اللعب مع الطغاة


بقلم: فهمي هويدي

بدأ بعض المثقفين العراقيين يجهرون بانتقاداتهم للمثقفين العرب الذين أيدوا نظام الرئيس صدام حسين، وكانوا شهود زور زينوا صورته للناس وتستروا على قبح نظامه ووحشيته، الأمر الذي يفتح الملف الشائك الذي يحرر شواهد اللعب مع الطغاة.

(1) أحدث ما طالعت في هذا الصدد مقالا احتل صفحة كاملة من صحيفة الحياة اللندنية (نشر في 15/6) للكاتب العراقي شاكر الأنباري، جاء بمثابة عريضة إدعاء ضد أولئك النفر من المثقفين العرب من صحفيين وأدباء وشعراء. وفيه أشار إلى أن مجموعة المؤتمر الوطني العراقي وضعت يدها على أرشيف وزارة الإعلام العراقية، الذي احتوى على بيان شامل بكل الصحف والمجلات التي كان النظام البعثي يمدها بالأموال كي تروج لوجهة نظره، وتدافع عن سياسته القائمة على البطش والإرهاب وقمع حرية الرأي، وتهميش الثقافة الجادة، ودفع المثقفين العراقيين والمفكرين الأحرار إلى الهروب نحو المنفى. وتبرير الحروب المغامرة بأبشع الذرائع عنصرية وفجاجة. وفضلا عن المدفوعات المالية للصحف والمجلات، فقد ذكر ان عددا لا يستهان به من المثقفين العرب والصحفيين، وبعضهم ذي مكانة عالية كانوا يقبضون مرتبات شهرية من سفارات العراق، عدا المنح والعطايا التي أثروا من ورائها. تحدث الأنباري عن وسائل الإغراء التي كانت تتبع مع المثقفين العرب، وكيف أن أحدهم ــ وهو شاعر سوري ــ دعي قبل سنتين إلى أمسية شعرية في المنتدى الثقافي العراقي في دمشق، وتحدث هناك عن معاناة المثقفين العراقيين مع النظام الديكتاتوري في بغداد. لكن الذين استمعوا له آنذاك فوجئوا به وقد دعي من قبل وزارة الثقافة العراقية إلى آخر مؤتمر «للمربد« ــ ملتقى الشعراء والأدباء ــ حيث استقبل هناك بحفاوة وجرى إكرامه، ومن ثم اشترك مع آخرين في إلقاء قصائد التأييد والنصرة التي كانت «مداميكها ومفرداتها من عظام الشعب العراقي الذي رقد بسلام قبل سنوات، في مقابر جماعية«. لم ينس الكاتب أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش اشترك في ملتقى «المربد« في عام 86، حين كانت الحرب مع إيران في اوجها، وطاحونة الموت قائمة، لا على الحدود الإيرانية العراقية فقط ــ انما في الداخل العراقي أيضا. وهي المشاركة التي آلمت المثقفين العراقيين الذين يحبون درويش ويقدرونه قدره، فشنوا عليه هجوما واسعا في مجلة «الثقافة الجديدة« وفي عدة صحف عربية أخرى. ما وقع فيه الشعراء تورط فيه آخرون من المفكرين والأدباء، أغرقهم نظام بغداد بالهدايا والعطايا. فلم يقيموا ذلك النظام على أساس عقلاني نزيه، وانما ذهبوا في تمجيده إلى حد وصف صدام حسين باعتباره حارسا لبوابة العرب الشرقية تارة، وبطلا قوميا مدافعا عن المشروع الحضاري للأمة تارة أخرى، وقوة عربية صاعدة تهدد إسرائيل وتفتح الأبواب لتحرير فلسطين، ومن ثم ترفع رأس العرب وتستعيد احساسهم بالكرامة، في مرة ثالثة.. إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ظلت تصب في مجرى تجميل صورة النظام ودغدغة مشاعر المواطن العربي، والتستر على جرائمه بحق الشعب العراقي.

ف(2) في عريضة الإدعاء المنشورة ذكر الأستاذ الأنباري أن كاتبا كرديا عراقيا وهو سالار اوسي نشر كتابا مهما بعنوان «حوارات مع المثقفين العرب حول القضية الكردية«، وأثناء إعداده للكتاب اتصل ببعض المثقفين لكي يدلوا بدلوهم في القضية، ولكنهم رفضوا الحديث خشية الجهر برأيهم في المسألة الحساسة التي كانت إحدى مشكلات النظام العراقي. ومجاملة لذلك النظام أو خوفا منه فإنهم آثروا أن يلتزموا الصمت. ذكرتني القصة بأكثر من تجربة شخصية مع نظام بغداد. إذ حين قام النظام بإبادة سكان قرية «حلبجة« الكردية في عام 86، كان واضحا أن الإعلام العربي قد تغاضى عن الحادث البشع، أغلب الظن من باب التظامن مع النظام العراقي الذي كان يخوض آنذاك معركته ضد إيران ــ بل ان بعض وسائل الإعلام حاولت إنكار ما حدث واعدته جزءا من حملة تشويه النظام العراقي والإساءة إلى دوره «القومي«. ولأن لي صلة ببعض المثقفين الأكراد، وأتيح لي آنذاك أن أطلع على صور الجريمة وضحاياها الذين تجاوز عددهم 40 ألف نسمة أبيدوا بالغاز السام. فقد وجدت ان كتمان الشهادة في ذلك الموقف نوعا من التواطؤ بالصمت، ولأن عرض الحقائق كان في حينه من قبيل السباحة ضد التيار، فإنني لجأت إلى حيلة لتوصيل الرسالة إلى القارىء، بعضها وليس كلها. فنشرت في إحدى المجلات العربية الصادرة في لندن مقالات رويت فيه ما جرى للأكراد، لكنني لم أذكر في أي بلد وقعت الجريمة. ولأنني تحاشيت ذكر اسم بغداد، فقد مر المقال بسلام، واعددت أن ما فعلته كان أضعف الإيمان. وانكارا للمفكر عند الحدود الآمنة. وإذ وصلت الرسالة على ذلك النحو، فإن السفير العراقي في لندن ذهب بنفسه إلى مقر المجلة واحتاج على تشويه صورة بلاده، واتصل بي متحدث باسم رئيس التحرير في أعقاب ذلك لإبلاغي بما حدث، حتى أقدر موقف المجلة ولا اسبب لها مشاكل أخرى. (لاحقا حيث اختلف اتجاه الريح وأهدر دم النظام العراقي نشرت المجلة مقالا تباهت فيه بأنها كانت المطبوعة الوحيدة في العالم العربي التي فضحت جريمة صدام حسين في حلبجة!) في تجربة أخرى وقعت أحداثها في آخر شهر من عام 1989، وجدت أن الصحف المصرية نشرت أخبارا عن وصول اعداد من جثث العمال المصريين الذي قضوا في العراق، في توابيت أثارت الانتباه في مطار القاهرة. وسرت وقتذاك شائعات كبيرة عن الظروف التي مات فيها أولئك المصريون أو قتلوا، وتحدثت تلك الشائعات عن ضحايا بالمئات. وقد لاحظت أن الصحف تحدثت عن أن هؤلاء فقدوا حياتهم في «حوادث مؤسفة«، وان بيانا رسميا أعلن في ذلك الوقت أشار إلى الجهود التي بذلت لتسوية الموضوع «من خلال التعاون الصادق الذي أبدته الحكومة العراقية«. إزاء ذلك كتبت مقالا قلت فيه ان من حق الرأي العام في مصر أن يعرف حقيقة ما جرى للعمال المصريين، وان معالجة الأمر في النطاق الحكومي الضيق، مراعاة لأي حسابات أو حساسيات مقدرة، ينبغي ألا يحجب حق الناس في المعرفة. ولكن ذلك المقال لم يقدر له أن ينشر، أغلب الظن مراعاة للحسابات والحساسيات الرسمية. (نشر بعد ذلك بحوالي عشر سنوات ضمن كتابي «مقالات محظورة«).

(3) إليك قصة أخرى حديثة العهد: «شاءت الظروف أن أكون طرفا فيها. ذلك انه قبل ثلاثة أسابيع تلقيت اتصالا هاتفيا من إحدى مذيعات القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، عرضت عليّ فيه المشاركة في حلقة موضوعها علاقة المثقفين بالنظام العراقي، بعدما أثير من لغط حول الموضوع في الآونة الأخيرة. خاصة أن أحد رؤساء التحرير العرب السابقين كتب مقالا أعلن فيه انه دعي من لندن لزيارة بغداد، ونزل ضيفا على حكومتها، وقال انه يشعر بأن عليه الآن أن يرد قيمة ما دفع للفندق جراء استضافته، ودعا زملاءه الصحفيين إلى أن يحذوا حذوه، ويرد كل منهم إلى الشعب العراقي قيمة ما حاول النظام السابق شراءهم أو إغواءهم به. في إشارة ضمنية إلى العطايا الكبيرة التي وزعها النظام على الصحفيين والكتاب العرب. التي تراوحت بين المبالغ المالية الكبيرة التي حولت إلى الحسابات الشخصية بالخارج، وسيارات المرسيدس الفارهة، والفيلات السكنية التي بنيت في ضاحية إحدى العواصم العربية وأهديت إلى أعضاء نقابة الصحفيين في «القطر الشقيق«. سألت المذيعة عن المشاركين في الحلقة، فذكرت لي اسم رئيس التحرير السابق الذي كتب المقالة، وزميلا آخر من رؤساء تحرير الصحف العربية اللندنية. رحبت بالفكرة، وقلت لها ان الموضوع كبير وحساس وقد يثير شجونا ويقلب أوجاعا كثيرة، فكان ردها أنها لهذه الأسباب تحمست لتقديم الحلقة التي توقعت لها أن تكون صريحة وساخنة. كان يفترض أن تذاع الحلقة بعد ظهر يوم الجمعة، وكان أمامي وقت كاف لإعداد النقاط التي تمنيت أن أثيرها أثناء المناقشة، غير أنني فوجئت بها وقد عاودت الاتصال بي مرة ثانية قبل ساعات قليلة من موعد البث، لتبلغني ان أمر الحلقة أكثر تعقيدا وحساسية مما توقعت، وان الزميلين اعتذرا عن عدم المشاركة في الحوار لأعذار «طارئة«. ولذلك فلا مفر من إلغاء الحلقة وصرف النظر عن مناقشة الموضوع، على الأقل حتى يتم العثور على عدد معقول من المشاركين المستعدين لخوض غماره، وهو لم يتوافر خلال الأسابيع الثلاثة التي انقضت!

(4) لا مفر من الاعتراف بأن انتقادات أو اتهامات المثقفين العراقيين لأقرانهم من المثقفين العرب صحيحة، وأن الأخيرين تغاضوا عن جرائم النظام وأعانوه على الاستمرار والتمادي، بحفاوتهم به أو صمتهم على ممارساته. وإذا كان الأمريكيون قد طبعوا صور 55 شخصية عراقية من أركان النظام البعثي على أوراق «الكوتشينة« ووزعوها على الجميع، فبوسعنا أن نطبع صور أضعاف هؤلاء من المثقفين العرب الذين تورطوا مع النظام وتولوا تسويقه وخداع الرأي العام العربي به طيلة العقود الثلاثة الماضية. بطبيعة الحال، فإن ذلك ينبغي ألا ينسينا كما ينبغي ألا يبرر ارتماء بعض المثقفين العراقيين أو العرب في الاتجاه المعاكس تماما، أعني أننا إذا انطلقنا من إدانة تواطؤ البعض أو تستره مع النظام البعثي، فينبغي أن ندين أيضا الذين تواطأوا مع الأمريكيين الغزاة أو حاولوا تسويق وتبرير احتلالهم للعراق. تلك ملاحظة أسوقها على الهامش من التنبيه والتذكرة لا أكثر، وانتقل إلى محاولة الإجابة على السؤال: لماذا تورطت أعداد من المثقفين العرب في تلك الخطيئة؟ من السذاجة أن يقول قائل انهم لم يكونوا يعرفون حقيقة النظام العراقي، لأن ما من أحد في العالم العربي لم يكن على علم بقسوة النظام ووحشيته. ولذلك يتعين علينا أن نسلم بأمور ثلاثة، الأول انهم كانوا يعلمون بدرجة أو أخرى. الثاني انهم فيما عبروا عنه من مواقف تخلوا عن الدور الحقيقي للمثقف الذي يفترض فيه التعبير عن صوت الضمير. أما الأمر الثالث فإنهم فعلوا ما فعلوه طائعين وليسوا مكرهين. وإذا كنا قد تعلمنا من شيوخنا أن المرء اذا لم يكن قادرا على احقاق الحق فلا ينبغي له أن يكون عونا للباطل، فإن إخواننا هؤلاء وقعوا في المحظورين، فلم يحقوا الحق ووقفوا في خندق الباطل. أما لماذا وقفوا ذلك الموقف، فالأسباب والدوافع متعددة. منها هشاشة وضعف بنية أولئك النفر من المثقفين العرب، الأمر الذي سهل غوايتهم والإيقاع بهم. وهذه الشريحة المحسوبة على المثقفين نتاج عهود الانكسار والهزيمة، الأمر الذي شوه مداركهم ونمى لديهم نوازع الانتهازية والنفاق والقابلية للاستخدام. ومنها تراجع قيمة احترام حقوق الانسان في المجتمعات العربية، الأمر الذي افقد البعض الشعور بالاستنفار والغضب إزاء حدوث تلك الانتهاكات. ولذلك فإن بعض المثقفين لم يكترثوا بما بلغ أسماعهم من انتهاكات لتلك الحقوق. ومنها أيضا أن البعض أغرته الشعارات القومية التي رفعها النظام العراقي، الأمر الذي مس وتراً حساسا لديهم، وأوهمهم أن السير وراء من رفع تلك الشعارات يمكن أن يقودهم إلى تحقيق حلم افتقدوه ويئسوا من بلوغه. فآثروا أن يلتفوا حوله وقد أبدوا استعدادا قويا للتنازل أو التضحية بأي قيمة أخرى. من تلك الأسباب أيضا ضغوط السياسة على الثقافة والإعلام. ذلك انه لم يكن خافيا أن السياسة العربية جاملت النظام العراقي لفترات طويلة، وهذه المجاملة كان لها صداها في أوساط النخبة الموصولة بالسياسة والملحقة باتجاهات رياحها.

(5) لقد استبيح النظام العراقي بعد سقوطه، ولم يعد من الشجاعة ولا من المروءة أن يستعرض البعض الآن قدرته على فضح ممارساته والتمثيل به أو نهش لحمه، لأن الشجاعة والمروءة يختبران في وجود النظام وليس بعد سقوطه. واذا كان علينا أن نستقي العبر مما جرى، ونتسوعب دروس تجربة مرة استمرت ثلاثة عقود، فإن المشهد يطرح عدة أسئلة ينبغي أن نتسلح بالشجاعة في الاجابة عليها، منها على سبيل المثال: هل تفرد النظام العراقي بما فعل، أم أن هناك ممارسات مماثلة في أقطار أخرى، اختلفت عنه في الدرجة وليس في النوع؟ وهل الموقف الذي ندينه الآن من قبل بعض المثقفين العرب مقصور على علاقتهم بالنظام العراقي وحده، أم أن الذين تواطأوا مع ذلك النظام وتستروا على جرائمه فعلوا نفس الشيء مع أنظمة أخرى؟ السؤال الأخير يقربنا من الملف الشائك، وهو الأهم في السياق الذي نحن بصدده، لأن ما يجب الاعتراف به أيضا أن المثقفين ووسائل الإعلام اصبحوا من أهم أدوات مساندة الطغيان وتبريره وتزيينه، خصوصا في ظل التطورات الهائلة التي طرأت على وسائل الاتصال، ونجاحاتها المذهلة في تشكيل الإدراك وغسل العقول وتزييف الحقائق. وإذا كانت الكتابات التقليدية قد تحدثت طويلا عن علاقة الفقيه بالسلطان، فإن علاقة المثقف بالسلطان احتلت ذات المكانة الآن، بحيث أصبح المثقف في حالات كثيرة هو صوت السلطان وليس صوت الضمير أو الشعب. إن تراثنا حافل بالتوجيهات والتعليم التي تحذر من الالتحاق بركب السلاطين الظلمة. بدءا بالنهي الصريح عن ذلك في القرآن «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار« وانتهاء بتحريم الإمام أبو حامد الغزالي الدخول على السلاطين الظلمة ومخالطتهم، في كتابه إحياء علوم الدين (جـ2)، ومرورا بقول ابن مسعود «ان الرجل ليدخل على السلطان (الظالم) ومعه دينه فيخرج ولا دين له« لكن هذه كلها منابع ثقافية جرفتها ثقافة الحداثة وما بعدها، حتى أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، وصرنا نلدغ من ذات الجحر كل مرة. إنني لست من أنصار استمرار التنديد بمواقف بعض المثقفين من النظام العراقي، ولكنني أتمنى أن نفتح الملف بطول العالم العربي وعرضه، لكي نتحرى مواقف المثقفين إزاء الطغيان وانتهاكات حقوق الانسان، لا لكي نحاكم أحداً، ولكن لكي نضع نهاية لذلك التحالف البائس بين الطغاة والمثقفين، الذي تدفع شعوبنا ثمنا باهظا له. ترى، ما رأي اتحادي الكتاب والصحفيين العرب من هذه الدعوة؟