[align=justify]لقد كان الشهيد الصدر يرفض حالة الجمود والركود واعتياد الاساليب القديمة (التي أكل الدهر عليها وشرب) حتى أنه كان يسمي هذه النزعة الاستصحابية ، أي أستصحاب الوسائل القديمة والنفور من طابع التجديد في كل شيء. وفي محاشرة له أكد تذمره من هذه النزعة إذ يقول : " لابد لنا من أن نتحرر من النزعة الاستصحابية من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل اساليب العمل. هذه النوعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، حتى إن كتاباً دراسياً مثلاً – أمثل بأبسط الأمثلة –إذا أريد تغييره غلى كتاب دراسي آخر افضل منه حينئذ تقف هذه النزعة الاستصحابية في مقابل ذلك. إذا أريد تغيير كتاب بكتاب آخر في مجال التدريس، وهذ أضأل مظاهر لاتغيير. حينئذ يقال لا ، ليس الأمر هكذا بل لابد من الوقوف ، لابد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري أو المحقق القمي..".
نعم إن هذه النزعة هي التي عطلت الطاقات العظيمة وهدرت الإمكانيات الهائلة كتطوير الفكر والحركة العلمية حتى نقل إن السيد المجدد الشيرازي الذي يعتبر من أعاظم الفقهاء لم يترك كتاباً ، وقد سئل عن ذلك فقال، بعد الرسائل والمكاسب لا ينبغي لأحد تأليف كتاب في الفقه والأصول، ولذا أمر بإلقاء كل ما كتبه من بحوثه العلمية وآراءه لاقيمة ونظرياته لاصائبة في نهر دجلة.
ومن هذا الواقع إنطلق السيد الشهيد ليغير ويشجع على التغيير في أسااليب العمل الإسلامي، بل حتى في وضع المناهج الدراسية في جامعات الفقه فلجأ إلى تغيير منهاج علم الأصول وبكل جرأة فكان إنقلاباً ضجر منه اصحاب الدعة والراحة وممن ليس فيهم قابلية التغيير الذين يبررون ركودهم وجمودهم بحفظ ما كان وإبقائه.
وهكذا كتب السيد الشهيد(دروس في علم الأصول) في ثلاث جلقات . ويقع في أربعة أجزاء أعده لطلبة ما يسمى (بطلبة السطوح) أي قبل مرحلة الدراسات العليا التي تسمح (البحث الخارج).
وقد كان بعض العلماء من تلاميذه يدفع لاسيد للإسراع في إنجاز المشروع، فكتبه وأنجزه في ما يقرب من ثلاثة أشهر أو ما يزيد عليها، وكان من هؤلاء العلماء تلميذه (السيد عبدالغني الأردبيلي) الذي كان له الدور الكبير في حث السيد الشهيد على إنجازه، كما صرح بذلك الشهيد نفسه. ليكون هذا الكتاب منهاجاً في حوزته( مدرسته الفقهية) الفتية التي أسسها في أردبيل بعد هجرته إلى إيران. بيد أنه توفي قبل نيل مراده وصدر الكتاب بعد وفاته فأهدى الشهيد كتابه هذا إلى روح تلميذه.
وانطلق السيد الشهيد في ثورته المنهجية والطرح العلمي المتجانس لا لرغبة في نفسه لوضع منهج في علم الأصول . وهو الذي لا يكتب إلا لملء الفراغ وبدافع إشباع الحاجة، بل لتوفر المبررات الموضوعية التي لا يختلف فيها إثنان.
وقد أوضح السيد الشهيد هذه المبررات التي دعته إلى إستبدال الكتب الاصولية القديمة بما وضعه من منهج علمي جديد وذلك في مقدمة كتابه، نذكرها بإختصار وتلخيص لأهميتها علمياً وتاريخياً.
المبرر الأول: إن الكتب الدراسية القديمة (المعالم، القوانيين، الرسائل، الكفاية) تمثل مراحل مختلفة من مراحل الفكر الأصولي، فالمعالم تعبر عن مرحلة قديمة تاريخياً من مراحل علم الأصول، والقوانين تمثل مرحلة أعلى من سابقتها، بينما كانت الوسائل والكفاية نتاجاً أصولياً يعود لما قبل مائة سنة تقريباً. وقد حصل علم الأصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة مائة سنة تقريباً من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء المجددين، وهذه المائة جديرة بإفرازات علمية جليلة، وتطورات جديدة في طريقة البحث في جملة من المسائل الأصولية وإستحداث مصطلحات حديثة تبعاً لهذه الطفرة العلمية خلال المائة عام. أليس من الحق أن تنال هذه التطورات والإفرازات إهتماماً أكبر ليكون الطالب قد إستوعب أفكارها ومصطلحاتها الحديثة بينما يقف الطالب متحيراً في البحث الخارج لهول سماعها لأول مرة دون أن تطرق ذهنه في تلك الكتب الدراسية القديمة التي تتعامل معه بلغة ما قبل مائة عام. فهناك فاصل معنوي بين أبحاث الخارج التي تمثل التطور الذي هو حصيلة المائة سنة الأخيرة وبين تلك الكتب الدراسية.
ويؤكد السيد الشهيد هذا بشاهد يذكره على سبيل المثال لما إستجد من مطالب ومن هذه المطالب أفكار باب التزاحم ومسلك جعل الطريقية الذي شاده الميرزا النائيني، والمسائل المتفرعة عليه في مسائل قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي، وحكومة الإمارات على الأصول ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بجعل الحجية. وفكرة جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية بآثارها الممتدة في كثير من أبحاث علم الاصول، كبحث الواجب المشروط، والشرط المتأخر، والواجب المعلق، وأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم، والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفية التي يختلف اختلافاً أساسياً عن الصورة الغريبة التي تخلفها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب.
نعم ، إن الفكر الأصولي قد تطور بعد الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني على يد أساطين الأصور كالميرزا النائيني والشيخ آقا ضياء العراقي والسيد الخوئي والأصفهاني والسيد الشهيد الصدر، وأصبح في مرحلة متميزة عن المراحل السابقة في صياغة النظريات الأصولية المختلفة ولغتها واصطلاحاتها فلابد من تعرف الطالب على هذه النظريات والمصطلحات كي لا يفاجأ في الدراسات العليا بنظريات أصولية مختلفة تماماُ عما درسه، وبلغة مختلفة ومصطلحات متباينة. وهذا ما يستدعي وضع كتاب يمثل هذه المرحلة ، وكان هذا هو المبرر الأول الذي دفع السيد لوضع هذا المنهج الدراسي الجديد.[/align]
يتبع