لا حاجة لمواصلة الحوارات الطائفية العقيمة
هل التراث الطائفي ضرورة حضارية يجب ان نستوعبه بدقة وقوة ثم نورثه الى أجيالنا القادمة؟ أم انه عبأ ثقيل وكابوس مزعج يجب ان نتخلص منه في أقرب فرصة؟
لم أكن لأسأل نفسي هذا السؤال قبل اربعين عاما عندما نشأت في بيئة اسلامية شيعية متدينة وترعرعت في حوزة علمية ناشطة ومتوثبة للدفاع عن الاسلام و التشيع في مواجهة التيارات الالحادية و القومية و الليبرالية و الديموقراطية والوطنية ، و البناء على انقاضها حكومة اسلامية شيعية تحت قيادة الفقهاء المراجع.
ولكن تجربة الدولة الاسلامية في ايران ، التي امتزجت بكثير من الديكتاتورية دفعتني لمراجعة الفكر السياسي الذي نشأت عليه و دعوت اليه ، فوجدت انه يقوم على كثير من الأساطير و الخرافات و الفرضيات الوهمية.
وأقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من عملية بناء الدولة و المجتمع في العراق ، وأنا اعرف ان كثيرا من الاطروحات و البرامج التي يحملها البعض تنطوي على بذور التخلف و الديكتاتورية و التناحر و التمزق ، التي تعيق عملية البناء و التوحيد و التجديد والنهوض.
واعتقد ان الخلاف الطائفي أحد عوامل التخلف والتمزق والانحطاط ، و ذلك لأنه خلاف عقيم و يدور حول أحداث تاريخية لا يمكن اعادتها الى الحياة اليوم ، و حول اشخاص لا يمكن اعادتهم الى الحياة اليوم.
ينشط المتحاورون الطائفيون الذين يتصارعون بعصبية ظاهرة و محتدمة حول من كان (لاحظوا: كان) أحق بالخلافة قبل اربعة عشر قرنا. وسواء قلنا بأن فلانا أحق بالخلافة وانه كان معصوما و منصوصا عليه من الله ، او لم نقل وقلنا ان الرسول الأعظم ترك الأمر شورى ، فاننا لن نستطيع ان نعيد عقارب الساعة الى الوراء ، و لن نستفيد من هذا الخلاف اي شيء ، الا التناحر في ما بيننا اليوم وزرع العداوة و البغضاء في نفوس بعضنا البعض ، وصولا الى التكتل الطائفي شيعة و سنة حول قضية بائدة ومنقرضة واشخاص لا وجود لهم اليوم. وحتى لو قلنا بوجود الامام الثاني عشر و غيبته ، فانه بحكم المعدوم اذ لا ظهور له و لا يمكن اقامة نظام سياسي معاصر يتبع قيادته ويخضع له ويستلم ارشاداته و توجيهاته وتعليماته.
وارى ان السنة و الشيعة اليوم يبحثون معا شكل النظام السياسي الذي يريدون اقامته في المستقبل ، هل يكون جمهوريا أم ملكيا؟ وهل يكون رئاسيا؟ أم برلمانيا؟ وما هي صفات الرئيس؟ هل هي الوطنية و النزاهة؟ أم العلم و العدالة؟ وما هي علاقة النظام السياسي و الهيئة التشريعية فيه بفقهاء الدين من السنة و الشيعة؟ وهل يكون أساسا نظاما اسلاميا؟ ام علمانيا؟أم بين بين؟ وما الى ذلك من الامور المشتركة التي تهم الجميع بلا فرق بين سنة او شيعة.
اذن فلماذا يجب علي ان اعود الى الماضي السحيق لأبحث من كان أحق بالخلافة يومئذ؟ وأغفل عمن يحق له و يجوز له ان يتولى السلطة اليوم في العراق وكيف يمارسها بعدالة؟ وكيف يحافظ على الحريات العامة و يلتزم بالقانون؟
ان نظرية الامامة الالهية لأهل البيت سالبة بانتفاء الموضوع ، على فرض صحتها ، و مهما جئنا عليها من أدلة ، وبناء على ذلك أعتقد ان من الابتعاد عن العقل التحمس المبالغ فيه في بحث موضوع الامامة ، الا بقدر ما يبحث الانسان قضية تاريخية. وان من الخطأ تحويلها الى قضية دينية او مركزية والتطرف في طرحها كأنها صلب المذهب الشيعي ، وان اية مناقشة لها محاولة لضرب المذهب الشيعي ، وذلك لأن نظرية الامامة لم تكن شائعة عند عامة الشيعة في القرون الهجرية الأولى و انما كانت نظرية سرية يهمس بها بعض الغلاة و المتطرفين بعيدا عن أئمة أهل البيت الذين كانوا يصرحون بأقوال مخالفة لها و يمارسون سياسة بعيدة عنها و يتخذون مواقف متناقضة معها ، و لذلك كان الاماميون ينسبون نظرية الامامة سرا لأهل البيت و يدعون ان هؤلاء يمارسون التقية.
هذا أولاً ، و ثانياً: ان هذا البحث و الحوار عقيم ولا ينتج اية نتيجة ، اذ لا يمكن ان نذهب اليوم الى امام من أئمة أهل البيت و نبايعه بالخلافة او نأخذ منه العلم الالهي او حتى تفسير القرآن و تأويله.
نعم يوجد تراث لأهل البيت و علوم واجتهادات وسيرة ونماذج خلقية رائعة وقدوات حية في الشهادة و الكرم و الزهد و الورع والتواضع ، و هذه أمور نابعة من صميم الاسلام ولا نقاش حولها ويعترف بها كل المسلمين . ويمكن ان تفيدنا في عملية البناء الحضاري.
ان المسلمين عامة يوالون أهل البيت و يأخذون من علومهم ومن أخلاقهم و سيرتهم الفاضلة ، و يشهدون انهم أولياء الله ، ولكن هذا شيء وان الخلاف حول امامتهم من الله وانهم معصومون او منصوص عليهم من الله ، شيء آخر ، و هو غير مفيد ولا منتج لأي شيء.
هذا اذا لم نتحدث عن الغلاة و المفوضة لعنهم الله الذين يدعون الى القول بمشاركة الأئمة لله تعالى في ادارة الكون وفي الرزق و الحياة و الموت وما الى ذلك ، فان الحديث عندئذ يخرج من دائرة الامامة لكي يدخل في دائرة التوحيد ، ويتطور من حوار طائفي سني شيعي ، الى حوار بين الاسلام و المسلمين و الغلاة و المفوضة.ولا اعتقد ان أحدا من المسلمين الواعين العارفين لما يقولون ، مستعد للحديث دور الأئمة في مساعدة الله ومشاركته عز وجل.
اذن فلنطو صفحة التاريخ السحيق و الخلافات الطائفية العقيمة ، و لنفتح صفحة الحوار حول الفكر السياسي المعاصر وشكل النظام الجديد الذي نريد.
أحب في الله من يبغضني في الله