الضلوعية: الضباط شيوخ عشائر و"مجاهدين" والاميركيون يشكّون بأن "علي الكيماوي" عندهم
الضلوعية (غرب بغداد) - حازم الأمين الحياة 2003/06/14
من الثابت للمتجول في المناطق العراقية ان للنظام البائد ركائز اجتماعية لا تزال على وهنها تقاوم الواقع الجديد، ولمقاومتها صور وأفعال متفاوتة.

الفلوجة ليست النموذج الوحيد الذي يمكن تعميمه، فهي تقاتل الاميركيين على سوية مختلفة عن تلك التي تقاتلهم من اجلها مدينة الضلوعية (شمال غرب بغداد). ابناء الضلوعية جزء من العصبية العسكرية التي ارتكز النظام اليها، لكنها عصبية تتعدى النظام السابق الى انظمة سبقته وغذتها الضلوعية بعشرات الضباط والعناصر. جاء حلّ الاميركيين للمؤسسة العسكرية فضاعف الهزيمة والنكبة. البلدة التي تبعد عن بغداد نحو مئة كيلومتر معززة بزراعة ناشطة وبعبور دجلة من حولها بحيث اصبحت شبه جزيرة نهرية.

الآليات الاميركية تحيط بالمدينة وتحاصر مداخلها، اذ هوجم الاميركيون قبل يومين في احد مناطق الضلوعية، وردوا على الهجوم بحملة كبيرة ادت الى مقتل 4 من ابناء البلدة واعتقال نحو اربعمئة، مما خلق اجواء احتقان فعلية. خلافاً للمناطق المدينية الاخرى، لا نساء في المشهد العام للبلدة، رجال واطفال فقط، حتى المنازل التي دخلناها لمعاينة آثار اقتحام الجنود الاميركيين لها انكفأ النساء منها بسرعة البرق، هناك فقط رجال ملتحون يرتدون كوفيات، واطفال سمر بملابس عشائرية.

معظم من صادفناهم ضباط سابقون في الجيش العراقي. قالوا ذلك، ومن لم يقل منهم كان ذلك بادياً على وجهه وجسمه. ضباط في الحرس الجمهوري والجيش والشرطة، وهم على ما يبدو جزء من تحالف عشائري يضم اكثر من عشرين عشيرة منهم الجبور والخزرج والبومواري والبوفراج والعزه والعبيد والدليم والبوبدري والمزاريع والجانبيين والبومفرج. ويتقاطع ولاء هؤلاء للنظام مع ولاءاتهم العشائرية، فيؤلف الولاءان مزيجاً يصعب على الاميركيين تحديد مفاصله.

ويبدو ان العملية العسكرية التي نفّذها مجهولون في منطقة هذه العشائر امتداد لمشاعر يمكن رصدها بسهولة في الشارع كما في المنازل والجوامع. فالاميركيون بالنسبة اليهم محتلون وتجب مجاهدتهم. هذه العبارة تخرج من مآذن المساجد التي يقف الجنود الاميركيون على مداخلها.

الناحية التي يبلغ تعداد سكانها نحو 40 الفاً يتوزعون في غيتوات عشائرية متداخلة احياناً، تعيش على وقع هزيمة النظام، فهي كانت من حصونه المنيعة، وهي التي اختارها ليخبئ فيها عدداً من الطائرات وصواريخ "الصمود" الشهيرة، وهي التي كتب مواطنون منها على دبابات الجيش العراقي المحترقة والمدمرة عبارات من نوع "نار صدام ولا حرية الاميركان". لكن ثمة شيئاً تغير الآن، صحيح ان الناس ما زالوا يقاومونه، إلا ان وجهاء الضلوعية بدأوا يطلعون اشارات تدل الى قناعتهم بضرورة استيعاب الامر الواقع، ويمكن رصد تفاوت في اللهجات بين حملة الرتبة العليا وبين الضباط الصغار، لكنك يصعب تمييز الافعال الناتجة عن هذا التفاوت، اذ ربما كان ذلك مجرد توزيع للأدوار.

ردة الفعل الاميركية على العملية تركزت على منطقة عشيرة الجبور في الضلوعية، اذ قتل الاميركيون رجلين من هذه العشيرة واعتقلوا المئات، وعلى لافتة ثبتت عند مدخل البلدة كتب السكان عبارة "استشهد الاستاذ المجاهد مهدي علي جاسم اللجي الجبوري شقيق اللواء الركن علي جاسم والعقيد عبدالله ومقدم الشرطة محمد والنقيب حسين…". وفي دارة شيخ العشيرة حيث اقيم مجلس العزاء وصل آلاف من ابناء العشيرية المنتشرين في العراق وخارجه ليقدموا واجب العزاء، كما وصل ضباط من الجيش العراقي المنحل، زملاء اشقاء القتيل، فامتزج في مجلس العزاء الحذر بالغضب وربما خففت من وطأتهما طقوس الالتزام التراتبي بالمواقع العشائرية. فاللواء علي شقيق الفقيد هو صاحب الرتبة العسكرية الارفع في العشيرة، ولكنه ليس كبيرها، وهو بذلك يتبادل النفوذ مع عمه الشيخ حسين، والولاء للواء والشيخ يمثل تلك الثنائية المعقدة التي تشكل كيمياء السياسة كما ارساها النظام السابق المتحالف مع هذه العشائر والمتنازع معها في آن.

"العملية لم تحصل في منطقة سكن الجبوريين"، قال الشقيق العقيد، واضاف: "على رغم ذلك تركزت ردة الفعل الاميركية علينا". ثم يتابع الحديث آخرون ويتحدثون عن انتهاك الجنود الاميركيين للمنازل واضطهادهم الاطفال والنساء. وجميع من يتحدث يعرف عن نفسه بالصفة والموقع الذي كان يحوزه قبل سقوط النظام. واحد من هؤلاء هو شقيق الديبلوماسي العراقي الذي اتهم بمقتل معارض عراقي في بيروت، وهو اعتقل وتوفي في السجن اللبناني. رجل خمسيني آخر قال انه لواء في الجيش العراقي وحضر من بغداد لتقديم واجب العزاء لزميله اللواء. الجنرال البغدادي بدا اقل تحفظاً من الضباط الجبوريين فقال ان مسألة العداء للاميركيين تعود في جزء اساسي منها الى تصرفات الاميركيين وجهلهم بالواقع العراقي. فمثلاً، وبحسب الجنرال، يشكل الضباط والجنود العراقيون الذين حلّ الاميركيون مؤسستهم نحو 15 في المئة من الشعب العراقي. ويضيف ان هذه المؤسسة عمرها 80 سنة ومسألة وجودها تتعدى النظام المنهار، ويختم ان مسألة العداء للاميركيين في منطقة الضلوعية هي في جزء اساسي منها تعود الى اقدام الاميركيين على حل الجيش.

الاجواء داخل مجلس العزاء اقل احتقاناً من اجواء الشارع والمسجد، ربما لان العزاء ما كان ليحصل لولا حصول تسوية مع الاميركيين ادت الى الافراج عن عدد كبير من المعتقلين. وقال الجنرال الشقيق "ان الاميركيين يعتقدون اننا ننظّم عملية مقاومة ضدهم، انتظرتهم في المنزل وجاء قائد الوحدة وتحدثنا وتجاوب مع مطالبنا. فتشوا منازلنا ولم يعثروا على مسؤولين عراقيين سابقين ولا على اسلحة ثقيلة، انسحبوا وتمركزوا في محيط البلدة". لكن اشارة الجنرال الاخيرة الى عدم وجود مسؤولين عراقيين تقاطعت مع كلام ما قاله عدد من المعزّين عن شكوك اميركية بأن علي حسن المجيد (علي كيماوي) موجود في البلدة.

رجال الضلوعية المتجولين في انحاء البلدة تحدثوا بلغة اخرى. إمام مسجد سعد بن ابي وقاس، الشيخ اسماعيل بن محمد عربي راح يدعو العابرين الى قتال الاميركيين، وقال ان العراق محتل وان "الاميركيين لم يأتوا محررين وانما غزاة ومن اجل سرقة ثرواتنا". وقال الشيخ ان المعتقلين من ابناء البلدة هم بالآلاف ومن بينهم شيوخ واطفال. وهذا ما نفاه آخرون، على رغم تأكيد الجميع ان الجنود الاميركيين قاموا بارتكابات.