله كان يبرر موقفه هذا
بسبب ما لأنه كان يعلم أن الحلفاء سيضحون بفيصل، حالما تنتهي خدماته لهم.
وقد اقترح لورانس كحل وسط، ومن أجل إبقاء اللنبي مخلصًا لقضية العرب، أن يقود بنفسه جماعة من
الفدائيين لنسف جسر للسكة الحديدية على نهر اليرموك، بين درعا وبحيرة طبريا.
ومن الطبيعي أن يحتاج تن فيذ هذه الخطة إلى قطع مسافة تزيد على أربعمائة ميل، وراء خطوط الأتراك،
ولكن، إذا أمكن نسف الجسر، فإن وسيلة المواصلات الوحيدة للأتراك بين قواعدهم في الشمال وفلسطين،
ستع ّ طل، ولمدة أشهر، إذ أن تخريب الجسر سيحدث فجوة عريضة لا يمكن إعادة إصلاحها إ ّ لا بصعوبة بالغة.
٩٩٧٧
وقبل اللنبي الاقتراح، وأوعز إلى لورانس بأن ينفذه بأسرع وقت ممكن، إذ أنه يريد للجسر أن ينسف بعد أيام
قلائل من هجومه العام الذي كان يعتزم القيام به في الأسبوع الاول من شهر تشرين الثاني.
وهكذا اتخذت التدابير اللازمة للغارة بسرعة، ووافق فيصل على إيفاد علي بن الحسين محل الشريف ناصر
الذي لم يكن موجودًا وقتذاك، وعين أحد شيوخ قبيلة حارث يدعى عليًا، كان قد اشترك مع فيصل في الأسر في
دمشق، نظرًا لخبرته الواسعة في أعمال النسف والتدمير.
وكان الشيخ علي معروفًا بشجاعته وحبه لركوب الأخطار، وكان قد حقق للقوات العربية عدة انتصارات على
الاتراك، كما أنه كان يستطيع النهوض وهو راكع، رغم أن رجلين يقفان على كفتي يديه، ثم يركض وراء جمل
شارد مسافة نصف ميل، ثم يقفز فجأة إلى الهودج.
فهو والحالة هذه الرجل المناسب لمغامرة اليرموك الخطرة . وفض ً لا عن ذلك كان قريبًا إلى زعيم قبيلة بني
صخر التي يتم على المغيرين أن يمروا عبر أراضيها.
وكانت خطة لورانس تقضي بالتوجه إلى الأزرق التي تبعد مسافة مائتين وخمسين مي ً لا إلى الشمال الشرقي
من العقبة، لكي ينشئ قاعدة له هناك يشن منها هجومه على الجسر، حالما يتأكد من حصوله على التأييد الكافي
من القبائل المحليّة.
ولكن الأمر كانت تعترضه بعض المصاعب، فقد كان من المحتمل أن تقبل قبيلة " السيراحين" التي تقطن حول
الأزرق بالتعاون مخلصة مع الحلفاء، كما أفادت آخر التقارير التي وردت من المنطقة، غير أنه لم تكن هنالك
أية ضمانات بالنسبة للقبائل الأخرى التي تقطن حول ال هدف الذي كان يبعد مسافة مائة وخمسين مي ً لا عن موطن
هذه القبيلة.
ثم إن قبيلة الرولا التي يرأسها نوري الشعلان كانت قد عادت إلى مقرها الشتوي الذي يبعد مسافة مئات
الأميال، كما أن جيرانهم من قبيلة بني حسن كانوا مجهولي العدد والامكانيات.
وبينما كان لورانس يفكر في هذه المشكلة، حدثت مفاجأة أوحت إليه بالحل . فقبل أن تبدأ حملته ببضعة أيام،
متحركة من العقبة إلى هدفها، وصل أمير جزائري، هو الأمير عبد القادر الجزائري "الحفيد " لينضم إلى
فيصل.
والجدير بالذكر أن عائلة الأمير عبد القادر لها سجل حافل في ميدان النضال من أجل استقلال العرب، فقد
دافع جده عن الجزائر ضد الفرنسيين، كما أن شقيقه استشهد مؤخرًا بأيدي الاتراك.
وكان هو كشقيقه الشهيد، يعيش في المنفى بسوريا، بعد أن هرب إليها إثر مغامرات خيالية . أما بالنسبة إلى
لورانس، فقد كان يعتبره نصف مجنون، كما أن قصة هربه لم ترق إلى درجة تجعله يصدقها.
وقد تبين فيما بعد أن الأتراك كانوا يستخدمونه عميلا . ولكن فائدة كانت تكمن في الوعد الذي قطعه على نفسه
بتأييد زملائه الجزائريين الذين يعيشون في منفاهم الواقع في وادي نهر اليرموك.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن فيصل، وهو المعروف بتعقله، كان يعتقد بأنه مخلص له. ونظرًا لأن الدليل الوحيد
على خيانته جاء من "بريمون" الفرنسي فقد قرر لورانس أن يعتبره ذلك الدليل دعاية فرنسية مغرضة،
فاصطحبه معه في تلك المغامرة.
٩٩٨٨
وكان ذلك خطأ فاحشًا، كما أثبتت الأحداث، إذ أن عبد القادر تخلى عن رفاقه في أحرج اللحظات دون أن
يفعل أي شئ لمساعدتهم، وإن كان قد فعل الكثير لقلب خططهم رأسًا على عقب.
وغادرت الحملة مدينة العقبة في الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول.
وبالإضافة إلى الشيخ علي وعبد القادر، كانت تضم ضابطًا بريطانيًا متخصصًا في أعمال العمار يدعى
"وود"، كما أنه متخصص في أع مال النسف، كما تضم بعض حرس لورانس الخصوصيين الذين بلغ عددهم
وقتئذ سنة، وعددًا من حملة البنادق السريعة الطلقات من سلاح المشاة في الجيش الهندي.
وقرّر لورانس أن يعتمد على حمايتهم بفضل من يستطيع استمالته من البدو المقيمين حول الأزرق، لتغطية
نسف الجسر، بدلا من اتعاب نفسه مع عدد كبير من البدو في مسيرته الطويلة نحو الشمال.
وقد سارت الأمور منذ البداية خاطئًا، فقد أصيب "وود" بمرض "الديزانطاريا" إثر تسممه من رصاصة كان قد
أصيب بها في فرنسا . كما أن عليًا وعبد القادر تخاصما، ولم يمنع أحدهما من قتل الآخر إ ّ لا سهر لوران س
ويقظته.
وكذلك فإن الهنود كانوا غير أكفاء لقيادة الجمال . وبينما كانت الحملة تسير جنوبي خط سكة حديد الحجاز وفي
موقع جنوبي معان، وبينما كانت في طريقها إلى معسكر عودة، قابلتها دورية تركية لم يكن ظهورها متوقعًا،
فاضطرت الحملة للاختباء، وبذلك تأخر موعد وصولها إلى الهدف.
والأسوأ من هذا كله، انه يوم عثر افرادها على معسكر عودة الشتوي قرب "الجفر" وجدوا الشيخ عودة قد
انقلب عليهم، وانضم إلى شيوخ قبيلة "الحويطات" ورفض طلب لورانس بأن ينضم إليه في حملته تلك، إ ّ لا إذا
دفع له مبلغًا كبيرًا من المال.
وكذلك رفض زعل الانض مام إليه، وعلل لورانس هذا الرفض بأنه قد أثرى بعيد الغارة التي قاموا بها في
الصيف.
وفي غمرة من يأسه من جراء هذه النكسات، والأخطاء، وأهمها أنه يضم بين رجاله عميلا للاتراك، في رحلة
محفوفة بالأخطار، اندفع لورانس نحو آبار "باير" ليجرب حظه مع أقارب علي من قبيلة بني صخر.
وبعد لحظات قليلة من تحركه تناهى إلى مسامعه صوت انفجار هائل يأتيه من بعد، فصاح بفرح بالغ، وأدار
جمله، قائلا إن حملة اللنبي قد بدأت، وأن الأتراك لا بد وأن يكونوا الآن يتقهقرون أمام نيران المدفعية
البريطانية.
وقد انضم الشيخ علي إليه بشكل تلقائي، و شاركه فرحه، ولكن ما إن ابتعد لورانس عن النظر، حتى همس
عبد القادر في أذن علي قائلا: "لا داعي للفرح… إن لنا اخوانًا مسلمين يموتون الآن بقنابل الكفرة ومدافعهم".
واحتفظ الشيخ علي بصمته، ولم يقل كلمة واحدة إلى لورانس عن تعليق الزعيم الجزائري، فقد كانت الأمور
حتى تلك اللحظة تسير من سيئ إلى أسوأ، ولكنهم سرعان ما وصلوا إلى أصدقاء لورانس، حيّث وجدوا منهم
التأييد المخلص.
والحقيقة أنهم ما إن بلغوا "باير" بعد أسبوع من تحركهم من العقبة، حتى بدا أن حظهم قد أخذ يتغير، فقد
استقبلوا هناك استقبالا ودّيًا من قبل افراد قبيل ة بني صخر الذين خرجوا لاستقبالهم تسبقهم صيحات الفرح، ولعلة
٩٩٩٩
طلقات البنادق في الهواء، والدعاء إلى الله بأن يمنح القوة للشيخ علي وزميله لورانس، حتى يخلصاهم من
اخطار ظالميهم، القادة الأتراك.
وقد أثار المنظر حسد عبد القادر الذي حاول عبثًا أن يلفت إليه الأنظار، عندما جلس متجهمًا في خيمة زعيم
القبيلة أثناء حفلة العشاء التي تلت غروب الشمس.
وكلما ازداد الترحيب برد الفعل لمدافع اللنبي، كان عبد القادر يزداد قنوطً ا. ولم تتحسن حالته، عندما تحركت
الحملة في صباح اليوم التالي متجهة "نحو الأزرق "، برفقة الشيخ "مفلح" شيخ بني صخر الذي كان مضيفهم في
الليلة السابقة مع عشرين من أخلص رجاله المحاربين.
وكان واضحًا أن الأمير الجزائري كان يضمر الخلف، ولذلك كان لورانس والشيخ علي لا يكفان عن التفكير
أثناء تحرك الحملة شمالا. ولم يكن يمنع وقوع الاصطدام بين علي وعبد القادر إ ّ لا تقاليد الصحراء.
ورغم أن عليًا لم يكن يثق بزميله عبد القادر إ ّ لا أنه استطاع أن يسيطر على أعصابه وأن يعتبر الأمير
الجزائري رفيقه في السلاح.
وكان هذا الاعتبار كافيًا لاحترام ذلك الرفيق، حتى تنتهي المعركة، وعندها يتحلل من تقاليد الصحراء التي
تمنع الاعتداء في مثل تلك الظروف، والتي تمنع حتى مجرد الشك من أن يرقى إلى مرتبة التأكد، وتمنع الرفيق
من أن يجرد سيفه في وجه رفيقه الذي يشاركه المصير في معركة خطرة، غير معروفة النتائج.
[align=center]  [/align]
-
الفصل السابع عشر
فشل في اليرموك
تمخضت الأيام الأربعة التي تبقت على الزحف نحو الأزرق، عن مزيج من ا لتطورات، كانت في معظمها
سيئة.
فاذا ما أردنا أن نذكر الحسن منها، فإننا نقول إن شيخين من قبيلة "زبن صخور" قد انضما إلى لورانس. وهما
"فهد" و"غضوب".
وكان هذان الشيخان أخوين ومحاربين شجاعين . وكان "فهد" بطبيعته رج ً لا صامتًا متجهم الوجه، له عينان
براقتان، وذلك على نقيض شقيقه "غضوب" الذي كان كثير الضجة ويتمتع بأنف ضخم، وعينين ضيقتين،
تنتقلان بجشع من هدف إلى آخر.
ثمّ، وعندما كانوا على وشك الوصول إلى "الأزرق" التقوا بعدد كبير من أفراد قبيلة "السيراحين" الذين كانوا
في طريقهم للانضمام إلى قوات فيصل.
وبدا ان هذا الل قاء ضربة حظ موفقة، لأن أفراد قبيلة "السيراحين" كانوا يعتقدون بأنه يتحتم على لورانس أن
يقود جماعته إلى الأزرق على أن يتولوا هم حراستهم.
غير أن هذه النيات ما لبثت أن اتضحت، إذ أن أفراد قبيلة "السيراحين" بعد أن انتهوا من وجبة العشاء، كشفوا
عن خطتهم، على لسان زعيمهم، وهو شيخ أدرد يدعى "مطير"، قال بأن الجسر لا يمكن نسفه، وذلك لسبب
واحد بسيط، هو كون المنطقة مكتظة بالأتراك.
١١٠٠٠٠
كما أنه أوضح بأنه لا يثق بالقرويين الذين يقطنون بالقرب من تلك المنطقة أي زملاء عبد القادر في
المنفى.
ووجد لورانس نفسه في ورطة كبرى، فلو أ ن أفراد قبيلة "السيراحيون" بقوا في يامهم ولم يتقدموا لمساعدتهم
لخذل بذلك خطة اللنبي خذلانًا شنيعًا وأحبط خطة بريطانيا في مساعدة فيصل في المستقبل، ولذلك استدعى كلا
من "علي" وفهد" و"مفلح" و"غضوب" ليدعموا جهوده في إقناع "مطير" وبقية شيوخ قبيلة "السيراحين" لمساعدتهم.
وقد كتب لورانس يقول : "لقد شرحت لهم الأمر شرحًا ليس بالموجز، ولكنه كان شرحًا مفص ً لا، وأفهمتهم بأن
مغامرتهم قد تعني فقدانهم لأرواحهم كما قد تعني الحياة الرغيدة لهم جميعًا، وقلت لهم إن عليهم أن يتحملوا
الكثير من الألم، وأنه من الجائز ألا يوفقوا في تق دمهم ولا في تقهقرهم، وقد يقتلون عن بكرة أبيهم، فاذا شاؤوا
التحقوا به والا بقوا حيّث هم".
وفي نهاية الجدال الطويل الذي جرى آنذاك، تبين أن شيوخ القبيلة كانوا محرجين، ولعلم خجلوا من تأجير
أنفسهم للجماعة المغيرة، فقرر لورانس ألا يضيع مزيدًا من الوقت، وبعد أن أمضى ليلة راحة، وسط ما تبقى
من آثار القلعة الصليبية في الأزرق، مضى قدمًا نحو هدفه.
كان هجوم الجنرال اللنبي قد بدأ منذ خمسة أيام، ولذا كان على لورانس أن يعجل ما أمكن، إذا ما أراد تنفيذ
الخطة المقررة.
وقيل بضع ساعات من تحركه، اكتشف أن عبد القادر قد اختفى . ونظرًا لما كان واضحًا من ميله إلى
الأتراك، ومن سلوكه اثناء المسيرة باتجاه الأزرق، فقد تأكد لدى لورانس أن عبد القادر هذا قد ذهب ليحذر
الأتراك، ويحدثهم بالخطة المبيتة.
ولذا فقد عقد هو اجتماعًا فوريًا مع كل من علي وفهد، ليطلعهما على ما تطورت إليه الأوضاع.
غير أن هذين كانا عنيدين، وليس من السهل إقناعهما، لذلك قرر لورانس، بعد مناقشة غير مجدية، أن يقامر،
عله يستفيد من تأخر الأتراك في القيام بعمل ما.
وقد ساروا مسافة الثمانين ميلا المتبقية إلى هدفهم بصعوبة فوصلوا إليه قبل فجر اليوم التالي، أي خلال ثلاث
عشرة ساعة من تحركهم.
ثم اتخذ لورانس الاستعدادات النهائية للخطوة الأخيرة من هجومهم، ولكن اختفاء عبد القادر افقده السيطرة
على أعصابه، ولولا تصميمه على ألا يقل جرأة على هذا العنيد علي لما واصل العمل.
وقد اختار أسرع الجمال وأحسن المقاتلين من الرجال من قبيلتي بني صخر والسيراحين، وقرر مهاجمة
الجسر بهدوء، قبل بزوغ الفجر، مصطحبًا معه جماعة صغيرة، على أن يهرب الجميع فور أن يتم نسف الجسر
عبر التلال. وأن يعودوا بأسرع ما يمكنهم إلى الأزرق.
ولكي ينفذ هذه الخطة، كان عليه أن يعمل بشكل مباغت . وعلى الرغم من انهم قابلوا دوريتي ن من الأتراك
اثناء الطريق، إ ّ لا أنهم استطاعوا الاختفاء . وأصعب ما صادفهم من عقبات كان ممثلا في أحد الرعاة الذي أخطأ
التقدير فظن أنهم خارجون على القانون، ويريدون سرقة أغنامه، فأطلق عليهم نيران بندقيته، ولما وصلوا إلى
١١٠٠١١
الجسر في "تل الشهاب " تحت وابل من المطر، ل م يظهر رجال الحرس الأتراك أية بادرة يمكن أن يستدل منها
على أن عبد القادر قد خان جماعته، وأنه قد انذرهم بالهجوم المرتقب، ليعدوا العدة لمواجهته.
هذا وقد قام رجال المشاة الهنود المزودون بالبنادق السريعة الطلقات، والبدو الذين يحملون المتفجرات، بانزال
حمولتهم بكل حذر وهدوء عن ظهور الجمال المتعبة، وكان الصوت الوحيد الذي يسمع في تلك الليلة التي لا
قمر فيها، هو خرير مياه النهر، الذي كان يتدفق على مسافة مئات الأقدام تحتهم.
وتولى "وود" مسؤولية الاشراف على الهنود الذين أوكل إليهم مهمة حراسة لورانس وعلي وفهد فيما هم
يتولون بث الألغام تحت الجسر.
ومما هي إ ّ لا لحظة، حتى كانت فرقة النسف تتحرك منحدرة على الصخور، لتصل إلى حيّث تقوم أعمدة
الجسر، وتبدو واضحة أمام العين المجردة.
وشاهدوا قبل ياردات قليلة من بلوغهم هدفهم حارسًا تركيًا، يروح ويغدو على الجسر الحديدي، وهمس
لورانس إلى فهد بأن ينتقل إلى موقع آخر، يمكنهم أن يبثوا ألغامهم منه دون أن يراهم الحارس.
ثم … وما إن بدأ الإثنان بالتسلل، حتى ألقى أحد البدو، وكان يحمل المتفجرات، بندقيته.
وفور ارتطامها بالصخور، اطلق الحارس التركي نفير الخطر، وراح يطلق نيرانه في الإتجاه الذي صد ر عنه
الصوت. ولما أصبح البدو في مركز حرج، اضطروا إلى الرد على النار بالمثل، بعد أن خرجوا عن مخابئهم
وراء الصخور.
وانتبهت نقطة الحراسة التركية إلى تبادل إطلاق النار، فهب رجالها يركزون نيرانهم على البدو، الذين ما إن
رأوا الرصاص يتساقط بالقرب من أكياس "الجلنجايت" التي معهم، حتى القوا بأنفسهم في النهر خشية أن ينفجر
ما يحملونه من متفجرات، ويقضي عليهم . ولم يكن هنالك ما يمكن عمله غير الهرب بأقصى سرعة ممكنة،
فأخذ البدو يتسلقون التلال، الشديد الارتفاع، حتى تمكن لورانس وبقية أفراد جماعته من الالتحاق ببقية الفرقة
الرئيسية التي ما إن اجتمعوا بأفرادها حتى ساءت الأمور أكثر فأكثر.
إذ ان الحملة قد فشلت . واثناء العودة، حدث أن بعض أفراد قبيلة "السيراحين" لم يعجبهم فشلهم في الاستيلاء
على الغنائم فهاجموا جماعة من القرويين كانوا عائدين من درعا وسلبوهم ما يحملون من أمتعة، الأمر الذي
حدا بالبدو الآخرين أن يهبوا للانتقام، وخاصة أولئك الذين كانوا يقطنون الأماكن المجاورة للمكان الذي وقع فيه
الحادث. وهذا ما جعل موضوع تراجعهم صعبًا وشاقًا….
وكانت اصوات قنابل مدافع اللنبي ما تزال تدوي وراء صفوف الأتراك، فكانت، وهي تتناهى إلى مسامع
لورانس من الجهة الجنوبية تزيد من تألمه لما أصابه من فشل في محاولته تلك.
ولقد كان للمحاولة التي قاموا بها للتنفيس عن حدة غضبهم، بنسف قطار اثناء عودتهم، أثر هزيل في رفع
معنوياتهم، فقد قام لورانس بوضع حقيبة من "الجلنجيات" تحت قضبان السكة الحديدية بمساعدة زملائه من
العرب، واخذوا ينتظرون مقدم القطار، ولكن سوء الحظ كان ما يزال يلازمهم، إذ أنه عندما ضغط على الزر،
لم يتفجر اللغم، ومر القطار بسلام.
١١٠٠٢٢
وكان ذلك القطار مليئًا بالقوات التركية الذاهبة لدعم الجبهة في فلسطين . وعندما مر القطار أدرك لورانس
فجأة، أنه أصبح مكشوفًا لقوات العدو التي كانت تتطلع إلى جماعته بواسطة المنظارات المقرّبة.
ونظرًا لأنه كان يتوقع أن ينجح في تفجير اللغم، فقد أهمل تغطية جماعته، ولكي ينقذ نفسه من مزيد من حب
استطلاع العدو، راح يلوح لهم، رغم استغراب العرب الذين كانوا يقبعون في مخابئهم وراء الصخور.
ولما عاد وانضم إلى الشيخ علي ومفلح، واجهاه بالاتهام بأنه تعمد ترك القطار يمر بسلام، وأخذ العرب
يهزون رؤوسهم، ويتحدثون عن "العين الشريرة " التي أصابتهم . ولما انتهرهم لورانس على سوء ظنهم، ثاروا
عليه، وهاجموه بعنف، ولكن عليًا دافع عنه بنبل، رغم أنه كان يرتجف من حمى أصابته، حتى أصبحت حالته
لا تطاق، وخاصة في البرد الذي كان يطغى على المنطقة، واستطاع أن يهدئ من سورة غضب العرب،
وتمكين لورانس من التقاط أنفاسه ليعود ويضع المتفجرات بشكل صحيح.
وبعد أن وضع المتفجرات في مكانها الذي اختاره لها، جلس لورانس ينتظر قدوم الق طار التالي، ومن حسن
الحظ أن القطار التالي كان هدفًا ممتازًا، تجره قاطرتان ويقل عددًا من الجنود بينهم جمال باشا نفسه الذي كان
مسرعًا للوصل إلى القدس للدفاع عنها في وجه تقدم اللنبي.
ولما ضغط على الزر، وقع انفجار هائل، فتحطمت القاطرة الأولى . ولكن لورانس وجد نفسه يحيط به سيل
عرم من الشظايا فضلا عن الرصاص الذي كان ينهال عليه من كل جانب، وأسرع عشرون من رجال بني
صخر لإنقاذه.
وعلى الرغم من أن سبعة منهم قد قتلوا برصاص الأتراك، إ ّ لا أن الباقين تمكنوا من سحبه إلى نقطة أمينة .
ولما تأكد للورانس أن قواته لا تستطيع مواج هة قوات جمال باشا، قرر الانسحاب مع من وقع من رجاله في
المعركة، بما فيهم فهد الذي كان قد أصيب بجرح بليغ في وجهه.
واذا عاد لورانس إلى خرائب الأزرق المعمورة بالجن، تردد في العودة إلى اللنبي، وأقر بفشله . وعلى كل،
فقد حدث نفسه قائ ً لا بأن المطر قد أخذ ينهمر مدر ارًا، ولا بد أن يتوقف هجوم البريطانيين، وعلى هذا، فإنه إذا
لم يكن ثمة من أمل في حدوث معركة في أية جبهة من الجبهات،، فلا أقل من أن يشغل نفسه في نشر الرسائل
التي تدعو إلى الثورة بين القبائل البدوية.
والواقع أنه كان مخطئًا، كما أن تقديراته الخاطئة كادت أن تف سد ما بينه وبين اللنبي، إذ أن القائد العام كان في
تلك الفترة بالذات يقوم بحركة بارعة حطمت الجبهة التركية، وفتحت أمامه الطريق إلى القدس.
وقد خدع الأتراك بهجوم مفتعل، فأوهمهم بأن القوات البريطانية محتشدة قرب غزة في الطرف الغربي من
الجبهة، ثم قام بهجومه الكب ير على أضعف نقاط القوات التركية، فأخذها على حين غرة، وتمكنت قوات المشاة
من البريطانيين من التقدم في فلسطين.
وقد ألبس "نيوكامب" نفسه ثوب فخار في هذه العملية، إذ أنه تمكن من إنشاء طريق تربط ما بين القدس وبئر
السبع ومنع تعزيزات الإمداد من التقدم، لدعم القوات التركية. كما تمكن بالاشتراك مع حفنة من الجنود، من
الاحتفاظ بموقعه ذلك مدة يومين، رغم هجومات القوات التركية العنيفة، حتى وقع أسيرًا بعد أن نفدت ذخيرته.
١١٠٠٣٣
وطبيعي ألا يكون لورانس مطلعًا على مجريات الأحداث، وهو مقيم في مقره في الأزرق، يتلقى مكالمات
هاتفية يومية ويستقبل وفودًا من شيوخ البدو المحليين وزعماء الدروز الذين كانوا يتوافدون من الصحراء
والجبال السورية لاستطلاع أنباء الثورة العربية . وكان لورانس لفترة من الزمن مقتنعًا بالدور الذي يقوم به،
والذي يتلخص في نشر الدعاية . وقد وجد بعد النشاط المحموم، والفشل المتواصل الذي مني به في الأسبوع
الماضي، أن هذه الحياة الجديدة تناسبه وتريحه، فانغمس فيها، مستمتعًا برفقة علي الذي كان بما يتمتع به من
قوة بدنية وشجاعة، وبما يتصف به من كبرياء فطري، من الرفقاء الذي يستحب المرء معاشرتهم.
ولكن لورانس بعد أسبوعين، أدرك بأن اللنب ي ربما كان محقًا في طلبه إحداث ثورة حول درعا، وكانت
اتصالاته اليومية مع شيوخ القبائل السورية قد أكدت له من جديد، أنهم على استعداد للقيام بأي عمل إذا ما بدأ
البريطانيون الزحف.
كذلك كان لورانس قد كسب تأييدًا مهمًا بانضمام "طلال الحرادين" إليه، وهو زعيم قبيلة عربية كبيرة تقطن
على بعد أميال قليلة من درعا.
وكان طلال هذا رجلا خارجًا على القانون، وضعت السلطات التركية ثمنًا لرأسه، نظرًا لأنه قتل ثلاثة
وعشرين تركيًا بيده، كما أنه كان يعرف المنطقة أحسن من غيره.
وهكذا وجد لورانس أن الفرصة قد حانت له كي يعاود هجومه على منقطة درعا ويحظر لتقدم الجنرال اللنبي،
وانه ليس هناك أفضل من طلال هذا القيام بدور الدليل في هذه المرحلة من المعركة
[align=center]  [/align]
-
الفصل الثامن عشر
أسر وتعذيب
أخذ لورانس وطلال يستكشفان الوضع في منطقة درعا . وبعد أن قام بجولة في القرى المحيطة بدرعا، قرر
لورانس أن يحتل درعا بنفسه، ولما كان طلال معروفًا تمامًا في المنطقة، فقد قرر لورانس أن يقوم بهجومه
بدونه، كيلا يكتشف أمره.
وما إن قطع صاحبنا بضع مئات من الياردات، حتى أوقفته دورية تركية، واتهمته بأنه هارب من الجيش
العثماني. ولقد حاول لورانس خداع الدورية بقوله إنه شركسي، وكان الشراكسة معفيين من الخدمة العسكرية،
ولكن الجزيرة العربية الجاويش أجابه بقوله: " إن ناهي بك يريد مقابلتك … تعال معي!.."
وعندما وصلوا إلى غرفة الحرس، أوضح ذلك الجاويش الغرض الذي يريد من أجله "ناهي بك " مقابلة
لورانس، فقد أوضح له أنه إذا ما اثبت كونه شر كسيًا، فسيترك وشأنه، والا فسيرسل إلى أحد معسكرات الأتراك
الخاصة بقوات المشاة.
ويؤخذ من مذكرات لورانس نفسه أنه قد سيق إلى بيت الحاكم، ثم أخذ مباشرة إلى غرفة نوم الحاكم . وهناك
أمر بالجلوس على الأرض.
وتولى أربعة من الجنود الاتراك جلد لورانس حتى أغمي عليه، و كان إذا ما أفاق من إغمائه تولى جندي آخر
جلده حتى يغمى عليه مرة أخرى وهكذا دواليك، وعندما سيق ثانية إلى "البيك" كان لحسن حظه رجلا غير
١١٠٠٤٤
صالح للتشرف بمحادثة "البيك" بعد أن اتسخت ثيابه بالدماء التي نزفت منه، وكان هم لورانس الأكبر وهو
يعاني ضرورة التعذيب ألا يظه ر للعدو أنه بريطاني، فأقدم على عض شفتيه، حتى لا تصدر عنهما أية
أصوات، ولكنه عندما أحس بتزايد ألمه لم يسعه إ ّ لا أن يشكو باللغة العربية، وأخيرًا لم يعد يحتمل العذاب فصاح
بالانكليزية قائلا: "ارحموا مرضي واجهزوا علي إن شئتم".
ولما انتهى الجنود من تعذيبه، سيق إلى غرفة مهجورة، حيّث وجد هناك ملابس للجنود الاتراك، فارتدى قسمًا
منها وانتظر حتى الفجر، ثم هبط من النافذة إلى الشارع المهجور.
ولكن ما هي حقيقة ما حدث في درعا؟ هل هي تلك التي كتبها لورانس أو أنه أخفى الحقائق بدافع خجله من
مواجهة الحقيقة؟ إن أحدًا ممن أرخوا حياة لورانس لم يجب على هذا السؤال، بشكل مرضي.
لقد نشر كل من "لويل توماس" و"ب. ه ليديل هارد" و"روبرت غرافس" و"ج. ب. فيلارز" ما دونه لورانس
دون مناقشة، أما ريتشارد ألدنجتون " الذي لم يكن يصدق الرواية، ولا ما جاء في كتاب اعمدة الحكمة السبعة
من ادعاءات عن ب طولات لورانس، فقد قال إن لورانس لم يقاوم في الواقع رغبة شاذة للضابط التركي، وأكد أنه
استسلم إليه مستشهدًا برسالة كان لورانس قد بعث بها إلى السيدة "جورج برنارد شو".
لكن "الدنجتون" كان كعادته يضلل قراءه، إذ أن هذه الرسالة توضح بكل جلاء أن لورانس قد قاوم رغب ة القائد
التركي في بادئ الأمر، ولكنه اضطر للاستسلام، لتفادي المزيد من التعذيب.
والانكليز يأملون ان يلد أحدهم ملكًا على كل حال . وثمة نظرية أخرى يسوقها "تيرينس راتيجان " في رواية
ألفها عن حياة لورانس، أدعى فيها أن لورانس نفسه كان صاحب مزاج جنسي شاذ، وأن الأت راك كانوا يعرفون
هذه الحقيقة عنه، واستنادًا إلى هذه النظرية، قدّر الكاتب، أن الأتراك، أو بصورة أوضح حاكم درعا، عرف
الطريقة التي يستطيع بواسطتها تدمير لورانس، فدمره، ظنًا منه بأن هذه التجربة الجنسية ستضع حدًا لنشاطه،
وبالتالي تنهي دوره في الثورة العربية.
وبعد أن قضى الحاكم وطره من ممثل بريطانيا، أطلق سراحه ليعود إلى أصدقائه العرب.
وعلى الرغم من أن التقاليد العسكرية التركية، كانت تتعارض مع إطلاق سراحه، رغم الجائزة التي كانت
مدفوعة للحصول على رأسه، وهي تتراوح بين عشرة وعشرين ألف جنيه، إ ّ لا أن الضابط أوضح بكل جلاء أن
الثمن المدفوع لرأس لورانس سيتضاعف ولا شك إذا ما قتل معنويًا، ولكنه إذا ما أطلق سراحه بعد أن هدمت
رجولته، فلن تكون لديه القوة أو حتى الرغبة في قيادة العرب في ثورتهم.
وليس من الضروري أن تكون كل هذه القصة صحيحة، بل لعل الأصح القول بأنها لا تستند إلى حقيقة وإنما
وضعت للتشنيع زورًا على الأتراك.
إذ أن لورانس سواء أكان أو لم يكن شاذا جنسيًا فلم تكن هنالك أية دلائل على أن الأتراك في درعا كانوا
يعرفونه، ولا انهم اشتبهوا في أمره، فالشراكسة مثل الأوروبيين بيض البشرة وزرق العيون، وفض ً لا عن ذلك
فإن القائد لو تعرف على جنسيته لما كان من الممكن أن يسمح له بالمغادرة، ولو أنه عرف شخصيته لما ترفع
عن المكافأة المعروضة لمن يلقي القبض عليه، ولو أنه كان يعرف شخصية سجينه لسمح لأحد الخصيان
١١٠٠٥٥
الأتراك على الأقل بقبض الجائزة، ولو كان أحد من جنوده يعرف شخصية لورانس لوشى بقا ئده ولكان قد
أعدم نتيجة خيانته للقضية التركية.
والحقيقة هي انه ما من رواية من هذه الروايات مؤكدة، ولذا فقد ظلت حادثة درعا غامضة، ولعل هناك سببًا
بسيطًا يبرر ذلك، وهو أن لورانس لم يخبر أحدًا طوال حياته بما جرى له في درعا، ولذلك فقد مات ودفن السر
معه.
وسنحاول في فصل أخير من هذا الكتاب أن نميط اللثام عن هذه الخفايا، التي كانت من غير شك هي السبب
الرئيسي في ما قام به لورانس بعد الحرب، وبعد انتهاء حملة الصحراء.
أما في الوقت الحاضر فنكتفي بالقول إنه مهما كانت التجربة التي مر بها، ومهما كانت فظاعتها، فإنها لا ري ب
قد احدثت نقطة تحول روحية في حياته، تغير على إثرها، بحيث يمكن القول إنه انقلب إلى شخص آخر . أقسى
وأعنف في معاملته ولأولئك الذين كانوا من حوله.
ولما عاد لورانس إلى الأزرق قرر بسرعة إ ّ لا يبقى هناك طويلا، وبعد أن ودع عليًا اصطحب أحد رجال
حرسه، وتوجها عائدين إلى العقبة . ولقد كانت رحلة جنونية، فقد كان المطر والبرد والثلج تصفعهم صفعًا
فتمزق وجهيهما وتشل أيديهما.
وكان لورانس قد أصابته حمى البرداء، وذلك كانت كل حركة من حركات جمله بمثابة عذاب له، ورغم ذلك
فقد كان رفيقه هو الذي تعب أولا، رغم أنه كان من اشجع وأقوى ا تباع لورانس، والذي تجاهل كل التماساته
للتوقف من أجل الراحة، وتابع السير.
وكتب لورانس يقول : "لقد وجدت نفسي أكاد انشطر إلى ثلاث شخصيات الأولى شخصية ذلك الرجل الذي
واصل السير بحكمة، موفرًا على جمله المتعب كل خطوة ممكنة، والثانية شخصية الرجل الذي لا يهمه إ ّ لا أن
يواصل السير مهما كانت النتائج، والثالثة شخصية الرجل المفكر الذي راح يتساءل عن السبب في بذل هذا
المجهود كله، وعدم الاستراحة لفترة قصيرة من الوقت.
أما كون الشخصية الثانية هي التي كانت مسيطرة عليه، فهذا أمر لا ريب فيه، لأنه كان يرغم نفسه على
تحمل ما لاطا قة للبشر عليه، حتى لقد بدا وكأنه يستعذب تلك اللحظة التي يسقط فيها منهوك القوى ومشلول
التفكير.
وكان يعرف بأن تلك اللحظة لم تعد بعيدة، ومع ذلك صمم على الوصول إلى العقبة، قبل أن يصيبه الانهيار
الذي كان لا مفر منه.
ولقد انهار لورانس بالفعل، فيما كان يهم بدخو ل المدينة عن طريق ذلك الوادي الذي قاد نهر الأردن ذات يوم
إلى البحر الأحمر، وكان ذلك في اليوم الثالث لمغادرته الأزرق.
وفي العقبة ابلغه "جويس" انباء نجاح اللنبي، وبعد خمسة أيام لم ينطق خلالها بكلمة واحدة، استدعي لمقابلة
القائد العام ليقدم تقريرًا عن أعماله.
١١٠٠٦٦
وما إن دخل مكتب اللنبي حتى بدأ يشرح له الوجه القاتم لاحتلال العقبة . ولكن كان من حسن حظه أن اللنبي
كان مشغولا جدًا بمتابعة حملته لاحتلال القدس، ولم يكن لديه متسع من الوقت للإصغاء إلى ما قاسه لورانس
من مصاعب قد لا يكون لديه مجرد علم بها.
وكذلك كان اللنبي من الحكمة بحيث لم يلمه على الفشل الذي مني به في اليرموك. وهكذا فبلاد من أن يطرد
ضابطه الصغير كما كان لورانس يتوقع طلب إليه أن يبقى بالقرب منه، ولما سقطت القدس في اليوم
التاسع من شهر كانون الاول، دعاه للاشتراك في الاحتفال بدخول القوات البريطانية، رغم أنه كما اعترف
لورانس "لم يفعل أي شئ لتحقيق هذا الانتصار".
[align=center]  [/align]
-
الفصل التاسع عشر
معركة في الطفيلة
بعد أن عاد لورانس إلى مقر القيادة، إثر انتهاء الاحتفالات بدخول القوات البريطانية مدينة القدس، درس
الخطط التالية مع اللنبي وأركان حربه . وكم كان سروره غامرًا عندما اكتشف أن القائد العام لمي فقد الأمل في
الثورة العربية، بل على العكس من ذلك كان متخمًا بالآراء حول الطرق التي بواسطتها يستطيع فيصل أن
يساعده في تقدمه.
وتقرر أن يتحرك العرب نحو البحر الميت بأسرع وقت ممكن ليوقفوا مرور المؤن إلى القوات التركية في
أريحا، التي ستكون هدف اللنبي التالي، والذي سيسعى لتحقيقه في شهر شباط.
فكان عليهم والحالة هذه أن يتقدموا نحو الطرف الشمالي من البحر الميت ليلتقوا بالقوات البريطانية عند نهر
الأردن في شهر آذار . وكان فيصل قد أعد العدة للتحرك نحو الطفيلة التي تقع قرب الزاوية الجنوبية ال شرقية
للبحر الميت، ولذا كان من الواضح أن خططهم، لا بدّ وأن تلتقي وتنّفذ.
وبعد أن قضى لورانس اجازة اسبوع في القاهرة، عاد إلى العقبة ليجد المدينة تعج بالنشاط مرة أخرى . فقد
قائد الفرقة الصومالية التابعة للجيش الفرنسي إمدادات هائ لة، بينها بنادق "Baisani تلقى الكابتن "بيساني
جديدة، ومدافع سريعة الطلقات وأسلحة أوتوماتيكية، وكان الجنود في شغل شاغل بانزال السيارات المصفحة من
طراز "تالبوت" و"ررولزرويس" و"فورد" وكذلك السيارات ناقلات الجنود.
كما وجد أن الجنود الثلاثة آلاف النظاميين في جيش فيصل قد دربوا على يدي جعفر ونوري السعيد، حتى
أصبحوا يشكلون وحدة مقاتلة فعّالة . وكذلك تمكن مولود، على الرغم من البرد الشديد، أن يطرد الأتراك من
"أبي لسان " واصبحت قواته تهدد "معان". كما أن خط سكة حديد الحجاز، كان على الدوام عرضة لغارات
القوات العربية.
هذا وقرر لورانس و"جويس" أن يجربا السيارات المصفحة الجديدة في الغارة على المدورة على أن ترافق
الحملة التي كان يجري إعدادها للتوجه إلى البحر الميت، وغالبًا ما كانت تلك السيارات تقل الجنود البريطانيين،
وبينهم شخص يدعى "رولز" هو الذي كتب وصفًا للدور الذي اشترك به مع لورانس في الاغارة التي تمت
بالسيارات المصفحة.
١١٠٠٧٧
ولم يكن هو وحده الذي اعترف للورانس بالسرعة، سواء أكان يستخدم الإبل أو الدراجات النارية أو السيارات
أو المراكب، فقد كانت السرعة هي "مرضه" كما قال "رونالد ستورز"، حتى لقد بات شأنه شأن الكثيرين لفرط
ما عاناه من إرهاق.
وكان لورانس يسرع بسيارته عبر البيوت الطينية الواقعة ما بين "الغويرة" و"المدورة" بمعدل ستين أو سبعين
مي ً لا في الساعة.
كما كان هو ورجاله يسرون لهذه الحرية في التنقل بسرعة، وبدلا من أن ينسفوا خط السكة الحديدية، تحت
أحد القطارات، قرروا مهاجمة معقلين من معاقل الأعداء، ليروا ك يف يمكن للسيارات أن تتحرك في مثل هذه
المعركة المكشوفة.
وعلى الرغم من أن الغارة أسفرت عن نتائج ليست ذات أهمية كبرى، إذا ما استثنينا اصابة القوات التركية
بالفزع، إ ّ لا أنها أثبتت أمرًا هامًا واحدًا، وهو أنه سيكون بإمكانهم، بمساعدة سرعة وحماية السيارات المصفح ة،
أن يشنوا هجومهم على السكة الحديدية، وعلى مراكز الحراسة الموضوعة عليها.
ومهما يكن من أمر، فقد كان هنالك درس آخر تعلمه لورانس قبل اثني عشر شهرًا من بدء معركة الحجاز،
إ ّ لا أنه ظل عاجزًا عن اقناع رؤسائه البريطانيين به، ألا وهو أن البدو لا يصلحون للقتال إ ّ لا في حرب
العصابات، وانهم تبعًا لذلك غير صالحين للحرب طبقًا للوسائل الأوروبية.
. وقد وافقه اللنبي على هذه الفكرة في النهاية، ولكنه لم يكن مقتنعًا بها في أوائل عام ١٩١٨
كان الجنرال اللنبي من كبار المؤمنين بسرعة التحرك، إ ّ لا أنه رغم إيمانه الشديد بهذه النظري ة العسكرية، لم
يستطع إ ّ لا أن يتبع هجومًا يعتمد على تشكيلات فأرسل الجنرال البريطاني "داوني" إلى العقبة، ليعلم جيش الأمير
خطته الجديدة.
ولما فشل لورانس في منع تحقيق هذه الخطة، عن طريق ارسال المبعوثين إلى القيادة العامة، أو عن طريق
جمع تأييد الضباط العرب ال نظاميين الذين تلقوا تدريبهم العسكري في الجيش التركي، والذين كانوا هم أنفسهم
أشد معارضة من لورانس لخطة اللنبي لم يسعه إ ّ لا أني زيد عد رجال حرسه، حتى بلغ عددهم تسعين رجلا
اختارهم من بين رجال العصابات السابقين الذين صقلتهم الخبرة، وتعلموا فنون القتال في الص حراء، اشتهروا
بشجاعتهم المطلقة واخلاصهم التام.
ولقد قدر أنه بقوة من هذا العدد يستطيع دائمًا أن يعمل مستق ً لا متى أراد . وكذلك اعترف لورانس بحاجته إلى
مثل هذه الحماية، بعد أنر فع الأتراك الثمن الذي دفعوه لاعتقاله حيًا إلى عشرين ألف جنيه، وميتًا إلى عشرة
آلاف.
ولكن الضباط الانكليز في العقبة لم يوافقوا على تأليف فرقة الحرس هذه وأطلقوا عليها اسم حزازي الحلاقيم "
فكان لورانس يجب على ذلك بقوله: "انهم لا يحزون الحلاقيم إ ّ لا بأمر مني".
ثم ان العرب كانوا يشتعلون حماسة في هذه المرحلة بالذات، وكان بإمكان القائد الذي ي ستطيع أن يكيف نفسه
وفقًا لمشاعرهم، ويحيط نفسه بمثل هذا العدد من رجال الحرس المزودين بالأسلحة الحديثة، ويرتدي أفخر
الثياب، أن يعتبر قائدًا عظيمًا حقًا.
١١٠٠٨٨
ولم يتوقف أولئك العرب ليفكروا بأن اموال التي تدفع لهم لم تكن من لورانس، بل من الذهب الذي كان فيصل
يتلقاه من البريطانيين، وأن الأسلحة قد استعيرت بوساطة لورانس من الجيش البريطاني، وأن الجمال التي
يمتطونها هي ملك لفيصل، وأن الملابس التي توزع عليهم ليست إ ّ لا حصيلة ما استولوا عليه من غنائم أثناء
غاراتهم التي شنوها على جيرانهم من البدو.
وحوالي منتصف شهر كانون الث اني، كانت كل الترتيبات قد اتخذت لاحتلال الطفيلة، البوابة المفضية إلى
البحر الميت. وكانت الخطة تقضي بمهاجمة المدينة من ثلاث جهات، هي الشرق والجنوب والغرب.
وكانت القوات التي ستهاجم من الشرق تحت قيادة الشريف ناصر، على أن يكون ن وري السعيد مسؤو ً لا عن
المدافع.
وقد اقتربت هذه القوة من هدفها عن طريق "الجرف" وهي محطة لسكة حديد الحجاز، ان تم الاستيلاء عليها
أمكن قطع الطريق على تدفق الامدادات التركية، سواء من معان في الجنوب أو من عمان في الشمال كيلا
تدعم القوات المدافعة عن الطفيلة.
وقد سقطت الجرف بكل سهولة أمام قذائف مدفعية نور السعيد وناصر، وانضم اليهما وقتذاك الشيخ عودة.
ومن ثم تقدموا نحو الطفيلة . ولما وصلوا إلى هناك قبل يوم من موعد وصول القوات الأخرى من الجنوب،
وجدوا القرية بحراسة مائة وثمانين جنديًا تركيًا فقط يضاف اليهم بعض القرويين المسلحين.
وكان القرويون في حالة خصام مع قبيلة بدوية مجاورة أعلنت ولاءها لفيصل، فأطلق أفرادهم النار على قوات
ناصر التي كانت تتقدم الجمع، الأمر الذي أثار غضب عودة لأنه كان يعتبر نفسه سيدهم فأسرع إلى
مدخل القرية وقصف بقنابله الحامية التركية التي أخذت على حين غرة.
وكان يصيح : "أيها الكلاب … ألا تعرفون عودة "؟… وكان قوله هذا كافيًا بالنسبة للقرويين وللأتراك، وما هي
إ ّ لا ساعة حتى كان ناصر يشرب الشاي مع الحاكم التركي، مخالفًا بذلك تقاليد الحرب التي كانت تتبعها قوات
الشريف مع أسراها.
وفي مساء ذلك اليوم بالذات، وصل الأمير زيد، أصغر أبن اء الشريف حسين، الذي كان فيصل قد عينه قائدًا
للحملة المتقدمة نحو البحر الميت. وقد وصل الطفيلة برفقة جعفر ولورانس.
ولقد أحدث وصولهم حالة غريبة، إذ تبين أن اثنين من حاشية زيد قد قتلا بيد ان عودة . ولما احتدم الجدل
بينهم حول الثأر، ثار الرجل العجوز، وبصق عليه م، وهددهم بجلدهم في ساحة السوق إذا ما تمادوا في مثل هذا
الحديث، ولما أبدى زيد تساهلا في الأمر، أمر عودة وجماعته من المحاربين بالعودة إلى الصحراء، الأمر الذي
أضعف قوته، وثبت فيما بعد أنه كان خطرًا جدًا.
وهكذا بقي زيد للدفاع عن الطفيلة مع مائة من الهجانة ور جال حرس لورانس وفصيلة من حملة المدافع
السريعة الطلقات مؤلفة من جنود مصريين ومغاربة.
ولم يعد بمقدور مدفعية نوري السعيد أن تعبر ممرات جبال مؤاب المغطاة بالثلوج، ولذلك تخلف هو والشريف
ناصر للدفاع عن "الجرف".
١١٠٠٩٩
وكانت هذه الحامية قليلة العدد بشكل مخيف فيما لو ف كر الأتراك في استعادة الطفيلة بأية قوة، مهما كان عدد
أفرادها. ومع ذلك فقد صمدت على أمل أن يسعفها الحظ، فيتحسن الطقس، حتى تتمكن الامدادات من الوصول
إليها.
ولكن هذا الأمل لم يتحقق، ففي الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني، أي بعد انقضاء تسعة أيام على
احتلال الطفيلة، عاد الأتراك لاسترداد المدينة، ومعهم ثلاث فرق من المشاة، وتسعمائة من الخيالة ومائة من
الفرسان ومدفعان جبليان، وسبعة وعشرون مدفعًا سريع الطلقات، ونظرًا لأن العرب أخذوا على حين غرة،
وفوجئوا بهجوم الأتراك، فقد تركوا القرية في حالة من الفوضى، وخشي معظم سكان القرية انتقام الأتراك لأنهم
استسلموا دون أن يطلقوا طلقة واحدة على عودة وناصر، فهربوا إلى التلال.
واقترح زيد وجعفر أن تنسحب القوات العربية من القرية . على أن تدافع عن نفسها من واد يقع إلى الجنوب
من القرية لكن لورانس عارض ذلك معارضة شديدة، نظرًا لأن ال وادي لم يكن بالمكان الدفاعي الصالح، ثم إنهم
إذا تركوا الطفيلة، فسيلتقون بأولئك القرويين الشجعان الذين ظلوا معهم، والذين يمكنهم استخدامهم كمدافعين لا
يشق لهم غبار… لكن زيدًا كان هو القائد، فأصر على اعطاء الأوامر للقوات بالانسحاب.
لم يكن زيد بحاجة إلى طويل وقت ليدرك خطل رأيه، لأنه قبل بضع دقائق من هجوم الأتراك، تخلى عن
قيادته، فأسرع لورانس يضع الترتيبات اللازمة للدفاع عن القرية، مستعينًا بمن تبقى لديه من قوات قليلة،
وقرويين مسلحين.
وقد نظمهم في المرتفعات المشرفة على الطفيلة، بينما أوفد أحد رجال حرسه ويدعى "عبد الله" برفقة اثنين من
حملة المدافع السريعة الطلقات، ليحولوا انتباه القوات التركية، يومذاك فتح الأتراك نيرانهم مستعينين بالمدافع
الجبلية، وبينما كانت هذه المناورة تأخذ مكانها وتملأ التلال بشظايا القنابل، استطاع العرب الانسحاب من تل
إلى آخر تاركين العدو ي تقدم. وفي تلك الأثناء وصلت قوة عربية قوامها مائتان من القرويين المسلحين، ومائة
من البدو، جاؤوا من معسكر قريب.
وكان ذلك هو بالضبط ما يريده لورانس، فقد كانت خطته أن يدع الأتراك يتقدمون حتى منطقة التلال، ثم
يهاجم جناحي قواتهم، مستخدمًا كل بندقية يملكها . وبوصول هذه التعزيزات أصبح لديه العدد الكافي من القوات
لشن هجوم من ثلاث نواح، دون أن يضطر إلى سحب قواته المدافعة عن الطفيلة، من أجل إحكام الطوق الذي
نصبه للأتراك.
وتسلل رجال القبائل بصمت، وفتحوا نيرانهم على حملة البنادق السريعة الطلقات في القوات التركية، بعد أ ن
اقتربوا منهم إلى مسافة مائة ياردة، فأبادوهم عن بكرة أبيهم . وقام عدد من العرب من الناحية الثانية بمهاجمة
المدفعية التركية، وتمكنوا من تشتيتها وتحطيم مدافعها.
ولما رأى الأتراك ما حل بزملائهم في الميمنة والميسرة، هربوا في حالة من الفوضى لا توصف، تغلي الدما ء
في عروقهم للنصر الذي أحرزه العرب، كما أن القرويين الشركس ساعدوا بما لديهم من اتمام نصر العرب.
ولما توقف إطلاق النار أحصى العرب عدد أسراهم وغنائمهم التي تضمنت خمسين أسيرًا، وكل مدفع أحضره
الأتراك معهم.
١١١١٠٠
ولم يعد من الألف ومائة تركي الذين شنوا الهجوم، غير مائتين على قيد الحياة بعد أن هربوا عبر الجبال إلى
مقر قيادتهم.
أما الباقي من القوات التركية ممن لم يقتل في المعركة، فقد مات متأثرًا بجراحه، أو طعنًا بالمدى فيما كانوا
يحاولون الهرب.
وكانت تلك المعركة معركة مرموقة، انتصر فيها لورانس، وفيها أثبت قدرته وشجا عته، وإن كان هو بالذات
لم يشأ أن يعتبرها كذلك . ولذلك جاء تقريره إلى القيادة، حاشدًا بالنكات … حتى "لقد ظن رجال القيادة أنني
مجرد مهرج وليس بالمحارب".
وهكذا كانت معركة الطفيلة هي المعركة الثانية التي يخوضها لورانس دون استعداد . وقد علق على نتائج
المعركة بقول ه: "لقد أسفت لوقوع سدس قواتي في هذه المعركة التي لا تستحق كل هذه التضحيات ". ومع ذلك
فإنه يمكن القول بأن تلك المعركة قد ساعدت لورانس على قطع خطوط مواصلات الاتراك عبر البحر الميت
إلى قواته في أريحا
[align=center]  [/align]
-
لفصل العشرون
محاولة اعتزال
استطاع لورانس في الثامن والعش رين من شهر كانون الثاني سنة ١٩١٨ ، أي قبل أسبوعين من الموعد المحدد
عند اللنبي لقطع مواصلات الأتراك إلى البحر الميت بهجوم مباغت، أن يقطع الطريق على العدو، رغم أنه شن
ذلك الهجوم برفقة سبعين خيالا وسار ليلا عن طريق الكرك، البلدة التي كان الأتراك يستخدمونها لطح ن
الحبوب التي يجمعونها من الحقول الخصبة المحيطة بها.
وكانت قد بلغته بعض معلومات ومفادها أن قافلة من المراكب التركية المقلة للمواد الغذائية تنوي مغادرة
المنطقة في غد إلى منطقة أريحا، تحت حراسة قارب مسلح.
وقبل أن تنبلج أولى تباشير الفجر، كان العرب قد زحفوا إلى شاطئ البحر، ونزلوا في المياه، قبل أن يتمكن
الملاحون الأتراك من تمالك روعهم . ولما أخذوا على حين غرة، لم يبد الأتراك مقاومة تذكر، وما هي إ ّ لا
دقائق قليلة حتى كانت العملية كلها قد انتهيت . يومذاك أحرق لورانس مخازن المؤن بعد أن استولى جماعته
على محتوياتها، كما جروا المراكب إلى البحر وأغرقوها . ولم يتكبد العرب أية خسائر، بينما أسروا ستين
تركيًا، وعادوا إلى أماكنهم في الطفيلة يهنئ بعضهم بعضًا على ما أحرزوه من نصر سهل، ولعلهم في تلك
الغارة قد حققوا أول انتصار بحري بواسطة المشاة!.
ونفذ لورانس أول مهمتين من المهم ات الثلاث التي اتفق مع اللنبي على تنفيذها، وبقيت المهمة الثالثة، وهي
الاتصال بالقوات البريطانية عند نهر الأردن، إلى الشمال من البحر الميت، في شهر آذار.
ولكن ما أن أهل شهر شباط، حتى بدا أن إمكانيات تحقيق هذه المهمة قد تعذرت، لأن الطقس كان يسوء
باستمرار، وأ صبح السير بما معه من جمال، وسط الثلوج، وعبر جبال مؤاب التي تقع بين الطفيلة والشمال،
١١١١١١
ضربًا من الجنون . فاذا لم تهلك الجمال من التعب، عرضتهم كهدف سهل لبضعة جنود من الأتراك وهم يرتقون
تلك الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج.
وفي الوقت ذاته، كان البقاء في الطفيلة لا يستحق المغامرة، فالمغريات للبقاء لم تكن تعادل أخطار المجازفة،
وكان البرد في ذلك المكان الذي يرتفع خمسة آلاف قدم عن سطح البحر قارصًا، وكان الوقود نادرًا، وظروف
المعيشة قاسية.
هذا زيادة إلى ان نقود زيد كانت قد نفذت، لأنه وزع معظم الذهب الذي كان مقررًا صرف ه على تنظيم
المسيرة إلى نهر الأردن، على الأعراب مكافأة لما بذلوه في معركة الطفيلة . وانتهزها لورانس فرصة ليهرب
من هذه الأحوال القاسية فاحتج بأنه سيعود ليحضر المزيد من المؤن.
وكان الوقت أوائل شهر شباط، وثمة عاصفة تهب بعنف عندما تحرك إلى الجنوب . وكانت الرحلة صعبة
والجمال وراكبوها غير معتادين على السفر في مثل هذا الطقس، غير أن لورانس كعادته اندفع على جملة
ومعه رجال حرسه بأقصى سرعتهم حتى لم يعد للحيوانات المسكينة من طاقة على المشي بله الجري.
وبعد ظهر اليوم الثاني، وصلوا "قذرين ومنهكين يرتجفون بردًا وكأنهم هررة". وفي "الغويرة " كانت قيادة
وحدة السيارات البريطانية المصفحة، ومقر ضابط الاتصال بالأمير فيصل.
ووجد لورانس هناك "دوناي" و"جويس" يعتريهما الوجوم، فقد حاول فيصل قبل أسبوعين أن يحتل "المدورة "
بقوة مختلطة من رجال القبائل وأربع فرق من الجنود العرب النظاميين المزودين بمدافع "بيزاني " الفرنسية،
ولكنه مني بهزيمة منكرة.
فقد حدث، كما هي عادة رجال القبائل، أنهم تخلوا عن القتال عندما فشل أول هجوم شنوه لزحزحة الأتراك
عن مراكزهم، كما حدث أن نقل "بيزاني" مدافعه فاقترب بها أكثر مما يجب، ولم يستطع إ ّ لا أن يتركها إثر
الانسحاب.
وقل استقبل لورانس هذه الأنباء بشىء من التفلسف قائلا إلى الهزيمة من شأنها أن تعلم فيصل في المستقبل أن
يتبع نصائحه.
ثم أن لورانس عقد مؤتمرًا قصيرًا مع فيصل، عاد بعده إلى الطفيلة وفي جعبته ما يعادل ثلاثين ألف جنيه
ذهبًا. ولم تكن العودة بأفضل من مقدمه ، بل لعلها كانت أسوأ، لأنه كان عليهم أن يتحملوا وطأة الرياح الثلجية
والمطر الغزير المصحوب بالبرد من الحجم الكبير.
التي كانت كلها مجتمعة تكاد تقضي عليه وعلى رفيقيه من قبيلة عتيبة وهم يصعدون في الطرقات الوعرة
الممتدة إلى الجنوب من البحر الميت . وقد مروا في ن قطة ما فوق "أبي لسان" بجماعة من رجال مولود يعيشون
في جحور حفروها في الصخور، وراحوا يراقبون تحركات الأتراك على خط سكة حديد الحجاز، وكانوا لا
يملكون وقودًا إ ّ لا بعض الحطب المبتل، ويرتجفون في ملابسهم الخاكية الصيفية، بعد أن فقدوا أكثر من نصف
قواتهم من جراء البرد والإجهاد.
ورغم ذلك ظلوا يراقبون الأتراك وتحركاتهم التي كثيرًا ما كانت تصبح على مرمى بنادقهم.
١١١١٢٢
وقد سر لورانس كثيرًا من شجاعتهم، حتى لقد قال : "إننا مدينون كثيرًا لهم، ومدينون أكثر إلى مولود الذي
يرجع إليه الفصل في تثبيت رجاله في مراكزهم، لما عرف عنه من أخلاق عربية ووطنية .." لقد كانت له
شخصية قوية، مكنته من السيطرة على رجاله، كما كان قوي البنية حتى لقد استطاع أن يمضي ثلاثة فصول
شتاء بالقرب من معان، مع رجاله الذين يبلغ عددهم خمسمائة محارب، كل واحد منهم على استعداد لافتدائه".
وقرر لورانس ألا يكون أقل جلدً ا من مولود، فدفع جمله المثقل بأحماله وتحمل تجمد أطرافه وسار عبر
الجبال.
وحدث ذات مرة أنه كاد يغرق في جدول نصف متجمد، ثم وقع جمله في ممر مغطى بالثلوج، ولم ينهض من
سقطته تلك إ ّ لا بعد كثير من التهديد والوعيد، وأخيرًا اقتنع الحيوان المسكين بأن من الخير له أن ي واصل رحلته
إلى الطفيلة، حيّث سلم ما يحمله من كنوز إلى زيد، وسط كثير من تهليل رجال الأمير الذين أمضوا عدة أسابيع
دون رواتب ودون وسائل راحة.
وبعد أن طلب إلى الأمير، إثر دفع رواتب الجنود، أن يحتفظ بما تبقى معه من ذهب لينفق في العمليات
القادمة، ألقى لورانس بجسده المنهك طلبًا للراحة.
وما إن بلغ الأرض حتى سمع صوتًا يقول له بالانكليزية : "هل لك أن تأخذ بطانيتي؟ إنك تبدو على وشك
التجمد". وكان المتحدث هو الملازم "كير كبرايد" من ضباط سلاح الهندسة الملكي، وقد أصبح ذات يوم
سفيرًا لبريطانيًا لدى الأردن وكان قد أُرس ل من قبل القيادة العامة لدراسة إمكانات إنشاء طريق من بئر السبع
عبر الممرات الجبلية المؤدية إلى الطفيلة، وهو مشروع اقتنع بأنه غير عملي.
وكان "كير كبرايد " شابًا في العشرين من عمره، يتقن التحدث باللغة العربية، كما يتقن أعمال النسف . ولما كان
شابًا ومتحمسًا فق د رأى لورانس أنه سيقدم له المساعدة اللازمة، فقال له : "إنني سأطلب نقلك إلى قواتي ".
وتصافح الرجلان، وبدءا صداقة جديدة استمرت حتى دخول دمشق، وأنقذت حياة لورانس في أكثر من مناسبة.
وفي اليوم التالي، توجه لورانس مع "كير كبرايد" وأفراد حرسه لاستكشاف الطريق إلى ن هر الأردن . كان
الثلج قد بدأ يذوب، وبات من الممكن أن يحفظ موعده مع اللنبي، في شهر آذار، أو قبل أسبوعين من الموعد.
وقد أثبتت عمليات الاستكشاف أن كل شئ على ما يرام . لذا كتب لورانس يقول: "كانت كل خطوة من طريقنا
سهلة وتقودنا إلى حيّث تنضم إلى القوات البريطانية ". وهكذا عاد إلى زيد بروح مرتفعة، لكنه ما إن شرح
خطته في الزحف حتى قاطعه الأمير قائلا: "إن الرحلة تحتاج إلى كميات كثيرة من الأموال"!
وأجابه لورانس بقوله : "كلا… ليس ضروريًا على الإطلاق، إن الأموال لمتوفرة ستغطي نفقات الرحلة، بل
وتزيد على متطلباتها"!
وانزوى زيد في مقعده الكبير، بينما بدأت الوساوس تنتاب لورانس، أو سأله كم تبقى لديه من الذهب الذي
أحضره من "الغويرة"… فتطلع زيد إلى الأرض بخجل وقال: "لم يبق منه شئ… لقد أنفقته على التعويض مجددًا
على شيخ الطفيلة والقرويين ورجال القبائل ". واعترض لورانس : "ولكنك تعر ف بأن العادة أن تدفع رواتب
أفراد القبائل عندما يقومون بعمل ما، وليس أثناء استراحتهم في فصل الشتاء".
فقال زيد: "ورغم ذلك… لقد دفعت لهم أجورهم".
١١١١٣٣
كانت هذه الأقوال آخر دليل على أن العرب لن يتصلوا بقوات اللنبي في شهر آذار، لأن من المستحيل القيام
بالزحف دون ما ل. وكذلك كان من الصعب الطلب إلى القيادة العامة أن تتحمل ما هو فوق طاقتها من جراء
إسراف زيد . وبينما كان لورانس يفكر في هذه المعضلة، دون أن يجد لها حلا، وصل "جويس" على غير انتظار
من "الغويرة" وعرض أن يعود إلى فيصل ويسأله المساعدة.
غير أن زيدًا لم يكن متحمسً ا للفكرة، كما أن لورانس كان قد صمم على العودة إلى القيادة ليسألها قرضًا
جديدًا.
وإنه لمن الصعب على المرء أن يقول كم كان هذا التراجع صعبً ا! وليس من شك في أن لورانس كان قد
ضاق ذرعًا بتصرفات زيد الذي كان ضعيفًا وعنيدًا، وأبدى حماقة منذ اللحظة الأولى التي سلم فيها قيادة حملة
البحر الميت.
والواقع أن لورانس كان قد سئم تولي القيادة، حتى لقد أخبر اللنبي في مقر قيادته في بئر السبع بأنه لم يعد
راغبًا في إعطاء أية أوامر، وأنه يريد منصبًا يستطيع عن طريقه أن يتلقى أمرًا، لا أن يصدر أمرًا.
غير أن الذي خفف عن لورانس ما يشعر به من ضيق، كان ما سمعه من أخبار في القيادة العامة، فقد علم
بأن اللنبي احتل أريحا، وأخذ يعد العدة للهجوم النهائي على سوريا . وكان الجنرال جان سمطس … قد جاء
مندوبًا عن وزارة الحربية البريطانية في لندن، لبحث على ضرورة إخراج تركيا من حومة الحرب بأقرب وقت
ممكن، وذلك من أجل تحرير ما أمكن من القوات البريطانية للاشتراك في الجبهة الغربية، في فرنسا
والفلاندرز.
وقد أبلغ اللنبي مرؤوسه لورانس، بأنه ما زال يتطلع إلى مساعدة أصدقائه العرب في هذا الهجوم الأخير على
دمشق، وأن هذا الظرف ليس بالظرف المناسب لإضعاف معنويات ا لجيش العربي، وذلك عن طريق سحب الثقة
في مقدرته وقيادته.
كان ذلك، على ما يبدو، كافيًا بالنسبة إلى لورانس، وبعد أن قدم شروحه واعتذاراته، قدم مضحيًا بنفسه،
وأصبح بمستطاعه أن يعود الآن لحث فيصل على أن الضربة النهائية يمكن أن تقوم بها القوات العربية، ويجب
على ه ذه القوات أن تصل إلى دمشق قبل أية قوات أخرى . وفي الرابع عشر من شهر آذار سنة ١٩١٨ عاد
لورانس إلى العقبة
[align=center]  [/align]
-
.
الفصل الحادي والعشرون
تقدم وانسحاب
كانت خطة العمل الجديدة تقضي كما رسمها اللنبي بشن هجوم عبر نهر الأردن من بلدة أريحا، في
الخامس من شهر أيار، وذلك بقصد التفريق بين الجيوش التركية التي تدافع عن الخط الواقع بين يافا وشمالي
البحر الميت، واحتلال مدينة السلط وتقع على بعد عشرين ميلا إلى الغرب من عمان، وكذلك، من أجل الهجوم
الأخير، وتدمير خط السكة الحديدية جنوبي عمان . وكان دور القوات العربية في هذه الخطة احتلال بلدة معان،
ومن ثم الالتقاء بالقوات الانكليزية في نقطة تقع شمالي أريحا.
١١١١٤٤
وأختير لورانس ليحمل الأخبار السارة إلى فيصل، والتي تشمل الوعد بتسليمه مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه ذهبًا،
ليشتري بها ما أمكنه شراؤه من تموينات محلية متوفرة، وسبعمائة جمل بالإضافة إلى الأسلحة.
وتدعم الفرح لهذا العرض الذي قدمه اللنبي، والذي في غمرته، نسيت هزيمة العرب في الطفيلة، إذ تخلى
عنها زيد للأتراك، بعد أن شنوا عليها هجومًا معاكسً ا. وقد أعرب فيصل عن مخاوفه بأن إعادة احتلالها قد
يتمخض عن تدمير سمعته.
وانتهز لورانس الفرصة ليلقي على الأ مير محاضرة قاسية حول عدم أهلية شقيقه الصغير ومسؤوليته في
تأخير التقدم. ثم عاد الاثنان دون مزيد من المهاترات للإهتمام بأعمال المستقبل.
وقد وضعوا ترتيبات احتلال معان بالاشتراك مع "جويس" وفيصل. وبموجب هذه الترتيبات كان على جعفر
ونوري السعيد أن يهاجما بمساندة الجنود العرب النظاميين، وكان على "جويس" و"دوناي" أن يقطعا خط السكة
الحديدية عند "المدورة".
ولكن قبل ذلك كان عليهما أن يمنعا تقدم الأتراك من المدينة أما لورانس فكان عليه أن يحرض قبيلة بني
صخر في منطقة عمان.
وما إن فعل حتى وردته أنباء عن احتلال السلط، وبل غته كذلك الأوامر بأن، يهاجم الأتراك المتراجعين من
الخلف.
وكانت الخطة لاحتلال معان تقضي بوضع القوات العربية على امتداد خط السكة الحديدية إلى الشمال، لقطع
الطريق أمام وصول أية إمدادات إلى المدينة بأي شكل كان، وكذلك التموينات، ومن ثم إجبار العدو على
الانسحاب إلى مكان مكشوف . غير أنه ما إن سمع مولود وضباط الجنود العرب النظاميين هذه التعليمات، حتى
عارضوها بشدة، وأصر مولود على القيام بهجوم مباشر . وقد استمر النقاش حول هذه المسألة عدة أيام، وأخيرًا
تولى فيصل أضعف جوانب المسألة وسمح لمولود بأن يختار الطريق التي يريد ها، لأن الأمر قد أصبح موضوع
كرامة بالنسبة للمحارب القديم وجماعته من الضباط.
ولقد قبل لورانس بهذا القرار على مضض رغم خلوه من الحكمة، ورغم ما أظهره فيصل من ضعف أمام
مولود، وتوجه في أول شهر نيسان إلى "عطارة" ليقيم فيها مقر قيادته . وهذه القرية تعتبر مركز قبيل ة بني
صخر، وتقع إلى الجنوب الشرقي من عمان، حيّث كان كل من مفلح وفهد ينتظرانه هناك.
وأثناء الطريق تلقى نبأ يفيد أن داود، أحد رجال حرسه، قد توفي من تأثير البرد في الأزرق، حيّث أقام مع
الشيخ علي بعد حادث درعا . وقد تأثر لورانس كثيرًا لهذه الفجيعة، ولو على الأ قل مشاركة منه لصديق داود،
وحبيبه المخلص فرّاج، الذي أصيب بضرب من الذهول أفقده القدرة على القيام بواجباته، وكانت جمة . ولم
يستطع لورانس أن ينهي هذا الوضع الشاذ إ ّ لا بعد انقضاء فترة من الوقت.
وحدثت المفاجأة بعد أسابيع قليلة، فبعد وصولهم إلى "العطارة" وردتهم أنباء تفيد أن الانكليز قد احتلوا، ليس
السلط فحسب بل وعمّان أيضًا، فأمر لورانس بتتبع فلول قوات العدو المتقهقر، ولكنه ما إن شرع بهجومه حتى
وصلته أنباء تقول بأن الأتراك قد استعادوا المدينتين، وأنهم أخذوا يطاردون قوات اللنبي عبر وادي الأردن،
وأن جمال باشا قد يعود إلى القدس خلال بضعة أيام.
١١١١٥٥
وفي الوقت ذاته، ولكي يزداد رعب القوات العربية، انتشرت شائعات عن دفع الأتراك جوائز ضخمة لكل من
يل على أولئك الذين تمكنوا من مساعدة القوات البريطانية في هجومها على السلط.
والظاهر أن لورانس لم تخفه التجربة التي مر بها في درعا لأنه قرر الذهاب بنفسه لاستقصاء الحقائق، فدخل
عمان مع فراج، وهما متنكران في زي امرأتين بدويتين . وسرعان ما اكتشف أن الأتراك يسيطرون على
المدينة. ولم يمضيا في المدينة مدة طويلة، حتى اعترضتهما جماعة من الجنود الأتراك، الذين حاولوا إقناعهما
بإمضاء الليلة مع بع ض الضباط الأتراك، حيّث ستنالان مبلغًا لا بأس به، وكان ذلك خدعة كما يبدو أو شكًا من
الجنود بالبدويين البيضاوين على الأقل.
ولم يكن هنالك أية بادرة توحي بقرب تقدم القوات البريطانية، ولا أية بوادر تشير إلى أن القوات التركية
مستعدة للتقهقر، أو أن القوات العربي ة مستعدة لتحدي انذارات الأتراك . لذلك لم يجد لورانس أمامه سوى الهرب
والانسحاب إلى مقر قيادة فيصل، حيّث ينتظر هجوم اللنبي من جديد.
وحدث أثناء عودته مع رجال حرسه، أن التقوا بدورية من الجنود الاتراك، ولقد أراد العرب ن يفتحوا النار
على الاتراك، ولكن لورانس فكر في أنه قد يكون من الأفيد لهم ألا يضيعوا ذخيرتهم على مثل هذه الجماعة
القليلة.
وفجأة، وفيما هو يشرح خطته لمح فراج يندفع إلى أمام، مخالفًا تعليمات رئيسه، وما لبث الجميع أن لحقوا به،
ولكن فراج كان يتقدمهم معرضًا نفسه هدفًا سهلا لبنادق الأتراك . وقد اخترقت الرصاصة الأولى جسده ممزقة
معدته، فانفجر منها سيل من الدماء، قبل أن يلحق به أفراد جماعته.
وفيما كان هؤلاء يفكرون فيما إذا كان من الممكن انقاذه، وكيف، بلغهم نبأ مفاده أن دورية من الجنود الاتراك
تقترب من مكانهم، وأن عدد أفراد الدورية يزيد على خمسين نفرًا، وانهم يتقدمون على امتداد خط السكة
الحديدية.
وهنا قرر لورانس في غمرة غضبه أن يفعل كل شئ إ ّ لا أن يسمح بوقوع فراج في أيدي القوات التركية،
وتحمل التعذيب الذي كان الأتراك يقومون به تجاه الأسرة من القوات العربية.
وكان من المعروف عن الاتراك أنهم يحرقون الخونة وهم أح ياء. وكان لورانس قد اتفق مع رجاله على أن
يجهز أي منهم على أي شخص يسقط جريحًا. وقد وصف لورانس آخر لحظات فراج بقوله:
"لقد ركعت إلى جانبه، حاملا مسدسي، مصوبًا إياه إلى رأسه، بحيث لا يرى ما أقصد إليه، وإن كان من
المؤكد أنه حرز قصدي، لأنه فتح عينيه ولمسني بيده المرتعشة الناحلة التي يتميز بها أهالي نجد، وانتظرت
لحظة فقال :" إن داود سيغضب منك " وعادت الابتسامة إلى ذلك الوجه المتجهم، فأجبته: سلم لي عليه . وفي
النهاية أغمض عينيه ومات.
وقد وجد لورانس في مقر قيادة فيصل بالقرب من معان أن اللنبي قد فشل بالفعل بالاحتفاظ ب مدينة السلط، وأن
العرب، كما كان يتوقع، لم يتمكنوا من احتلال معان، فقد ثبت أن مدافع نوري السعيد غير قادرة على تدمير
المدينة، كما أن مولود قد جرح، وأخذ عودة يتخاصم مع كل انسان، بما في ذلك فيصل ونوري، وكان يتهمهما
١١١١٦٦
بأنهما يصران على اتباع تكتيك حربي لا يناسب رج ال القبائل، وهو اتهام كان نوري يرد لعيه بألا فائدة من
قبيلة الحويطات.
وقد قاد نوري جماعة إلى محطة سكة الحديد في معان، ولكنه أخطر فاضطر للانسحاب عندما نفذت الذخيرة
من المدافع التي كانت تحت إمرة "بيزاني". وكان النجاح الوحيد الذي استطاعوا تحقيقه هو قطع السكة الحديدية
على أمل استحالة إصلاحها، في نقطة تبعد عشرة أميال إلى الجنوب من المدينة.
وكإجراء حسن، قام "دوناي" بغارة على "المدورة" برفقة لورانس واثنين من الضباط البريطانيين، كانا قد
وصلا حديثًا، أحدهما "هو رنبي " الخبير بالمتفجرات و"بيك" الذي قدّر له أن ينشئ فيما بعد "الجيش العربي "
الغارة ناجحة، إذ أن المحطة قد دمرت بشكل يفوق مقدرة فخري باشا على اصلاحها من جديد.
على أن كل ما حققه قطع السكة الحديدية، لا يعدو محاصرة الأتراك في مراكزهم القوية في المدينة ومعان
وعمان، دون أن يساعد فيصل على التقدم بامتداد الجناح الأ يمن للحلفاء. ومرة أخرى خشي لورانس أن فشل
الجنود العرب في تنفيذ خطة متفق عليها، سيعرضهم إلى غضب القائد العام، ومرة أخرى كذلك أسرع يقدم
اعتذاراته ويشرح أسباب ذلك التخلف إلى اللنبي.
وقد استقبلته لدى وصوله إلى القدس أنباء تفيد بأن البريطانيين قد أعادوا احتلا ل السلط، وشكرًا للمساعدة التي
قدمتها قبيلة بني صخر، وخاصة شيوخها الذين قدموا سرًا إلى أريحا ليعرضوا خدماتهم الممثلة في عشرين ألفًا
من رجال القبائل، عرضوا اشراكهم في الهجوم التالي الذي سيقوم به الانكليز.
ولم يستطع لورانس أن يصدق ما سمعه، فقد كان يسوءه أن ي حقق الانكليز دورهم، بينما يعجز العرب عن
تحقيق دورهم . وكذلك فقد كانت إعادة احتلال المدينة، بمساعدة القبيلة التي كان من المفروض أن يجندها هو
إهانة لكبريائه ومركزه.
ثم كان هنالك وجه آخر غير سار في القضية، ويتلخص في أن القاهرة قد عينت ضابطًا بريطانيًا جديدًا يدعى
"يونغ" ليعمل مساعدًا للورانس في مهمة ضابط الاتصال بقوات الشريف . وكان "يونغ " هذا مستشرقًا يجيد
التحدث بالعربية، وجنديًا مخلصًا، ولكن لورانس كرهه ولم يثق به منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها، ظنًا منه
بأنه إنما أرسل ليبلغ القيادة عن اتصالاته وأعماله.
ولما كان لورانس يود التخلص منه بأسرع وقت ممكن فقد أرسله ليدافع عن مركز مراقبة يقع بين معان
وعمان، أي في ذات المنطقة التي كانت قبيلة بني صخر تقيم فيها، وهناك أبلغ بوصفه من ضباط قيادة اللنبي
بأن البريطانيين قد جندوا أفراد القبيلة لمساعدتهم على استرداد السلط.
وكان ذلك كثيرًا بالنسبة لاعتداد لورانس بنفسه، ويجب الاعتراف بأن الرجل قد ارتاح كثيرًا، عندما سمع بعد
ساعات قليلة بأن الهجوم قد فشل، وأن الانكليز اضطروا مرة أخرى للانسحاب، نظرًا ن افراد قبيلة بني صخر
فشلوا في المحافظة على تعهداتهم.
وانتهز لورانس الفرصة، وأو حى إلى أركان حرب اللنبي، بأنه يستحين في المستقبل استشارته قبل الإقدام على
أمر يتعلق بالعرب . وحدث انسحاب انكليزي آخر، علم البريطانيين أن "يصبرا أكثر" على مشاكل فيصل، كما
١١١١٧٧
أنه، أعطاه الفرصة لرفع اللوم عن العرب، كما اصبح بامكانهم القول بأن "عناد اللنبي قد تمخض عن إرغامنا
على البقاء محاصرين في معان".
وعلى كل، فقد كان هناك قليل من الشك في أن لورانس قد تصرف، بدافع من غضبه، تصرفًا أهوج، في
زيارته تلك لمقر القيادة العامة، إذ كان في جميع مناقشاته يتحدث بلهجة من هو أكثر معرفة من سواه.
والواقع أنه كان باستطاعته آنذاك أن يدعي بأنه يعمل منفردًا في تحقيق عملية باسلة وناجحة، ولكنه في هذه
المرة تصرف كطفل فاسد، إذ راح يبرر الفشل الذي تم على يديه، ويقلل من قيمة النجاحات التي حققها زملاؤه
البريطانيون.
أما كيف أمكن اللنبي أن يحتمل هذا التصرف الأهوج، فأمر يمكن أن يرد ولا ريب إ لى ما لدى هذا القائد العام
من صبر وتفهم للطبائع الإنسانية، فقد كان لديه ما يكفيه للتفكير بما يثقله من مشاكل، وليس من حاجة لتحمل
هذا الموقف الحرج، إذ طلبت إليه وزارة الحربية الامبراطورية أن ينتهي مع الأتراك بأسرع ما يمكن.
وفي الوقت ذاته كانت الوزارة الحربية في لندن تلح عليه بتوفير ما أمكنه من الجنود لدعم جبهة أوروبا.
ولكن الجنود الهنود الذين وعد بارسالهم إليه من جبهة العراق لم يكونوا قد وصولا، ليحلوا محل القوات
البريطانية التي كان من المقرر أن يستغنى عنها لتدعيم الجبهة الأوروبية.
ولما كان اللنبي مضطرًا للا نتظار وتأخير هجومه فقد كان كل ما بوسعه أن يفعل، هو أن يأمل في الاحتفاظ
بمراكزه، والا يقوم الأتراك بهجوم معاكس، وبقوة تفوق قوة الانكليز.
ثم جاء لورانس ليضع على رأس هذه المشاكل مشكلة أخرى تتلخص في طلبه إلى القيادة العامة القيام بغارات
جوية، على معان وعمان، وعلى خط سكة حديد الحجاز، لتكفيك تماسك الأتراك واجبارهم على الخروج إلى
ميدان المعركة بشكل مكشوف.
واستدعى اللنبي الجنرال المسؤول "سالموند" الذي كان يقود القوات الجوية، واتفق معه على القيام بتلك
الغارات. وهنا طلب لورانس أن يعطي الجمال الالفين التابعة لقوة ا لهجانة الامبراطورية، وكان قد تقرر حل
تلك الفرقة، باستثناء فصيلة واحدة تبقى تحت قيادة كولونيل المشاة "بوكستون".
واستدعى اللنبي الضابط المسؤول عن الممتلكات وسأل لورانس أمامه عن السبب الذي يريد من أجله هذه
الحيوانات.
وقد أجاب لورانس دون أن يضيع لحظة في التر دد، "لكي أضع تحت تصرفكم وفي أية لحظة الفي رجل في
درعا، بل وفي اليوم الذي تحددونه . وابتسم اللنبي وهز رأسه للضابط وقال موجهًا حديثه له : "لقد خسرت
الرهان يا سيدي".
وقد يتراءى للمرء أن لورانس، أو أي شخص في مكانه في تلك اللحظة بالذات سيكون قادرًا على اعطاء
الأمر، رغم أنه كان يحادث قائده العام، نظرًا لما كان يتمتع به من شخصية قوية.
ولكن الحقيقة هي أن اللنبي كان يثق ثقة عمياء بهذا الضابط الشاب، بل ربما كانت ثقته به تفوق ثقة لورانس
بنفسه.
١١١١٨٨
واعترافًا بحكمته في القيادة الحربية كتب الجنرال اللنبي يقول : "لقد كانت تحت إمرتي … ولكنني بعد أن
أطلعنه على خطتي العامة، اطلقت يده … وكان تعاونه يتميز بالإخلاص المطلق، حتى لم يكن لدي ما أقوله فيما
يفعله، غير الإطراء والثناء، ذلك لأن ما كان يفعله كان له أكبر الأثر في نجاح الحملة".
ولو أن الجنرال اللنبي لم يكتشف هذه الخصائص في لور انس، لكان هذا قد انتهى بعد أول فشل صادفه، وذلك
لكثرة ما كان له من أعداء في القيادة العامة وفي القاهرة، وما كان في مقدوره أن يمضي قدمًا لولا تأييد القائد
العام.
وقد أدرك لورانس إدراكًا تامًا مدى الدّين الذي يثقل كاهله بالنسبة للقائد العام.
وعلى الرغم من أ نه كان مشغولا في استلام ما يستطيع استلامه من القيادة العامة، من ذهب ومؤن، فقد أسرع
بالعودة إلى فيصل ليبلغه انباء انتصاراته، وليعلن إليه بأنه لن يكون مضطرًا في المستقبل، لتنفيذ الخطط التي
يرسمها الأمير، ما لم تحظ بموافقته
[align=center]  [/align]
-
الفصل الثاني والعشرون
نبذ فيصل
كان أحر استقبال لاقاه لورانس هو ذلك الاستقبال الذي قوبل به لدى عودته إلى معسكر فيصل الذي سر
كثيرًا عند سماعه نبأ حصوله على الألفي جمل. وقد بلغ من شدة سروره أنه عجز عن الكلام لفترة من الزمن.
ولكنه ما لبث أن قفز واقفًا وراح يقبل لورانس، ثم أخذ يصفق بيديه ف أسرع إليه خدمه، فأمرهم باستدعاء عودة
وزعل وفهد وغيرهم من الشيوخ الذين يتولون قيادة جيشه.
ولما اجتمعوا كلهم قال لهم : "إن الله قد بعث الينا بهدية من شأنها أن تحمل العرب الآن على السير قدمًا نحو
النصر، دون أن يهددهم أحد، ومن ثم فسينالون حريتهم". وشكروا لورانس بحرارة وهنأوه على نجاحه البارع.
ثم انقلب الشيوخ إلى مجادلة بعضهم بعضًا حول أفضل الطرق التي يمكنهم بها استخدام هذه القوة الإضافية
التي أرسلها إليهم الله!.
وأسرع لورانس ليبلغ "جويس" تلك الأخبار الطيبة، إذ كانت تلك اللحظة هي اللحظة الحاسمة، لأن وسائل
النصر كانت واضحة أمامه. فهو قد أصبح، وبعد طول انتظار، يملك المفاتيح التي ستفتح له بوابات دمشق.
ولقد أحس بأن الآلام التي عاناها خلال السنتين الماضيتين قد ولت، وأنها كانت تستحق أن يعاني ما عانى من
أجلها بعد أن أصبح متأكدًا من حصوله على النصر المؤزر في النهاية، فعرش سوريا أصبح جاهزًا للملك الذي
سيتربع عليه، وأصبح "صانع الملوك" مستعدًا لتقديم الملك ليستلم العرش.
ولذا فقد وقف لورانس وسط الشيوخ الذين كانوا يضحكون بسرور طاغ، مستمتعًا بما استطاع تحقيقه حتى
الآن للأمير.
وقد أصبح متأكدًا من حصوله على الجائزة القيمة ال تي سيقدمها له هذا الأمير المعطاء . ولكي يتأكد أكثر من
صدق تخميناته قال لفيصل، إن لحظة النصر ستعني لحظة تسريحه من الخدمة، الأمر الذي اعترض عليه
١١١١٩٩
فيصل، كما كان لورانس يأمل ويتوقع، وأسرع يقول : " يجب أن تبقى معنا دائمًا… وليس حتى دمشق، فقط، كما
وعدتك في أم لحج". والواقع أن لورانس كان في ذلك الوقت هو القوة الكامنة وراء عرش شبه الجزيرة العربية.
غير أن إشراقة شمس هذه اللحظة البطولية، سرعان ما اختفت، بل وبأسرع مما بزغت فيها.
وكما يكون الحلم أحيانًا زاخرًا بالآمال، فإن الأشباح السوداء سرعان ما تشوبه، حتى يصبح كابوسً ا. إذ أ،ه لم
يمض أكثر من شهر، حتى وجد لورانس أن كل شئ جاهد من أجله قد أخذ يتلاشى تدريجيًا، إذ بلغه بأنه لن
تكون هناك شبه جزيرة عربية حرة ومتحدة، لأن العرب كانوا مختلفين فيما بينهم، ولان فيصل أضعف من أن
يوحدهم أو يبعث فيهم الحياة . وكان لورانس حتى تلك اللحظة يرفض الإذعان لكل ما كان باديًا له من إشارات،
وواصل سعيه رغم علمه بأن الحلفاء يتآمرون لجعل شبه الجزيرة العربية مستعمرة لهم، اعتقادًا منه بل لعل
من الأصح القول إنه أجبر نفسه على الاعتقاد بأن العرب سيظهرون قوتهم، ويرغمون بذلك البريطانيين على
تنفيذ ما بذلوه لحسين من وعود، بعد أن يتم طرد الأتراك من بلادهم.
لقد كان يغضب … ولكنه ما كان ليعارض أو يعترض، عندما كان العرب يظهرونه بمظهر الفاشل، وعندما
يعللون عدم تحقيقهم للانتصارات بسبب نقص الرجال والأسلحة والجمال . ولكنه كان يكتشف كل أسبوع أنه مرد
عدم إقدام العرب على الحرب بحماسة، يعود إلى قلة الثقة في قلوب آل الشريف الحسين، وليس لقلة الامكانيات
الحربية.
وقد هبط الوحي على لورانس في منتصف شهر حزيران، بعد أن عاد هو وناصر وعودة من شن غارة على
خط حديد الحجاز لمنع الأتراك من إرسال أية إمدادات إلى حاميتهم المحاصرة في معان، بعد أن وردت الأنباء
تفيد بأن القوات التركية تتجمع في عمان.
وكانوا على الرغم من تعرضهم لقنابل الطائرات التركية قد تمكنوا من تحقيق مهمتهم، فنسفوا مسافة أربعة
أميال من خطة السكة الحديدية، بالإضافة إلى ثلاثة جسور وبعض بنايات المحطة في "الحسا" التي تبعد مسافة
ستين ميلا عن معان، ومحطة أخرى تقع إلى الشماء من "الحسا".
وقد شرح لورانس أمر العملية للأمير فيصل بقوله : "إن هذه العملية تعني تجميد القوات التركية في مركزها
قرب عمان مدة لا تقل عن شهر، وربما امتدت إلى ثلاثة أشهر، وخلال هذه الفترة ستصل الإبل الجديدة
وستكومن جاهزة للعمل".
وكان على اللنبي أن يؤخر هجومه حتى شهر تشرين الأول لأنه لم يكن يملك العدد الكافي من القوات، واذا ما
كان العرب على استعداد للهجوم منفردين في شهر أيلول، عندما تصل الإبل، فستكون أمامهم كل فرصة
لاحتلال دمشق وحدهم.
واقترح لورانس على فيصل أن يطلب إلى ابيه الحسين نقل وحداته النظامية لتلتحق بقوات فيصل، كي تشترك
تحت قيادة عبد الله وعلي وفيصل في هذا الهجوم العربي . ولو جاءت هذه الوحدات لرفعت عدد قوات فيصل
النظامية إلى عشرة آلاف مقاتل، وهذه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول للدفاع عن معان، والثان ي
ليقوم بالهجوم في قطاع درعا دمشق، أما الثالث فلكي يلحق بقوات اللنبي في أريحا.
١١٢٢٠٠
فالهجوم على قطاع درعا دمشق سيضطر الأتراك إلى سحب فيلق من فلسطين، وبذلك يمكن مساعدة اللنبي
لدعم هجوم العرب، كما أنه يعني أن العرب سيدخلون دمشق في ذات الوقت الذي تتقدم فيه ال قوات البريطانية،
وهكذا يكون بامكانهم الاستفادة من الدعم البريطاني، بدلا من أن يعرقل تقدمهم.
ووافق فيصل فورًا على هذه الخطة، وبعث بالرسائل الضرورية إلى والده في مكة . ثم طلب لورانس إلى
"وينغات" الذي خلف مكماهون في القاهرة، أن يضيف رسالة أخرى إلى مجموعة الرس ائل هذه، يؤكد فيها على
الشريف حسين بأن البريطانيين يؤيدون مطالب فيصل الخاصة بدعمه بالقوات النظامية، وأن الشريف حسين لن
يكون مسرورًا إذا ما رفض طلبًا يدعمه الضابط البريطاني للمدفوعات.
وقد تم له ما أراد، وإن كان لورانس يقول : ان لهجة رسالة المندوب السامي البريطاني "وينغات " كانت أشد
كثيرًا مما ينبغي. وبعدها ذهب لورانس إلى مقر القيادة العامة ليبلغ اللنبي آخر التطورات.
وابتسم القائد العام وأبلغه بأنه جاء متأخرًا، فالقوات الهندية أخذت تصل، كما أن اللنبي قرّر تقديم موعد
هجومه العام إلى أيلول، قبل وصول لورانس بثلا ثة أيام، وعلى هذا فإن الجيوش العربية لن تهاجم منفردة بل
جنبًا إلى جنب مع حلفائها البريطانيين.
وقد تقبل لورانس الأمر على علاته، وإن كان قد تألم لتأكده من أن العرب لن يتمكنوا من لعب دورهم
منفردين.
ثم نزلت الضربة الفعلية . فبعد أن حصل على تأييد اللنبي على خط ته بفعل الوحدات النظامية التابعة لقيادة
علي وعبد الله إلى قوات فيصل، ذهب إلى جدة ليقابل الشريف حسين.
ولكن الشريف لم يعر قدومه أي اهتمام، واحتج بحلول شهر رمضان ولجأ إلى مكة للتعبد، حيّث لا يجوز لغير
المسلمين أن يدخلوا تلك المدينة . وقد اتصل به لورانس هاتفيً ا من جدة ليحاول حمله على اتخاذ قرار، ولكن
الشريف رفض أن يقيد نفسه بوعدٍ ما.
والواقع أن الشريف حسين كان يحسد ابنه فيصل على ما حققه من انتصارات وراح يشك في تقربه من
البريطانيين، وعلى هذا الأساس أوضح أمرًا واحدًا، هو أنه لن يرفع إصبعًا في سبيل مساعدة فيصل عل ى
احتلال دمشق، وانه يكرس كل قواه لرفع مستوى كل من علي وعبد الله اللذين اعلن أ،هما على التوالي وريثا
عرش الحجاز وعرش سوريا . أما فيصل ومستشاره الانكليزي فقد كانا يتبعان سياسة تخالف رغباته، ولذلك فهو
لن يشارك بها.
ولكن الشريف حسين بدافع من حسده وشكه ارتكب حم اقة كبرى، إذ أنه لم يدرك أن سياسته التي يتبعها
ستلقيه في أيدي الفرنسيين الذين كانوا رغم شكه في البريطانيين شكًا عميق الجذور يعتزمون ضم سوريا وما
يمكنهم ضمه من البلاد العربية إلى منطقة نفوذهم بعد تحرير شبه الجزيرة العربية.
والواقع إن شكوك لورانس في ذلك ا ليوم القاتم الذي قضاه في جدة، كانت تعبيرًا عن شكوك الشريف حسين،
تلك الشكوك التي أحيى بها الفرنسيون بما قدموه من دسائس وأكاذيب لاقت قبولا لديه . ألم يكن "بريموند " هو
الذي حرض عبد الله على الوقوف ضد البريطانيين؟ ثم … ألم يكن غريبًا بينما كان فيصل بعيدًا أن يقوم عبد الله
١١٢٢١١
بتسميم أفكار والده عليه وعلى حلفائه البريطانيين، مستخدمًا الشائعات عن الصفقة الانكلو فرنسية حول
اقتسام شبه الجزيرة العربية، من أجل زيادة غضبه؟.
ومع ذلك، فإن ما هو أسوأ كان سيتبع كل ما حصل، إذ أن شكوك الشريف حسين في ابنه فيصل قد انقلبت
إلى اتهام مباشر بعد شهرين فقط من تلك الحادثة، بل وتعدت تلك الشكوك الأمير فيصل إلى قواته.
وحصل في أحد أيام شهر آب أن تلقى الأمير فيصل برقية من مكة فيها نبأ تعيين جعفر باشا قائدًا عامًا للجيش
العربي الشمالي، وهو لقب لا يمكن أن يحمله غير الأمير فيصل ذاته.
ولما لم يشأ جعفر أن يقحم نفسه في مثل هذه الخلافات العائلية، فقد أبرق إلى مكة عارضا استقالته، غير أن
فيصل رفض ارسال البرقية، وبعث ببرقية إلى والده يحتج فيها عليه لمحاولته انتزاع القيادة منه لمجرد حسد لا
مبرر له ولمجرد شبهات لا أساس لها تحوم ضده وضد قواده في الحملة على سوريا.
وتلقى فيصل برقية جوابية تصفه بأنه خائن وخارج على القانون، وعندها عرض فيصل استقالته فقبلها
الشريف، وعين زيدًا مكانه غير أن ابنه الأصغر رفض قبول المنصب رفضًا باتًا.
وكان من الواجب إملاء الفراغ بأسرع وقت ممكن، لأنه لم يبق على هجوم العرب سوى بضعة أسابيع، وكان
على الجنرال اللنبي أن يقرر، بل وطلب إليه أن يتدخل وقرر، ما إذا كان يجب على فيصل أن يستمر في
منصبه رغم إرادة والده، أم انه يجب أن يعلن استقلاله عن مكة.
ومضت عدة أيام حافلة بالقلق، كان كل شخص ينتظر خلالها، وقام اللنبي بضغط على الشريف حسين ليقنع ه
باعادة تعيين الأمير فيصل، غير أن خطوط اللاسلكي من المدينة المقدسة كانت تحمل رسائل تزيد من الاتهامات
الموجهة إلى فيصل . ولكن لورانس نجح في تخفيف محتوياتها قبل أن يعرضها على فيصل، وذلك في محاولة
منه لتخفيف حدّة الخلاف . وخلال ذلك حدث تمرد في صفوف القوات العر بية النظامية التي تناهت إليها شائعات
الأزمة، الأمر الذي فسر انسحاب فيصل ولو بشكل مؤقت، من ميدان توزيع الأموال . غير ان هذا التمرد امكن
السيطرة عليه بعد أن قام لورانس بتقديم الأمير لقواته وتذكيرهم بأن وجوههم ميممة شطر دمشق، وليست شطر
مكة.
وأخيرًا أقنع الشر يف حسين بسحب إرادته غير العادلة، ولكنه لم يستطع، في البرقية التي حملت نبأ عدوله عن
عزل فيصل، إ ّ لا أن يكرر اتهاماته له ولكل من يؤازره من الأشراف.
ومرة أخرى تمكن لورانس من تخفيف لهجة البرقية قبل أن يسلمها إلى فيصل الذي صرح بأن "البرقية قد
انقذت شرفه"، ثم همس في اذن لورانس قائلا: "إنني أعني شرفنا جميعًا".
وهكذا انتهى الحادث بضحكة … ولكن ما كانت تخفيه من نذير كان واضحًا، فإن وحدة شبه الجزيرة العربية
التي عمل كل من لورانس وفيصل على تحقيقها بمختلف الطرق وبمنتهى الحذر، وبكل الوسائل الدبلوماسية
الممكنة، وأعدّا لها الخطط ورسما المشاريع قد بدأت تنهار، وفي اللحظة ذاتها التي كان يترتب فيها على
جيوش الشريف أن تشن هجومها على دمشق وتحرر سوريا، حتى يكون فيصل الأولى بالعرش.
وفي تلك اللحظة بالذات كانت الحركة العربية بأسرها مهددة بخطر الانقسام بدوافع الحسد والغيرة.
١١٢٢٢٢
ولقد ع اد لورانس إلى القاهرة رج ً لا محطمًا، قد انقلبت حماسته إلى يأس، كما أن شعوره بمسؤوليته وأطماعه
الشخصية قد اضمحلت حتى غدت كنقطة في بحر
[align=center]  [/align]
-
الفصل الثالث والعشرون
تحليلات شخصية
لما عاد لورانس إلى القيادة العامة، القى بنفسه في خضم العمل من أجل إعداد الترتيبات اللا زمة للحملة
الأنكلو عربية المشتركة على دمشق . وكان ذلك يتضمن إعداد خطط مخاتلة، توحي للأتراك بأن هناك
تجمعات هائلة من السيارات والخيام والطائرات، سيستخدمها اللنبي في إعادة الهجوم على السلط وعمان، في
الوقت الذي تكون فيه القوات البريطانية زاحفة باتجاه الشاطئ في حركة التفاف سريعة.
وكان على القوات العربية أن تساعد في إبقاء الأتراك يتوقعون حدوث المعركة في قطاع عمّان ووادي نهر
الأردن، مع قيام حركة تمرد في درعا "النقطة الحسّاسة بالنسبة للجيوش التركية " وهدف القوات البريطانية
الرئيسي.
ونظرًا لأن قوات فيصل لن تكون على أهبة الاستعداد حتى شهر أيلول، فقد اتفق على أن ترسل فرقة الهجانة
بقيادة الكولونيل "بوكستون" للقيام بسلسلة من الغارات على خط سكة حديد الحجاز، من "المدوّرة" حتى عمان.
وكان المأمول أن تساعد هذه العمليات في إبقاء الضغط على الأتراك، بينما تيسر للقوة العربية الضاربة أن
تتمركز في الأزرق، استعدادًا للزحف على درعا.
وبعد أن قاد لورانس رجال "بوكستون" حتى وادي "رم" لتلقينهم الطرق والعادات التي تتبعها القبائل العربية،
تلك الطرق والعادات التي ينتظر أن يلاقوها اثناء هذه الحملة، أسرع إلى مقر قيادة فيصل في سهل "الجفر" الذي
يقع إلى الشمال الشرقي من معان.
وقد وجد لورانس المكان يعج بالنشاط، ذلك النشاط الذي يسبق الزحف في العادة . وكان مقر قيادة فيصل كذلك
يتميز بالتوتر الذي نجم عن زيارة "نوري الشعلان" الذي جاء في النهاية ليعرض تأييد قبيلة "الرولا".
وأخذ لورانس بهذا الهرج وا لمرج، ولكنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في خوض الحديث عن الحرية، ذلك
الحديث الذي كان يملأ خيام الأمير فيصل . وعلى الرغم من أن لورانس كان يعرف بأن مستقبله النهائي مرتبط
بمستقبل قضية العرب، إ ّ لا أنه كان يشعر في قرارة نفسه بأنه ينبغي عليه أن يشعر بنوع من التبكيت و تأنيب
الضمير.
حتى لقد كتب يقول : "عندما أتحدث عن الشرف، أشعر وكأنني قد فقدته قبل سنة، عندما أكدت للعرب ان
انكلترا ستحافظ على كلمتها".
ولكن لورانس بدافع من حقده، وشعوره بالخيانة للقضية التي كرّس نفسه من أجلها، وما كان ينتابه من نوازع
الشك في مقدرة العرب عل ى التغلب على دوافع خيانة قضية الحلفاء بأسرها، راح يستمع إلى تقارير فيصل
يوميًا، وكأنه يستمع إلى رواية.
١١٢٢٣٣
ولم يمض طويل حتى كان أحد الأشخاص الرئيسيين في الميدان، وإن كان دوره لا يعدو المراقبة والانتظار،
بينما يقوم الممثلون بتمثيل أدوارهم على المسرح حتى نهاية المأساة.
وفي تلك الأثناء، انصرفت شكوك لورانس التي كانت تعذب دماغه إلى جهة أخرى، فقد وصل "دوناي" يحمل
أنباء سارة عن نجاح "جويس" في احتلال "المدورة" كما يحمل إنذارًا إلى فيصل بالا يستعجل الهجوم على
دمشق، إ ّ لا عندما يتأكد من أن الانكليز قد اخترقوا خطوط الاتراك الدفاعية.
وقد أجاب فيصل مبتسمًا بأنه "سيحاول الهجوم خلال الخريف على دمشق، حتى ولو سقطت السماء على
الأرض، وحتى لو لم يكن الانكليز على استعداد لتحمل قسطهم في ذلك الهجوم، بل حتى لو اضطر إلى انقاذ
شعبه عن طريق عقد صلح مع الاتراك".
وكان لورانس يعلم منذ مدة بأن الأمير فيصل كان يكاتب جمال باشا، ولكنه اعتبر بطريقته البيزنطية أن
تبادل الرسائل بين الطرفين مجرد محاولة لتقسيم صفوف الأتراك، على اعتبار أن قسمًا من أركان حرب جمال
باشا كان يعارض في التحالف مع الألمان وهذا يمثل القسم المتعصب للإسلام ويعارض في ا تخاذ
إجراءات انتقامية ضدّ الحجاز، كيلا تمتدّ المقاومة للحكم التركي إلى أجزاء أخرى من الامبراطورية العثمانية.
وكانت الاتصالات قد بدأت بعيد فشل اللنبي في احتلال السلط، وعندما جاء شقيق عبد القادر، المدعو محمد
سعيد كمبعوث من قبل جمال باشا، ليجس نبض الأمير فيصل حول امكانية عقد مفاوضات للتسوية.
وكان جمال باشا يدرك بأن ورقته الرابحة هي اتفاقية "سايكس بيكو "، ولذلك فقد دعا بشدة إلى ضرورة
تحالف المسلمين واتحادهم معًا، حتى يتمكنوا من إبعاد الغربيين الكفرة.
ولكن فيصل اعاد ذلك الرسول ليبلغ جمال باشا بأنه مستعد لوقف القتال "إذا ما اخلى الأتراك عمان وسلموا
اقليمها لإدارة عربية".
وكاد جمال باشا أن يشنق محمد سعيد لفشله في الوصول إلى احسن من هذا الحل، ومنذ ذلك الوقت استمرت
الرسائل بين الجانبين . وعلى الرغم من انتظامها إ ّ لا أن فيصل كان لا يرد بشىء إيجابي ويكتفي بأجوبة غام ضة
على كل طلب تركي.
ولكن لورانس حذره عن حكمة، بوجود الاتفاق الانكلو فرنس، ونلطه قد اعتقد بأنه أقنعه بأن مصلحته
تقضي بألا يعقد معاهدة صلح مع الأتراك بل أن يثبت ولاءه للانكليز الذين لا يمكن أبدًا ويا للعار أن
يتنكروا للوعود التي قطعوها لوالده. والآن.
وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد كان يهتز بشدة لدى فيصل، والشخص الذي اختاره ليجعل منه ملكًا يهدد بعقد
صلح مع الأعداء فقد حس لورانس بأن الكابوس يقترب.
ولم يعد قادرًا على الجزم وحده بمن يثق وبمن يضع عليه اللوم لتلك الخيانة والخداع، اللذين كان
يمارسهما، واللذين أصبحا عبثًا ثقي ً لا على ضميره.
ولكي يريح دماغه، قرر لورانس أن يتوجه برفقة "جويس" وفرقة من السيارات المصفحة ليعيد استطلاع
منطقة الأزرق، حيّث كان من المقرر أن تحتشد قوات فيصل استعدادًا للهجوم النهائي.
١١٢٢٤٤
ولقد وجد لورانس في هذه الرحلة عزاء بين الجنود البس طاء لفرقة السيارات المصفحة أثر على تطوير آخر
اثنتي عشرة سنة من حياته . وكان لورانس عندما يتحدث إلى من هم في مثل رتبته أو أعلى من رتبته، يتحدث
بلهجة لا تخلو من هياج، أما عندما كان يتحدث إلى من هم دونه رتبة، فقد كان يتحدث بلطف، على الرغم من
أن أولئك الذين قابلهم اثناء الحرب لا يملكون عشر ما يملكه من معرفة وثقافة.
وذلك لأنه بين اولئك الجنود كان لا يحس بضرورة اظهار نفوذه حتى يظهر في المركز الأعلى، وحتى يتغلب
على الشعور بالنقص الذي لازمه منذ ولادته . وكان يجد بين هؤلاء الناس، سواء أكانوا عربًا أم بريطانيين
راحة ن فسية، لم يضعفها كون الرياح تجري بعكس ما كان يتمنى، والتي كانت تضاعف من شعوره بالنقص في
كونه رج ً لا كبقية الرجال.
وكان يجد في تلك الحالة النفسية مهربًا من حقيقته، ومن المسؤولية التي بات يؤمن بأنه لم يعد قادرًا على
تحملها أكثر مما تحملها.
غير أن أحدًا ما كا ن ليعر ما يعتمل في صدر لورانس من مشاعر متناقضة، فقد غدا عبء المسؤولية الملقاة
على عاتقه فجأة غير محتمل، لاسيما بعد أن أصبح حلمه الخاص الذي كان يأمل في تحقيقه يتلاشى.
وقد احتمل كل عذاب وألم جسديين، كما احتمل بالإضافة إلى ذلك كل ضروب العذاب الروحي بما يكفي ، لو
كان هذا الصبر ضروريًا، ليربح العرب قضيتهم، وها هو يحد نفسه أعجز من أن يقرر ما إذا كان سيقود بنجاح
أو يسئ قيادة العرب. فيدفعهم إلى التحالف مع الآخرين.
كان لورانس في غمرة هذه اللحظات الحرجة يكاد يصل إلى درجة الجنون، فقد دفع نفسه أكثر مما يستطيع
عقله أو جسمه أن يتحمل، وأصبحت الخاتمة الآن شيئًا لا مفر منه : نصرًا أجوف أو انسحابًا مروعًا، والسؤال
الآن هل كان بمستطاعه أن يتحمل أيًا من الاحتمالين؟
[align=center]  [/align]
-
الفصل الرابع والعشرون
قطع شرايين العدو
حدث تجمع كبير للعرب، قبل أسبوع من بدء هجوم اللنبي، وذلك في الأزرق استعدا دًا لشن آخر هجمات
الربيع. فقد كان هنالك فيصل ومعه جنوده الخمسمائة تحت قيادة نوري السعيد، بالإضافة إلى رجال مدفعية
"بيزاني" أو "بيساني" وفرقة من الهجانة المصرية بقيادة "بيك".
وقد انضم إليها عودة ونوري الشعلان والشريف ناصر وفهد وغضوب وطلال ومحمد الفيلان، وع دد من
الشيوخ الآخرين مع بضعة آلاف من رجال القبائل الذين يؤيدون هؤلاء الشيوخ من الحويطات والرولا والزبن
والسيراحين.
وكذلك عد من الدروز الذين قدموا من تلال سوريا ومدن الشمال . وكان لورانس قد وصل بسيارة مصفحة
برفقة "جويس" و"يونغ" واثنين من الضباط الشباب هما "سترلنغ" و"ينترتون" وفرقة من السائقين البريطانيين يقدّر
عددها بأربعين سائقًا، وعدد من حملة البنادق السريعة الطلقات.
١١٢٢٥٥
وكذلك وصلت طائرتان من العقبة بقيادة الضابطين "مورني" وجونور" اللذين كانا قد كوفئا مؤخرًا لبسالتهما
في الغارات التي شنوها على القوات التركية وخطوطها الدفاعية.
وكانت خطة تطويق درعا تتضمن القيام بثلاث غارات على خطوط السكة الحديدية التي تقود إلى خارج
البلدة، بحيث تبقى الخطوط معطلة لمدة لا تقل عن أسبوع، حتى لا يقوم الأتراك بأية تجمعات أو يهبوا من
الأردن وسوريا لنجدة قواتهم في جبهة فلسطين، عندما يبدأ الحلفاء هجومهم.
ونظرًا لأن ما كان لدى الحلفاء من طائرات لم يكن كافيًا للقيام بغارة مباشرة على درعا وتدمير محطتها، فقد
تقرر البدء بنسف خطة السكة الحديدية إلى الجنوب، لقطع دعم عمان (وكان بركستون وفرقته من الهجانة قد
أمر بالقيام بهذه المهمة، غير أنه لم يس تطع تنفيذها لوجود قوة تركية تفوق القوة التي كانت معه ) ثم يتجهون
شمالا لنسف خط سكة حديد دمشق، ثم ينسفون أخيرًا خط السكة الحديدية لفلسطين.
وواضح أن المخاطرة بهذه العمليات من الأمور التي يصعب تصورها، فقد كان كل شئ يعتمد على نجاح
هجوم اللنبي، وهذا الهجوم يعتم د بدوره على القدر الذي يمكن فيه إيهام الاتراك بأن الهجوم الرئيسي موجه إلى
درعا.
فاذا فشلت القوات العربية في خداع الأتراك، أو إذا فشل اللنبي في التغلغل غربًا، فان ذلك يعني أن جيش
فيصل سيقع بكامله، كما يقع الفأر في المصيدة . وكان هذا الجيش يعمل ضمن عدة مئات من الأميال، داخل
الخطوط التركية، والطريق الوحيدة له للتراجع مهددة بالحامية التركية التي كانت ما تزال موجودة في معان
وعمان.
ونظرًا لتفوق قوات الأعداء في كل من عمان ومعان ودرعا، فقد كان ما ينبغي على العدو عمله هو أن يتعلم
في حالة فشل الخطة أن يهجم من الشمال والجنوب ومن ثم يقطع قوات فيصل قطعًا صغيرة.
ولم يكن أحد ليعرف مدى خطر هذه المغامرة، التي كان من المقرر أن تقوم بها القوات العربية، أكثر من
لورانس الذي كان سيرافق تلك القوات . غير أن حالته النفسية لدى وصوله إلى الأزرق، كانت لا تقل حماسا،
حتى ليمكن القول بأنه كان غير مبال بالأخطار التي كانت تهدّده.
وخلافًا للبهجة التي كان يشعر بها اثناء الزحف على "الوجه" والهجوم الصعب على العقبة، فقد كان الآن
عاجزًا عن الشعور بأي حماس لذلك الجو الذي كان يخيم على معسكر فيصل.
وقد كتب يقول :"لقد كان كل واحد مبتهجًا وبصحة جيدة ما عداي… فقد كنت متعبًا لدرجة الموت من هؤلاء
العرب، الذين كنت اشعر نحوهم بالشفقة … إنهم يدركون عدم ثقتنا في مقدرة معداتهم الحربية، أو حتى مقدرتهم
على القيام بخير أو شر".
وأحس لورانس بشىء من الراحة، فعاد وترك اتخاذ القرار لزميله "جويس" وكان "بيك" قد أوفد ليقوم بعمليات
النسف مع فرقة الهجانة التي يقودها، والتي درب أفرادها على فنون العمار من أجل هذا الغرض.
ولكن…. بينما كان لورانس يستعد للسفر في اليوم التالي مع قوات الطليعة إلى قاعدة "أم طايع " التي تبعد
مسافة أميال قليلة إلى الجنوب من درعا، جاءته رسالة مفا دها أن فرقة الهجانة التي أوكلت إليها مهمة نسف
١١٢٢٦٦
الخط الحديدي، قد اعترضتها جماعة من القبائل الموالية للأتراك، بالقرب من النقطة التي كان مقررًا أن يجري
النسف فيها لقطع السكة الحديدية المؤدية إلى عمان.
وجمع لورانس، الرجل المتعب، قواته، وأسرع برفقة "جويس" و"ينترتون" واثنين من الضباط، في سيارتين
مصفحتين، ليقوم بالمهمة بنفسه.
وقد اندفعت هذه القوّة على صغرها، فنسفت المركز التركي ودمرته ولم ينجح من جنوده غير خمسة، أخذتهم
أسرى، كما دمرت جسرًا يبلغ طوله ثمانين قدمًا لقطع اتصال درعا بالجنوب.
وأثناء عودة هذه القوة من غارتها هذه، كادت تقع في أسر دورية تركية، ولكن المصفحتين راحتا تطلقان
المدافع، حتى كادت الذخيرة أن تنفذ، قبل أن يتمكن أفراد القوة من الهرب، تاركين العدو في حالة ذهول لا
توصف.
وقد حدث شئ ما، أثر على لورانس، فغيره من ذلك الشخص اللامبالي الذي كان في الأزرق، إ لى رجل
مجنون، انهمك خلال الأسبوعين التاليين في القتال كرجل أصيب بكرب شديد دفعه إلى ما يشبه الهذيان.
ولكنه عندما عاد والتحق بالقوة الرئيسية التي كانت بقيادة نوري السعيد شمالي درعا، كانت في عينيه نظرة
غريبة تنطوي على مزيج من الكره والقسوة على تلك الروح التي كان يتحلى بها والتي كانت تحمله على
المحافظة على الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لقد أحاله اليأس إلى رجل غضوب، ثم أصبح فاتكًا لا يتورع عن تشجيع البدو على عدم الاكتفاء بالثارات،
حتى ليمكن القول بأن تهوره والأعمال التي قام بها خلال اليومين أو الأيام الثلاثة التي تلت، إن دلت على شئ
فإنما تدل على عزمه على الانتحار، إذ أنه لم يسبق له أبدًا عرض نفسه لرصاص العدو، أو قام بأعمال جنونية،
كما فعل في تذلك الأثناء.
وقد قام خلال الزحف حول الجانب الشرق من درعا، بمجهود لا يكاد يذكر لإخفاء نفسه أو تحركاته، فكان
يتقدم على مرأى من سكان البلدة التي كان يعلم بأنها محصنة بثلاثة آلاف جندي، بينها فرق ألمانية ونمساوية،
وكان من الممكن في أية لحظة أن تشاهد قواته القليلة العدد، والتي لا تزيد على بضع مئات، منق بل دوريات
العدو الجوية، وكانت كثيرة النشاط.
وبالتالي كان من الممكن أن تباد قوته عن بكرة أبيها نظرًا لتفوق العدو في العدد والعدّة.
ولكن العدو ظلّ وراء أبوابه بعد أن خدع بشائعات كاذبة مفادها بأنه سيحاصر بقوة من العرب المزودين
بأسلحة كاملة، يبلغ عدد افرادها ثمانية عشر ألف مقاتل . وكانت النقطة التي اختار لورانس أن ينسف فيها جسر
السكة الحديدية بين درعا ودمشق، قريبة جدًا من المدينة، ولا تبعد عنها غير ستة أميال.
ولقد حالفه الحظ مرة أخرى، إذ أن الأتراك ما كانوا ليفكروا في أن ثمة من يجرؤ على مهاجمتهم من هذه
النقطة القريبة إلى درعا، ولذلك فإنهم لم يدعموا مراكز حراستهم . وقد تمكن العرب، بمساعدة قذائف "بيزاني "
من مهاجمة المركز الذي يتولى حراسة الجسر واجهزوا على كل من كانوا فيه.
١١٢٢٧٧
ثم قام الأتراك بهجوم عارم قبل أن تم عملية النسف، مستخدمين أعدادًا كبيرة من الجنود، واسقطوا إحدى
الطائرتين اللتين كانتا قد استدعيتا من العقبة، بعد محاولة بطولية قام به ا قائدها "جونور " لتحطيم تجمعات
الأعداء.
وتشاء الصدف أن يقوم لورانس وحده بانهاء المهمة . فبعد أن وضع قوة صغيرة من حملة البنادق السريعة
الطلقات، لحماية تراجعه، ولاشتغال أية دورية تركية قد تجيئ لإصلاح الجسر تقدم لانجاز المهمة التي كانت
تقضي بعزل درعا، وذلك عن طريق تدمير خط حيفا والوسائل المؤدية التي تسلكها التعزيرات التركية من
الجيشين السابع والثامن التي كان من المفروض أن تقف في وجه هجوم اللنبي . وكان ذلك في اليوم السابع عشر
من أيلول، أي قبل يومين فقط على موعد هجوم الحلفاء النهائي.
في تلك الأثناء كان العدو ق د أخذ علمًا بالأحداث، ولكنه ظل، كما كان اللنبي ولورانس يتوقعان، مخدوعًا في
أن كل هذه العمليات إنما تهدف إلى القيام بهجوم عام على درعا، ولذلك فقد كان "ليمان فوق ساندرز " الجنرال
الألماني الذي أرسل لدعم القوات التركية في دفاعها عن فلسطين، مخدوعًا بشكل كلي بما كان لورانس يقوم به
من هجمات مفتعلة، على خط السكة الحديدية.
فشغل بذلك عن التجمعات البريطانية الهائلة التي كانت تحتشد في وادي الأردن، وهكذا بعث بتعزيزات فورية
إلى قطاع درعا.
وما ان وصلت هذه التعزيزات إلى وجهتها، حتى نصب لها لورانس المصيدة التي كان من المف روض أن تبقي
تلك القوات محاصرة في درعا . ومن أجل اتمام هذا العمل، اختار هدفين، الاول محطة "المزيريب " والثاني
جسر اليرموك، الذي كان قد نجا من التدمير في شهر تشرين الثاني الماضي.
وتوجه لورانس، برفقة رجال حرسه وعدد من رجال القبائل، وفصيلة من قوات نوري السعيد ا لنظامية، وعدد
من رجال مدفعية "بيزاني" الذين كانوا قد تعلموا بسرعة ان يصبحوا خبراء في المدافع المضادة للطائرات، بعد
أن وقعت عليهم كثير من غارات الأتراك توجه إلى محطة "المزيريب". وتمكن من احتلالها بعد قصف قليل
بالمدفعية، أدى إلى مقتل معظم المدافعين عن تلك المح ّ طة.
وترك رجال القبائل يستولون على الغنائم وتوجه نحو الجسر، وكان في هذه المرة يأمل أن يحقق أمله عن
طريق الرشوة، فقد كان الضابط المسؤول عن حراسة الجسر أرمنيًا، وعلى استعداد تام لعمل كل شيء ضد
الأتراك الذين يكرههم.
ولكن الخطة لم تنفذ بشكل صحيح عندما اع تقل ذلك الضابط بتهمة الخيانة، فتحتم على لورانس أن يتوجه نحو
هدف آخر، وهو جسر عال فوق نهر اليرموك:
كان الأتراك هناك بأعداد كبيرة، وعلى الرغم من نجاح مدافع "بيزاني" في تدمير تحصيناتهم، إ ّ لا أنهم لجأوا
إلى صف من الخنادق على امتداد خط السكة الحديدية . ومن هناك واصلوا صب وابل من النيران على
المغيرين، الأمر الذي جعل فرقة لورانس للتدمير تخشى نقل المتفجرات تحت هذا الوابل من النيران، إذ أن
رصاصة واحدة لو أصابت "الحلنجيات" لكانت كافية لتمزيقهم إربًا.
١١٢٢٨٨
ولكن رجال حرسه كانوا أجرأ من اولئك، وتمكن بمساعدتهم من أن يضع الأل غام تحت قوائم الجسر. ولما كان
هذا الجسر، هو الذي شاء القدر أن يكون التاسع والسبعين في سلسلة الجسور التي هدمها لورانس، فكان
وهذا هو الأهم له مركز ستراتيجي، وكان عليه أن يعيش مقابلة في "ام طايع" حتى يصل اللنبي وينقذه . وقد
أكمل المهمة.
وعندها دوى الانفجا ر. وكانت الألغام تحتوي على ثمانمائة رطل من "الحلنجيات " وبعد أن انقشع الغبار
والدخان، لم يكن هنالك أي شيء قد تبقى غير مجموعة من الحجارة والحديد المكسرة.
وهكذا أنهى لورانس المهمة الموكولة إليه قبل أربع وعشرين ساعة من بدء هجوم اللنبي، وبذلك أصبحت
درعا معزولة من الشمال والجنوب والغرب، ولم تعد هناك أية إمكانية لتحرك الأتراك من وإلى فلسطين بطريق
السكة الحديدية، وبات على الجيوش التركية أن تصمد بحزم وإلا أبيدت، إذ لم يعد أمامها أي خط للتراجع ولا
أي أمل في الحصول على تعزيزات بسرعة.
والواقع أن مهمة لورانس قد نفذت، وكانت التعليمات المعطاة إليه، تقضي بأن ينتظر حدوث مزيد من
التطورات، ولكنه بدافع من نوبة الطيش التي كانت تستولي عليه في تلك الأثناء، لم يستطع أن يلبث شرقي
درعا، منتظرًا وصول القوات البريطانية.
وقد كتب يقول : " بعد أسبوعين أو ثلاثة، يجب أن أصر على إعفائي من مهام عملي … لقد انهارت أعصابي،
وسأكون محظوظًا لو أن انهيارها لم يكتشف بسرعة ". وقرر العودة للالتحاق بقوات فيصل في الأزرق، فقد كان
في تلك الأثناء يعلم علم اليقين، بأنه ينبغي عليه أن يطلب اعفاءه من مهامه بعد اسبوعين أو ثلاثة، ولكن … ليس
قبل أن يرى فيصل في دمشق. وبعدئذ يعتزل مهامه في حملة شبه الجزيرة العربية
[align=center]  [/align]
-
الفصل الخامس والعشرون
مذبحة… وانتقام
كانت الانباء التي استقبلت لورانس لدى عودته إلى "ام طايع" قط جعلته يؤمن بأنه لن يحتاج إلى الانتظار أكثر
مما انتظر، حتى تنتهي أعماله . فقد جاءت إحدى الطائرات من فلسطين تحمل رسالة من القائد العام يقول فيها :
إن القوات البريطانية وقوات الحلفاء قد تمكنت خلال اليومين الأولين على هجومها أن تحطم وتمزق الجيشين
السابع والثامن للعدو، كما استولت من مدينتي نابلس وحيفا، وأن العدو يتقهقر شمالا في فوضى تامة . وكان
ناصر وطلال موجودين ليسمعا هذه الأنباء السارة.
ولما كانا قد حصلا على وعد شفهي من القبائل، فقد طالبا بزحف عربي فوري على دمشق، غير أن لورانس
الذي تحمل الكثير من شظايا قنابل الأتراك اثناء محاولتيه الأخيرتين لنسف السكة الحديدية، شعر بأن الجيش
العربي يجب أن يكون لديه دعم جوي أكثر، إذا ما أراد العرب الزحف على دمشق، رغم سلاح الجو التركي.
فأسرع يستقل الطائرة إلى مقر قيادة اللنبي، حيّث وجد القائد العام غير مكترث إ ّ لا بأنباء نجاح حملته … فقد
أصبحت فلسطين تحت سيطرته، وعليه الآن أن ينتقل للمهمة التالية التي كان يراها حقيقة مقرّرة.
١١٢٢٩٩
وكانت الم همة التالية كما أخبر لورانس بها القائد العام تقضي بتوجيه ثلاث ضربات، واحدة إلى عمان،
بوساطة فرقة الجنرال "شايتور" النيوزيلندية، وأخرى إلى درعا بوساطة الفرقة الهندية بقيادة الجنرال "بارو "
وثالثة إلى دمشق بوساطة الفرقة الاسترالية بقيادة الجنرال "شوفيل".
وكانت الأوامر التي أعطيت إلى لورانس تقضي بأن يساعد هذه الهجمات الثلاث، شريطة "إ ّ لا أنفذ تهديدي
الوقح باحتلال دمشق، حتى نكون جميعًا معً ا". وقد أتاحت هذه الأوامر الفرصة أمام لورانس فطلب دعمًا جويًا،
ووصف بالتفصيل ما لقيه هو وفرقة التدمير، عندما هاجموا درعا.
وكان لورانس ورجاله يعيشون في قاعدتهم في "ام طايع" بحالة هي أشبه ما تكون بعش للدبابير. فقد كانت تلك
القاعدة محاطة بمطارات الأتراك، والقوات الموجودة فيها معرضة لينكشف أمرها لدى أدنى تحرك من قبل
طيارات المراقبة، ومهاجمتها بالقنابل ورصاص البنادق السريعة الطلقات.
وكانت قوات لورانس قد حاولت تدمير المطارات والطيارات، ولكنها لم تنجح، فاذا كان عليها أن تساهم في
دعم قوات الحلفاء لدى قيامها بهجماتها الثلاث والتحرك باتجاه دمشق، فان التغطية الجوية إذ ذاك تغدو أمرًا لا
مفرّ منه.
وقد استمع اللنبي إلى هذا الوصف ومعه قائدا سلاحه الجوي، "سالموند" و"بورتون"، اللذان ما إن فرغ لورانس
من طلبه حتى وعدا بتقديم مقاتلتين من طراز بريستول، وطائرة نقل تستعمل كقاذفة للقنابل وكورشة لإصلاح
المقاتلتين فيما إذا أصيبت أي منهما بعطب . وقد تبدو اليوم هذه المساعدة قليلة، ولكنها كانت كافية في ذلك
الوقت لإرضاء لورانس الذي عاد إلى "أم طايع" راضيًا بما كان يعتبره معاملة كريمة من قبل رؤسائه
البريطانيين الذين لم يطلبوا منه غير أن ينتظر دخول الحلفاء إلى دمشق.
ولم يمزق هجوم اللنبي الجيشين التركيين في فلسطين فحسب، بل وأرغم جيش جمال باشا الذي كان يعرف
بالجيش الرابع، على الانسحاب من شريد في الأردن . وكانت الأوامر المعطاة إلى لورانس تقضي بأن يواصل
ضغطه على تلك القوات المتقهقرة حتى تتمكن القوات النيوزيلندية من طردها خارج عمان ثم الإجهاز عليها
اثناء تراجعها نحو درعا ودمشق، ولكن بعد نسف مسافة كبيرة أخرى من خط سكة الحديد عمان درعا، حتى
يقطع الأمل من إمكان التراجع شما ً لا بوساطة السكة الحديدية.
وقد قام لورانس بإلهاء الأعداء بالقبائل البدوية، بينما اسرع هو بنفسه إلى درعا، ليواصل الضغط على
الأتراك، ومنعهم من تحقيق أية إعادة تنظيم لصفوفهم لتصبح مؤخرة للجيش.
وقد قام بالاشتراك مع عودة ونوري الشعلان وظلال وناصر ونوري السعيد، وقوة ازداد عددها بانضمام
المزيد من رجال قبيلة "الرولا" حتى أصبح أربعة آلاف، بالتوجه إلى مكان الأسبوع الماضي.
فاتجه اولا إلى الشمال، ثم، وبعد أن نسف عدة أماكن من خط سكة حديد دمشق، إلى غرب درعا . وقد قام
عودة وطلال ونوري الشعلان اثناء الطريق، بقيادة فرق عسكرية كانت مهمتها اختبار قوة الحاميات التركية
الباقية بين د رعا ودمشق، وعاد كل منهم ليعلن وقوع مئات من الأسرى الأتراك الذين تركوا دون اسلحة.
وكذلك القت الطائرات منشورات تقول إن القوات الهندية بقيادة ا لجنرال "بارو" والقوات الأسترالية بقيادة
الجنرال "شوفيل" تقود أمامها آلافًا من الأسرى الأتراك.
١١٣٣٠٠
ثم وردت رسالة إلى طلال تفيد بأن الألمان في درعا يضرمون النار في طياراتهم ومخازنهم، استعدادًا لإخلاء
المكان، وقد شوهدت أعمدة الدخان الأسود ترتفع بشكل لا يدع مجا ً لا للشك في طبيعة ما يقدم عليه الألمان.
ولكن طلا ً لا لم يكن ليفكر في درعا في تلك اللحظة، فقد قدر بأن الأتراك المتقهقرين أمام الهنود، كما أفادت
التقارير، لابد وأن يمروا بقرية طفس " التي هي قريته الخاصة. وكانت التقارير تفيد بأن عدد الأعداء يزيد على
الألفين ولذلك فقد خشي على سلامة أهله وذويه.
ولذلك وافق لورانس على طلبه بأن تقوم القوة العربية وباقصى سرعة ممكنة لقطع الطريق على الأتراك
المتقهقرين، قبل أن يصلوا إلى "طفس" وأسرهم. ولما وصلوا إلى منتصف الطريق بلغهم أنهم قد تأخروا، فقد
ابلغتهم جماعة من الأعراب قابلتهم بأن القوات التركية دخلت بالفعل "طفس".
وكان العرب يقودون أمامهم جماعة من الأسرة الأتراك في اسوأ حال، ظهورهم العارية زرقاء اللون من
الضربات والسياط التي تلقوها من آسريهم، ولكن نظرًا لأن لورانس والآخرين كانوا يعلمون بأن اسراهم هم من
قوات البوليس في درعا، تلك القوات التي ذاقوا على أيدي أفرادها أشد العذاب، لم يشعر أحد بأية شفقة تجاههم،
بل لقد شجع لورانس العرب على التنكيل بهم.
وربما كان لدى لورانس نوع من الشعور كما كان لدى طلال أوحى إليه بما سيجده في "طفس " بعد أن
دخلتها القوات التركية . فمن المؤكد أن الشعور ا لذي ساورهم وهم يسيرون باتجاه القرية لا يمكن أن يكون هناك
شعور افظع منه، فقد قام الأتراك بارتكاب أفظع أنواع الجرائم، في اهل تلك القرية.
وقد وصف لورانس الحادث بقوله : "كانت القرية عندما دخلناها ما تزال تلفها سحب من الدخان، ورأينا كت ً لا
رمادية، بدت وكأنها اخت فت بين الحشائش عن أعين القوات التركية. ولما تفحصنا تلك الكتل، وجدناها بشرًا
محترقًا ميتًا، وكان من بينها طفل صغير قتل بوحشية . كان هذا الطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، تجمد
الدم على كتفه بعد أن نزف من جرح كبير، ربما كان طعنة حربة.
وقد جاءت هذه الطعنة ف ي المكان الذي يتصل فيه العنق بالجسم… ومررنا بأجسام أخرى لرجال ونساء …
وخارج القرية توجد أكواخ طينية واطئة، لعلها زرائب للغنم، ووجدنا في أحدها شيئًا ابيض وأحمر، فاقتربت
فوجدته جسد امرأة نزعت ثيابها، وطعنت بحربة في المكان الحساس من جسمها، وكان المسكينة حاملا، وحولها
ترقد أخريات، ربما كان عشرين، وجميعهن قتلن بوحشية لا مثيل لها… "
لكن كل هذا الوصف معظمه مبالغة قصد منه استثارة العرب.
ورأى طلال بعض أهله قتلى، واطلق صرخة كحيوان جريح، والقى بكوفيته على وجهه وتلثم، وأعد بندقيته
وانطلق وراء الأتراك المتقهقرين، الذين كانت صفوفهم ما تزال ترى من القرية، بعد أن غادروها.
ولقد دهش الأتراك لرؤيتهم هذا الشخص الفرد يطاردهم على حصانه . ولما وصل طلال على بعد ياردات
قليلة من العدو المذهول، وكان ما يزال يركض بحصانه بجنون، وقف على سرجه وصاح صيحة الحرب التي
اعتادها "طلال… طلال… " وفي اللحظة الثانية اطلق الأتراك النار من بنادق ومدافع سريعة الطلقات، وسقط
المحارب القديم ميتًا عند أقدامهم، وقد تمزق جسده برصاصهم.
١١٣٣١١
وقد شاهد عودة ولورانس الحادث من أوله، ولما انتهى قال زعيم الحويطات "فليرحمه الله … إننا سنأخذ
بثأره!". وعاد لورانس إلى رجاله، وكان كل تردد لديه في ارتكاب القتل الجماعي قد تبخر، ولم يعد يفكر في
تلك اللحظة إ ّ لا بالثأر.
وقال لرجاله : "إن احسنكم هو الذي يحضر لي أكبر عدد من الأتراك " ثم… مضى مع قواته للعمل، وأمرهم ألا
يأخذوا أي اسير.
ولما لحقوا بالقوات التركية المتقهقرة، انقضوا عليها، وكما قال لورانس: "في جنون، مبعثه الرعب الذي
شاهدناه في طفس… ورحنا نقتل ومن نستطيع، بل ونسحق رؤوس الموتى بحوافر الخيل.
وكأن وفاتهم ورؤيتنا لدمهم المسفوك سيخفف من حزننا ". ولم يبق من القوات التركية غير فرقة واحدة مؤلفة
من مائتي شخص، أسرتهم جماعة من العرب، ل م تسمع أوامر قائدها. وكان لورانس ينوي الإبقاء على هؤلاء
الأسرى ، عندما شاهد على مقربة منه رجلا ملقى على الأرض، قد غرزت الحراب في ساقيه وكتفيه.
ولكنه كان لم يفارق الحياة بعد، وكان له من القوة ما استطاع بها أن يقول إن هؤلاء الأسرى هم الذين فعلوا
به ما فعلوا.
وعلى الأثر أصدر لورانس اوامره الوحشية باطلاق النار عليهم وهم اسرى عزل من السلاح . فهل كان ذلك
بايحاء سابق من اللنبي!
وما إن غابت شمس ذلك اليوم حتى كانت تلك المعركة اليائسة قد انتهت بمقتل عدد لا بأس به من الجنود
الاتراك الذين دخلوا "طفس" وبأوامر من لوران س عالم الآثار الرقيق الذي يكره احتراف الجندية. والذي هاجم
قبل أشهر قليلة أحد الضباط البريطانيين هجومًا مريرًا لأنه أوقع عشرين قتي ً لا في احتلال بلدة "وجه "… هكذا
كان ثقل الكابوس الذي كان يرزح تحته . وقد قال له فراج : "إن الله سيعفو عنك" والواقع أنه لو كان بمقد وره أن
يرى روحه في أواخر أيام حرب الصحراء، وما يعتمل فيها من حب لسفك الدماء، ذلك الحب الذي أحاط عقله
وغير اخلاقه، لو كان قادرًا على ذلك فلابد وان يكون من اكثر مخلوقات الله تعذيبًا.
وهكذا صار لورانس "بطل الامبراطورية" سفاكًا وقاتلا ونذلا فيما بعد
[align=center]  [/align]
-
الفصل السادس والعشرون
"دمشق"
أصبحت جذور الجيوش التركية ميتة، وفي فجر اليوم التالي على مذبحة "طفس" دخل لورانس درعا، ليجد
الشريف ناصر قد اتخذ له مقرًا في دار البلدية بعد أن تقهقر الأعداء . وكان ناصر قد قام بمذبحة فظيعة في
القوات التركية والألمانية لدى انسحابها من درعا، فقتل ثلثي الفرق الثماني التي حاولت مغادرة المدينة في
السابع والعشرين من شهر أيلول، قبل أن تصل دمشق.
وبينما كان لورانس يدرب الشريف ناصر على واجباته الجديدة، بوصفه السيد الجديد لمدينة درعا، وردت
رسالة تقول بأن قوات الجنرال "بارو" تقترب من المدينة، فأسرع لورانس ليقابل الجنرال.
١١٣٣٢٢
وقد نجا من الموت بأعجوبة، عندما اطلق فريق من القناصة الاستراليين النار عليه، بعد أن أساؤوا معرفة
شخصيته وافراد الجماعة التي كانت ترافقه للترحيب بالجنرال ، وظنتهم عصابة من القتلة . وقد استقبل الجنرال
"بارول" لورانس بتجهم، واستنادً ا إلى ما رواه شاهد عيان، فإن لورانس قد استقبل الجنرال استقباله لطالب
مدرسة، وبترفع كبير، مع إشارة إلى تعاونه مع الجنرال اللنبي.
ولما كان الجنرال "بارول" ضابطًا محترفًا صارمًا، فقد استنكر هذه المعاملة من قبل ضابط برتبة "ميجور" يقل
عنه رتبة كما يقل عمرًا.
وعندما ركبا معًا في طريقهما إلى درعا، أوضح الجنرال "بارو" أن قواته هي التي ستسيطر على المدينة
وأعمالها الإدارية، وبدا مندهشًا، عندما أخذ يشرح مختلف الأمور التي يجب العناية بها كالصحة وحفظ النظام،
لما قال لورانس إن كل شيء قد يتم تنظيمه.
وعندها انتقل "بارو" إلى المرحلة التالية … الدخول إلى دمشق، وأوضح بأنه سيغادر المدينة غدًا ليلتحق
بالجنرال "شوفيل" والقوات الأسترالية، كي يدخلا المدينة معًا، وعرض بكبرياء على لورانس أن يرافقه مع قواته
العربية على أن تشكل هذه القوات جناحه الأيمن، ولكن لورانس كان يملك أفكارًا أخر ى، وإحدى هذه الأفكار أن
يتنقل فيصل من الأزرق إلى درعا، استعدادًا للزحف النهائي لقوات الحلفاء.
وقد تقدم كل من عودة وافراد قبيلته ونوري الشعلان وقبيلة الرولا والشريف ناصر لتعقب آخر فلول قوات
الجيش التركي الرابع، وهي عبارة عن فرقة مؤلفة من الفي جندي مهلهلي ا لثياب، يحاولون عبثًا تجنب هجمات
العرب أو صدها بعدد قليل من المدافع الجبلية استطاعوا إنقاذها من المركز الذي أخلوه.
وعلى الرغم من أن الأتراك المنهزمين كانوا في مركز يستطيعون منه بشق النفس إنزال أية خسارة بأي أحد،
إ ّ لا أن رجال القبائل لم يستطيعوا مقاومة رغبت هم في الاستيلاء على الغنائم. فشددوا هجومهم، حتى أصبحت
القوات التركية الألفين بين قتيل أو أسير، واستولت القوات العربية على كل ما كان مع الأتراك.
ثم أخذ الاستعداد للمعركة النهائية يقترب، فتوجه لورانس إلى "الكسوه" وهي قرية تبعد بضعة أميال إلى
الجنوب من دمشق، كان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية ينتظرون فيها وصول الجنرال "بارو " وقواته
الهندية.
ولا شك في أن عشية النصر، بالنسبة لرجل عمل وحلم طوال سنتين من أجل ان يدخل دمشق مع الملك الذي
اختاره دخول الفاتحين لا شك في أن عشية كهذه لا بد وان تكون مثيرة لدرجة مميتة.
ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فبد ً لا من أن يفخر وينفعل، أحس بالخذلان والخجل، واذ كان يسير في
المعسكر، دون أن تلتفت إليه القوات البريطانية والاسترالية، وقد أحس فجأة وبكثير من الألم بالوحدة القاتلة التي
يعيش بها وبتفاهة مركزة، إذ كانت تلك القوات تعتبره ضابطًا من العرب.
في تلك الليلة بالذات، ليلة الثلاثين من أيلول سنة ١٩١٨ ، انسحبت آخر القوات التركية والألمانية من دمشق،
وما إن ابتعدت مؤخرتها عن سراي المدينة، حتى رفعت الراية العربية، رفعها أعضاء لجنة فيصل في دمشق.
وكان ناصر ونوري الشعلان تواقين للزحف على المدينة في المساء ذاته. غير أن لورانس ثناهما عن ذلك.
١١٣٣٣٣
وكان لورانس ما يزال يملك قوة الإقناع التي يجب أن تتوفر في القائد، وهكذا اقنعهما بأنه من الخير لهما أن
يدخل الشيوخ المدينة مع فيصل ومعه هو "بهدوء فجر اليوم التالي". فقد بقي أمامه يوم واحد قبل أن يتحرك
الاستراليون، وكان عليه أن يفعل الشيء الكثير في ذلك اليوم.
ولما ت حركت القوات مع أول إشراقة الفجر، يقودها ناصر، تكريمًا له للمعارك الخمسين التي خاضها ضد
الأعداء، وصل فارس من جهة المدينة، وعلم أنه أرسل من قبل شكري الأيوبي، قائد لجنة المقاومة في دمشق،
وكان فيصل ق د اتصل به في الليلة الماضية. وبعد أن أدى الفارس التحية لفيصل ولورانس وهو يكاد يطير
فرحا، سلمهما كمية من العنب الأصفر قائ ً لا: "أخبار طيبة، إن دمشق تحييكما".
ثم، عندما اقتربوا من مداخل المدينة، وجدوا استقبا ً لا غريبا في انتظارهم، فقد تجمع الناس لتحيتهم، ولكن هم
كانوا صامتين من تأثير فرحتهم، بتحررهم، فاختنقت أصواتهم في حناجرهم.
وقد كتب لورانس يصف هذا الاستقبال فقال : "كانت الطريق غاصة بالناس الذين اصطفوا على جانبي
الطريق، أو تجمعوا في النوافذ أو على الشرفات واسطحة المنازل . كان كثيرون منهم يبكون، وقليلون يرددون
هتافات خافتة، وهتف بعضهم باسمائنا، ولكنهم في الغالب كانوا ينظرون، ولا يملون النظر والفرحة تلمع في
اعينهم".
ولكن بعد أن دخلوا دمشق، انقلب هذا الفرح الصامت إلى فرح صاحب، عندما اندفعت جموع غفيرة لتحية
القادمين، وراح أفرادها يصيحون بأعلى أصواتهم "فيصل لوران س ناصر " بينما راح آخرون يرقصون
ويهزجون، ويقتربون من السيارة التي كانت تقل ملكهم ومحررهم إلى العاصمة.
ودوت الصيحات والهتافات في الشوارع والميادين، حتى لقد بدت دمشق وكأنها تمر بعاصفة . وقد نسي
لورانس للحظة من الزمن مخاوفه من المستقبل، عندما رأى هذه الهتافا ت المدوية، وقدر بأنها لابد وأن تكون
كافية لتقف وراء فيصل وتدعم عرشه وتجعله سيدًا على سوريًا.
غير أن الحلم كان قصير العمر، فقد كان ناصر ونوري الشعلان قد وصلا إلى قاعة المدينة وجلسا على مقاعد
المجلس، وتمكن لورانس أخيرًا من أن يشق طريقه وسط جموع أهالي دمشق، الذين كانوا يحيطون بكرسي
الحكومة، ولشد ما كان استغراب لورانس عندما رأى أن الأمير عبد القادر يجلس إلى جانب ناصر ونوري،
ومعه شقيقه محمد سعيد، الأداة التي استعملها جمال باشا لإغواء فيصل.
وقبل أن يتمكن لورانس من ان يتمالك نفسه، تقدّم محمد سعيد منه وقال له إنه وشقيقه وشكري قد ش ّ كلوا
حكومة تحرير، واعلنوا أن الشريف حسين الموجود في مكة هو "ملك العرب".
ولما أخذوا لورانس بهذا البلاغ التفت إلى شكري راجيًا الحصول منه على نفس أو تكذيب، ولكن الرجل لم
يكن بقادر إ ّ لا على أن يؤيد ذلك، قائلا أن الجزائريين ومعظمهم من المت طرفين بالنسبة للدين، قد سيطروا
على لجنته بالقوة.
وقال إنه ليس راضيا عما تم على ايديهم لأنه رأى بنفسه كيف وقفوا مع الأتراك، حتى ولى الأتراك الأدبار،
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ إنه لم يكن من القوة بحيث يستطيع مقاومتهم.
١١٣٣٤٤
ولم يشعر لورانس بأية مرارة نحو شكري، ل تسليمه للجزائريين ، فقد ظل يعمل أثناء الاحتلال التركي، رغم
كل ما قاساه على يدي جمال باشا، وها هو الآن يصل إلى نهاية عمره.
ولكن الضرورة تقضي بأن يفضح أحد ما خيانته، فالتفت لورانس إلى ناصر ليتولى زمام المبادرة . وفي تلك
اللحظة سمع في الغرفة زئير مألوف لصوت م عروف، وصمت العرب الذين كانوا في الغرفة الداخلية . ثم
تكشف الأمر ليتضح أن صاحب الزئير هو عودة وانه يضرب أحد مشايخ الدروز، إذ أهانه فغلى الدم في
عروقه، حتى كاد يفقده صوابه . وبعد أن أبعد الرجلان عن بعضهما، وأخرج المضروب من قاعة المدينة، راح
لورانس يبحث عن ناصر.
لكنه كان قد اختفى مع الجزائريين، تاركًا لورانس وحده وسط خليط عجيب من العرب والدروز والبدو
ورجال القبائل وأهالي دمشق والفلاحين، وكانوا منتشين بالنصر المفاجئ الذي حقق لهم، ويصيحون باسماء
زعمائهم وابطالهم، ويتعارك بعضهم مع بعض بقبضات الأيدي . إن صيحة خطر تن بعث الآن من هؤلاء
الحمقى، وثمة عرش يتهدده غاصبون.
وراح لورانس يعمل بمرارة من أجل إنقاذ دمشق لصالح فيصل، فبعث يستدعي عبد القادر وشقيقه، ولكنهما
رفضا في بادئ الأمر الامتثال لدعوته، ثم أذعنا فيما بعد، ليجدا نفسيهما مطوقين بفرقة من قوات نوري السعيد،
وفرقة أخرى من قواته النظامية، وفرقة ثالثة من قوات نوري الشعلان.
وأبلغهما لورانس أنه بوصفه يعمل نيابة عن الأمير فيصل، فقد أمر بالغاء حكومة عبد القادر، على أن يعين
بد ً لا عنها شكري الأيوبي بمنصب نائب حاكم ونوري السعيد بمنصب حاكم عسكري.
وقد تحدى محمد سعيد على الفور ه ذا القرار، ووصف لورانس بأنه كافر بريطاني، ودعا ناصر ليؤكد
سلطانه. ولكن الشريف لم يكن باستطاعته إ ّ لا أن يجلس بخزي، وهو يرى نفسه يجرد من أصدقائه . وهنا حاول
عبد القادر القيام بهجوم مباشر، فاستل خنجره وهو يقسم الأيمان المغلظة على قتل الانكليزي الذي بدد خططه،
ولكن عودة انقض عليه كالصقر ومنعه من ذلك.
ثم ان لورانس والآخرين انهمكوا في معالجة المشاكل العملية التي من شأنها أن تعيد للبلد حكومته ونظامه،
وكان من الضروري إنشاء قوة بوليس، كما ألفت فرقة مطافئ، وراحوا يعملون من أجل إعادة التيار الكهربائي،
واتخذوا الاجراءات الصحّية، ونظفت الشوارع من القاذورات وشظايا سيارات الأتراك وغير ذلك من الانقاض
التي تخلفها الحرب . وكان من الضروري إحضار المؤن والمساعدات لسكان نصف جياع منذ أيام، وكذلك كان
عليهم أن ينظفوا المستشفيات ويحضروا الأدوية ليستطيعوا التغلب على انتشار مرضي التيفوس والديزنطاريا.
وكذلك الحال بالنسبة للمواصلات والسكك الحديدية والمواصلات اللاسلكية كل ذلك كان بحاجة إلى
إصلاح. وقد عملوا طيلة الليل كالمجانين، يحدوهم تصميم على أن يظهروا لقوات الحلفاء متى وصلت في اليوم
التالي ماذا يستطيعون عمله من أجل أن يحكموا أنفسهم، وأ ن يخلقوا النظام وسط الدمار، لكن المنجزات لم تكن
بالنسبة إلى لورانس سوى واجهة البناء، أما واقع الأمر فقد كان ما رآه في قاعة المدينة والمنازعات التي قسمت
عائلة الشريف.
١١٣٣٥٥
وأخيرًا عندما أغمض عينيه ليأخذ قسطًا بسيطًا من الراحة سمع المؤذن يدعو الناس للصلاة . وبعد أن انتهى
الأذان، ولبى أهل دمشق النداء للصلاة وشكر الله على تحريرهم، أحس لورانس مرة أخرى بوحدته، وطيشه في
كل ما قام به، إذ أنه كما كتب يقول: "كم كانت الأحداث يومذاك مؤسفة والنتائج لا معنى لها".
وبعد ساعة استيقظ لورانس ليبلغ أن عبد القادر قد أعلن الثورة، فق د دعا رجاله إلى اجتماع كما دعا الدروز
أيضًا الذين كانوا قد أعلنوا سخطهم والذين راحوا ضحية سهلة لدعايات الجزائريين القائلة بأن فيصل واتباعه
ليسوا سوى أذناب للكفرة الانكليز، ويجب إزالتهم إذا ما أريد للدين الاسلامي أن يصان من الفساد.
وأسرع لورانس ونوري السعي د يتخذان الترتيبات اللازمة لمواجهة هذا التمرّد . فأمر نوري فريقًا من حملة
المدافع السريعة الطلقات بالمرابطة في نقطة استراتيجية، بينما توجه لورانس برفقة كيرك برايد فقط يخطبان في
الناس ويشرحان لهم إخلاص فيصل ابن الملك حسين لقضية العرب.
وكانت مهمة شاقة تعرض خ لالها للموت أكثر من مرة، على أيدي الدروز المتطرفين في وطنيتهم، الذين
اشعلتهم دعاية عبد القادر بنار الحقد والكراهية، فكانوا يهاجمونه محاولين قتله، ولكن "كيرك برايد" كان يستعمل
مسدسه في صدهم.
وكان الجنرال "شوفيل" وقواته الاسترالية قد وصلوا في الوقت الذي اند لعت فيه نار الثورة فعرض بأن تساهم
قواتهم في إخمادها، غير ان لورانس رفض العرض … ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام،
وربما بدافع العرض… ربما لأنه كان يرى في الأمر ما لا يستحق الاهتمام، وربما بدافع من كبريائه.
وبعد ساعات قليلة على فتح نيران المدا فع السريعة الطلقات على المتمردين، هرب عبد القادر، تاركا شقيقه
ليقع أسيرًا في أيدي القوات العربية.
هذا وقد بلغ لورانس في تلك اللحظة أقصى حدود الإعياء، فهو لم ينم غير ثلاث ساعات منذ أن غادر درعا
قبل أربعة أيام . وكان عليه أن يحمل عبء تركيز عرش فيصل وحكومته، وان يكشف مؤامرات المتربصين،
كما يعيد الحكم المدني إلى بلد تركه محتلوه السابقون في حالة من الفوضى لا مثيل لها.
والأصعب من ذلك كله أن يحاول جعل مواطنين ثوارًا حفظة على القانون، مواطنين امضوا سنين من حياتهم،
والسنتين الأخيرتين بصورة خاصة في تحدي السلطة وخرق القوانين، على اعتبار أن هذين العملين من أعمالهم
الوطنية.
وهكذا فقد كانت مهمة لورانس تفوق احتمال شخص واحد، ناهيك عن شخص مجهد جسميًا يكاد يصاب
بانهيار الاعصاب.
ومع ذلك، فقد كان هنالك خطر آخر يجب تفاديه . ففي العشاء الذي أقيم في اليوم الثاني لدخولهم دمشق، طل ب
أحد الأطباء الاستراليين إلى لورانس أن ينظف أحد مستشفيات الأتراك مع القاذورات التي تراكمت فيه، حتى
لقد هجره أطباؤه وممرضوه، ولم يكن هذا الطبيب مغاليا في وصفه، عندما شاهد لورانس بنفسه ما يحتويه من
قاذورات، وقد كتب لورانس يقول في وصف ذلك المستشفى:
"اوساخ ت جعل السليم مريضًا، ولما فتحت عيني، رأيت منظرًا مفزعًا، كان بلاط المستشفى مغطى بجثث القتلى
الذين رصوا الواحد إلى جانب الآخر، بعضهم في بزاتهم العسكرية الكاملة، وبعضهم في ملابسهم الداخلية
١١٣٣٦٦
وبعضهم عارون تمامً ا… وكان القليل من هؤلاء جنودًا قتلوا حديثًا، والباقون قد قتلوا منذ أمد طويل، وكانت
الوان بعض الذين قتلوا حديثًا صفراء وزرقاء وسوداء . وبعضهم قد انفتحت بطونهم وتدفقت منها سوائل نتنة لا
يمكن لمخلوق أن يشمها".
ومضى لورانس و "كيرك برايد " يبحثان عن المساعدة، بعد أن رفض الاستراليون تقديم أية مساعدة، غير أن
بعض الأط باء الأتراك الذين وقعوا في الأسر، وبمساعدة فريق باسل للحفر من الأسرى الأتراك، جندوا للعمل
ودفن الموتى وتنظيف العنابر التي كانت، لدهشة لورانس، ما تزال تضم عددًا من الأتراك الجرحى الذين كانوا
من أن يأتوا بحركة غير التلويح بأيديهم طلبًا للرحمة.
وقد أشرف "كير كبرايد " على دفن الموتى، أما لورانس فإنه بعد أن تلقى قائمة الإصابات من الأطباء، وكانت
تتضمن ستة وخمسين ميتًا، ومائتين يحتضرون، وسبعمائة من الجرحى أو المرضى، ذهب لينال شيئًا من
الراحة.
ولكنه لم يسترح قبل أن استدعاه الجنرال "شوفيل" وطلب إليه أن يسجل شكوى من أن قسمًا من قواته العربية
ترفض تأدية التحية لضباطه!.
وكانت الأحوال في المستشفى في اليوم التالي لا تقارن بأحوالي اليوم السابق كما شاهدها لورانس، فقد ظل
"كيرك برايد " ساهرًا مع الأطباء حتى أتموا تنظيف المكان وعينوا ممرضين من الأتراك الأسرى ليرعوا شؤون
المرضى.
ومع ذلك، كان هنالك الشيء الكثير الذي ينبغي عمله . وبينما كان لورانس يقوم بجولة تفتيشية، تقدم منه
ضابط من سلاح الصحة برتبة "ميجور" وسأله عما إذا كان هو المسؤول.
وقد أجابه لورانس قائلا: "انني المسؤول، إلى حد ما!".
فانفجر الضابط قائ ً لا: "يا للفضيحة والخزي والقذارة… يجب أن تقتل".
وكان لورانس قد بلغ حدًا من الصبر لم يعد لديه بعده ما يستطيع الصبر عليه، وثارت ثائرته لهذه الإهانة
المفاجئة، ولكنه كظم غيظه، ولم يقم بأية محاولة ليشرح للضابط كيف كانت الأحوال في اليوم السابق، وبد ً لا من
ذلك انفجر في قهقهة عالية.
وقال الميجور : "يا لك من قاتل دموي ". ورفع يده وصفع لورانس على وجهه، ثم مضى وهو يدمدم بكلام عن
الشرقيين الذين هم أدنى مرتبة من الحيوانات، بينما وقف لورانس للحظة في حالة من الذهول، دون أن يشعر
بغضب من ذلك الذي صفعه، وإن كان قد شعر بخجل من نفسه وعدم نقاء روحه.
ولكن تلك الصفعة قد أعادت لورانس إلى وعيه، وأشعرته بما يعانيه هو من إجهاد، وكان يعلم في تلك اللحظة
بانه لن يستطيع المضي قدمًا أكثر مما مضى، وأنه لا يستطيع أن يستعمل عقله أو جسمه، أكثر مما استعملهما.
ولما غادر المستشفى لمح سيارة اللنبي الرولز رويس خارج الف ندق الرئيسي في المدينة. فأسرع تجاهه ودخل
الفندق. وبعد بضع دقائق كان يقدّم تقريره النهائي إلى القائد العام . وقد استمع اللنبي باهتمام، وأيد بكلمات قليلة
كل التعيينات التي أجراها لورانس والأوامر التي أصدرها، ووضع المسؤولية في يد فيصل وحكومته وقوات
الحلفاء.
١١٣٣٧٧
ثم طلب لورانس تسريحه، ولكن اللنبي رفض في بادئ الأمر توقيع المرسوم على اعتبار أن خدماته الآن
مطلوبة أكثر من أي وقت مضى في شبه الجزيرة العربية، ولكن هذا لم يجده نفعًا.
فقد كان يعلم أن لورانس قد صمّم وانتهى الأمر، فما الذي حصل لتحقيق هذا التغيير؟ ولماذا اصبح النصر
الذي عمل له لورانس طويلا شيئًا محزنًا بالنسبة له، ولم يعد يريد أن يعيشه؟ ان اللنبي، على الأغلب لم يستطع
أن يفهم السبب، ولكنه كان يحترم ويحب مرؤوسه إلى درجة كبيرة تمنعه من إرغامه على البقاء خلافًا لرغبته.
وهكذا غادر لورانس مسرح انتصاره بشكل مفاجئ دو ن أن يقدم إ ّ لا القليل من التفسير لنفسه عن السبب الذي
حدا به إلى دخول هذه المغامرة منذ البداية . وكان في بعض اللحظات التي كان يهاجمه فيها حتى اقسى منتقديه،
لا يحركه شيء غير الخجل من كل ما قد فعل، والخجل من وجوده، ومن جميع الأصدقاء الذين وثقوا به
واقترف بحقهم ما اقترف.
ولما وجد نفسه محصورًا في سجن من تبكيت ضميره، لم يجد ما يستطيع أن يفكر فيه سوى الهرب
[align=center]  [/align]
-
الفصل السابع والعشرون
خروج وعودة
لم يتفق اثنان من مؤرخي لورانس، على ما يبدو، على الأسباب التي تكمن وراء ميله إلى الهرب من ميدان
النصر. ويقول "دافيد غارنيت " إنه قد ترك لأنه شعر ان الجولة الثانية في دراما خيانة الانكليز للعرب ستجري
على مائدة المؤتمر، وأنه لذلك سيفيد العرب اكثر إذا أسرع بالذهاب إلى لندن مما لو بقي في دمشق لجني ثمار
انتصاره.
أما "لويل توماس " فيرجع سبب سفره إلى إجهاد جسمي وعقلي، ويؤيده في ذلك الدكت ور "ارنست التونيان" وهو
طبيب بريطاني وشاعر أرمني الأصل، وأحد أصدقاء لورانس المقربين.
ويقول "ليدل هارت " إن لورانس قد أخبره بأن "كل شيء قد انتهى فأي سبب أفضل للعودة؟ ". أما الشرح الذي
أورده لورانس نفسه فقد قال فيه إنه أصبح خائفًا جدًا من رغبته في السلطة والمركز، فآثر الهرب.
ومن الجائز أن يكونوا جميعًا مصيبين في تقديراتهم، نظرًا لعدم وجود تناقضات حقيقية بينها، فقد كان تعبًا
وهذا أمر مؤكد، والتعب سبب وجيه، والهرب من مطامحه الخاصة تفسير آخر مقبول، وكانت التقارير التي
كتبت عنه في الأشهر الأخيرة لحملة الصحراء تفي د بأنه أصبح رجلا رأى انعكاس نفسه على مرآة تحليله
لشخصه، فافزعه ما رأى.
وفي الوقت ذاته فإن نداءاته المتواصلة للدعوة للقضية العربية واستقلال العرب، عقب وصوله إلى لندن
وخلال انعقاد مؤتمر الصلح، تظهر أنه ما زال راغبًا في أن يبقى، كما كان ، في خدمة أصدقائه الع رب، ولكن
خارج شبه الجزيرة العربية.
وكذلك فإن "مهمة لورانس قد انتهيت" في الشرق الأوسط. وقد كشفت السير "رونالد ستورز " في "شرقياته "
النقاب عن أنه في حوالي نهاية التحالف العسكري، كانت علاقة لورانس بالأمير فيصل، علاقة مرة، وأن الأمير
١١٣٣٨٨
فيصل فيما بعد، قد تحدث بله جة تنم عن عدم الشكر عن حليفه في وقت ما، وقد أضاف "ستورز" قائلا : "الأمر
الذي قد استنكره أكثر لو انني تصورت مطلقًا ان الملوك يمكن أن يكونوا مثل صانعيهم".
ومن هنا يمكن القول بأن هناك قليلا من الشك، بان الأمير فيصل لما وصل إلى دمشق قد أوضح للورانس بأن
مهمته ف ي شبه الجزيرة العربية قد انتهيت . فقد جلس الملك على عرشه، أما صانع الملك فقد أصبح بالإمكان
صرفه الآن، بل يجب صرفه، إذا ما أراد فيصل أن ينفي الشكوك التي كانت تسود مكة، والقائلة بأنه كان متأثرًا
أكثر من اللازم بهذا الكافر البريطاني.
ورقي لورانس إلى رتبة كولو نيل وعاد إلى لندن، وذهب إلى وزارة الحرب، قبل أيام قليلة من عقد الهدنة
العامة في تشرين الثاني سنة ١٩١٨ وإعلان هزيمة المانيا نهائيًا وهزيمة شركائها كذلك.
وما إن وصل حتى باشر العمل لمصلحة استقلال العرب . وعندما استدعي للمثول أمام اللجنة الشرقية في
الوزارة الب ريطانية، قدم مذكرة مكتوبة بأبلغ عبارة، تذكر أصل وأهداف ثورة العرب، واقترح وضع خطة
لترتيبات ما بعد الحرب بالنسبة لشبه الجزيرة العربية.
فالحجاز يجب أن تنال استقلا ً لا كام ً لا، أما بلاد الرافدين فيجب أن توضع تحت الانتداب البريطاني، ويجب
وفق اقتراحه هذا، اعطاء فيصل سوريا باكملها باستثناء شريط ساحلي يتضمن بيروت التي يبج منحها إلى
فرنسا.
وبالنسبة إلى وعد بلفور الصادر في سنة ١٩١٧ ، والذي يدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد
أكد بأن العرب جميعًا متفقون على أنهم يفضلون ان تكون تحت إشراف بريطانيا، وألا ينشأ فيها وطن لليهود.
وكانت هذه الآراء غير مفهومة ولا بشكل من الأشكال في اوساط الدوائر البريطانية الرسمية في ذلك الوقت
لسبب واحد اوضحه "جين بيرود فيلارز " في كتابه "ت. ل. لورانس" عندما قال: "كان عدم الميل إلى الفرنسيين
منتشرًا ببريطانيا في اعقاب الحرب العالمية الأولى.
وبعد اربع سنوات من الحرب " وذبح قسم كبير من قوات الجيش البريطاني، وبعد أن اصبح الشعب على أهبة
الاعتقاد بأن "ما قاساه البريطانيون قد فرض عليهم لمصلحة الفرنسيين".
وثمة سبب آخر هو أن بريطانيا كانت حريصة كل الحرص على عدم تلبية مطامع فرنسا في الشرق الأو سط .
وصحيح أن بريطانيا قد أرغمت بدافع عن ملابسات الحرب وارضاء حلفائهم الفرنسيين على إعطاء تعهدات
معينة، تمكن فرنسا من أن تركز نفسها في المشرق بعد أن تربح الحرب، ولكن … إذا أمكن شراء فرنسا بالثمن
الذي اقترحه لورانس، فإن ذلك سيترك بريطانيا هي المسيطرة، بينما ت نفذ في الوقت ذاته وعلى الأقل، تعهداتها
للشريف حسين.
ولكن، لم تكد هذه الحالة من القناعة تستقر في اوساط "الوايت هول" حتى بدأت أول بوادر الاضطرابات من
دمشق. فقد أقدم العرب، خلافًا لنصيحة لورانس على احتلال بيروت، المركز الرئيسي للكاثوليكية والثقافة
الفرنسية ف ي الشرق، بدلا من تركها للحلفاء ليحرروها، بوصفها منطقة من المناطق التي حفظت لفرنسا،
بموجب اتفاقية "سايكس بيكو ". ولكن بوصول "جورج بيكو" أحد أقارب واضع الاتفاقية، ليعمل مندوبًا ساميًا
لسوريا، سّلمت المنطقة إلى الفرنسيين بأمر من القائد العام البريطاني.
١١٣٣٩٩
غير أن السلطات الفرنسية لم تكن لترضى بمثل هذه السهولة، فبعد أن ارغمت العرب على إخلاء بيروت،
ارادت أن تحصل على المزيد.
وقد أبلغت ذلك بشكل لا لبس فيه إلى فيصل، وقد الح بعض اتباع الامير عليه بأن يقاوم، ولو استدعى الأمر
بقوة السلاح، أية طلبات أخرى بقبول سيطرة فرنسا وسحب قواته من سوريا.
ولما لم يستطع أن يقرر بنفسه ماذا ينبغي عليه أن يفعل، ونظرًا لأنه لم يكن متأكدًا من القدر الذي يستطيع فيه
الاعتماد على الدعم البريطاني في نزاع مكشوف مع فرنسا، فقد أرسل فيصل كتابًا إلى لورانس، الذي حصل
بالفور على دعوة له من الحكومة البريطانية للمجىء إلى لندن لدراسة الوضع.
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني، هبط الأمير من المدمرة البريطانية "غلوسستر " في
مرسيليا، وكان يرافقه نوري السعدي. وكان لورانس هناك ليقابله وهو يرتدي ثيابه العربية.
وفي الوقت ذاته كانت خطوط اللاسلكي الف رنسية منهمكة بين باريس وجدة والقاهرة ودمشق، وقدم احتجاج
رسمي للشريف حسين جاء فيه أن الحكومة الفرنسية لم تبلغ كما ينبغي بمهمة فيصل، وهو خطأ كبير ما دام
الأمير لم يتلق أوامر من والده، وهو على كل حال ذاهب إلى لندن وليس إلى باريس، ثم استدعي عاثر الحظ
"بريموند" من إحدى القيادات في الجبهة الغربية، وطلب إليه أن يسافر حا ً لا لمقابلة فيصل، لكي يعرض عليه
ضيافة فرنسا.
أما بالنسبة إلى لورانس فقد كانت الأوامر المعطاة إلى "بريموند" تقضي بأن يحييه إذا ما جاء مرتديًا زيه
العسكري برتبة كولونيل وألا "يقبله إذا كان يرتدي الثياب العربية!".
وقد أطاع الرجل أوامر حكومته وتعليماتها المشددة، لأنه لما رأى لورانس يدخل ملتفًا بعباءته البيضاء المذهبة
إلى جانب فيصل، لم يسعه إ ّ لا أن يعرب للأمير عن رأي حكومته . ولشد ما كانت دهشته عندما طلب فيصل إلى
لورانس أن يعود إلى لندن، بينما تابع جولته هو في فرنسا برفقة "بريموند" تلك الجولة التي انتهت به إلى باريس
حيّث استقبله الرئيس "بونيكار" استقبالا رسميًا، وحيث أقيمت حفلة عشاء على شرفه في وزارة الخارجية . وبعد
أسبوعين من وصوله إلى فرنسا سافر إلى مدينة "بولون" ليجد لورانس مرة أخرى في استقباله على سلم الباخرة
التي كان من المقرر أن تنقله إلى انكلترا.
وقد نبع ذلك جولة في انكلترا برفقة لورانس الذي كان ما يزال مخلصًا للأمير، ثم زيارات رسمية وحفلات
استقبال بحضور الملك جورج الخامس، كان فيها لورانس يرتدي أيضًا الملابس العربية.
الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولي ن. وأخيرًا سلسلة من الاجتماعات في وزارة الخارجية لدراسة مطالبه في
سوريا، وللتحضير من أجل مؤتمر الصلح الذي كان على وشك أن يفتتح في باريس.
ويبدو إخلاص لورانس لفيصل في هذه الفترة بعد كل ما لقيه من إهانات أمرًا غريبًا، وقد يتساءل المرء لماذا
كان عليه أن يهتم بهذا الأمير؟ ولماذا واصل مساعيه من أجل تدعيم فيصل بعد أن أصبح من الواضح أن قضية
الهاشميين قد مزقتها أحقاد مؤسفة ومؤامرات خسيسة، ولم يعد بمقدورها أن تحقق لهم الاستقلال؟ ولنعترف بأن
الحكومة البريطانية كانت تحب خطته لا يجاد تسوية عربية، ولكن … مع كل يوم يمر، كان الفرنسيون يزدادون
١١٤٤٠٠
إصرارًا على الاستيلاء على سوريا، وكانت وجهة النظر الفرنسية تطالب بدفع تعويضات وجوائز لما قاسته في
الشرق وللخسائر التي تكبدتها فرنسا في الجبهة الغربية.
وكان من المستحيل تقريبًا، أن يقبل البريطانيون، نظرًا لضعف العرب وتفرقهم، خطة لورانس ، ومنع فرنسا
من الحصول على أكثر من بيروت وشريط من الشاطئ.
فما الذي دفع لورانس إذن بمثل هذه الحماسة؟ لا شك في أن الدافع هو حبه لسورية البلد الأول الذي أحبه بين
جميع البلدان العربية، والتي كان يسميها "حديقة الأشجار الفاتنة"، والمكان الذي تعرف فيه أول ما تعر ف على
جمال الصحراء، وغسل فيه روحه بطهارتها اللامتناهية، والمكان الذي وطد فيه دعائم صداقات مع رجال مثل
الشيخ حموده، وحيث وجد روحًا صافية لدى شباب العرب وخاصة الشاب المدعو أحمد.
لقد كانت سورية هي التي قاتل من أجلها . وكان دائمًا يدعو إلى الحرية والاستقلال لس وريا. وكانت دمشق
تراوده في الأحلام، منذ ذلك اليوم، قبل ثلاث سنوات، عندما قبل في غمرة الجو المشحون المكان الذي كان
فيصل يتخذه مقر قيادة له في "الحمراء".
وقد تدفن اطماعه الشخصية، كما أن خدماته للأمير قد لا يكافأ عليها، وأحلامه بايجاد بلاد عربية موحدة قد
تنقل إلى كابوس، فتتحول البلاد العربية إلى بلاد تحت الانتداب أو تحت الحماية أو حتى مستعمرات ومع
ذلك كان يشعر بأنه يجب أن يواصل النضال من أجل سورية وانقاذها من قبضة الفرنسيين . وقد تمكن لورانس
بفضل إحدى مصائب التاريخ، أن ينفذ فيصل، ولكنه لم يستطع ان ينقذ سورية
[align=center]  [/align]
-
الفصل الثامن والعشرون
فوضى في المؤتمر
دخل فيصل ولورانس في مشاكل قبل أن يفتتح مؤتمر الصلح في باريس في شهر كانون الثاني سنة ١٩١٩
مع الفرنسيين ومع الشريف حسين . فقد رفض الفرنسيون في بادئ الأمر أن يقروا بأن الأمير هو ممثل لدولة لا
يعترفون هم بقيامها، وكانوا مصممين على استخدام كل وسيلة وضغط للتأكد من أنها لن تقوم لها قائمة.
وكذلك رفض الشريف حسين الذي كان يحسد ابنه، في بداية المؤتمر، الاعتراف بأنه ابنه هو الممثل للقضية
العربية، وكذلك بأنه سيد لدولة عربية، له فيها مطالب، واتهم ابنه فيصل بأنه قد اغتصب عرشها على حساب
شقيقه عبد الله.
ولم يكن غير البريطانيين يؤيدون الأمير، وقد استطاعوا في النهاية إقناع "كليمنصو " رئيس وزراء فرنسا،
الذي كان يدعى "النمر" وكذلك الشريف من سحب اعتراضاتهما.
ولم يكن فأ ً لا حسنًا للعرب، أن يجلس الأمير فيصل النحيل البنية ومعه لورانس على مائ دة المؤتمر، وعلى
المقاعد المذهبة الرائعة في صالون قصر "دي لاهورلو" في "الكوال دورسيه".
فقد جلس الأمير منتصب الظهر، وحيدًا، وسط ممثلي الدول الذين كانوا سيقررون مصير أمته ومستقبل
قضيته. ولقد اعتبره الفرنسيون معاديًا لهم، وأحس الأميركيون، ممثلين بالرئيس ويلس ون بعطف بالغ على هذا
١١٤٤١١
الممثل لشعب اضطهد طوي ً لا. وقد أخذ مؤلف النقاط الأربع عشرة، وواضع أسس مبادئ تقرير المصير فكرة
روماتيكية عن الأمير ومنجزاته.
أما الوفد البريطاني برئاسة المستر "لويد جورج" فقد وجد نفسه متأثرًا جدًا بتضارب الولاء الذي وجد
البريطانيون انفسهم محاطين به.
وكانت حيرة الحكومة البريطانية ممثلة في الفوضى المباشرة وتناقض المعاهدات والتعهدات والالتزامات التي
كانت بريطانيا وكل الممثلين في المؤتمر يواجهونها.
فهناك أو ً لا تعهدات بريطانيا للشريف حسين التي قطعتها له سنة ١٩١٥ والتي تلتزم فيها بريطانيا با لاعتراف
باستقلال العرب، إذا ثار الحسين على الأتراك. وهناك ثانيًا إتفاقية "سايكس بيكو " المعقودة سنة ١٩١٦ والتي
تقضي بإقامة دول للعرب في سوريا وبلاد الرافدين، مع منح فرنسا وبريطانيا وروسيا، مناطق نفوذ.
وقد خسرت روسيا حقها هذا فيما يتعلق بالموضوع، لأنها أع لنت ثورة في بلادها، ووقعت معاهدة صلح
منفردة مع المانيا، ولكن لم تكن هناك أية بادرة توحي بأن الفرنسيين على استعداد للتخلي عن حصتهم.
أما مطالبة فرنسا بسوريا فتستند إلى أسباب استعمارية من جهة، وأسباب خاصة بفرنسا من جهة أخرى، على
اعتبار أن الفرنسيين هم حماة الكثلكة، والذين يتبعون هذا الدين في العالم العربي.
ولم يكن بمقدور أية حكومة فرنسية أن تتخلى عن هذا الادعاء، دون أن تعرض نفسها لهزيمة سياسية منكرة .
وهناك ثالثًا وعد بلفور لسنة ١٩١٧ الذي يعد بمنح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين بعد الحرب.
، ورابعًا كان هنالك وعد المندوب السامي البريطاني في القاهرة الذي قطعه في شهر حزيران سنة ١٩١٨
والذي جاء فيه أن المناطق العربية التي يحررها سكانها بعمليات حربية ستمنح الاستقلال.
وهناك خامسًا البيان الانكلو فرنسي الصادر في شهر تشرين الثاني سنة ١٩١٨ بعد سقوط دمشق والذي
وعد العرب في سوريا وبلاد الرافدين "بالعطف على إقامتهم حكومات مستقلة وطنية وضمان كيانها الطبيعي
دون أي تدخل وانشاء حكومات يختارها الشعب بنفسه".
وفوق هذا كله، وهو الأهم، كانت هنالك النقاط الأربع عشرة التي وضعها الرئيس "ويلسون" والتي جاء فيها
أن أسس المستقبل في المعاهدات يجب أن تقوم على حق تقرير المصير للشعوب، وهو وعد أعطى العرب آما ً لا
كبيرة، حتى لكأنه القصد الواضح من ذلك الوعد.
ولعل سائ ً لا يقول، كيف أمكن لكل هذه الفوضى والمتناقضات أن تدخل في علاقات بريطانيا وحكومات
الحلفاء؟ وهل كان لكل واحد من اولئك الساسة وجها ن، حتى أنهم لم يهتموا إ ّ لا بما هو ملائم عند اغداقهم تلك
الوعود؟ وهل عرضوا على العرب شيئًا لكي يجروهم إلى الحرب، ثم وافقوا على نقيض ذلك الشيء مع
الفرنسيين، لكي يجعلوهم يواصلون الحرب بعد أن بدت نذر التفكك تهدد بخروج فرنسا من الحرب؟.
كلا، إن هذه الإجابات بسي طة وأجوبة سطحية، أما الحقيقة الفعلية، كما يراها الجانب البريطاني، فهي أنه كانت
هنالك ثلاث سياسات بريطانية مختلفة تنفذ في الشرق الأوسط، دون أن تجري أية محاولة لتنسق هذه السياسات،
وبدون أية معرفة حقيقية من جانب واضعي تلك السياسات بما كان يفعله غيرهم أو يعدوه به.
١١٤٤٢٢
وقد أوضح ذلك السير "رونالد ستورز" في كتابه "الشرقيات" فقد كانت وزارة الخارجية في لندن تكرس جهدها
لتسكين قابليات فرنسا على التأثر، والموافقة على مطالبها، وكان المستر آرثر بلفور وزيرًا لخارجية بريطانيا
وقتذاك، وقد خضع لضغط صهيوني شديد من قبل الدكتور حاييم وايزمان بالنسبة إلى مستقبل فلسطين.
ولذا كانت وزارة الخارجية مسؤولة عن معاهدة "سايكس بيكو " ووعد بلفور . ومن ناحية أخرى كان
المندوب السامي البريطاني في مصر يعمل بصلاحيات واسعة تتعدى صلاحيات الحكومة المستقلة، وكان
وقتئذ تواقًا لمساعدة القائد البريطاني العام على التخلص من الأتراك بأسرع ما يمكن فهو يبذل الوعود للعرب
بمنحهم الاستقلال مقابل تعاونهم مع بريطانيا لتدمير الإمبراطورية العثمانية.
ثم وفي خضم هذين الخطين المتناقضين للسياسة، كانت هنالك حكومة الهند، وهي تمثل مستعمرة بريطانية
مستقلة ذاتيًا، وكانت لها مطامعها في بلاد الرافدين، على اعتبار أنها نقطة اتصال حيوية في خطوط دفاع
الإمبراطورية الممتدة من بريطانيا، عبر جبل طارق، مالطا ومصر حتى الهند والشرق الأقصى.
كانت مطالب نيودلهي تلقى تأييدًا كبيرًا في مدينة لندن حيّث كانت نظرات الطمع متحولة إلى الموصل، ل ما
كان يتوقع أن يوجد فيها من بترول، وما ستدره من واردات ضخمة.
إلى هذا القدر كتب عن خرق بريطانيا لتعهداتها للعرب وقيل عن انسحاب لورانس بعد الحرب من ميدان
الشؤون العامة، وقد أرجع السبب في ذلك إلى ما نسب إلى بريطانيا من ازدواج في السياسة، وهذا أمر لا يمكن
استكناهه بمجرد لمحة خاطفة، لما يتضمنه من حقائق تحتاج إلى تبيان وشرح.
وتبدأ القصة في شهر نيسان سنة ١٩١٤ ، عندما زار الامير عبد الله القاهرة لإجراء محادثات مع اللورد،
"كتشنر"، المندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك . وكانت الحكومة التركية في الآستانة قد أخذت تشك في
اسرة الشريف وكل أعمالها، وقد ازداد هذا الشك عندما علمت بزيارة الأمير، فأرسلت مبعوثًا إلى "كتشنر "
تطلب إليه عدم استقبال الأمير عبد الله.
وقد وافق المندوب السامي على الطب، ولكنه أمر "ستورز"، وكان يومئذ سكرتير المندوب السامي، بأن يقابل
عبد الله ويعرف منه ما يريد . وكان جواب عبد الله "البنادق" للدفاع ضد الأتراك، وقد أجاب "ستورز " بوضوح
بأن مثل هذا الطلب لا يمكن إجابته من قبل حكومة على علاقة ودية مع تركيا . وعلى الرغم من أن سحب
الحرب كانت تتجمع في الأفق، وعلى الرغم من أن الاضطرابات قد أخذت تذر قرناه بين شريف م كة
والأتراك، فقد كانت هنالك حالة سلام ما تزال قائمة، ولا تستطيع بريطانيا أن تزج بنفسها في الخلافات الداخلية
للامبراطورية العثمانية.
ولم يقل أي من الطرفين شيئًا أكثر من ذلك، حتى اندلعت نيران الحرب في شهر آب من السنة ذاتها، وعندئذ
بدأت حملات الدعاية الألمانية تستهدف جر تركيا والعرب إلى خوض غمار الحرب ضد بريطانيا وفرنسا.
وقد وصف الحلفاء بأنهم أعداء الإيمان، وأن الألمان هم الأوروبيون الوحيدون الذين يدافعون عن الإسلام .
ولما كان الأتراك متألمين جدًا من بريطانيا، لانها حلت محلهم في مصر، غدوا فريسة سهلة للدعاية، و خاصة
عندما أصيب الحلفاء بنكسة في أول الأمر، مما جعل الأتراك يعتقدون بامكان إحراز نصر على البريطانيين
١١٤٤٣٣
الذين كانوا يحتلون شريطًا رفيعًا من صحراء سيناء، وكذلك صلى المسلمون لقيصر ألمانيا في مساجد دمشق،
ودعوه باسم "محمد وليام" أو "الحاج غليوم".
وكان واضحًا أن الأمر غدا مسألة اسابيع قبل أن تقع تركيا بأسرها في المصيدة، وتنضم إلى ألمانيا فيما دعوه
بالجهاد أو (الحرب المقدسة) التي كانت برلين تنادي لها.
فاذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار أن اللورد "كتشنر" قد أصبح وزير الدولة لشؤون الحرب في الوزارة البريطانية،
فقد أصدر تعل يماته إلى "ستورز" في ايلول سنة ١٩١٤ من مقره في لندن بأن يبعث برسول إلى عبد الله، ليعرف
ما إذا كان الشريف حسين سيقف مع أو ضد بريطانيا، إذا ما خدعت تركيا ووقفت في الحرب إلى جانب ألمانيا.
وقد جاء الجواب مشجعا، وهو أن حسينًا وأولاده وشعبه سيقفون إلى جانب بريط انيا، وانهم في كل الاحوال لا
يعتقدون بأن المانيا ستربح الحرب . وقد أبلغ اللورد "كيتشنر" بجواب الشريف حسين في الحادي والثلاثين من
شهر تشرين الاول، مقرونًا بشرط هو "إذا ساعد العرب بريطانيا في هذه الحرب، فعلى بريطانيا أن تضمن عدم
وقوع أي تدخل في شؤون شبه الجزيرة العربية، وأن تقدم للعرب كل مساعدة ممكنة ضد أي عدوان أجنبي".
وفي الثلاثين من تشرين الثاني سنة ١٩١٤ ، دخلت تركيا الحرب ضد الحلفاء، وبعد عشرة أيام أرسل الحسين
رسالة إلى القاهرة يجدد فيها صداقته لبريطانيا، ولكنه أضاف يقول بأنه لم يقطع علاقاته بالأتراك بعد، وإن كان
يترقب مبررًا لقطعها.
ولم يقل أي من الطرفين كلمة أخرى، حتى نيسان سنة ١٩١٥ ، عندما اعلن الحاكم العام للسودان أن بريطانيا
ستضمن عند الوصول إلى تسوية سلمية، نيل شبه الجزيرة العربية والاماكن المقدسة الإسلامية، استقلالها، في
ظل حكومة ذات سيادة.
وكان هذا الإعلان حذرًا من ناحية الإشارة، أية اشارة إلى الحدود . وبعد ثلاثة أشهر، أي في حزيران، سعى
شريف مكة لطعن حلفائه البريطانيين، فقد اقترح على السير "هنري ما كماهون " الذي خلف "كيتشنر " في
القاهرة، أن تعترف بريطانيا بحق جميع المناطق العربية في جنوب غرب آسيا بالاس تقلال، باستثناء عدن، كما
يجب عليها أن تعترف بمطالبته بالخلافة التي ستجعله "بابا" الإسلام، بالإضافة إلى انه ملك العرب.
وكان رد "ماكماهون" غامضًا قصدًا وجاء فيه أنه يرفض أن يلزم الحكومة البريطانية بتحرير مناطق، الدفاع
عنها محكم، وخاصة تلك التي في غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين، ورجاه أن يسمح له بالسؤال عن بقية
طلباته الأخرى التي قدمها في اقتراحه.
وبعد حوالي سنة، وفي شهر أيار سنة ١٩١٦ ، أنذر الشريف حسين بمحاباة تركيا لمحاولات الألمان الزج
بالحجاز في الحرب، ومحاولة إنشاء محطة لا سلكية في منطقة البحر الأحمر، للا تصال بالقوات الألمانية في
شرقي إفريقيا، فبعث برسالة إلى القاهرة يطلب فيها إلى "ستورز" أن يحضر على جناح السرعة إلى الحجاز
لمقابلة عبد الله.
وأضاف إلى ذلك قوله ان الحركة ستبدأ حالما يصل فيصل وكان آنذاك محتجزًا في دمشق إلى مكة .
وقد وصل "ستورز" إلى خارج الحدود الاقليمية المقابلة لمدينة جدة في الخامس من حزيران، حيّث اجتمع مع
ابن الشريف، الذي ابلغه بأن الاضطرابات قد بدأت في ذلك اليوم بالذات بهجوم شنه كل من فيصل وعلي في
١١٤٤٤٤
المدينة المنورة، وقال له إن مكة ستهاجم في اليوم التاسع من حزيران، ولم تبحث في هذا الاجتم اع، أية
مواضيع سياسية أكثر من هذين الموضوعين، ولم يتقدم عبد الله بمزيد من الطلبات، سوى طلبه النقود والسلاح.
وكان فيصل وعلي قد صدا عن المدينة، ولكن بعد محاصرة مكة بأربعة أيام، استسلمت في الثالث عشر من
حزيران، واستسلمت جدة بعدها بثلاثة أيام، وبعد ذلك، أصيبت الثورة بنكسة، نتيجة للنقص في التعاون بين
بريطانيا والشريف، لولا ذلك الاندفاع والتشجيع اللذين شرع لورانس بتقديمهما بعد أن عين نفسه مبعوثًا خاصًا
لدى فيصل.
وفي الوقت ذاته كما يخبرنا ستورز في شرقياته فان اللجنة البريطانية العليا، كانت تجهل أن مفاوضات
معاهدة "سايكس بيكو " قد تمخضت عن اتفاق على التقسيم الثلاثي للمناطق العربية في الامبراطورية
العثمانية، بين بريطانيا وفرنسا وروسيا وإعطاء كل منها منطقة نفوذ، وكانت تلك الاتفاقية قد أبقيت سرية حتى
. فضح أمرها البولشوفيك بعد ثورة سنة ١٩١٧
وفي الوقت ذاته، كانت ح كومة الهند على وفاق مع ابن سعود، زعيم المذهب الوهابي الاسلامي المتطرف،
والعدو الألد للاسرة الهاشمية، كما كانت منهمكة بوضع الخطط لاستعمار بلاد الرافدين، حالما يتم طرد الاتراك
منها.
ولو أن أيا من هاتين السياستين المتناقضتين قد ابلغتا "ما كماهون" في الوقت الذي كان فيه قادرًا وهو
الرجل الحازم لكان من الممكن أن يوضح للشريف حسين أن بريطانيا لن تدعم أيًا من مطالبه بصدد استقلال
العرب، أو لربما أصر تحت تهديده بالاستقالة على ضرورة عدم إعطاء تعهدات متناقضة أو أية التزامات
يخالف بعضها بعضًا من قبل بريطانيا لأي فريق ثالث.
ولكنه، كما حدث، بقي في الظلام بسبب الفشل في تنسق السياسة بين لندن والقاهرة ونيودلهي، وعندما
فضحت هذه التناقضات أخيرًا، أزيح من منصبه، ليتولى منصبًا يقوم عن طريقه بمزيد من تهدئة خواطر
العرب.
وليس هناك من شك في أن العرب يعتقدون، ويشاركهم الاعتق اد لورانس، بأنهم قد تعرضوا لخيانة
البريطانيين، وبدون إيضاح من لندن، التي كانت في حالة من الفوضى فيما يتعلق بسياستها إزاء الشرق الأوسط
التي كانت سائدة آنذاك.
لم يكن المندوب السامي مطلعًا على مجريات الأمور، ولم يكن بمقدوره إ ّ لا أن يقول بشىء من الغموض أي
المناطق لن تنال استقلالها، الأمر الذي ترك العرب بحق في حيرة، وفسروها على أن كلا لمناطق، وليست
مناطق معينة كلها باستثناء غربي سوريا ودلتا بلاد الرافدين ستنال استقلالها، كما وعد بذلك اللورد
"كيتسشنر" وكما جاء في بيان حاكم السودان العام.
ولما تبع ذلك بيان القاهرة الصادر في حزيران سنة ١٩١٨ ، والبيان الانكلو فرنسي، الذي صدر في تشرين
الثاني التالي، كان العرب بطبيعة الحال قد اقتنعوا بأن البريطانيين سيؤيدونهم، مهما حاول الفرنسيون فرض
حكمهم على البلاد العربية المتحررة.
١١٤٤٥٥
كان هذا هو اعتقاد فيصل بكل تأكيد عندما التأ م مؤتمر الصلح. وعند افتتاحه قدم طلبا يؤكد فيه مطالبه
باستقلال جميع البلدان العربية في آسيا : الحجاز، نجد، شرقي الأردن، فلسطين، سوريا، بلاد الرافدين، على
أساس أن هذه المناطق غير منفصلة من الناحيتين الجغرافية والقومية، ولم يثر أية عراقيل بشأن وعد بلفور، بل
أكد أن الأمر يعود إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، وإن كان قد عارض في إقامة دولة يهودية على ذات الأرض
التي لا يمكن فصلها عن بقية العالم العربي.
وقد قال في رسالة إلى القاضي اليكس فرانكفورتر جاء فيها : "إن الغرب واليهود أولاد عم من ناحية الجنس،
وقد تعرضوا لاضطهاد م تماثل… ومن حسن الحظ أنهم قادرون على القيام بالخطوة الأولى نحو بلوغ أهدافهم
الوطنية معًا".
وكانت هذه الرسالة مبعوثة من باريس بتاريخ آذار سنة ١٩١٩ . وقد أضاف إلى ذلك قوله: "إننا نتمنى لليهود
كل ترحيب قلبي في بلدنا … إن هناك متسعًا في سوريا لنا ولهم".
وقد يش ك المرء في أن هذا الكلام، صادر عن لورانس أكثر منه عن فيصل، وكان لورانس يقدر تقديرًا كبيرًا
"حاييم وايزمان "، منذ أن التقيا في فلسطين بعد سقوط القدس، ليبحث مع الأمير المقترحات الصهيونية الخاصة
بتوطين اليهود في الديار المقدسة، وكان على الدوام يعطف على الجنس ا لسامي من اليهود والعرب، على
اعتبار انه جنس يشكل وحدة كاملة.
وفي الوقت ذاته، كان لورانس وفيصل يعتقدان آنذاك بأن مثل هذا التأييد الأجوف للصهيونية يعتبر من حسن
السياسة على أساس أن هذا التأييد سيدعم أكثر فأكثر القضية العربية بين الوفود الأميركية والبريطانية، وذلك
عن طريق إظهار أن دولة عربية مستقلة لن تتعارض مع مصالح اليهود ومطالبهم.
كما فسراها لنفسيهما من وعد بلفور . ومن سوء حظهما، وحظ التاريخ، أن إذعانهما في فلسطين، لم يكن كافيًا
لتأمين الاستقلال للعرب، لأنه فشل في الحد من مطالب فرنسا في سوريا، وما كانت الهند مصممة عليه وتأمين
مصالح الغرب البترولية في بلاد الرافدين
[align=center]  [/align]
-
الفصل التاسع والعشرون
مأساة سوريا
في السادس من شباط سنة ١٩١٩ مثل فيصل أمام لجنة العشرة ليدافع عن قضيته، وكان لورانس معه بصفة
مستشار ومترجم، وقدم الامير معظم مساهمة العرب في هزيمة الأتراك، وكان يغ الي في بعض الأحيان مغالاة
كبيرة في عدد المقاتلين العرب الذين اشتركوا في الحرب، وفي عدد الإصابات التي أصابتهم، ولكنه كان
مكشوفا في ذلك.
وعلى الرغم من أنه قد ولد ونشأ وسط مؤامرات ودسائس الشرق، إ ّ لا أنه لم يكن من المهارة والعزم بمقدار
الدبلوماسيين الغربيين ا لذين قد قرروا الإطاحة به . وبينما كان البريطانيون يؤيدونه اسميا في مطالبته بسوريا
وضرورة استقلالها، فقد كانوا يعرفون أنهم لا يستطيعون على المدى البعيد اللجوء إلى الاستيلاء على بلاد
الرافدين، ومنع الفرنسيين من أخذ سوريا.
١١٤٤٦٦
وثمة تعقيد آخر يكمن في الموضوع، وهو أنه بموجب تقسيم بلاد العرب الذي اتفق عليه في معاهدة "سايكس
بيكو " بأن آبار النفط في الموصل كانت تقع في المكان الذي أعطي للفرنسيين ليكون منطقة نفوذ لهم يديرونه
كيف شاؤوا.
وكما كان متوقعًا، فقد قام "كليمنصو" بالقاء هذه الورقة الرابحة، لتطلق يده في سوريا، وبينما كان فيصل يدافع
الدفاع الأول أمام "صانعي السلام!" كانت القوات البريطانية تخلي غربي سوريا للقوات الفرنسية، وكان أقصى
ما يمكن انقاذه من الحطام لا يعدو داخل سوريا وربما دمشق.
وقررت بريطانيا أن تتفق على هذا، عندما اقترب المؤتمر من ربيع سنة ١٩١٩ ، فراحت توقع كل ضغط
ممكن على فرنسا لكي توافق هي الأخرى، غير أن جميع تلك المحاولات ذهبت سدى، فقد كان "كليمنصو "
يعرف قوة مركزه، ولذلك أصر بعناد على تقسيم سوريا إلى منطقتين، القسم الساحلي ليصبح مستعمرة فرنسية
والقسم الداخلي محمية فرنسية.
وقد ناضل لورانس يائسًا لإحباط هذه الخطة، مستعم ً لا كل قوة يمكن أن يتصورها العقل، حتى لقد انتهز
فرصة مقابلة خاصة له مع الملك جورج الخامس، تلك المقابلة التي كان من المقرر أن يمنح فيها وسام ربطة
الساق، وحاول أن يثير العطف على قضية فيصل . ورفض لورانس قبول أية مكافأة من ملكه وسيد البلاد الذي
جعل منهم جزءًا من خيانة بلاده للعرب، وهكذا غادر القصر غاضبًا.
وعاد لورانس إلى باريس وتوجه مع فيصل لزيارة الكولونيل "هوس" يد الرئيس ويلسون اليمنى، لحثه على أن
تتدخل الحكومة الأميركية وتنشئ انتدابًا على سوريا، ولكن هذه المحاولة لم تفلح، فقد ارتدت إهانة لورا نس
للملك ارتدادًا فظيعًا عليه، مثيرة السخط أكثر مما هي مثيرة للعطف في بريطانيا.
والأدهى من ذلك أن أقصى ما يمكن للوفد الأميركي أن يلزم به نفسه هو أن يقترح إيفاد لجنة تحقيق من
الحلفاء إلى سوريا، وكان لهذا الاقتراح نظرًا لافتقاره إلى تأييد بريطانيا ومعارضة ف رنسا العنيفة له، اثره في
التأثير على جميع اللجان الأميركية، التي تقدمت بمقترحات لتوحيد سوريا وتنصيب فيصل ملكًا عليها . وكان
نصيب كل هذه المقترحات هو التجاهل.
ثم جاءت ضربة أخرى موجهة إلى لورانس ومجهوداته، فقد شبت إضطرابات في بلاد الرافدين، عندما
حاولت القبا ئل أن تقاوم الحكم البريطاني، مدفوعة من حكومة الهند . وبعد أن أخمدت هذه الاضطرابات،
اكتشفت السلطات البريطانية المحلية أن مشعلي الفتنة قد مولوا الاضطرابات بأموال منحتها بريطانيا إلى شريف
مكة، وشجعت على نطاق واسع بدعاية من دمشق حيّث كان الأمير زيد الذكي، إ ّ لا أنه ليس بالرجل الناضج،
ينوب عن فيصل، والذي وجد نفسه ليس بأصلح في السيطرة على العناصر المتطرفة في بلده، من شقيقه في
معالجة ما يسمون أنفسهم بالحلفاء في باريس.
وليس بالامكان أن يحدث كل هذا في لحظة أسوأ من تلك اللحظة بالنسبة إلى فيصل، فقد كان أولئك المتنفذون
في وزارة الخارجية البريطانية، وعلى رأسهم اللورد "كورزون" ممكن كانوا يدافعون عن المصالح البريطانية
على حساب العرب، في وضع يمكنهم من المناقشة والمجادلة والادعاء بأن الإخلاص للشريف وقضية العرب
لن يدمر التحالف الانكلو فرنسي فحسب، بل وسيمكن انتصار الوطنيين ال عرب الذين يعارضون في النفوذ
١١٤٤٧٧
الأوربي والغربي ومصالح الغرب في جميع أرجاء الجزيرة العربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح موضوع خذلان
الأمير موضوع وقت.
وفي أيار سنة ١٩١٩ ، وقبل أن يتم تقرير أي شيء بالنسبة لمصير سوريا، عاد فيصل إلى دمشق ليقابل
بالهتافات من اشياعه والعبوس من الفرنسيين، ولم يقابل لورانس بأية هتافات عندما عاد إلى موطن طفولته في
اكسفورد. وكان والده قد توفي مؤخرًا، ووجد أن اثنين من أشقائه قد قتلا في الحرب، وكانت أمه تعد نفسها
للسفر إلى الصين مع أخيه الأصغر "بوب" في بعثة طبية.
وعلى الرغم من أن ما كتبه ونشره بر وي الشيء القليل عن حالته النفسية في ذلك الحين، إ ّ لا أنه من الواضح
من سلوكه أن فشله في باريس كان يأتي على رأس ما يعانيه من آلام نفسية، وعذاب جسماني، ومرارة
فشله في تحقيق أطماعه التي يكرس لها سني الحرب.
حتى ليمكن القول بأن ذلك الفشل قد أوصله إلى الإنهيا ر الكلي، فكان يجلس ساعات طوا ً لا دون أن يتحرك،
وفي نفس الإتجاه، وعلى وجهه تعبير العذاب لا يتغير.
وبعد فترة لم يعد بمقدوره أن يتحمل ذلك أكثر مما تحمله، فقرر أن يسافر إلى مصر ليجمع أوراقه وغير ذلك
مما تركه هناك في غمرة إسراعه بالانسحاب من دمشق.
وكانت الطائر ة التي سافر عليها نوعًا من قاذفات القنابل، ولكنها في حاجة إلى كثير من الإصلاح، ولذلك
اضطرت للهبوط هبوطًا اجباريًا في إيطاليا، وقتل في ذلك الحادث الملاحان اللذان كانا فيها.
وعلى الرغم من أن جراحه كان تشتمل على كسر في الضلع وآخر في عظم الترقوة، إ ّ لا أنه است قل طائرة
أخرى وواصل رحلته إلى القاهرة، حيّث قابله موظف بريطاني يعمل وفقًا لتعليمات وزارة الخارجية، فسأله أن
يقدم له تأكيدات بأنه لن يسافر إلى سوريا ويحدث مشاكل هناك للفرنسيين.
وكانت أخبار رحلته قد بلغت مسامع المسؤولين في الحكومة الفرنسية، الذين على ما يبد و، حملوا تهديداته
التي أطلقها في باريس على محمل الجد، بينما كان هو يمزح . وأحد هذه التهديدات قاله مباشرة إلى "كليمنصو "
والمارشال "فوش" وهو قوله إنه سيحمل السلاح ضد فرنسا، ولن يتركها تستولي على سوريا.
وبعد أسابيع قليلة عاد لورانس إلى باريس ليقوم بمحاولة أخي رة لانقاذ سوريا التي يحبها من سيطرة فرنسا .
ولكن مجهوداته باءت بالفشل مرة أخرى، فعاد إلى لندن ليدافع عن سوريا أمام "لويد جورج " والوزارة
البريطانية، ولكنه أبلغ بكل برود أن يصالح الحكومة الفرنسية، وقد عملت بريطانيا كل ما بوسعها له، وهي
ليست مستعدة لاغضاب أفضل اصدقائها في اوروبا من أجل العرش الذي يريد إيجاده.
وكانت الحكومة البريطانية توشك أن تتلقى وثيقة الانتداب على بلاد الرافدين وامتياز التنقيب عن البترول في
الموصل، وفي مقابل ذلك كان يتحتم عليها أن توافق على منح فرنسا وثيقة الانتداب على سوريا كلها.
هذا وقد ا ستثني لورانس، أو لعل الأصح أنه استبعد، عن المناقشات التي دارت مع الأمير بموجب تعليمات
رئيس وزراء بريطانيا الخاصة، ولربما كان ذلك أفضل بالنسبة له، وعلى الأقل لأنه انقذه من أن يرى إهانة
فيصل الأخيرة، ولكنه ثار وبعث برسالة إلى جريدة "التايمس" اللندنية كشف فيه ا النقاب عن جميع نقاط
المناقشات التي حاول عبثًا إقناع مؤتمر باريس بها طوال الأشهر التي انقضت على انعقاده.
١١٤٤٨٨
وخرج عن تقاليد الرجل البريطاني عندما ربط وسام "كويكس دي كوري " الفرنسي إلى طوق كلب من طراز
"هوغارث" وعرض الكلب في شوارع اكسفورد.
وتصالح فيصل م ع "كليمنصو" ثم عاد إلى دمشق بشروط جعلت منه شخصًا هو دون رئيس ولاية اقطاعية .
والحقيقة أنه ما كان ليسمح له بالعودة إلى سوريا على الإطلاق، لولا أن السلطات الفرنسية المحلية كانت
مشغولة آنذاك بقمع محاولة قامت بها بعض الوحدات التركية، ممن لم تحل بعد، لإعادة الحك م العثماني إلى
مناطق الحدود في سوريا الشمالية . وبينما كانت هذه السلطات منهمكة في تلك العمليات، اقترح المسيو "جورج
بيكو" على الحكومة، بأنه لكي تضمن أقل المشاكل مع العرب، فلا بأس من اختيار أهون الشرين والسماح
لفيصل بالعودة إلى دمشق، على أساس أنه اقدر من يستط يع كبح جماح المتطرفين، وقال: إنه كلما قلت مشاكلنا
مع العرب كلنا أسرع في قمع الاضطرابات.
وقد لعب فيصل لمدة أشهر دوره بكرامة وتحفظ، ثم وفي شهر آذار سنة ١٩٢٠ نفذ صبر العرب وفقدوا
أعصابهم، فقد كانت سوريا وبلاد الرافدين، أو العراق، كما كانت ستسمى من جديد، قد ح ررتا من الأتراك قبل
ثمانية عشر شهرًا، ومع ذلك لم تكن هنالك في الأفق أية بارقة توحي بأن العرب سينالون أي استقلال حقيقي.
وكانوا ما يزالون دون ملك في بلادهم، كما أن "محرريهم" يفرضون عليهم سلطاتهم بطريقة لا تقل عنفًا
وجرحًا للكرامة العربية عن تلك التي كانت الإ مبراطورية التركية تتبعها . ولذا فقد اجتمع مؤتمر عربي في
دمشق، وقرر العمل على تأكيد حقوق العرب، وأعلن تعيين فيصل ملكًا على سوريا وشقيقه عبد الله ملكًا على
العراق.
واحتجت فرنسا بشدة على هذا الإعلان واعتبرته تحديًا، ودعت بريطانيا لتشترك معها في إبطال الإعلان ،
وابدى "كرزون" استعداد الفوري لتأييد فرنسا، وشجبت الدولتان معًا ذلك القرار الذي اتخذه المؤتمر، وأمر
فيصل بشكل حازم، أن يحضر مؤتمر "سان ريمو" حيّث تسوى جميع هذه المشاكل من قبل فرنسا وبريطانيا.
وانعقد المؤتمر في الشهر التالي، ولم يتردد في منح فرنسا حق الان تداب على سوريا، وبريطانيا حق الانتداب
على العراق وفلسطين، وتخلت فرنسا عن مطالبتها في حقول زيت الموصل، فالحقت المنطقة بمنطقة الانتداب
البريطاني.
وهكذا انتصرت فرنسا، وأصبحت أيام فيصل معدودة، ولم يكن ينقص السلطات الفرنسية في بيروت غير
الذريعة للإطاحة به . ولم يطل الامر بالمسيو "جورج بيكو" ليجد تلك الذريعة، فقد جوبهت بريطانيا في أوائل
شهر تموز بنشوب اضطرابات جديدة بين القبائل في وادي الفرات، فكانت تلك إشارة إلى المتطرفين في سوريا.
وكانت خطوط السكة الحديدية الفرنسية، بين حلب والقوات الفرنسية المرابطة في سوريا ا لشمالية قد أصبحت
مهددة، وقد أرسل الجنرال "غورو" القائد الفرنسي العام، والقائد العالم السابق في السودان، والذي عرف بقسوته
في معالجة مثل هذه الامور، أرسل إنذارًا فظًا إلى فيصل طلب فيه ضمان حرية استعمال تلك الخطوط . ونظرًا
لما كانت فرنسا تبيته من تصميم، فقد أمر "غورو" القوات الفرنسية بالزحف على دمشق.
وقد تردد الأمير في بادئ الأمر اعتقادًا منه بأن البريطانيين، وقبل كل شيء صديقه "اللنبي "، لن يسمحوا
للفرنسيين بالتمادي في هذه المعاملة مع حلفائهم العرب. ولكن القرار لم يعد بيد "اللنبي".
١١٤٤٩٩
وكان من الضروري سؤال لندن عن التعليمات الواجب اتباعها . وفي الوقت ا لذي وصل فيه نداء فيصل إلى
القاهرة، كانت لندن في ذلك الوقت مضطربة جدًا ومهتمة بأحداث العراق، وكان الآلاف من الجنود البريطانيين
يشتركون في عمليات القمع، كما أن تكاليف تهدئة البلاد بلغت أكثر من ٣٠,٠٠٠,٠٠٠ جنيها سنويًا، ولذلك فقد
تساءلوا في "الوايت هول : كيف يمكن لبريطانيا أن تتخذ أشد إجراء لمعالجة تمرد يؤثر على مصالحها،
ومعارضة فرنسا في اتخاذ إجراءات مماثلة لتؤمن مركزها؟ وبالاضافة إلى ذلك، ألم يثبت في المرة الأخيرة،
عندما نشبت الاضطرابات في العراق بأنها قد شجعت من دمشق ومولت من مكة؟.
وابلغ "اللنبي" بألا يتدخل وأن يدع فيصل يخوض معركته وحده. وقد وقعت مهمة إبلاغ هذه الأنباء القاسية
للأمير على سئ الحظ "كيرك برايد" الذي قال بأن فيصل قد تصرف كالطفل عندما تلقى جواب بريطانيا ، ففي
غمرة تأمله من هذه الأخبار، نسي كل كبريائه له، وراح يبكي ويلعن حظه العاثر وخيانة حلفائه لقضيته.
ولما استرد وعيه، قام الأمير بمحاولة أخيرة للتفاوض مع الفرنسيين . فبعث ببرقية إلى الجنرال "غورو " طلب
إليه فيها وقف زحف القوات الفرنسية على دمشق تجنبًا لسفك الدماء، ولدراسة المطالب الفرنسية في فسحة من
الوقت.
ولكنه لم يتلق جوابًا على هذه الرسالة واستمر الزحف الفرنسي . وبعد يومين سلم تحت شروط، فقد بعث
ببرقية أخرى قال فيها إنه لن يقاتل، وانه قبل الإنذار الفرنسي بحذافيره، ولم يطلب إ ّ لا أن يتراجع الجيش
الفرنسي عن المواقع التي احتلها مؤخرً ا. غير أن الفرنسيين كانوا قد امت لأوا غيظًا، ولم يعد هناك ما يوقفهم عن
احتلال دمشق، وطرد فيصل من سوريا . ان تلغراف الاستسلام قد "ضاع " ليتيح ضياعه الفرصة للقوات
الفرنسية كي تصل إلى العاصمة السورية، وتهزم القوات الأمير التي تقدمت لمواجهتها.
ثم .. وفي السابع والعشرين من تموز تلقى الأمير رسال ة فظة، تطلب منه أن يتخلى عن مركزه، ولم يجئ
فيها أي ذكر لقبوله إنذار "غورو"، وابلغته بأن ثمة قطارًا سينقله صباح اليوم التالي إلى فلسطين.
وانتشرت أخبار قرب مغادرة فيصل للبلاد حول دمشق انتشار النار في غابة، ونجم عن ذلك اضطرابات
ومظاهرات، اخترقت شوارع دمشق، لأ ن الذي خاطر بحياته من أجل ملكه أثناء الاحتلال التركي، ثم أنقذه من
محاولة الانقلاب التي قام بها عبد القادر، لن يقبل منه أن يسلم نفسه ولا شعبه إلى أطماع استعمارية وعدو
غاصب.
وقد قام الدمشقيون بمحاولة يائسة أخيرة، فتجمعوا بأعداد كبيرة لسدّ الطريق أمام فيصل ومنعه من الخروج
من المدينة، ولكن فيص ً لا لم يكن يرغب في المقاومة فأمر قواته النظامية بقيادة نوري السعيد أن تشق له طريقًا
بالقوة خلال الجماهير التي كانت ترفع عقائرها بالاحتجاج.
وبعد أيام قليلة وصل القدس، منتصب القامة، ولكنه حزين الملامح، يرد دموعه التي كانت على وشك
الانحدار من مقلتيه، وسمح له باللجوء، تحت الحماية البريطانية.
فاذا كان ما أصاب فيصل في سوريا من إذلال يمكن اعتباره بالشئ القليل، إ ّ لا أن ما أصاب والده من سوء
حظ لم يكن يتوقعه، كان أكثر بكثير من نصيب فيصل، فقد انتخب فيصل ليكون ملكًا على العراق بعد سنة من
١١٥٥٠٠
طرده من سوريا، أما والده، فقد خلع بعد أربع سنوات وفقد عرش الحجاز ونفي، دون تعويض من أي نوع
كان.
وكان الشريف العجوز قد تكدر كثيرًا لتسليم ابنه بالشروط الفرنسية، بعد عودته إلى سوريا من مؤتمر الصلح،
كما أنه قد جرح لخيانة الحلفاء له ونكثهم وعودهم وتخلفهم عن تنفيذ تعهداتهم له.
ولذلك فقد قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة ليؤكد استقلاله وسلطانه في العالم الاسلامي . فأعلن بأنه الخليفة و"ملك
الأراضي العربية ". ولكنه لم يرتكب أكثر من هذا الإجراء حماقة، إذ أن عدوه القديم، ابن سعود كان منذ مدة
يتطلع إلى الحجاز بنظرات طم وح معتبرًا نفسه واتباعه من الوهابيين، الحرس الوحيدين للأماكن المقدسة في
مكة والمدينة.
وهكذا فقد أعطاه إعلان حسين هذا عذرًا ليقوم بحملة عنف ودعاية، واخيرًا إعلان الحرب ضد حكم الشريف،
الذي انتهى باتحاد الحجاز ونجد في مملكة واحدة وهي المملكة العربية السعودية ، الأمر الذي خلق عداء سعوديًا
هاشميًا ما يزال قائما حتى هذا اليوم.
وفي شهر تموز سنة ١٩٢١ ، وأثناء انعقاد مؤتمر القاهرة، أرسل لورانس إلى جدة ليحاول إقناع الشريف
بالاعتدال في مطالبه والتوقف عن تحريض جيرانه، وخول صلاحياته التفاوض لعقد معاهدة لوضع الحجاز
تحت الحماية البريطانية، إذا ما استطاع الشريف أن يتبنى سياسة المصالحة.
غير أن الشريف لم يكن من السهولة بحيث يشترى بأي عرض بريطاني، وبعد سلسلة من الاجتماعات
العاصفة، توقفت المفاوضات، وتوجه الشريف إلى مكة حيّث حجز نفسه هناك، تاركًا لورانس ولا سبيل أمامه
غير العودة إلى القاهرة.
وارتكب الشريف خطأ آخر عندما أمر ابنه عبد الله بقيادة حملة من أربعة آلاف رجل، يتوجه بها إلى نجد
ليؤكد نفوذ خليفة مكة الجديد . وسرعان ما اشتبكت قوات عبد الله مع الوهابيين، فأبيد معظمها في مذبحة بشعة،
ونجا عبد الله نفسه من الموت أو الأسر بأعجوبة.
لقد كان الشريف طموحًا أكثر مما يجب، كما أن ابن سعود كان مصممًا على إ ّ لا يقف حتى يطهر الحجاز من
الهاشميين، وكل الذين اساؤوا إلى سمعة شبه الجزيرة العربية بتحالفهم مع "الكفرة".
وفي سنة ١٩٢٤ خلع حسين وحمل إلى قبرص، تاركًا ابنه سئ الحظ عليًا ليدافع عن جد ة، آخر معقل حصين
في وجه الوهابيين المنتصرين. وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت ممولة سخية للشريف.
فقد رفضت أن تشترك في النزاع مع ابن سعود . ولذلك فإنه ما إن انتهت الذخيرة حتى انتهت الحرب، وسلمت
جدة وهرب علي إلى العراق، حيّث قدم له شقيقه فيصل بيتًا يعيش فيه طوال حياته في المنفى.
ولقد جر الشريف العجوز المصاعب على نفسه، وهناك قلائل بكوا على هزيمته النهائية، فقد سمح لشكوكه
الخاصة، أو لشكوك اولئك الذين يحيطون به، بأن تسيطر على أعماله، تلك الأعمال التي كثيرًا ما كانت خاطئة.
لقد رفض أن يساعد ابنه عندما كان يحمل عبء الثورة العربية على كتفيه الضعيفتين، بل لقد تآمر ضد
فيصل، وحرض جنوده على التمرد في أحرج اللحظات، وكذلك فقد نسف نفوذه في مؤتمر الصلح.
١١٥٥١١
وأخيرًا، قام عندما كان فيصل يحاول أن يعيش على السراب والنتائج غير المؤكدة لمجهوداته الخاصة في
باريس، قام بالتخلي عنه وأعلن استقلاله، بوصفه الخليفة، وملك شبه الجزيرة العربية، الأمر الذي أثار ضده
زعيمًا آخر من زعماء شبه الجزيرة العربية، بينما كان ابنه الذي يأمل في مساعدته يجلس على عرش مملكة
أخرى.
وثمة عمل آخر قام به الشريف حسين يبعث على الدهشة، إذ أنه بعد وصوله إلى قبرص منح من قبل
الحكومة البريطانية وسام الصليب الكبير لنوط ربط الساق، وهو نفس الوسام الذي رفضه لورانس من مليكه
احتجاجًا على خيانة بريطانيا لتعهداتها للشريف.
والغريب أن الشريف قبل الوسام من يد "رونالد ستورز " الذي كان يشغل عندئذ منصب حاكم جزيرة قبرص،
والذي كان خادمًا للورانس طوال الثورة العربية، والمحرض الرئيسي لبريطانيا على التخلي عن تعهداتها
بالنسبة للحركة العربية
[align=center]  [/align]
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |