إيران وأمريكا.. أيعود العراق مناصفةً بين صفويين وعثمانيين؟

بات معلناً، أن العراق منزل ملكيته مطروحة للتداول بين الإيرانيين والأمريكان، وربما سيدشنان فيه شراكةً يقترب مثلها من الشراكة الصفوية العثمانية. لكن بطرائق تتجاوب مع الزمن. بالنسبة للإيرانيين قد لا تجد اختلافاً في النظرة، تجاه وليد دجلة والفرات، بين عهود الصفويين والقاجاريين والبهلويين والخمينيين، بأنه ملحق من ملحقاتها. وما أكثر الأمثلة ومسوغات الهيمنة بالشراكة مع بلاد فارس. راح الشيخ خزعل الكعبي، المرشح لعرش العراق، وراحت داره الأهواز بتفاوض بريطاني بهلوي. وربما تذهب البصرة اليوم بتفاوض آية الله علي خامنئي ومريده أحمدي نجاد مع الأمريكان! خصوصاً أن مبدأ تصدير الثورة ما زال دستورياً. جاء في بند «الجيش العقائدي»: «لا تلتزم هذه القوات المسلحة مسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أعباء رسالتها الإلهية، وهي: الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل نشر أحكام الشريعة الإلهية في العالم.. «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم»(دستور الجمهورية الإسلامية، ص 32، طبع 1985).

ومعلوم أن الآية الملحقة بالنص لا يفسرها الفقيه الولي بأسباب نزولها، إنما الكل لديه أعداء، والسعي بطبيعة الحال إلى نشر الصفوية، التي يختلف تشيعها عن أساسيات التشيع العراقي. وعلى عامة شيعة العراق ألا يغرهم قَسم أحمدي نجاد: «أن أكون حامياً للمذهب الرسمي» (المادة 121 من الدستور)، ولا يأخذهم تحبيذ قياداتهم السياسية بتلك الحماية بمصادرة جارية لعموم الشيعة. فما أسسته حوزة النجف غير ما أسسته حوزتا أصفهان وقم. تظل النجف أم كل الحوزات، إن شرقت أو غربت، فمع علو صيت الخميني، وإعلان المرشد ولياً للمسلمين، إلا أن العيون ظلت ناظرة إلى العمامة المعتصمة برملة الغري. لهذا لم يتركها أبو القاسم الخوئي، ولم يفرط فيها علي السيستاني، في زمن كانا يدفعان دفعاً لهجرتها. وبالمقابل لم تتمكن سلطة البعث من فرض مرشحها عليها؟

نعم، إن للبلدين، ولكل البلدان، مصالح بالعراق بدرجات وهموم متباينة، لكن الخطورة في اتفاق مصلحتي هذين. عندها سيتحول العراق إلى مناصفة بين طموح ولاية الفقيه وطموح (الديمقراطية) الأمريكية على أرض تركتها دولة البعث تتسول الإنقاذ ممنْ كان. أترى قطن هذا العدد من العراقيين إيران وحملوا سلاحها لولا التهجير القسري، والتشكيك في المواطنة؟ أترى تصالح العراقيون مع مشروع الأمريكان، لولا بلوغ الذروة من العذاب بما يشبه قعر جهنم: حرباً تلو حرب، وقهراً يمارسه المستعمر (الوطني). صدام حسين آخر مَنْ يتكلم عن الوطنية ووحدة العراقيين، فهو مَنْ مهد لقدوم الجيوش، وأعاد أرض العراق إلى زمن التقاسم بين صفويين وعثمانيين. حتى بلغ الأمر بالعراقيين عدم التمييز بين احتلال قرية لبلادهم، مثل العوجة، واحتلاله من قِبل دولة أجنبية.

قال كينيث بولاك، المحلل في وكالة المخابرات الأمريكية، وصاحب كتابي «المعضلة الفارسية» لـ«تقرير واشنطن»، حول التفاوض مع إيران بشأن العراق: «من المهم أن نتذكر أن هذه فكرة إيران من الأصل.. إنه من الصعب إبعاد الإيرانيين خارج الصورة، وذلك نظراً لنفوذهم القوي داخل الأراضي العراقية. ومن الممكن التعاون معهم». وربط العبارة الأخيرة بالقول: «كلتا الدولتين لها مصالح متشابهة».

حسب ما تقدم، كانت هذه البادرة مطلباً إيرانياً. باركها مرشد الدولة، في خطاب اختلفت فيه اللهجة، وكأن أمريكا ليست (الشيطان الأكير)! وما مفردات التدخل الإيراني اليومي بشؤون العراق، من عبور مسلحين إلى تهريب مخدرات، ومحاولة صبغ البصرة، ثم العراق بصبغة ولاية الفقيه، إلا ضغوط للتراجع إلى زمن التقاسم القديم، وهذه المرة احتل الأمريكان مكانة العثمانيين.

لو سألت قومياً فارسياً، حتى من مثقفيهم وأعداء ولاية الفقيه، من أين أتى اسم العراق، لقال: إنه مفردة فارسية! مع أن الأقوى نحت الاسم من (أوروك)، والأحوط أنه من العروق، أي العراقة بمفهومها العام. يُنبيك هذا الموقف أن العراق في ذاكرة القومجي الفارسي كان وما زال فضاءً إيرانياً. وبالتالي ما تنازل صدام عن ضفة شط العرب، وأطيان أخرى، في اتفاقية 1975 إلا عودة جزء من حق قديم. وجيراننا يعلمون، أن اسم العراق أُطلق على بلاد ما بين النهرين من قبل الإسلام بكثير، وأُطلق اسم إيران حديثاً على بلاد فارس المترجمة عن مفردة بارس، عاصمة سوس القديمة العام 1935. فلماذا هم الأُصول ونحن الفروع!

صلةً بهذا، يتحمل العراق اليوم، في محنته الطائفية، أوزار ميراث إسماعيل الصفوي (ت 1524)، الذي لا يصبح في مذهبه شيعياً إلا شاتم الثلاثة، ورافع الأذان بالشهادة الثالثة، وهي ليس من ثابت التشيع أبداً، والتحول إلى مذهب السلطة بحد السيف، ومسائل «استحدثها في عصره، أو أحيا مواتها كاضطهاد أهل السُنَّة، وسب أعداء الشيعة في مختلف العصور» (الشيبي، الطريقة الصفوية). وميراث سليم الأول العثماني (ت 1520)، راعي إبادات الشيعة، «أربعون ألفاً من الشيعة، لم ينج منهم طفل ولا امرأة ولا شيخ»(لوكارت، سقوط الدولة الصفوية). فلدى الدولتين منصب «شيخ الإسلام» هذا يفتي بتكفير الشيعة، وذاك يفتي بتكفير السُنَّة! بهاتين العقليتين استمر العراق داراً للنفوذ الصفوي والعثماني، لأكثر من أربعة قرون: تارةً يدخل الشاه بغداد، ويهدم مرقدي الإمام أبي حنيفة النعمان، والشيخ عبد القادر الكيلاني، وتارةً يدخلها السلطان فيحاصر كربلاء والنجف. هذا يحتل تحت ذريعة حماية الشيعة، وذاك يحتل متذرعاً بحماية السُنَّة. وكثيراً ما اتفقا: أسافل بغداد حتى البصرة للصفويين، والأعالي حتى الموصل للعثمانيين. أخشى أن ما نوى عليه الأمريكان والإيرانيون اليوم، هو إحياء تلك السُنَّة: لنا مصالح، ولكم (حقوق)، فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا!

تفاوضاً ليس على طريقة «مؤتمر النجف»(1743)، سعياً إلى الخلاص مما تأسس في عقول الرعية من نزعات العداء بين المذهبين. بل تعلم الدولتان علم اليقين، إذا أطمأن الشيعة للسُنَّة وبالعكس، وظلوا يفترشون أرضاً واحدة، ويلتحفون سماءً واحدة، من دون تهديد بعضهم بعضاً بقطع الماء أو النفط، لا يبقى مسوغ لمصالح أو حقوق، وسوف تنقرض الأحزاب التي تأسست على أُوَار الطائفية.

r_alkhayoun@hotmail.com
http://www.asharqalawsat.com/leader....article=355495