قبل أن أبدأ في صلب الموضوع لابد من التقديم له بهذه الحادثة:
التحق بنا في الشركة موظف إيراني الجنسية اسمه "جلال" ، و من سياسة الشركة في العمل هي أن يكتب كل موظف الحروف الأولى من اسمه في حاشية عمله كي يتسنى للآخرين تتبع منشأ العمل. فوجدت أن صاحبنا كان يكتب اسمه مع اضافة حرف "س" آخر في المقدمة ، فكان يكتب “SJ” و عندما سألته عن معنى هذا الحرف
الزائد أخبرني أنه يعني "سيد" ! قلت له هل هذا اسمك الحقيقي ؟ قال: لا ! هذا "لقبي" فأنا من عائلة النبي محمد ، فهل عندكم في العراق "سادة" ؟
قلت له: نعم .. عندنا منهم الكثير!
و مرت الأيام و دخل رمضان ، و إذا بصاحبنا "السيد" لا يفارق قدح الشاي في عز النهار! فملت اليه هامساً: ألا تعلم أننا في رمضان ؟
فقال: نعم أعلم ، لكنني لست صائماً ، لكن إمرأتي صائمة!
فهمست مرة أخرى: و أنت ؟ هل تشكو من علة أو عندك عذر شرعي؟
قال: لا..!
قلت: فمن أين جئت بلقب "سيد" هذا ؟
فبهت مستغرباً !
فأردفت: إن أول معاني السيادة هي أن تكون سيداً على نفسك !
و حينما يتناول أعضاء الشركة "البيرة" كإجراء تقليدي لنهاية الأسبوع كان "سيدنا" لا يشرب البيرة ، فقلت في نفسي: هذه بشارة! على أقل تقدير فيه بذرة خير قد تنمو ، وعلى الأقل يحفظ ماء و جهنا لأنهم يعرفون أنه مسلم! ثم لم تمض سوى أيام ، حتى وجه "سيدنا" هذا دعوة إلى أعضاء الشركة ( و هي شركة أجنبية ) لحضور حفلة طعام عشاء في بيته ، فقال له أحدهم ماذا علينا أن نأتي به للمشاركة؟
فأجاب: لا شيء ، كل شيء متوفر.. حتى الشمبانيا !
فإتضح لي أن امتناع "سيدنا" عن البيرة امتناعاً مزاجياً ، فمقامه لا تليق
به إلا الشمبانيا !
-----
أنا متأكد أن هذا مثال يتكرر كثيراً و بصور أشد من هذه التي شهدتها أمامي ، ولا علاقة لكون صاحبنا هذا إيراني ، فكثير من السادة العراقيين لا يقلون بشاعة عن هذه الصورة.
من أين جاء عرف "السيد" هذا و بأي شيء استحقه ؟ و مادخل الأنساب و تمييز الناس إلى "سادة" و رعاع بدين شعاره "لا اله إلا الله" و "الناس سواسية كاسنان المشط" ؟
"سيد" على من؟!
هل يستطيع أحد أن يخبرني ؟
أين نجد تبريراً لهذه اللفظة في شرع الله الذي لم يقم وزناً إلا للعمل ((
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً )) و هدي رسوله(ص) " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" ؟
إن هناك من يسود قومه و يكون فيهم مطاعاً ، فيسمى "سيد قومه" و هي تعكس مفهوماً وظيفياً من حيث أن له أتباعاً و هو رأسهم ، فهي تصف المهنة و لا تصف الشخص ، و تأتي برضاء قومه سواء انتخاباً أو تقريراً ، لأن للقوم سيد واحد .. و ليس قبيلة من السادة! و هناك من يسود نفسه على أقل تقدير ، يملكها و لا تملكه ، فهو سيد نفسه ، وهذه لفظة تصف المثابرة و المجاهدة في ذات الله. فكلاهما لفظة استحقاق مجازية.
لكن "سيد" هذه جاءت بدون كد أو تعب أو مثابرة أو مجاهدة أو انتخاب ! جاءت لتفرض على الناس "وصاية ربانية" و قد يكون صاحبها أفسق الناس!
و لاحظ أن اللفظة مطلقة و لا تحدد مجال السيادة و كأنها أصالة فيه و
مكتسبة ذاتياً! فهو "سيد" منذ ولادته! و هو لقب يضفي عليه "قدسية" تصل إلى العصمة أحياناً و الوثنية أحياناً أخرى ( سيد يشور!) ، و يعطيه امتيازات مالية من جيوب المسلمين و كدهم و تعبهم!
إن أعلى المقامات عند الله تبارك و تعالى هو مقام العبودية ، وليس مقام السادة! و إذا أراد تبارك و تعالى أن يبين علو منزلة أحد من خلقه فإنه يضفي عليه صفة العبودية و ليس صفة السيادة ! فإذا أراد أن يبين سمو مقام من نزل عليه هذا القرآن العظيم الذي تتصدع الجبال لنزوله تخشعاً قال (( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده )) و عندما ذكر معجزة الإسراء العظيمة قال (( سبحان الذي أسرى بعبده )) ، وأثنى على طاعة نبيه سليمان بالرغم من عظيم ملكه و خضوع الإنس و الجن و الطير و الريح له ، فما زاد على أن قال (( نعم العبد ، إنه أواب )) و لم يقل نعم الملك أو نعم السيد!
كيف يكون لإنسان اعتزاز بنفسه بتكريم الله له (( ولقد كرمنا بني آدم )) و عشقاً لحريته و هو يعتقد أن هناك فئة من البشر جعلهم الله أعلى منه مرتبة و منزلة لإعتبارات النسب التي لا دخل له و لا لهم بها ، ويعطيها حق الإمتيازات على جميع الناس ، فتتميز بألقابها و ملبسها و استحقاقاتها المالية !
فهل هذا رب عادل ؟!
إن لقب "السيد" الذي دأب بعض المسلمين على إسباغه على فئة منهم ، ورضى تلك الفئة بهذا الإرث المزعوم على أنه دين يتقرب به ، ليس من دين الله في شيء ، بل تكريس لعادة جاهلية كانت تميز بين طبقة السادة و العبيد و تميز الناس إلى أشراف و عبيد ، فهو "سيد" في العراق و إيران و "شريف" في الحجاز! و طمس لمعلم أصيل من معالم هذا الدين الذي جاء للناس كافة برسالة مفادها (( إن
أكرمكم عند الله أتقاكم )) و (( قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها )) ،
وهذا الإثم يشترك فيه الجميع ، من رضي أن يكون "سيداً" و من رضي أن يكون "مسوداً" .. وكلاهما ليس بحر !